كلمة لا بُدَّ منها

لا بُدَّ منها لأني أخشى أن يتصور مَن يقتني هذا الكتاب — دون اطلاع على محتويته — أن يعتقد أنني أتخذ العقيدة الإسلامية السمحاء، موضوعًا كاملًا متكاملًا للكتاب كله.

ولكن الأمر ليس كذلك، فحقيقةً هناك موادُّ كثيرة من أبواب هذا الكتاب تتحدث عن الإسلام، وأكتب من خلالها وجهة نظري في كثير من الأوضاع الإسلامية التي فرضت نفسها على القراء والكُتَّاب جميعًا، ولكنها مجرد وجهة نظر كاتب في موضوع الساعة: الإسلام وتطبيق الشريعة والجماعات المتعصبة والعالميِّين والعِلْميِّين، وكل تلك القضايا التي أصبحت الشغل الشاغل لأي متعامل مع القلم إذا كان كاتبًا، ومع الورق إذا كان قارئًا. عشمي إذن ألَّا يَخِيب أملُ القارئ الذي يقترف الكتاب وكأنه — مَعاذ الله — مرجع إسلامي. فأنا أعرف قدري، وأعرف ديني، وأعرف أني حين أتعرَّض لإسلامنا الحنيف إنما أتعرض له ككاتب يعمل بقضايا الإنسان المصري والعربي والمسلم بشكل عام؛ القضايا الحياتية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية. ومن هنا، ولهذا السبب، جاءت محتويات الكتاب الأخرى.

•••

ولكني لا أبادر بنشر هذه المجموعة المتجانسة من المقالات لهذا السبب وحده، ففي العام الماضي صدر لي كتاب، اعتبره القراء والنقاد كتابًا هامًّا، اسمه: «فقر الفكر وفكر الفقر». وكان من الطبيعي لكتاب يتعرَّض لفقرنا الفكري والثقافي أن يتحدث أيضًا عن فقرنا في مجالِ أهمِّ عملٍ فكري يقوم به الإنسان؛ عقيدته وعلاقته بخالقه.

وفي هذا الاتجاه استعرضت مناقشًا آراء كثيرة يدعو لها عالِمُنا الإسلامي الكبير وداعيتنا فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، استعرضتها لأناقشها وأحدد موقفي من محتواها العلمي والفكري.

ولكن، لأن هناك دائمًا مَن يهوون الصيد، حتى في الماء الرائق، أو بالأصح يهوون تعكير أي ماء رائق، فقد فُوجِئتُ بابن صديق كاتب هو الأستاذ محمد عبد القدوس، وبصديق عزيز زميل حياتي الأستاذ إبراهيم راشد، يشنَّان عليَّ هجومًا رهيبًا بزعم أني «شتمتُ» فضيلة الشيخ وتجرَّأتُ عليه. وطبعًا كتبت على الفور في بابي في الأهرام أوضِّح الخطأ المطبعي الذي نزل إلى الطبع ولم يُرفَع من الملزمة؛ الخطأ في كلمة واحدة في كتابٍ فيه أكثر من مِائتي صفحة، ولكن لأن الطوبة جاءت في المعطوبة، كما يقولون، فمن سوء حظي وقع الخطأ في معرض كلمة شائقة عن فضيلة الشيخ، خطأ مطبعي محض لو كنت قد راجعت التصحيح أو راجعه الناشر أو المصحِّح مراجعةً دقيقة ما حدث هذا أبدًا.

فأنا لست مجنونًا حتى — بدون مناسبة هكذا — أتعرض لشخصية تحتل مقامًا رفيعًا ساميًا في عقول وقلوب ملايين جماهيرنا الإسلامية العريضة، أتعرض لتلك الشخصية وأقول إنه «راسبوتين» الإسلام، كان مفروضًا أن تُرفَع كلمة راسبوتين، لأن الوصف في الأصل هو أن عددًا من أعداء الشيخ الشعراوي ومن أعداء الإسلام يصفونه بأنه راسبوتين الإسلام. الخطأ المطبعي لم يذكر كلمة أعداء الشيخ الشعراوي أو أعداء الإسلام؛ فجاء الكلام وكأنه على لساني.

وأنا في حياتي لم أتراجع عن كلمة قلتها أو كتبتها، ولو كنت قد قلت أنا شيئًا كهذا لما بادرت لتصحيحه ووضع الأمور في نصابها. ليس خوفًا — فأنا والحمد لله لا أخاف إلا من خالقي ومُنشئي — وإنما إثباتًا لحقيقة ما حدث فقط، لإثبات الحقيقة وإصلاح الخطأ الذي حدث. أمَّا باقي مناقشاتي واعتراضاتي على بعض ما يقوله فضيلة الشيخ فهو موجود في الكتاب، وأنا أتمسك بكل حرف فيه.

•••

الجانب المضحك في المأساة أنني ومنذ أن جرى هذا الصيد السخيف في الماء الرائق وأنا لا عمل لي إلا إجابتي وشرحي لما حدث، وكأن الناس لا يقرءون، وبعضهم فعلًا لا يقرأ، وإنما «سمع» أني تجرأتُ على فضيلة الشيخ وسَبَبْتُه. حتى وأنا أؤدي العمرة وأطوف الطوفات السبع بالكعبة الشريفة كان بعض المعتمِرِين يقطعون طوافهم وشعائر عمرتهم، ويقطعون أيضًا طوافي وشعائر عمرتي، ويسألني السائل منهم: هل صحيح شتمتَ الشيخ الشعراوي؟

وكدتُ أُجَن.

فنحن في بيت الله، نطوف حول الكعبة في لحظات من أقدس الأوقات في حياة المسلم، في أقدس بقعة تتجه إليها الأفئدة والقلوب، وتنسى وهي تطوف كل ما عداها من أمور حياتها ودنياها مهما بلغت قسوتها، ومع هذا يجيئني السؤال أيضًا في تلك اللحظة المقدسة، وفي ذلك المكان الذي يبكي الإنسان من فرط سعادته بالوجود فيه.

وقد تحملت قطع طواف العمرة مرة ومرتين وعشرًا، وبطول بال مضيت أجاوب إلى أن بلغ بي الملل، وقلت للسائل الأخير: يا أخي، أتضع فضيلة الشيخ في مكانة أعلى من شعائر الإسلام؟ فنحن في بيت الكعبة وفي حضرة رب الكعبة، والشيخ الشعراوي مخلوق مثلي ومثلك تمامًا، وسواء ذممتُه أو رفعتُه إلى أعلى عِلِّيِّين، فأنتم أنصاره تكادون تجعلون منه وَثنًا من الأوثان وليس كائنًا بشريًّا مَنَّ اللهُ عليه بالإيمان والفصاحة والتقوى.

•••

من أجل هذا، من أجل ألَّا نعود بعد أربعة عشر قرنًا من ظهور الإسلام وتحطيم أوثان الكفرة، توكَّلت على الله، وأصدرت ذلك الكتاب؛ حتى لا نعود مرةً أخرى إلى عبادة أوثان أخرى؛ أوثان بشر، مهما بلغت درجات علمهم وتقواهم، فهم كانوا وسيظلون بشرًا غير معصومين، نستطيع إن كانوا على خطأ — أو ظننا هذا — أن ننقدهم، فكل الناس قابلة للنقد، وكل المخلوقات بما فيهم رسول الله ، وما محمد إلا بشر يُوحَى إليه، إنما إلهكم إله واحد.

أمَّا ما صنعتموه بفضيلة الشيخ الشعراوي ورفعه من مرتبة البشر إلى مراتب القديسين، فهو عمل ليس من الإسلام في شيء، فالإسلام ليس فيه قديسون وليس فيه طبقات للناس عند الله سبحانه إلا بمقدار ما في قلوبهم من تقوى، التقوى ودرجتها، وبالتالي قدر الإنسان، شيء علمه عند ربي، وعند ربي فقط.

•••

أحببتُ أن أجمع آرائي هنا، وآراء غيري؛ ليتضح لنا كم ضيَّقنا بفقرنا الفكري إسلامًا عظيمًا بلا ضفاف، يضم — أو لا بُدَّ أن يضم — البشريةَ جمعاء، بل والجنس البشري كله.

وليبارك المولى خطواتنا ويعاملنا — جل شأنه — بنوايانا، إنه سميع مجيب.

يوسف إدريس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤