إسلام بلا ضفاف

تركت كتاب جارودي جانبًا، ورحت أتأمل رحلة الإنسان الباحث عن الحق والحقيقة، لقد كلَّفتني هذه الرحلة عمري وأنا لا أزال دائب البحث، ولقد تجسَّد لي جارودي على هيئة ذلك الجزء المتبقي حيًّا من الضمير الأوروبي المعاصر الذي كُتِب عليه في بداية حياته، وحتى قبل أن يُصبح عضوًا بارزًا في الحزب الشيوعي وفيلسوفه الأعلى، أن يصطدم بالحقيقة الإسلامية الكبرى حين عمل أستاذًا في الجزائر المستعمَرة إذ ذاك استعمارًا فرنسيًّا كاثوليكيًّا غاشمًا؛ استعمارًا يهدف إلى نزع كل ما يخص الإنسان الجزائري من أصالة ولغة ودين ومقومات وجود، وإلباسه لباسًا فرنسيًّا مهلهلًا، فلا هو أصبح به فرنسيًّا ولا هو أبقى على حقيقته العربية الإسلامية. يقول الدكتور ذوقان قرقوط مترجم كتاب «وعود الإسلام»: عادت بي الذاكرة، وأنا أقرأ كتابه الجديد (كتاب جارودي) إلى أيامِ يفاعتنا بثانويات الجزائر، في إحدى مدن وهران، كان ذلك عام ١٩٤٨م عندما قدم إلينا رجل، جاء ليهدم سورًا؛ ذلك السور الذي كان يفصلنا بوحشية عن ثقافتنا القومية التي حَرَمنا منها الاستعمار، والتي لم يكن في وسع أية ثقافة أجنبية، مهما كانت فنية وفاتنة، أن تجعل مِنَّا غير رهائن ضائعة، بالنسبة لأبناء وطننا، وبالنسبة للآخرين. وإذ كُنَّا محرومين من ثقافتنا ومن لغتنا القومية ومن حضارتنا الخاصة، فقد استقبلنا هذا الرجل بشكران ورع، والذي كان يجعلنا نرفع الحجاب الذي يُخفي ثقافتنا، والتي أصبحت هي نفسها غريبة في بلدها. في زمن كان القيام بالتصدي للاستعمار فيه يعرض للأخطار، عمل هذا الرجل المقدام على أن نعود للارتباط بأنفسنا ليساعدنا على التغلب على عملية نزع ثقافتنا، ويشرع منذ ذلك الحين في فتح حوار بين الحضارات. لم يأتِ ليعرف بواسطتنا، مَن نحن، ولماذا يستبسل الاستعمار في العمل على أن يُنسِينا إياه، وإنما أتى ليساعدنا على إتقانه أو على إعادة اكتشافه. هذه المرة يتوجه روجيه جارودي بكتابه «وعود الإسلام» إلى جمهور غير مسلم يريد أن ينزع الضمادات عن عيونه، ويخلصه من أحكامه المسبقة.

في كتابه هذا الأخير إذن يتوجه جارودي إلى الأوروبيين، مسيحيين كانوا أو يهودًا أو ملحدين، ويحدثهم عن الإسلام، حديث إنسان بدأ رحلته مع الإسلام كما نرى في الجزائر عقب الحرب العالمية الثانية، وفي عام النكسة الإسلامية والعربية الكبرى عام ١٩٤٨م؛ عام قيام إسرائيل وبداية اغتيال فلسطين. هل هي مصادفة أم أن ذلك الضمير الأوروبي، أو على الأقل بقاياه النقية الباحثة عن الحق والحقيقة، قد ظل وقد هزت معتقداتِه وآراءه الثابتةَ حربٌ عالمية ضروس من صنع ذلك الغرب نفسه، وداخل معسكره، أهلكت الملايين، ولم تحلَّ للبشرية مشكلة واحدة، قد راح يبحث لأزمته الطاحنة عن مخرج، وإزاء طبيعته العدوانية الشرسة يبحث عن ميادين أخرى تحفل بالإنسانية والوحدانية؛ وحدانية الكون والله الممتدة إلى الإنسان. فكان جارودي خير باحث وخير رائد لهذا الاتجاه؛ فقد بدأ جارودي حياته كاثوليكيًّا راح يقلب هذا الجناح من المسيحية، باحثًا فيه عن حل شامل للبشرية، وحين أعياه البحث «كفر» بكاثوليكيته تلك، وتحوَّل إلى الماركسية والمادية الجدلية والتاريخية؛ علَّه يجد فيها الحل.

ولكن لننظر إلى هذا التعلق المبكر بالحضارة الإسلامية، والذي كما يذكر الدكتور قرقوط يرجع إلى العام ١٩٤٨م، حين كان جارودي مدرسًا ثانويًّا بالجزائر. لقد ظل جارودي بعدها قائدًا وفيلسوفًا للحزب الشيوعي إلى ما بعد هذا بكثير، وكان لا بُدَّ لتناقُضٍ كهذا أن يصير إلى معركة خاضها جارودي وحيدًا، باحثًا عن الحقيقة أمام حزب كبير تحمَّلَ موقفَه منه واتهاماته له، والإدانات الكثيرة التي طعنه بها والنيل منه.

ولكنه كان قد وصل إلى قمة المنتهى، ومن يصل إلى قمة المنتهى لا يهمه اعتراضات البشر. كان جارودي قد آمن بأن الإسلام هو الدين الوحيد، بل هو الفلسفة الوحيدة التي بشَّرت بالوحدة الإلهية (التوحيد) الذي يُعطي لكل حياة ولكل شيء معنًى بالنسبة لعلاقته بالكل، ليس توحيدًا جامدًا، توحيد الإيمان بإله واحد مجرد، جاعلًا من الله فكرة وربما أقل من ذلك أيضًا، مجرد حلول أو وحدة للوجود تخلو من الله سبحانه. التوحيد هو فعل؛ فعل من الله دائم الخلق؛ فعل من الرسول الذي بكلامه، الموحَى به من الله، يكون ليس وحدة أو جملة، ولكن فعل توحيد؛ فعل تجميع؛ فعلًا لكل إنسان يعي أنه ليس هناك إله حقيقي سوى الله، وأنه في كل لحظة يربط كل شيء وكل حادث بمبدئه.

ولا يمكن لنا أن نفهم انتشار الإسلام من غير أن نلفت النظر (هكذا يقول جارودي) إلى وجهين أساسيين تجلَّيَا منذ ظهور النبي : فأَوَّلًا التوحيد هو عمل يدل على ذلك الافتراض السخيف القائل بأن الإسلام يقود إلى «الجبرية» بالناس، إنه يقدم الأساس الصلب لمسئولية الإنسان وحريته، فاسم «الإسلام» نفسه يعني التسليم أو الامتثال للإرادة الإلهية؛ وعليه، فإن كل شيء في تصوُّره للتوحيد، للكل، يكون «مسلمًا»، فمثلًا الشجرة في أزهارها، الحيوان في نموه، الحجر في جماديته؛ هي كلها في أشكالها المختلفة مسلمة للإرادة الإلهية وبالإرادة الإلهية، فليس في إمكانها الإفلات من القانون الذي يحكمها.

إن الإنسان وحده هو الذي يستطيع أن ينسى بإرادته طبيعته الحقيقية، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (سورة طه: ١٢٦)، فهو يصبح مسلمًا إذن بالاختيار، وذلك بتذكره الشريعة الأولى؛ شريعة التوحيد والمجموع التي تعطي لحياته معنًى، وهو مسئول مسئولية تامة؛ لأنه يملك إمكانية الرفض.

من جهة أخرى (هكذا يمضي جارودي قائلًا) سيكون غريبًا جِدًّا اعتبار عقيدة قادت المسلمين إلى تجديد أربع حضارات كبرى والإشعاع على نصف العالم، في فترة لا تتجاوز الثلاثة أرباع قرن، مجرد عقيدة قدرية منقادة. هذه الحيوية في الفكر والعمل هي تمامًا عكس القدرية. لقد اقتاد ملايين الناس إلى التأكد من أنهم من الممكن أن يعيشوا على نحو آخر.

الملاحظة الثانية تنصبُّ على وجه الدقة على هذه الطريقة الجديدة للحياة، فإذا كان الإسلام قد تمكَّنَ من الانتشار بمثل تلك القدرة وبهذه السرعة في الجزيرة العربية أوَّلًا من المحيط الأطلنطي إلى بحر الصين شرقًا؛ فذلك لأنه كان يحدد معنى الحياة لدى شعوب ضلت الطريق وتفكَّكت مجتمعاتها وثقافاتها وعقيدتها. كان المبدأ الرئيسي لتلك التجديدات هو استعادة عقيدة أصلية، وهي عقيدة إبراهيم، العقيدة التي كانت تُترجَم إلى أفعال تخضع إلى أمور نسبية تراقب البشر وثرواتهم وتبذل جهدها في تحقيق المشروع الإلهي.

كان القرآن الكريم يعترف بصدق أنبياء التوراة على أنهم رسل لله نفسه، شرائع موسى وإنجيل يسوع كان كلام الله، لنرى الآن كيف رأى جارودي العقيدة الإسلامية في مبادئها الأساسية الخمسة.

الإسلام الفلسفة الوحيدة التي بشرت بالوحدة الإلهية

  • فأَوَّلًا: الجهر بالعقيدة بشهادة أن لا إله إلا الله وأن مُحَمَّدًا رسول الله؛ إذ الكون بأكمله بهذه الطريقة يتخذ معنًى؛ إذ يتجلى المطلق في النسبي على شكل «إشارات» ورموز. إن الطبيعة والبشر، تمامًا ككلام القرآن، هم ظهور، هم تجلٍّ لله تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (سورة الإسراء: ٤٤).
  • ثانيًا: الصلاة، وهي المشاركة الواعية من الإنسان لهذا التسبيح الكوني الذي يربط المخلوق بخالقه «عُد إلى ذاتك تجد الوجود كله مختصرًا فيك».

    إن الصلاة تُريح المؤمن بهذه العبادة الشاملة، فبالقيام بها وقد ولى الجميع وجوههم شطر مكة، يروح المسلمون جميعهم يولون وجوههم إلى المحراب، إلى الكعبة، بدوائر متحدة المركز، بهذا الانجذاب الواسع للقلوب التي تهفو نحو مركزها، والوضوء يرمز إلى عودة الإنسان إلى الطهارة الأصلية، مستبعدًا منه بهذا الاغتسال كل ما يمكن أن يشوب بأي كدر صورة الله، وبهذا يصبح مرآته الصادقة.

  • ثالثًا: الصوم، وهو إيقاف طوعي للإيقاع الحياتي اليومي، تأكيد حرية الإنسانة بالنسبة ﻟﻠ «أنا» ولرغباتها، وفي نفس الوقت هو التذكير بوجود من هو جائع فينا كما لو كان تذكيرًا بذات أخرى يجب المساهمة في انتزاعها من البؤس والجوع والموت.
  • رابعًا: الزكاة ليست إحسانًا أو تسوُّلًا، وإنما هي نوع من العدالة الداخلية أخذت شكل المؤسسة، وهي ملزمة بطريقة تجعل من المؤمنين ذوي إرادة فعالة، بمعنى أنهم يستطيعون أن يتغلبوا على الأنانية وعلى البخل داخل أنفسهم، والزكاة هي التذكير الدائم بأن كل غنى لله شأنه شأن كل شيء آخر، وأن الفرد لا يمكنه أن يتصرف فيه على هواه؛ إذ إن كل إنسان هو عضو في جماعة.
  • خامسًا: الحج لبيت الله (مكة) بيت الله الحرام الذي لا يجسد عالمية الأمة فحسب، وإنما هو يحيي في داخل كل حاج الرحلة الداخلية نحو مركز ذاته.
    فالمسألة المحورية في الإسلام، في جميع مظاهره، هي هذه الحركة المزدوجة من الإنسان نحو الله، وعودة الله إلى الإنسان، انبساطًا وانقباضًا في قلب المسلم قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (سورة البقرة: الآية ١٥٦).

على هذه الأسس الإسلامية التوحيدية الكبرى أسس النبي (عليه الصلاة والسلام) نموذجًا لم تعرفه البشرية من قبل، فهو ليس جماعة قبلية متحدة فقط بروابط الدم لدى البدو الرُّحَّل أو مقيدة بالأرض لدى الحضريين. كذلك ليست «أمة» بالمعنى الفرعي للعبادة، مرتكزة على وحدة أرض ووحدة وطن وسوق ولغة وتاريخ، بمعنى إنها ليست معطيات جغرافية أو عرقية أو تاريخية، ولكن مجتمع مبني على تجرِبة مشتركة من تعاليم الله.

وقد ارتكز مجتمع المدينة سياسيًّا على ركيزتين أساسيتين: الركيزة الأولى أن السلطة لله وحده، وأنه هو الذي يجعل كل سيادة اجتماعية مجرد سيادة نسبية. الركيزة الثانية هي ركيزة الشورى، تلك التي تستبعد أية وساطة بين الله والناس. وهكذا يزول في وقت واحد أي استبداد مُطلق يضفي القداسة على السلطة ويجعل من الحاكم أو الزعيم إلهًا على الأرض، وفي نفس الوقت يلغي الديمقراطية بالشكل الغربي؛ أعني (هكذا يقول جارودي) الديمقراطية بالشكل الفردي، أو الكمي، أو الإحصائي؛ ذلك أن الحرية ليست نفيًا ولا عزلةً، لكنها إنجاز للإرادة الإلهية.

وهنا نستطيع أن نتوقف قليلًا لنناقش جارودي في هذه النقطة، على وجه التحديد، فالديمقراطية على النسق الغربي ليست فردية كما ينص جارودي، ربما هو كرجل غربي النشأة قد شبع من هذه الديمقراطية وتلك الحرية، ولكننا هنا نستطيع أن نقول لجارودي إنه لا تعارض مطلقًا بين الشورى الإسلامية وبين الديمقراطية في شكلها الغربي؛ فلكي تضع مجتمعًا «شوريًّا أو استشاريًّا» لا بُدَّ — في المجتمعات المكونة من ملايين الأفراد — أن تختار نخبة تستشيرها، والشعوب والمجتمعات هي التي تختار، ولهذا فالانتخاب هنا، وحقه، وضرورته، هو الطريقة الوحيدة «لاختيار» أي مجلس نيابي أو شوري، مع احترامنا الكامل لرأي جارودي الذي شبع من خلال مجتمعه الغربي اختيارات وانتخابات وحريات، بينما ظل الحكم الإسلامي فيما عدا مجتمع المدينة وحكم الخلفاء الراشدين يعج بالاستبداد وحكم الفرد.

أمَّا فيما يتعلق بالملكية، فيقول جارودي: إنه إذا كانت كل ملكية هي ملك لله، وإن كل إنسان لا ينال منها بعمله إلا حق الانتفاع، فإن التصور القرآني والنبوي للملكية هو عكس التصور الغربي تمامًا (أو التصور البورجوازي)، ففي الحق الإسلامي، ليست الملكية خاصة من صفات الفرد ولا من صفات الجماعة، وإنما هي وظيفة اجتماعية مرصودة لتلبية مقتضيات الإرادة الإلهية في اﻟ «الأمر بالمعروف».

ذلك أن المجتمع الإسلامي هدفه الأول هو التسامي بأفراده وجماعاته، والتسامي والجماعة المتسامية المسلمة هي الإسهام الذي يستطيع الإسلام اليوم أن يقدمه لخلق مستقبل له وجه إنساني في عالم جعل استبعاد السمو منه وتدمير الجماعة بالفردية وسيطرة نموذج جنوني من النمو بحيث خلق من الوضع الراهن حقيقة لا يمكن أن تُعاش أو يستمر الإنسان يحياها. كان جان جاك روسو (في العَقد الاجتماعي) يستند إلى تصور مجرد للفرد، ولم يكن يستطيع في النهاية تخيل الاندماج الجماعي والاجتماعي إلا من خلال أسطورة «الأفراد العامة» التي ظهرت أشكالها التاريخية الملموسة على هيئة برلمانات وأحزاب، وكان الأمر على هذا النحو بالنسبة للملكية، فلقد قاده تعريفها الفردي الروماني البورجوازي إلى نظرية «صالح عام» مزعومة، قائلة بأنه إذا اجتهد كل فرد في مصلحته الشخصية فإن الصالح العام سوف يتحقق.

وكان لا بُدَّ من انقضاء قرنين من الاضطرابات الاجتماعية التي ولدت «الليبرالية الاقتصادية، أي الرأسمالية» التي لم تتفق أبدًا مع «الصالح العام»، وكذلك الليبرالية السياسية التي لم تتفق أبدًا مع الإرادة العامة، فإن التجارب الموصوفة ﺑ «الاشتراكية» (هكذا يقول جارودي) التي حلت محل الليبرالية، أسطورة حزب اشتراكي أو شيوعي عالم بكل شيء ومرسل من العناية الإلهية باسم طبقة عاملة يُقال إنها رسول المستقبل، وهي طبقة لم تُستشَر أبدًا في كيفية حكمها ولا في مستقبلها. وهكذا فلا يمكن أن تتمثل من الحزب أية إرادة عامة أو صالح عام.

يقول الرجل في كتابه وعد أو وعود الإسلام:

إننا لا نسعى مُطلَقًا إلى اعتبار جميع منجزات المجتمع الإسلامي التاريخية مثالية، بل نعتقد أن الرغبة في استنباط تشريعات صالحة لجميع الأزمنة وجميع الشعوب من نص مُنزَّل هو ضد ما نزل به القرآن بقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (سورة يونس: الآية ٤٧)، وبصورة أكثر دقة أيضًا: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِه لِيُبَيِّنَ لَهُمْ … (سورة إبراهيم: الآية ٤).

واليوم حيث لم يتجمد الإسلام عند ماضيه، وإنما عرف كيف يحل مشكلات عصرنا بروح مجتمع المدينة، متذكرًا أن البقاء على الإخلاص للتراث، وللسلف وللأجداد، لا يكون بنقل الرماد من موقدهم، وفقً لتعبير جوريس، بل بنقل الشعلة، فالنهر حين يتجه إلى البحر إنما يفعل هذا وفاء لمنبعه البحر، إذا استطاع المجتمع الإسلامي أن يفعل هذا فيكون قد استطاع أن يشق لنفسه — ليس فقط من أجل المسلمين، وإنما بصوره شاملة للمجتمع الإنساني كله — آفاقًا اشتراكية لا تشملها أبدًا العلمانية الوضعية ولا الفردية الغربية، وإنما تخصها القيم الأساسية التي سبق لها أن بَعثتْ في مجتمع المدينة شعلةَ الأمل: التسامي والمجتمع.

•••

هذا استعراض عام لرأي جارودي في إسلامنا الحنيف، ذلك الرأي الذي انتهى بأن يُسْلم ويُسَمِّي نفسه رجاء جارودي. قد نختلف معه وقد نتفق ولكننا في النهاية لا نملك إلا احترام رجل احترم عقله وفكر به، واحترم حضارته فثار على عيوبها ومثالبها، وسما بمسيحيته عن أن تكون تعددية أو وثنية في ثوب جديد، وبمثل ما جاء الإسلام يصدق على ما جاء في التوراة والإنجيل؛ فقد كان الرجل طبيعيًّا جِدًّا في تطوره من المسيحية التي آمن بها إلى الإسلام الذي انتهى إليه.

أمَّا ما فعله الإسلام بالمسلمين عامة وبالعرب خاصة فإنه شيء حقًّا يجل عن الوصف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤