العلم الإسلامي والعلم الغربي في العلم الإسلامي ظهر العباقرة الموسوعيون بينما في الغرب لم يظهر عباقرة شموليون

التصور الغربي للعلوم والتكنولوجيا تصور قاصر، ما في ذلك شك، ذلك أنه يرتكز على التسليم بأنه يجب قياس العلوم والتكنولوجيا بمقياس واحد فقط هو قدرتها على إحكام أقصى قدر من السيطرة على الطبيعة وعلى البشر.

وهذا التعريف الكمي الصِّرْف يعود إلى الإيمان بأن الهدف الأسمى «للتقدم» و«النمو» هو إرادة القوة تلك، حتى لو أدت تلك الإرادة إلى تدمير الطبيعة والبشر.

ولا يكتفي الغرب بهذا، بل إنه يُنَصِّب من نفسه قاضيًا على جميع الحضارات الأخرى، معتبرًا أن طريقة تطوره وما وصل إليه وما يريد الوصول إليه هو النموذج المثالي لما يجب أن يكون عليه هدف أي مجتمع آخر. وهكذا يقرر أن شعبًا ما، أو حضارة ما، أو علمًا ما، «بدائي» و«متخلف»، بالقياس إلى النقطة التي يوضع فيها هذا المجتمع على المسار الذي سار فيه المجتمع الأوروبي. والفكرة تبدو شاذة حقًّا وشديدة التعصب، خاصة إذا سأل هؤلاء، الساعون إلى السيطرة وإرادة القوة، أنفسهم هذا السؤال: ألم تتحول أوروبا — وبالتالي الغرب — منذ عصر النهضة (أي منذ نشأة الرأسمالية الغربية)؛ وبالتالي الاستعمار المتزامن معها، إلى تبرير للرأسمالية والاستعمار جاعلة الهدف الوحيد للعلوم والتكنولوجيا هو أن «تجعلنا سادة الطبيعة ومالكيها» كما كتب «ديكارت» في كتابه «بحث في الطريقة».

وأبدًا ليس لتأمين تفتح وازدهار الإنسان، كل الإنسان، وكل إنسان.

هكذا يبدأ جارودي مدخله إلى دراسة الثورة العلمية والتكنولوجية التي قامت بها الحضارة الإسلامية مساهمة عظمى منها في رفع شأن البشرية.

وفي هذا الصدد يقول، وهو يعني الحضارة الشاملة، حضارة الإسلام: تفتُّح كل إنسان، وأعني بذلك الإنسان بكل أبعاده، بما في ذلك علاقاتنا الجمالية بالطبيعة كمشاركة مِنَّا في «حياتها»، أي حياة «الطبيعة»، وليس اعتبارها مجرد مستودع للمواد الأولية وكأنها مستودع نُفايات.

إن تَفَتُّح كل إنسان هو الشيء الذي ينقص فلسفة النمو الغربية وديانة التقدم التي يعتنقها الغرب، فهذا النمو نفسه هو السبب في تفاقم الفوارق بين الطبقات في بلدان «النمو»، وهذا «النمو» الغربي نفسه لا يمكن أن يتحقق إلا بنهب موارد العالم «المتخلف» — عن النمو — المادية والبشرية. هكذا فوق أنه — في الحقيقة — لا توجد بلدان «متقدمة» متطورة، وبلدان «نامية» متخلفة، بل توجد بلدان «مسيطرة» وبلدان «مُسَيطَر عليها»، بلدان مريضة من فرط النمو، من التخمة، والآخرون مخدوعون بسراب هذا النمو الانتحاري نفسه الذي تديره «نخبة» منهم تكونت ثقافيًّا في الغرب، وتم التوصل إلى إقناعها بأن مستقبلها هو في السير على منوال البلدان المتقدمة «المريضة» وفي تقليدها.

لقد احتاج تيمور لنك أيَّامًا وأيَّامًا لذبح ٧٠٠٠٠ شخص من البشر عند استيلائه على أصفهان حتى يستطيع أن يكدس جماجمهم على هيئة هرم كبير. أمَّا في هيروشيما فقد حصل الغرب على نفس النتيجة خلال ثوانٍ. إنه لتقدم علمي وتكنولوجي لا ريب فيه ولا مراء. وقد وصل هذا التقدم إلى أنه توجد في حوزة هذا الغرب «بشِقَّيْه الرأسمالي والاشتراكي» ما يعادل مليون قنبلة مثل قنبلة هيروشيما، وهو ما يساوي خمسة أطنان من المتفجرات المألوفة مثل ت. ن. ت، لكل رأس من سكان المعمورة.

إن الثورة الخضراء وبذورها العجيبة زادت محاصيل الأرز زيادة هائلة في جنوب شرق آسيا، في مدة خمس سنوات، في حين أن التكنولوجيا الأوروبية المستخدمة في الزراعات العميقة المفروضة على بعض بلدان العالم الثالث، طمرت القشرة الرقيقة من التربة العضوية ليقوم الغرب ببيع الأسمدة الكيماوية الفتاكة بما تولده من طاقة بحيث لم يعد هذا الجزء اللابترولي يستطيع شراء تلك الأسمدة.

إن العلم يكون سفهًا وظلمًا إذا لم يكن له هدف آخر إلا العلم نفسه، العلم للعلم، فهذا التضخم في المعرفة المنفصلة عن الحياة يصاحبه الضمور في جميع أبعاد الإنسان الأخرى: الحب والإبداع، والتأمل في غيابات الحياة والطموح إلى التوازن والانسجام في علاقتنا مع الطبيعة وعلاقاتنا الإنسانية ببعضنا البعض.

إن مبدأ التوحيد قد سد الفاصل بين العلم والإيمان، فما دام كل شيء في الطبيعة هو «أمارة» على حضور الله، تصبح معرفة الطبيعة، كالعمل لونًا من ألوان الصلاة، وطريقة للاقتراب من الله.

وفي الحديث النبوي الشريف: «من سلك طريقًا يلتمسُ به عِلمًا سَهَّل اللهُ به طريقه إلى الجنة …»، و«يوزَن مِدادُ العلماءِ بِدَمِ الشهداء يومَ القيامة …»

لقد جَمع الإسلام، وتَرْجم إلى اللغة العربية، كل ما ازدهر قبله من علوم وثقافات من حضارة بين النهرين إلى مصر وبيزنطة، كل ما تخلف من اليونان والرومان، كل ما كان قبله من طب وعلوم وتقنيات. وإنه لَأمر ذو مَغزًى عظيم ألا يطالِب الخليفة هارون الرشيد (٨٧٦–٩٠٩م) عندما استولى على أنقرة، أو الخليفة المأمون من بعده عندما انتصر على الإمبراطور البيزنطي ميشيل الثالث إلا بتسليم مخطوطات قديمة تعويضًا عن أضرار الحرب.

ولقد حدثت حركة ترجمة عظمى منذ القرن الثامن الميلادي، فقد اجتذب هارون الرشيد إلى بلاطه فطاحل الباحثين واللغويين من كل أصل، وأشهر مَنْ رَأَسَ هذا العمل كان حُنَيْن من قبيلة العباديين العربية التي استقرت منذ زمن بعيد في الْحِيرَة، ولم يكن حُنَيْن الذي اعتنق المسيحية مع ذلك (وهذا شاهد آخر على مدى غنى وثراء الحضارة الإسلامية؛ إذ كان في ظلها يستطيع أهل كل كتاب، بل حتى البوذيين، أن يتعايشوا مع المسلمين وأن يتساوَوْا معهم في الحقوق والواجبات). ولقد قام حُنَيْن بترجمة مؤلفات أبوقراط في الطب وجالينوس وديكوسكيوريدس. وكذلك مؤلفات الرياضيين والفلكيين وعلماء الطبيعة، وبأمر من المأمون قام الغزاري بترجمة واقتباس بحث اﻟ «سيد هانتا» في علم الفلك الهندي للعالم براهما فوستا. وإذ تعلم العرب من الصينيين فن صناعة الورق (وكان إنشاء أول مصنع له في بغداد عام ٨٠٠م) الذي لم يعرفه الغرب عن طريقهم إلا بعد أربعة قرون. كما أن المكتبات قد تكاثرت في أرجاء العالم العربي. وفي عام ٨١٥م أنشأ الخليفة المأمون في بغداد «بيت الحكمة»؛ احتوت على مليون مؤلَّف. وفي القرن العاشر كانت مدينة صغيرة كالنَّجَف في العراق تملك ٤٠٠٠٠ مجلد. وفي الطرَف الآخر من الدنيا، في إسبانيا المسلمة، كان الخليفة في قُرطبة يستطيع التباهي في القرن العاشر بمكتبة تضم ٤٠٠٠٠٠ كتاب، في حين أن ملك فرنسا شارل الحكيم (أي شارل العالم) بعد أربعة قرون من هذا التاريخ، كان بالكاد يستطيع أن يجمع ٩٠٠ كتاب. ولكن ليس هناك من يستطيع أن ينافس خليفة قاهرة العزيز الذي كانت مكتبته تحتوي على ١٦٠٠٠٠٠ مجلد، منها ٦٠٠٠ في الرياضيات، ١٨٠٠٠ في الفلسفة. هذا الشغف بالكتب، وهذا السعي الجاد لتمثُّل كل الثقافات السابقة، لم يَنطوِ على أية انتقائية أو اصطفاء، وإنما أخذه المسلمون وأخصبوه برؤيتهم ثُمَّ قدموا هذا جميعًا كنزًا خالصًا للثقافة البشرية.

إن سبب الركود العلمي الرئيسي في أوروبا المسيحية كان الارتياب في الطبيعة الذي لا يمكن إلا أن يبعد الإنسان عن الله، وتلك الثنائية بين الطبيعة وبين الله والإيمان هي التي أفسدت الرؤية المسيحية.

وعلى هذا قام كثيرٌ من البطاركة بحرق المكتبات باعتبار أنها تساعد على «الوثنية والهرطقة».

وعكس هذا تمامًا ما يعبر عنه النظام التربوي الخاص بالإسلام الذي يشكل تعليم القرآن في الجامع نقطة الانطلاق فيه، إذ تندمج الحكمة والعلوم بالعقيدة في وحدة عضوية؛ إذ إن هدفها جميعًا هو عالم من «نور الله» تتجلى فيه آياتُه؛ إذ الكون هو أيقونة يتجلى من خلالها الواحد الأحد خلال الكثرة العددية التي تشمل آلاف الرموز.

•••

وهكذا جاءت صفت الكُتَّاب والعلماء المسلمين، فمن جهة ليس ثمة انفصال بين علوم الدين وعلوم الطبيعة والمرئيات وبين الفنون والآداب من جهة أخرى، وأيضًا ليست هناك حواجز عازلة بين مختلف العلوم من الرياضيات إلى الجغرافيا، وهذا ما يفسر ظهور عدد كبير من العباقرة المسلمين الموسوعيين.

فبينما في الغرب لا يوجد عباقرة شموليون اللهم إلا ليوناردو دافنشي، في حين أنهم في الإسلام جحافل، من الكندي إلى الرازي، ومن البيروني إلى ابن سينا. وعشرات غيرهم من المبدعين في الطب والجغرافيا والتاريخ، وأحيانًا في الشعر كعالم الرياضيات عمر بن الخيَّام أو الفيلسوف ابن عربي أو في الموسيقى كالرازي.

وهذه الرؤية التوحيدية تفسر كذلك الأهمية التي تختص بها الحضارة الإسلامية في تصنيف العلوم؛ فبتوضيح وحدة الواقع ومعرفة الإنسان بها وتناسقها من التأمل في وحدة العالم إلى التأمل في الوحدانية الإلهية التي تجد صورتها في وحدة الطبيعة.

إن الرياضيات مثلًا في المنظور الإسلامي هي عبور من «المحسوس» المدرَك إلى المعقول، من عالم الصيرورة إلى عالم الأبدية. وهي في العلوم كما في الفنون طريق للتوحيد، فما نسميه نحن (هكذا يقول جارودي عن الأوروبيين) الغربيين ﺑ «الأرقام العربية» ويسميه العرب اعترافًا بدَيْنهِم باﻟ «أرقام الهندية» أُدخلت إلى أوروبا عن طريق الخوارزمي. وقد كان الكتاب الهندي سيدناتنا الذي جيء به إلى بلاط المأمون يتضمن نظام العد العشري الذي يعبَّر عنه بتسعة رموز، وبزيادة صفر، ويستطيع أن يحيط بأي عدد ممكن تخيله؛ فقلب الرياضيات رأسًا على عقب. وحمل هذا النمط الجديد من الحساب اسم الرجل الذي منهجه، وكان هذا الاسم هو: «اللوغاريتم» أي «الخوارزم»، وبعد قرنين قلب هذا النظام — عن طريق إدخاله إلى أوروبا بواسطة الراهب جيربرت — نظام الرياضيات في الغرب.

وبما أن الرمز واحد (١) هو الدلالة الأكثر مباشرةً للمبدأ الإلهي فإن سلسلة الأعداد ومركباتها هي السلَّم الذي يرتقي به الإنسان من المتعدد إلى الواحد. وإذا نحن تذكرنا أن الرقم ٤٤٤٤ كان يُكتَب بالأرقام الرومانية هكذا بحيث يُصبح من العسير جِدًّا إجراء أية عملية حسابية، لتخيلنا الدور الهائل لهذا العدد المتتابع، ودور «الصفر» في تطوير العلوم والتقنيات كما في الصناعة والتجارة والمحاسبة.

كان الخوارزمي رائد علم الجبر (وكلمة الجبر نفسها هي عنوان كتابه الأشهر)، وفي القرن التاسع الميلادي (وحوالي الثالث الهجري) استعمل ثابت بن قُرَّة لأول مرة حساب التكامل ورَبَط الهندسة بالجبر.

في حين أكب علماء آخرون (مثل الطُّوسِي والبيروني) على البحث في «الجيوب» «جا»، وابتكروا القاطع قبل كوبرنيكوس بعدة قرون.

وفي الفلك أكمل علماء الإسلام مسيرة اليونانيين من أمثال بطليموس وتجاوزوه كثيرًا، فوضع فلكيو الخليفة المأمون الجداول اﻟ «مأمونية» التي صححت جداول بطليموس، وبنَوا المراصد فوق جبل قاسيون، ومرصد مرفة الذي أداره ناصر الدين الطُّوسي. وكان ذلك المرصد يملك تجهيزًا فريدًا في عالم ذلك اليوم، كُرة محلقة مكونة من خمس حلقات نُحاسية، قطر الواحدة منها أكثر من ثلاثة أمتار، وهو جهاز لا يمكن صنعه إلا بتكنولوجيا متقدمة جِدًّا في فن قطع المعادن. وكانت تلك البحوث الفلكية مفيدة تمامًا للعرب في سفرهم في البادية وفي البحار والمحيطات على حد سواء؛ مما دعاهم إلى اختراع الإسطرلاب الذي أخذه الأوروبيون عنهم.

وفي الجغرافيا كانوا هم أول من رسم الخرائط. واستلهامًا للعقيدة الإسلامية، فإن أرض الجغرافيين كانت كسماء الفلكيين، معرفتها وتأملها ودراستها واجبة؛ لأنها صورة رمزية وآية من آيات الله، هي التجلي، وظهور الله بالنسبة لنا سبحانه الذي لا يستطيع أحد أن يراه بذاته، وإنما بتجلياته.

في بلاط روجيه الثاني ملك صقلية «حتى بعد استرداد صقلية من العرب» قام الجغرافي العربي العظيم «الإدريسي» المولود عام ١١٠١م بتأليف كتبه وسماها باسم روجيه، وكانت تلك الكتب بما احتوت عليه من خرائط أشمل وأدق وصفًا لعالم القرون الوسطى كله، وما ابن ماجد في رحلاته وجولاته إلا قرن الاستشعار العربي يمتد عبر البحار والمحيطات يسير فوق الدنيا، فهو لم يكن مؤلفًا لكتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد فقط، وإنما كان بحارًا ماهرًا يلقب بأسد العواصف، وهو الذي قاد أسطول فاسكو دي جاما البرتغالي من ميلاندي على الشاطئ الإفريقي إلى كالكوتا في الهند عام ١٤٨٩م.

لقد درس المسلمون العالم جغرافيًّا باعتبار استمرارية الطبيعة، وباعتبار أن ليس ثمة فاصل بين الجغرافيا والزراعة والجيولوجيا وعلوم النبات وعلوم الحياة. وإذا كانت الجغرافيا تصنع التاريخ في جزء كبير منه، فإن التاريخ يصنع الجغرافيا في جزء كبير منها.

لقد كانت ابتكارات العرب هي أساس اكتشافات «تورشيللي» في إيطاليا لاختراع مقياس الضغط الجوي «البارومتر» واكتشاف فوكانسون في فرنسا للآليات لم يتجاوز كثيرًا بحوث الجزاري في الآلات.

ولا بُدَّ أن نقف عند أحد أعظم الشخصيات البارزة في العالم العربي الإسلامي، ذلك هو الإنسان ذو الفكر المتكامل، والفنان ورجل الدولة والفقيه، ورجل القانون والفيلسوف، كل هذا في وقت واحد، إنه ابن خلدون، الذي وضع في القرن الرابع عشر الميلادي مؤلَّفًا عظيمًا في التاريخ وعلم الاجتماع تناول فيه ارتقاء الحضارات وانحطاطها، وعندما درس أساس الحكم وأصل الأسر الحاكمة فإنه فعل ذلك بتمكن لم يستطع أحد أن يتجاوزه إلا بعد هذا بقرن من الزمان، وكان ميكيافيللي في كتابه «الأمير». وعندما عرف المنهج التاريخي ليفين كأساس لتاريخ تفسيري وتعليلي، فعل ذلك بوضوح يضاهي مونتيسكي في «روح القانون» أو في دراسته لأسباب عظمة الرومان وانحطاطهم.

ففي نفس العمر الذي لم يكن الغرب فيه يعرف عن التاريخ سوى كتاب «الحوليات»، كتب ابن خلدون: «أبدأ بذكر الأسباب العامة في دراسة الأحداث الخاصة … وسأتناول التاريخ بالتفسير والتعليل مرجعًا الأحداث السياسية إلى أسبابها وأصولها … وطريقتنا في معالجة هذا الموضوع تشكل علمًا جديدًا قائمًا بذاته.»

وإذ يربط الملاحظة الشخصية بالتفكير النظري، فإنه يدون أثر الْمُناخ والجغرافيا والظواهر الاقتصادية على حياة الشعوب، وكذلك يدرس بنية المجتمعات ونشاطها انطلاقًا من تقسيم العمل، حتى إنه يقدم أول صياغة ﻟ «المادية التاريخية»؛ إذ يقول: إن ما نلاحظه من اختلافات في عادات مختلف الشعوب وأفكارها مرده إلى الطريقة التي تدبر بها قوتها، أي طريقتها في أكل العيش.

ولكن ما يميز ابن خلدون على ميكيافيللي أو مونتيسكي (وأيضًا عن التصور الوضعي للتاريخ) هو أن فكره التركيبي يبحث وراء سطح الظواهر، عن الحياة الكامنة التي تعطي لهذا السطح معنى، فمنذ الصفحة الأولى من مقدمة كتابه في «التاريخ العام» حيث يُدين أولئك الذين لا يرَوْن في التاريخ إلا «رواية» و«وقائع جامدة» يُضيف إلى ذلك قوله: إن النظر من الداخل إلى التاريخ يُكسبه معنًى آخر. وهو هنا يقصد أن «يفسر» للقارئ كيف ولماذا تكون الأمور على ما هي عليه. إنه هنا لا يسرد وقائع، ولكنه يحللها ويفسرها، وهذا أثر آخر. وليس في ابن خلدون أي أثر لنزعة ليفينية كالتي يجدها القارئ عند «بوسويه» في كتابة «مقالة في التاريخ العام» الذي كُتب بعد ابن خلدون بقرنين. ومع أن ابن خلدون يستند هو أيضًا إلى قوله تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ إلا أنه يقيم صلة أخرى بين العلم والعقيدة؛ إذ يقول: إن التاريخ لم يكن مكتوبًا قبلنا ولم يُكتَب بدوننا، فليس في مقدور الإنسان أن يصمَّ أذنيه عن النداء، إنه مسئول عن قدره.

فالتاريخ في المنظور الإسلامي عند ابن خلدون يُصنع من أوضاع وأحوال وأسباب، ومن اندفاعات إلى الأمام ومن خرافات وحيوانات وأوبئة. وهو يُصنع كذلك من مشروعات إنسانية وغايات جزئية، ومن نداءات ووجفات إلهية، ومن العقيدة أحيانًا مصابة بالخور والتراجع وأحيانًا أخرى شهيدة أو منتصرة مُظَفَّرة. هذا هو التاريخ بتمامه؛ لأن الإنسان هو كل هذا.

أمَّا الطب الإسلامي، وهو أحد أجمل أزهار الحديقة الإسلامية، فإنه قائم هو الآخر على أساس الرؤية الإسلامية للعالم، من الانشغال الدائم بالوحدة بين الأجزاء بمبدأ التوحيد، وحدة الجسم بترابط الأجزاء والاعتماد المتبادل بين الكل، وحدة الكائن الحي مع وسطه ومع المد الكوني، وحدة الروح والجسد، فإن مفاهيم التوازن والانسجام، الركيزة الأولى للإسلام، تقف هكذا في المقام الأول في نظرية الطب وممارسته. تلك النظرية الطبية المرتبطة بما وراء الطبيعة وبعلم الكونيات وبفلسفة الإسلام، معتبرة أن الإنسان عالم صغير تتلخص فيه درجات الكائن والكون بجملتها، مرتبطة في نفس الوقت بالملاحظة ودقتها وما يحدث للمريض في فراشه باعتبار أن تعليم الطب يتم في مستشفى، وهو في نفس الوقت يشدد على الوقاية، والضوء خير دليل.

ولنعرف مدى الأثر العربي العظيم في الطب، فيكفي أن نعرف أن كلية الطب في باريس لم تكن تملك منذ ستمائة عام خلت من العصور القديمة وحتى عام ١٩٢٥م إلا مجلدًا واحدًا يخص كل العلوم الطبية في العالم، وكان هذا المجلد للرازي العالم المسلم الذي لا يزال تمثاله قائمًا إلى جوار تمثال ابن سينا في المدرج الكبير بشارع الآباء القديسين.

ولقد طُبع بحث الرازي عن الجدري والحصبة، والذي كُتب في القرن العاشر، أكثر من أربعين طبعة ما بين ١٤٩٨ و١٨٦٦ ميلادية.

ورغم عظمة الرازي إلا أن تأثير ابن سينا، وبالذات في كتابه «قانون الطب» الذي تُرجم إلى اللاتينية، ظل موسوعة الطب العظيم بفضل وضوح تصنيفه للأمراض ودراسته المنهجية لأعراضها، ودامت طرقه في تشخيص أمراض ذات الرئة وذات الجنب وخراج الكبد وطرقًا كلاسيكية أكاديمية طيلة ثمانية قرون من الزمان. وكان ابن سينا كالرازي أيضًا، عبقرية شاملة، فقد كان طبيبًا وفيزيائيًّا وفيلسوفًا وعالمًا دينيًّا وشاعرًا كالحسن بن الهيثم الذي كان عالمًا عظيمًا في الرياضيات والفلك ومهندسًا وصاحب عدة مؤلفات في علم البصريات. إن الغرب يعتبره رائد الطريقة التجريبية في العلم الحديث، ولقد كتب ابن الهيثم أول وصف تشريحي دقيق للعين، وفي عام ١٠٠٠م كان أبو القاسم الموصلي في بغداد ينجح في استئصال ما يُسَمَّى الكاتاراكت (الماء الأزرق) من عدسة العين بواسطة امتصاصه بإبرة مجوفة، في حين أن الغرب لم ينجح في إجراء هذه العملية إلا في عام ١٨٠٦م بعد انقضاء ثمانمائة عام على يد الدكتور بلانشيه. وقد مارس العرب التلقيح ضد الجدري، ودرس الطبيب الأندلسي أبو القاسم مرض السل في العمود الفقري المُسَمَّى الآن بمرض «بوت» قبل أن يكتشفه بيرسيفال بوت بسبعة قرون ونصف.

أمَّا تأثير العنصر المعنوي والروحي على الجسم، فقد أُدخل في الحسبان، فقد كتب ابن سينا: لا بُدَّ لنا من الأخذ بعين الاعتبار أن أحد أفضل العلاجات وأنجحها يقوم على رفع القوى العقلية والنفسية والمعنوية لدى المريض وتشجيعه على المقاومة وعلى إحاطته بجو مستحب والعمل على إسماعه موسيقى عذبة وعلى إتاحة احتكاكه بأشخاص يروقون له.

إن النهضة الأوروبية لم ترث تعاليم الحضارة اليونانية مباشرةً، فإن الحضارة العربية الإسلامية هي التي استشرت طيلة الألف عام الوسيطة بين الحضارتين اليونانية والأوروبية الحديثة. لقد نُقلت تلك الحضارة إلى أوروبا عبر إسبانيا وصقلية، ومورس تأثيرها بواسطة ترجمة المؤلفات الإسلامية إلى اللاتينية.

إن الفكر الفلسفي في الإسلام لا يرى العالم في تطوره وكأنه يسير في اتجاه أفقي، وإنما في صعود، فالماضي ليس وراءنا، الماضي تحت أقدامنا. وهكذا لا يعود في وسع العلم والتكنولوجيا، إذ يُستدعيان على هذا النحو لقضاء حاجات أسمى، أن يُصبحا مثلما هما في التقليد الغربي منذ عصر النهضة، غايتين بذاتها. هذا المرض المُسَمَّى في الحضارة الغربية بالحداثة والعصرية، هو عكس للعلاقة بين الوسائل والغايات، فالوسائل (التكنولوجيا) في المنظور الغربي غايات، إذ لم يعد العلم والتكنولوجيا يتكيفان مع البيئة، ولم يعد أحدهما في خدمة الإنسان، العكس هو الصحيح: أصبح الإنسان وبيئته خاضعَيْن لنمو العلوم والتقنيات.

إن العلم والتقنيات وسائل مدهشة في خدمة غايات إنسانية، لكن «علمًا» ما، وأعني به تنظيمًا للوسائل، منفصلًا عن حكمة ما، أي عن تأمل في الغايات يصبح أداة تدميرية في يد الإنسان وللإنسان.

وهكذا ممكن أن نلخص فلسفة العلم عند الحضارة الإسلامية بالتالي:
  • (١)

    إن العلم والتقنيات تُنسَّق وفقًا لأهداف أعلى من أهداف إنسان أو مجتمع يكونان مجرد جزء من الطبيعة.

  • (٢)

    هناك استعمال آخر للعقل غير الاستعمال الذي يتجه من سبب إلى سبب، ومن سبب إلى نتيجة. عقل يصعد من هدف إلى هدف، ومن أهداف ثانوية إلى أهداف أسمى، ويسعى دون أن يبلغ النهاية أبدًا إلى التوحيد الأسمى الذي يضم معًا سائر الأمور الأولى.

    إن الأستاذ حسين نصر يُعرِّف العلاقات بين العلم الذي يُقال إنه عصري والعلم الإسلامي بأنه على عكس العلاقات بين العلم والوسائل وبين الحكمة (الأهداف). ولو أن علماء المسلمين بُعثوا اليوم لأدهشهم، وربما أرعبهم، مدى الانقلاب الذي صار إليه الحال. فالعلم والوسائل قد أصبحت غايات، بينما الحكمة (الأهداف) قد أصبحت هامشية جِدًّا، إن لم نقل إنها اختفت تمامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤