خريف البطريرك وصيفنا

على «بلاج» البحر اصطحبتُ «ماركيز»، ليس أروع من القراءة على صوت الموسيقى الهادئة الهادرة المتصلة بالبحر وهو يلامس في عناق عنيف رمال الشاطئ. هناك تستطيع أن تقرأ، وبين الحين والحين ترفع رأسك وترمق الأفق البعيد، ثُمَّ تمسح سطح البحر بعينيك متراجعًا إلى أن تصل إلى حيث المستحمِّون، وصراخ الأطفال السعيد، والشماسي. ثُمَّ لا بُدَّ أن ترفع عينيك فورًا بعد هذا وإلا اصطكت بجماعات المكدَّسين من متوسطي العمر وكبارهم، المكومة المتزاحمة على رمال الشاطئ تحت الشماسي، فإن منظرهم في الحقيقة يغم. إن فكرة عناق الطبيعة والذهاب إلى الشواطئ والغابات وصعود الجبال، أخذناها من أوروبا، وأوروبا نفسها اعتنقتها بعدما بشَّر بها فيلسوف فرنسي لا أذكر اسمه الآن؛ بِناءً على نظرية فلسفية عميقة تقول إن الإنسان هو ابن لصيق للطبيعة، وإن الحياة الحديثة (ولم تكن أبدًا حديثة في ذلك الوقت؛ إذ كان هذا في أواخر القرن السابع عشر على ما أظن) تلك الحياة أخذت الإنسان من قلب أمه الأرض بكل تضاريسها ومياهها وجبالها، وأودعتْه عُلَبًا يسمونها بيوتًا أو شققًا، وخنقته في شوارع ضيقة وحارات وأَزِقَّة. ولا بُدَّ للإنسان لكي يستعيد توازنه أن يخلع عن نفسه هذا كله، ويعود مرة أخرى ابنًا للطبيعة البِكر، يذهب إلى البحر والمحيط ويسبح أو يتمشى ويصعد الجبال، يبيت في الغابات. وإن زاد هذا التغير في المحيط يغير في النفس البشرية ويجلو عنها صدأ الحياة المملة الراكدة الرتيبة المحترقة في الحجرات. كان شعار ذلك الفيلسوف هو «العودة للطبيعة» كأثر حتمي لإعادة توازن النفس البشرية.

وكمقلدين للغرب باستمرار، أخذنا هذا المبدأ عنهم، ولكننا أخذناه كما نأخذ «المودة» في كثيرٍ من الأحيان، لا عن فهم حقيقي لما تعنيه «المودة» والسبب في ظهورها، وإنما عن رغبة في التقليد ليس إلا.

ولكن انظر إلى «بلاجاتنا» واعجَبْ ما شاء لك العجب؛ فالأسرة مكومة لا يتحرك أفرادها تحت الشمسية. قد استعدت لفلسفة الارتماء في أحضان الطبيعة بكميات وافرة من المشروبات والمأكولات، حتى المحشي تجده معهم، جالسين طوال اليوم بلا أدنى حركة، قد غطَّوْا أجسادهم حتى لا تراها أي شمس، أو تلحقها أي نسمة هواء. حين انتشرت مودة «الحجاب»، صرنا نرى النساء محجبات وأثوابهن طويلة طولًا لا حد له، بل إني رأيت بعض المنقبات في بلاجات الإسكندرية، مع أن أصل اللجوء إلى أحضان البحر أو الطبيعة أن ينفض الإنسان عن نفسه كل ما يستطيعه من أردية مصنوعة ومصطنعة، وأن يتعرى جسده أو معظمه، لا عن استعراض ودنس للأجساد وإنما عن رغبة حقيقية في تعرض جسده الأصفر الشاحب إلى أشعة الشمس والهواء النقي؛ حتى تعود مسام جسده تتنفس في حرية، وحتى تتطهر رئتاه من الأدخنة والشوائب، ويعود لجلده لونه وصحته.

للأسف أخذنا قشرة الفكرة ولم نأخذ محتواها الحقيقي؛ وهكذا تحولت بلاجاتنا إلى مآكل ومشارب في الحقيقة تضر الصحة ولا تنفعها. وحسبنا أن نرى الماء وكأن مجرد رؤيته تجعلنا نحس أننا نستحم فيه ونعوم، وحسبنا أن نرى الشمس، وكأن مجرد رؤيتها سيُكسبنا الصحة والعافية. وبالمناسبة فكرة اللجوء إلى أحضان الطبيعة ليست غريبة علينا نحن العربَ؛ فأنا أعرف عادة أهل الجزيرة العربية كلها من الطلوع إلى البر، كما نقول، والبيات فيه، وهي نفسها بالضبط مبنية على الأسس الفلسفية للخروج إلى الطبيعة البكر أو بالأصح العودة إليها.

•••

نعود إلى «ماركيز».

أو بالأصح جابرييل جارثيا ماركيز، أنبغ كُتَّاب أمريكا اللاتينية، والحاصل في العام قبل الماضي على جائزة نوبل للأدب عن روايته الرائعة «مِائة عام من الوحدة»، أو بالمعنى الأدق كثيرًا «مِائة عام من العزلة».

قرأت هذه الرواية قبيل حصول ماركيز على جائزة نوبل، وقرأتها بالإنجليزية، وكانت سمعة ماركيز قد بدأت تستشري في العواصم الأوروبية، فسمعت عنه في باريس ولندن واستوكهلم، واشتريت كتابه ومجموعة قصص له، وبدأت بقراءة الرواية. وفي الحقيقة حين انتهيت من قراءة الصفحات الخمسين الأولى كنت مبهورًا أشد الانبهار، فها هو كاتب من عالمنا الثالث، يغوص في قاعه وفولكلوره، ويخرج لنا بطريقة جديدة تمامًا في كتابة الرواية، جديدة على العالم الغربي! هذا صحيح، ولكنك كقارئ عربي تحس فيها أصداء من ألف ليلة وليلة وآثارًا عربية كثيرة أخرى؛ في طريقة القص، وفي حياة الأبطال، تجعلك تكشف أن آثار العرب على الإسبان وعلى البرتغال كان قويًّا جِدًّا، إلى الدرجة التي انطبعت فيها تلك الآثار على حياتهم بطريقة لا تُمحى. ما زلت أذكر مثلًا ما نسميها في محافظة الشرقية (محافظتنا بالمناسبة) ﺑ «السحَّارة» أو ذلك الصندوق المبرقش بألوانه الزاهية، والذي يُعتبَر جزءًا لا يتجزأ من جهاز أي عروس، ففيه (قبل كل فكرة الدولاب) تضع العروس وتحفظ ملابسها ومصاغها، وكل مقتنياتها الغالية. أنا شخصيًّا لا زلت أذكر «سحارة» جدتي، أو بالأصح أم جدتي، التي ربتني صغيرًا، وعاشت إلى أن جاوزت المائة عام. وكان محظورًا عليها شرب القهوة، وكانت ابنتها «جدتي» شديدة الصرامة معها في هذا، وشديدة الصرامة معي أيضًا. وكنا نحن الاثنين، أنا وأمها، نتآمر عليها؛ فكنت أسرق لها البن والسكر من «مجامع» جدتي التي كانت تحتفظ بها فيما نسميه «الصفة» أو الشيء القديم المقابل لدولاب المطبخ أو حتى الفريجيدير؛ إذ كان يُحتفظ فيه باللبن والبن والسكر والزبدة والجبن … إلخ.

كنت أسرق لها البُن والسكر، وأستعير لها قليلًا من «المضغة» من جدي، وكان طبيبًا وإنسانًا ومتسامحًا، مع أن جدتي كانت تبخل عليه بثمن هذا الدخان الذي يُمضَغ. وكانت أم جدتي تجازيني عن هذا كله بأروع وأجمل جزاء؛ فقد كانت تحكي لي عن تاريخ عائلتنا، وعن فرحها، وعن التقاليد القديمة التي انحدرت إلينا مع أصولنا العربية؛ إذ إن عائلة أمي أصلها من الجزيرة العربية، وكانت أحيانًا يروق لها تمامًا حين تتذكر الأيام الخوالي، فتبدأ تغني الأغاني القديمة التي زُفَّت بها. والغريب أنني سمعت نفس هذه الأغاني يغنيها بعض أهل البادية في الكويت والسعودية، باختلاف قليل في اللهجة؛ إذ كان ممتزجًا بطريقة الغناء الكَنَسي القبطي كما سمعتُه في زفاف نجل أحد أصدقائي الأقباط يُغنَّى في حفل إكليله. وهو غناء يبدو لك وكأنه خيط طويل متصل، ولكني الآن أستطيع وأنا أسترجع تلك الأغاني أن أعثر فيها على أصالة التعبير الغنائي العربي؛ فالغناء الشرقي هو في حقيقة أمره غناء تركي يختلط بغناء إيراني، أمَّا الغناء العربي فإنك لا بُدَّ واجده في بعض أجزاء متناثرة من الجزيرة العربية أو كما وجدته أنا في أغاني جدتي.

جعلني ماركيز — سامحه الله — أسرح مع عائلتي وجدتي وأم جدتي؛ فالحقيقة أنه عن عمد اكتشف أن الأصالة ليست كلمة ولكنها غوص حقيقي في التراث الشعبي والأغاني الشعبية والتقاليد الشعبية، مع رفعها إلى درجة الحداثة التكنيكية أو لغة العصر السائد في الدنيا كلها الآن. وهي معادلة، الغريب أنها لم تراود «ماركيز» فقط، ولكنها راودتنا هنا قبله بكثير؛ فحين بدأتُ كتابة القصة القصيرة في الخمسينيات، كان هذا هو هدفي الذي لم أَحِد عنه، وإن كنت دائم التطوير له، ونفس الشيء بشرت به في عام ١٩٦٣م في مقالاتي؛ نحو مسرح مصري — نحو مسرح عربي، والتي على أساسها كتبتُ مسرحية «الفرافير» مستمدة من صميم تراثنا المسرحي الشعبي. إذن نحن كُنَّا — عفوًا يا ماركيز — قبلك بكثير، نضمر هذا ونكتبه.

ولكن براعة ماركيز أنه كتب بهذه الطريقة الروائية، في حين أن روايتنا العربية لا تزال سائرة على الدرب الأوروبي، سواء درب بلزاك والتسجيليين كما كتبه كُتَّاب القرن التاسع عشر أو كُتَّاب الرواية الحديثة التي تأثر بها الروائيون الجدد مثل آلان روب جرييه وناتالي ساروت.

ماركيز أخرج الرواية تمامًا من ثوبها الأوروبي وكساها ثوبًا أمريكيًّا جنوبيًّا إسباني الأصل، فالإسبان الأول حين هاجروا واحتلوا أمريكا الوسطى والجنوبية من المكسيك إلى أقصى طرَف في الجنوب الأميركي، حملوا معهم كل ما التقطتْه الشخصية الإسبانية من الغرب، ولم يُلبسها الثوب الأميركي الجنوبي، ولكن بالتحديد الثوب الكاريبي. ولقد ذكر لي أكبر الناشرين في أمريكا وإنجلترا أن أعظم أدبين معاصرين هما الأدب الكاريبي المعاصر والأدب العربي المعاصر، كل ما في الأمر أن الأدب الكاريبي حظه أحسن؛ لأنه يُكتَب بالإسبانية، وهناك آلاف من الإنجليز والأمريكيين والفرنسيين والألمان يُتقنون اللغة الإسبانية؛ ولذلك تمت ترجمة ذلك الأدب، وانتشر بشدة في العالم الغربي بالذات.

والحقيقة أن هذا ليس السبب في انتشار الأدب الكاريبي؛ فقد أخذ الكتَّاب الكاريبيون في كولومبيا (بلد ماركيز) وجواتيمالا وكوبا وغيرها يطورون من فكرة الأصالة حتى تَوَّج ماركيز ذلك البحث باكتشاف طريقة كاريبية حقيقية لكتابة الرواية. والرواية هي الفن الكتابي الأول في العالم الغربي؛ ذلك أن القصة القصيرة لا توجد إلا حيث يولَد كاتب قصة قصيرة موهوب موهبة نادرة، فلا شيء اسمه «حركة» القصة القصيرة في العالم العربي أو الغربي، دائمًا توجد فلتات موهبة لكتابة القصة القصيرة على مدى التاريخ الإنساني كله، فبينما هناك العشرات والمئات من كُتَّاب الرواية على طول التاريخ الإنساني، فكُتَّاب القصة القصيرة وكُتَّاب المسرح، عددهم قليل جِدًّا، ففي التاريخ العربي الحديث كله لا يوجد إلا كُتَّاب نبغوا في كتابة القصة القصيرة وطوروها؛ بوكاشيو الإيطالي، ثُمَّ موباسان الفرنسي، ثُمَّ إدجار آلان بو الأميركي، ثُمَّ تشيكوف الروسي. وتستطيع بصعوبة بالغة أن تحشر معهم وليم سارويان الإسباني الأميركي، وكاتبًا هنديًّا آخر اشْتَهَر لأنه يكتب بالإنجليزية.

بعد الصفحات الخمسين التي انتهيتُ منها، عاودتُ القراءة في اليوم التالي، ووجدتُ أني بعد أقل من عشر صفحات أعاني صعوبة بالغة في استمرار القراءة؛ ذلك أن الذي روعني في مبدأ الأمر كان هو جِدَّة الطريقة وروعتها، ولكن لكُتَّاب الرواية قدرًا غريبًا على الصبر، وأنا بطبيعتي مَلول لا أحتمل الصبر؛ إذ يصبر كُتَّاب الرواية ويستطيعون أن يكدحوا بالكتابة يوميًّا وفي دأب شديد، ويُغرقوا أنفسهم وقرَّاءهم في تفاصيلَ كثيرة جِدًّا وشخصيات؛ حتى إني كتبت جدولًا بأسماء شخصيات ماركيز وأوصافهم لأتعرف عليهم كلما ورد ذكرهم في ثنايا الرواية.

وكدتُ أدع الرواية جانبًا ولا أكملها وقد مللت، وكنا في الشهر الثامن فعلًا والدنيا صيف لا تزال، لم أستطع إكمالها، ورَكَنتها جانبًا. ولكن في الشهر التاسع أُعلنت جائزة نوبل فإذا بماركيز يفوز بها، وكان عليَّ أن أعود إلى الرواية لإكمالها. وأقول لكم الحق — وليقُل عليَّ النقاد ما يشاءون — إني أكملتها بصعوبة بالغة؛ فلماركيز طريقة في الكتابة تحتاج لصبر كثير لمتابعتها؛ فهو دائمًا يعود ويكرر ما قاله دائمًا بطريقة مختلفة قليلًا أو كثيرًا عن المرة السابقة، ولا أزال أتذكر أنه في روايته «مِائة عام من العزلة» سمَّى أبطاله نفس الأسماء، فكان يقول جابرييل الثاني عشر أو رامون الخامس، وهكذا. ويختلط عليك الأمر، وترجع للجدول الذي كتبتَه، وبالكاد تستطيع أن تتابع ما جرى على رامون العاشر ليصبح رامون الحادي عشر.

واكتشفتُ في النهاية أن ماركيز يقصد بهذا أن يقول إن الأشخاص هم نفس الأشخاص رغم توالي وفاتهم وميلادهم؛ ذلك أنه كان يتحدث عن الفئة الحاكمة في أمريكا الوسطى والجنوبية، وهم في الغالب جنرالات؛ إذ إن أمريكا الجنوبية تحيا منذ أكثر من مائة عام على الانقلابات العسكرية.

وفي روايته التي «فرغتُ» من قراءتها (خريف البطريرك) وهي مترجمة ترجمة «شامية» إلى العربية أو بالأصح ترجمة لبنانية. وأنا في الحقيقة مع احترامي للمترجمين اللبنانيين إلا أن طريقتهم في استعمال اللغة العربية مختلفة تمامًا عن طريقتنا في مصر أو في أي مكان آخر من الوطن العربي؛ حتى إني لأول مرة أعود للقاموس المحيط لمعرفة بعض معاني الكلمات التي أوردها الأستاذ المترجم، وخاصة أن الطيور والأشجار في هذه الرواية (خريف البطريرك)، التي هي في حقيقتها لوحة هجاء، طولها يقارب الثلاثمائة صفحة للدكتاتوريين العسكريين الذين يحكمون معظم بلدان أمريكا اللاتينية، وإذا كانت وسطى أم جنوبية، لم أقرأ في حياتي هجاء بهذا الطول والإحكام والروعة.

إن ماركيز يتحدث عن البطريرك الذي كان باستطاعته أن يغير الوقت؛ فقد صحا ذات يوم على أثر أرَق، وكانت الساعة الثالثة صباحًا؛ فقرر في التوِّ أنها الثامنة صباحًا؛ فأصدر مرسومًا جمهوريًّا بذلك. وكانت النتيجة أن سَلَّم الشعبُ بهذا الهَذَيان، ورسموا الشمس الطالعة على الجدران، وصَحَوْا من النوم وزاولوا نشاطهم وكأنهم في الثامنة صباحًا فعلًا. وقد تكون هذه مبالغة، ولكنها مبالغة تشبه ذلك القول المأثور من أن الكلام الهزل يحوي كثيرًا من الحقيقة؛ فقد كان يحكم مصر ذات عام من مِئات الأعوام الحاكم بأمر الله، الذي أصدر قرارًا بأن يعمل الناس ليلًا في مصر وينامون بالنهار؛ لأن النهار حار، والليل جوه لطيف يُغري بالعمل. وأصدر أمرًا كذلك بمنع أكل «الملوخية»، ونفذ الشعب القرار، وأشرفت الشرطة على تنفيذه.

بطريرك ماركيز أوقف الشمس مرة، وأمر بمرور النجم المذنَّب فمر، وسأل مرةً حاشيتَه عن كم الساعة، فقالوا له: الساعة التي تريدها يا فخامة الرئيس، ماذا تريدها بالضبط لتكون. يمسك ماركيز بتلابيب هذا البطريرك العكوي، ويرسم حياته بمسمار جداري رفيع النهاية كالإبرة، ينحت به لوحات إثر لوحات إثر لوحات؛ لوحات مبالغ فيها؛ سيريالية، وواقعية جِدًّا، وانطباعية، وتكعيبية، وتخريفية، ومهووسة، وفاجرة، وداعرة، ومتطرفة — يا إلهي — لكَمْ أورد ماركيز من الأوصاف المقرفة حقًّا!

في روايته ما يدفعك للقيء، ولا يتوانى عن استخدام ألفاظ تقشعر لها أبدان القراء في عالمنا العربي لو ذُكِرَتْ؛ ألفاظ «قبيحة» ومكشوفة، ويكتب أحيانًا بروث البهائم وأحيانًا بروث الآدميين، أو بمؤخراتهم. ولا يهم الطريقة؛ لو فعلها أي كاتب مِنَّا في عالمنا العربي لصُلب وجُلد ورُجم ودُمغ إلى الأبد. كل الخرافات الشعبية عن الجنس هناك، والذي لا بُدَّ كانت جدودها وجداتها عنده حواديت ألف ليلة وليلة وكتاب رجوع الشيخ إلى صباه والكامار سوتزا الهندي.

يختلط في روايته الجد بالهزل بالسخرية بالمبالغات بالخرافات بالحقائق، إنه كتب بعض أجزاء هذه الرواية بجسده كله، بركلاته، بقبضاته، ببصاقه أحيانًا، وكأنه طفل مجنون أُطْلِقَ له العنان ليفعل بالقارئ ما يشاء، ويقول ويكتب أي شيء. أعود وأقول أي شيء يخطر له عن البطل أو عن غيره من شخصيات الرواية، في حرية، بل الأصح في انطلاق لا يحدُّه حاجز من لغة أو تقاليد أو قيم أو دين أو حتى عقيدة؛ أي عقيدة.

كان هذا هو انطباعي لدى قراءتي للخمسين صفحة الأولى أيضًا، كما حدث لي مع روايته «مائة عام من العزلة»، ثُمَّ وجدت كل شيء بعد هذا لدى ماركيز يكرر نفسه، عودًا على بدء، صور ورؤًى أخرى ترفعك إلى منتهى الشاعرية وتنحط بك — لا مؤاخذة — إلى أسفل سافلين من اللفظ أو الصورة أو المعنى.

وكففتُ عن القراءة، فلم يعد جديدًا في الرواية، إنما هو افتعال وتجديد لِنَفَس ونفس الطريقة بصور أخرى وبشخصيات خانعة للدكتاتور العظيم الجديد ولكنها في نفس الوقت مكررة.

إن كتابة ماركيز تشبه سلسلة من الدوائر المتداخلة؛ فهو في صفحاته الأولى يرسم الرواية كلها (وهنا قصة البطريرك من بداية قلبه لنظام الحكم السابق إلى حالة الشيخوخة التي انتابته بعد مائتي عام من العمر والشيخوخة المقرفة الممجوجة الصارخة القبح). يرسم الرواية كلها في صفحة أو بضع صفحات، ثُمَّ يعود يرسمها في دائرة حول الدائرة الأولى دائمًا أكبر، ثُمَّ يعود يرسمها في دائرة ثالثة أكبر وأكبر، وهكذا لا بُدَّ حين تقرؤه أن توطن نفسك على أن تظل تدور وتدور، وحين تنغلق دائرة تجد نفسك في الصفحة التالية في محيط لنفس الدائرة، ودائمًا على اتساع أكبر وهكذا.

وهذه طريقة «ماركيزية» تمامًا في الكتابة، يُخيَّلُ إليَّ أنها خاصة بماركيز وحده، وأنا شخصيًّا لا تهمُّني طريقة الكاتب، فلكل شيخ أو كاتب طريقته، إن ما يهمني حقيقة هو كم ما أحصل عليه، سواء من متعة مضمون أو متعة شرح. والحقيقة أن متعتي برواية «خريف البطريرك»، وقد تابعتُ قراءتها بصعوبة بالغة، وقد وصلتْ روحي في أحيان إلى الحلقوم من كثرة تكرار التفاصيل والأسماء والوقائع. تابعت قراءتها لشغفي بكل ما أورده ماركيز عن الحياة في أمريكا الوسطى؛ تلك البلاد ذات الْمُناخ الرطب الممطر الحار، الحافلة بالبراكين والخرافات؛ خرافات البر والبحر والغابات والأساطير. فيها كل ما في الجو الاستوائي من اختناق، وكل ما في الناس من حيوية وطيبة وفقر وذل؛ نتيجة للحكام العسكريين الذين تدعمهم — كما يقول ماركيز في روايته — ثلاث سفن من حاملات «المارينز» أو جنود الأسطول الأميركي.

بلاد غريبة عنَّا تمامًا وقريبة بالدم مِنَّا جِدًّا.

والمصادفة المحضة هي التي جعلتني أقرأ «خريف البطريرك»، وأتشبع وجدانيًّا بها، في نفس الوقت الذي أتابع فيه مباريات كأس العالم المُذاعة من المكسيك، التي وإن كانت تمتُّ إلى الجزء الشمالي من أمريكا إلا أن أصلها الإسباني الهندي الأحمر قريب الصلة جِدًّا بأمريكا الوسطى والجنوبية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤