الفصل الثاني

المنظر الأول

(المستشار الإمبراطوري – وزير الخارجية – كبير الجواسيس)
المستشار (وحده في مكتبه) : هو يريد سببًا يتوسَّل به لشَهْر الحرب! أمام مَن يريد أن يبرِّر عمله؟ أمام أُمَّته وهي بروح الطاعة التي تربت عليها في عهده تُبلَّع الجبال ولا تَغَصُّ، وتُشرَّب البحار ولا تشرَق؟ أم أمام العالم؟ يوصيني أن أتذكر بسمارك في كذبته، أيجهل أن لكل مقام مقالًا، وأن لكل زمان دولةً ورجالًا؟ فرنسا قبل حرب السبعين كانت في المقام الأول بين الدول، وحكومتها الإمبراطورية بالغة في الكِبْر حدَّ الطَّيْش، وبروسيا كانت في أول نشاطها، ومغاضبة الصغير للكبير لا تُطاق مهما تكن طفيفةً، والضعيف محتاج دائمًا إلى تبرير عمله حتى في حقِّه الواضح. وأمَّا اليوم، فماذا تجدي كذبة بسمارك، وحكومة الجمهورية أعقل من أن تتهوَّر بتلغراف مكذوب؟ أو ماذا تخشى ألمانيا وهي بهذه القوة الهائلة، وهذا المقام الممتاز بين الدول؟ والقويُّ لا يحتاج إلى تبرير عمله وذنبُه مغفور، والناس يحكمون دائمًا لا بحسب الأسباب، بل بحسب النتائج، ولكن الإمبراطور يريد سببًا يبرِّر به عمله، ومن الأسف أنه مع ما له من المدارك السامية والمطامع الكبيرة هو مُقلِّد لا مُبتكِر، والفرق أن المُقلِّد ينسج على منوالٍ واحد في كل زمان ومكان، والمُبتكِر يلبس لكل حالة لَبوسَها؛ أي: أنه يُفتِّق بحسب الحوادث والأحوال، ولكني «أنا» لا يصعب عليَّ أن أُرضِيَه، وأخرج عن أن أكون مُقلِّدًا، فأنا أُجاريه في رغبته، وأرتفع فوق بسمارك كثيرًا، فإذا كان بسمارك قد أدهش الناس بحيلته؛ فأنا سأذهلهم بإقدامي، غير أنه يريد أيضًا أن أُشرِك النمسا في الحرب ضرورةً؛ أي: أن أضطرها إليها اضطرارًا، حتى لا يكون لها مناص منها، فكأنه لا يَثِق كثيرًا بهذه المحالفات إذا لم تتوفَّر فيها المصالح على السواء، وهي معه غير متوفِّرة، وما حلفاؤه عنده إلا آلات لتخدمه لا ليخدمها، والذي يعلم من نفسه أنه لا يوثق به فهو لا يثق بسواه. والعجيب أنه لم يفاتحني في أمر إيطاليا، فكأنه لا يريد أن يشركها لا في الحرب، ولا في الرأي، فهل هو غير واثق منها بالمرَّة؟ أو هو غير معتدٍّ بها؟ أو هو ناقِم عليها؟ ولعلَّ في الأمر شيئًا من كل ذلك، والحقيقة أن محالَفتَنا لإيطاليا كانت غلطةً من أغلاط بسمارك، فقد خدمناها كثيرًا، فكبرت وقويت في ظلِّنا، ولم تنفعنا بشيءٍ، بل أضرَّتنا، فإذا كانت فرنسا سلبَتْنا تونس ومراكش، فهي أخذت طرابلس الغرب من تحت ذَقْننا، ولقد خُدِعنا بها هذه المرَّة أيضًا؛ فسكتنا عنها لاعتقادنا أنها ستفشل في حملتها هذه، ويفضي بها ذلك إلى الرجوع للضعف، فأخطأ فيها حسابُنا مع كل مساعينا ضدَّها مع خصومها في السرِّ، ويلوح لي أن صمت الإمبراطور عنها هذا الصمتَ دليل على أنه يكظم لها الغيظ، وينوي لها شرًّا، وليس يوجد انتقام أشدُّ من انتقام الغضب البارد، فإذا اكتسح فرنسا — واكتساحها في اليد — وجَّه عنايته إليها، وأذلَّها حتى تصبح أوروبا كلها في يده كالخاتم في الخِنْصر، وحتى لا يبقى سوى تلك الجزيرة المنعزلة، وحسابها قريب. على أن ذلك إذا لم يكن في حساب الإمبراطور فهو في حسابي، وسأتكفَّل بتحقيقه له، حتى تنسى ألمانيا ذِكْر بسمارك وينساه العالم معها.
الخادم (للمستشار) : وزير الخارجية بالباب يطلب مقابلة مولاي.
وزير الخارجية (للمستشار) : وردتني أخبار من سفيرنا في النمسا أن وليَّ عهدِها عازم على سياحة في داخل المملكة، وسيتجوَّل على نوع خاص في أملاك النمسا السُّلافية.
المستشار (للوزير) : وماذا يقصد يا تُرى من هذه السياحة؟ هل قال لك السفير شيئًا؟
الوزير (للمستشار) : لم يقُلْ سوى أنها سياحة تعرُّف، وأنا أرى أن الأرشيدوق وليَّ العهد يتوقَّع من دقيقة إلى أخرى أُفول نجم ذلك الشيخ الفاني الإمبراطور فرنسيس يوسف، فهو يريد أن يتبيَّن أحوال الأُمم في مملكته؛ ليعرف كيف يحكمهم بيدٍ من حديد، وحضرتكم تعلمون أن وليَّ العهد شديد، وهو تلميذ إمبراطورنا وصديقه الحميم.
المستشار : يظهر أن هذا الفصل هو فصل السياحات الملوكانية، إمبراطورنا غائب في ستوكهلم، وبوانكاره في روسيا، ووليُّ عهد النمسا يجول في مدن بلاده، وملك الإنكليز هذا مشغول اليوم بحرب الأحزاب في إيرلندة.
يا لَلعجب من تماسُك هذه السلطنة الضخمة حتى الآن! وهي في يقيني لا تُمسِكها إلا خيوط من عنكبوت، وأرى أنها أشبه بصنم هائل من خَزَف، فأقل شيءٍ يسحَقُه إلى الأرض، أليس كذلك يا حضرة الوزير؟
الوزير (للمستشار) : أنا أعلم أن مستعمرات الإنكليز غير مُخلِصة لهم، والمسلمون من أهلها لا يحبونهم مع كل تودُّدِهم الزائد لهم، والإغضاء عن هفوات تركيا ضدَّهم، ورغبتهم الزائدة في أن تبقى الأستانة عاصمةً بيدهم مهما يكلِّفهم ذلك، خُذِ المصريين منهم، فإنهم لم يرَوا من عهد الفتح عصرًا صلحت فيه أمورهم مثل عصر الاحتلال الإنكليزي، ومع ذلك فهم لا يفتئون يحرِّكون ضدَّهم، ولمصلحة مَن يا تُرى؟ لمصلحة الأتراك الذين أفنَوْهم، ولمصلحة الحكومات الأخرى التي أزهقتهم. ويعجبني من ناشئتهم إذ يقولون إن الإنكليز سلبوهم استقلالهم وسعادتهم. فهل الحالة التي كانوا فيها استقلال وسعادة؟ كان عددهم على عهد إسماعيل ثلاثة أو أربعة ملايين، فصار اليوم يربو على الاثني عشر مليونًا، كان فدان الأرض يساوي عشرات الجنيهات، ولا مَن يشتري، فصار يساوي مئاتها، ولا مَن يبيع، وهل إذا طمحوا إلى استقلال حقيقي، ورحل الإنكليز عنهم يستطيعون أن يذودوا عن أنفسهم من احتلال آخر، وهم لا يملكون شيئًا من أسباب الاستقلال أمام سائر الدول التي تدعوها مصالحها للتداخل في شئون مصر والمصريين؟ على أن ذلك يخدمنا في مصالحنا نحن، فعلينا ألا ندع الفرصة تضيع منَّا.
المستشار : ولكن الأرض تخرج من أيدي المصريين.
الوزير : وعلى مَن الذَّنب؟
المستشار (متأمِّلًا) : معلومات مهمة ينبغي علينا ألا نغفل عنها، وأن نتحيَّن الفرص للاستفادة منها؛ لئلا تفوت، والفرص إذا فاتت قلَّما تعود.

(ثم يلتفت إلى الوزير.)

فعلى رأيك لو وقعت حرب بيننا وبين فرنسا وروسيا، وانضمت إليهما إنكلترا …

(لا يدعه الوزير يكمل.)

الوزير (للمستشار) : النصر مؤكَّد لنا، وإنكلترا لو دخلت في الحرب ضدَّنا اغتنمت مستعمراتُها الفرصة، وثارت عليها، وأغنَتْنا عن محاربتها، وكان ذلك قرعَ جرس نَعْيِها، هذا يقيني.
المستشار (للوزير) : شكرًا لك.

(يودِّع الوزير وينصرف.)

المستشار (وحده) : الفرصة سانحة، ولو أردت أن أخلقها لمَا وجدت أنسب منها؛ فهي جامعة لجميع الشرائط المطلوبة.

(يقرع الجرس.)

المستشار (للخادم) : ادع إليَّ كبير الجواسيس في الحال.
المستشار (لكبير الجواسيس) : ما دعَوْتُك لأمر أهم من الأمر الذي أريد أن أعهد بإتمامه إليك، هو يحتاج إلى مهارة وتكتُّم ما بعدهما مزيد، ولكنك أنت ابن بَجْدَتها.
كبير الجواسيس (للمستشار) : ليأمر حضرة المستشار.
المستشار (لكبير الجواسيس) : هو سرٌّ ينبغي أن يُدفَن معك ومعي، وربما أَبَحنا به قبلُ إذا تحقَّق الغرض المُترتِّب عليه، والغاية تُبرِّر الواسطة، والغاية هنا ما بعدها غاية، وهي تحقيق حلم ألمانيا الجميل.
كبير الجواسيس (للمستشار) : …؟
المستشار (لكبير الجواسيس) : لا بد لنا من الحرب اليوم قبل أن تُتِمَّ الدول استعداداتها؛ ليتأكَّد النصر لنا، ولا بد من إشراك النمسا فيها ضرورةً، فلا بد إذًا من سبب وجيه، هذه إرادة الإمبراطور.
(وبعد صمت قليل يقول المستشار): هل أنت عالم بسياحة الأرشيدوق وليِّ عهد النمسا؟
كبير الجواسيس : نعم، وهو سيكون في مدينة سراجافو من أعمال النمسا بعد ثلاثة أيام.
المستشار (لكبير الجواسيس) : بالحقيقة إن إدارتك بغاية الانتظام.
(ثم يقول له): وهل لا تَخْشى عليه هناك من يدٍ أثيمةٍ من السُّلاف الناقمين بدسائس الصِّرب، التي لا تزال تحرِّكهم طمعًا بضمِّهم إليها؟
كبير الجواسيس (وكأنه فهم المراد) : أخشى عليه كثيرًا، وإدارتي بغاية المقدرة.
المستشار (لكبير الجواسيس) : هذا ما كنت أنتظر، فاسمع إذن، السياسة تقتضي ذلك، والمصلحة فوق كل شيء، لا بد من هذه الجناية لاتهام الصِّرب بها، ولا بد من الكتمان.
كبير الجواسيس : حتى على الإمبراطور؟
المستشار (له) : ولا سيَّما على الإمبراطور، فالأرشيدوق صديقه الحميم، وهذا هو السبب الذي لأجله اخترت أن تكون الجناية عليه، حتى إذا لانت النمسا ما لان الإمبراطور، ووقعت الحرب لا محالة.
كبير الجواسيس (للمستشار) : كن مطمئنًّا، فمنذ الآن تستطيع السياسة أن تعتبر الصِّرب جانيةً.
المستشار : بالحقيقة إن قوة ألمانيا الهائلة هي في جاسوسيتها المُنظَّمة.

المنظر الثاني

(الخادم – كبير الجواسيس – المستشار – ناظر الخارجية – غيليوم)
المستشار (في مكتبه قَلِقًا) : اليوم موعد وصول الأرشيدوق إلى سراجافو، مسكين الأرشيدوق هذا اليوم عليه يوم بُؤْسٍ، ولكن هل توجد حيلة أخرى لتحقيق رغبة الإمبراطور وإشراك النمسا في الحرب؟ ألا يكون الإمبراطور يرمي إلى ذلك، حتى اختار هذه الفرصة وأوصاني أن أتذكر بسمارك؟ مع أن الأرشيدوق صديقه، ولكن أية صداقة تقف في سبيل مطامعه التي لا حد لها؟! ولقد أحسنت في أن أوصيت كبير الجواسيس بالكتمان، حتى على الإمبراطور نفسه، فالحكمة تقتضي ذلك، ولو أن العمل ينطبق على مرامي الإمبراطور. والحكمة وإن كانت تقرأ ما بين السطور، وتعلم ما في طيِّ الصدور، إلا أنها في السياسة تطلب دهاءً كثيرًا.

(يدخل الخادم ويستأذن لكبير الجواسيس.)

كبير الجواسيس (للمستشار) : الأقدار تخدم سعادتكم، لقد قُضِيَ الأمر من دون أن يكون لنا فيه أدنى يدٍ تُثقِل ضمائرنا، فقد كانت المكيدة مُدبَّرةً من قبلُ تدبيرًا شيطانيًّا، إذ صُفَّ القَتَلة اثنَين اثنَين على طول الطريق، حتى إذا نجا من أول كمين لم ينجُ من الثاني، وهكذا، وقد قُتِل الأرشيدوق وزوجته في الكمين الثاني.
المستشار (لكبير الجواسيس) : رحمة الله عليهما، وماذا يقول الناس هناك؟
كبير الجواسيس (للمستشار) : يقولون إنها مكيدة من الصِّرب، وهل في ذلك شك؟!
المستشار (للكبير) : وأنت ماذا تقول؟
كبير الجواسيس : ماذا أقول؟ أقول كما يقولون.

(وفي نفسه.)

هو في حيرة، ويَلِذُّ لي أن أراه في هذه الحيرة.

(يودِّع ويخرج.)

المستشار (وحده) : مهما يكن من ذلك، فالمطلوب حصل، ولكن حتى الساعة لم يرد نبأٌ بذلك على الحكومة.

(يدخل الخادم ويستأذن لوزير الخارجيَّة.)

وزير الخارجية (للمستشار) : وردني نبأٌ مُكدِّر جدًّا، وربما كان سببًا لمشاكل كبرى بين الدول، ولا سيَّما أنه يحزن جدًّا جلالة الإمبراطور، فقد أنبأني سفيرنا في فينَّا أن قنصلنا في سراجافو أبرق له بأن الأرشيدوق وليَّ عهد النمسا قُتِل في هذه المدينة هو وقرينته، وأن قاتليه من السُّلاف، ويرجح أن الأمر بدسيسة من الصِّرب.
المستشار (للوزير) : يا لَلفظاعة! يا لَلفظاعة! إذا كان الأمر كما ذكرت فليس أمامنا مشاكل دولية فقط، بل أمامنا الحرب على الأرجح، فإن النمسا لا يسعها السكوت عن هذه الجناية، وإمبراطورنا سيبلغ به الغضب من قَتْل صديقه مبلغًا لا يقف به إلا عند سحق الصِّرب، هذه الدولة الحقيرة التي لم تَعُد تعرف في غرورها أن تقف عند حدٍّ.
نعم هي الحرب؛ لأن روسيا لا ترضى بأن النمسا تسحق الصِّرب، وفرنسا لا بد لها من نَصْر حليفتها، ونحن ناصروها إذا تحرَّكت روسيا، فالحرب واقعة لا محالة، وعمَّا قليل سينقضُّ الإمبراطور علينا كالصاعقة عائدًا من سياحته متى علم بالفاجعة، فلنستعدَّ لشهود غضبه، وما سيتبع ذلك من المشاكل.

(يودِّع الوزير ويخرج.)

المستشار (وحده) : هذا الداهية كبير الجواسيس يجعلني بتصريحه في حيرة، أصحيح يا تُرى ما يقول؟ إنه حينئذٍ لاتفاق عجيب، أم ذلك منه منتهى الحذر؟ ألعلَّه لا يأتمن جانبي ويخشى غضب الإمبراطور؟ مَن يدري؟ وما دُمْت لا أنوي التصريح الآن، فلا بأس، وستكشف الأيام الحقيقة كما كشفت عن دهاء بسمارك، على أن المجال لديَّ واسع ما دام اعتمادي على إقدامي، وبهذا امتيازي العظيم على بسمارك.

المنظر الثالث

(الإمبراطور – المستشار – وزير الخارجية – وزير الحرب – كبير القُوَّاد)
الإمبراطور (وحده في قصره غاضبًا) : أَبلَغَ من قِحَة هذه البعوضة أن تتهجَّم علينا إلى هذا الحدِّ؟ أنا لا أكره أن يخلقوا لي الأسباب لأؤدِّبهم جميعًا، لم يقتلوا وليَّ عهد النمسا وامرأته، بل قتلوا صديقَيَّ الحميمَين، فوا أسفاه عليكما! لا بدَّ لي من سَحْق هذه الدولة الحقيرة المغرورة، ولو أدَّى بي ذلك إلى أن أُلهِب النار في أوروبا كلها.

(يقرع الجرس.)

الإمبراطور (لكبير الحرس) : ادع إليَّ في الحال مستشاري ووزير الخارجية ووزير الحرب وكبير قُوَّادي.
الإمبراطور (لهم) : جميعكم تعلمون النبأ الصادع الذي ألمَّ بحليفتنا، وهذا اليوم هو يوم انتقامي الشديد، فيا حضرة المستشار نُصَّ أنت البلاغ الذي يجب أن ترسله حكومة جلالة حليفي إمبراطور النمسا إلى هذه الأُمة الشريرة دول الصِّرب، وليكن في الغاية القصوى من الشِّدَّة، حتى لا تقبله أية دولة مهما تكن حقيرةً، ولا تمهلها أكثر من ٤٨ ساعةً للقيام بالترضية المطلوبة، ولتكن النمسا على قدر الاستعداد لاجتياز الحدود عند أول إشارة.
وأنت يا وزير الخارجية، أكِّد على حضرة زميلك هناك أن إرادتي هذه لا تقبل تعديلًا، فلتكن حكومته شديدةً إلى الغاية، ولتخلق الصعوبات إثر الصعوبات كلَّما بدا من الآخرين تساهل، إذ لا بد من الحرب، فالإهانة التي ألحقوها بنا لا تُطاق، ومصلحتنا لا يسعها أن تصبر أكثر ممَّا صبَرْنا حتى الآن.

وأنت يا وزير الحرب، أعطِ الأوامر لتعبئة الجيوش، وتجهيزها بكل ما يلزم لها من العُدَّة، حتى لا ينقصها شيء.

وأنت يا كبير قوادي، لتكن جيوشي جاهزةً واقفةً عند الحدود؛ كي تجتازها عند أول إشارة، وها قد حانت تلك الفرصة لإظهار كفاءتك الموثوق بها، عسى أن تكتب لك في تاريخ ألمانيا صفحةً مجيدةً، كما كتب كبير أسرتك الشهير، وقد قاد جيوش جدِّي المُظفَّرة إلى النصر، فحقِّق ثقتي فيك باختياري لك، وإني لمتفائل خيرًا باسمك المجيد.

(وإلى الجميع): فانصرفوا الآن، وليَقُم كل واحد منكم بما أمرته به خير قيام.

المنظر الرابع

(المستشار الإمبراطوري في مكتب الإمبراطور.)

المستشار (للإمبراطور) : زارني سفير إنكلترا، وقال لي إن حكومته ترغب في حلِّ الإشكال إمَّا بمؤتمر دولي، أو على الأقل بمداولة على يدِ السفراء، ولكن الوقت المفروض للترضية ضيِّق جدًّا، فهي ترغب تمديده، وتطلب منا أن نستمهل النمسا، ويظهر أن النمسا تميل إلى اللِّين.
الإمبراطور (بدهشة) : ماذا تقول؟ تميل إلى اللِّين!
المستشار (في حديثه) : ولكني قلت له: إن روسيا تعبِّئُ جيوشها، وهذا ما لا قِبَل لجلالتكم بغضِّ النظر عنه.
الإمبراطور : وهل هي تُعبِّئ حقيقةً؟
المستشار : جلالتكم تعلمون أن روسيا لا تسمح عن طيبة خاطر باكتساح الصِّرب، ولكنها كسائر الدول غير مستعدة للحرب، بل جميعهنَّ لا يصدقن بإمكان وقوعها، فلعلِّي أحرجها إليها لإحراج فرنسا معها، ومع ذلك ماذا يهمنا إذا لم تطلبانا للحرب، فنحن نتذرَّع بألف وسيلة، ونُشْهِرها عليهما، ألم تأمروني جلالتكم بأن أتذكر بسمارك؟ وماذا تُجدي حيلة بسمارك اليوم؟ فقد كانت صغيرةً مثلَنا في ذلك العهد، ولكنها كانت كبيرةً جدًّا على فرنسا لكبريائها حينذاك، وأمَّا اليوم فيجب أن يكون عملنا على قدر قوَّتنا، وقدر استخفافنا بسِوانا، والحق إنما هو للقوة دائمًا.
الإمبراطور (يرى في يد المستشار أوراقًا فيسأل) : وما هذه الأوراق التي بيدك؟
المستشار : هي البلاغات التي ظننت أن جلالتكم تحتاجون إليها.
الإمبراطور (للمستشار) : أنت تعلم أن خُطَّتنا الحربية هي أن نكتسح فرنسا من جهة البلجيك؛ لأنها من هذه الجهة غير حصينة، فلا تؤخِّرُنا مقاومتها كثيرًا، والسرعة في سَحْق فرنسا هي التي تضمن فوزنا في ميادين الحرب جميعها، فما الرأي في ضماننا لحيادها وحياد اللكسمبرج؟ وماذا نصنع بتعهُّدِنا أمام الدول؟
المستشار : الرأيُ إمَّا أن نتفق معهما، ونضمن لهما سلامتهما إلى الحين، وإمَّا أن نكتسحهما إذا أَبَتا غير مبالين بتعهُّدنا، فننال منهما عاجلًا ما ننويه لهما آجلًا، وما هو التعهُّد؟! هل هو إلا كلمة فارغة لا معنى لها، والغاية تبرِّر الواسطة.
الإمبراطور : وما رأيك في إنكلترا خاصةً؟
المستشار : إنكلترا؟ نحاول أن نخدِّرها ما أمكن، على أنها لا تستطيع شيئًا، وهي على ما هي من الاضطراب، هي لا شك تحتجُّ على خرق حياد البلجيك في الظاهر، ولكنَّها لا تفرغ من احتجاجها، حتى نكون قد قضينا لُبانَتَنا، وأصبحت أوروبا كلها في قبضة يدنا.
الإمبراطور : فلنعجِّل إِذن بتوقيع البلاغات لئلا تفوت الفرصة، وتقلقنا الدول بمراوغاتها السياسية التي لا يُقصَد بها إلا تهدئَتي عنها.

(يأخذ البلاغات ويوقِّعها، ثم يلتفت إلى المستشار.)

الإمبراطور : أرى هنا ثلاثة بلاغات غير مُعيَّنة.
المستشار : قد نحتاج إليها لأميركا أو للصين.
الإمبراطور : وهذا الثالث لمَن؟
المستشار : صحيح هذا زائد، ولكن مَن يدري؟ فهل نحن على ثقة تامة حتى من حلفائنا؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤