إسلام نعم … ولكن!

اشتد قيظ القاهرة مُنذرًا بعيد فطر حار، ملتهب الحرارة، قررت قضاء العيد في الإسكندرية، بلغت الحرارة درجة أننا قطعنا المسافة في السيارة بالطريق الصحراوي في خمس ساعات بدلًا من ساعتين ونصف أو ثلاث، كانت جوانب الطريق حافلة بالسيارات المعطلة التي تبخر ماؤها أو فرقعت عجلاتها، والناس في زحف مزدحم رهيب تجاه الشواطئ لالتقاط نسمة بحر أو فيضة ريح.

كانت شقتنا في الإسكندرية في حالة يُرثى لها بعد عام كامل لم نزُرها فيه. وقضينا ليلة عيد مغبرة معفَّرة بترابٍ عمره عام. ولن أستطيع أن أحدثكم عن الجهود المضنية للعثور على من ينظفون الشقة أو يُصلحون ما أفسده الشتاء من المواسير والحنفيات، فأنا أريد الدخول في الموضوع مباشرة، والموضوع كان هو الشاب السباك الذي عثرنا عليه أخيرًا لإصلاح ما تلف، كان شابًّا هادئًا ليست عليه سيماء «الأسطوات» القدامى، كان «أسطى» بلديًّا، انهمك في العمل فورًا. ولاحظت أنه ما إن يبدأ حركة من حركات العمل إلا ويسمِّي ويتبرك.

ولم أكن في حاجة إلى ذكاء كثير لأدرك أنه إمَّا من الجماعات الإسلامية التي تحفل بها مدينة الإسكندرية بالذات، وإمَّا من الإخوان المسلمين. وفيما أنا محتار في أمره وجدته فجأة يسألني: يا أستاذ يوسف، ماذا كنتَ تقصد بكتابك «فقر الفكر وفكر الفقر»؟ والحقيقة أنه أخذني على غِرَّة؛ فلم أكن أعتقد أنه قد عرفني من أول وهلة، وحتى لو كان — شكرًا للتليفزيون — قد عرف شكلي فلم أكن أعتقد أن صنايعيًّا مثله قد سمع عن كتابي «فقر الفكر وفكر الفقر»! ربما قد عرف بعض قراء الرأي العام بالضجة التي حدثت حول الكتاب حين نشر صحفي من صحفيي الجماعات الإسلامية خبرًا في جريدة الأخبار حول جملة وُصِفَ بها فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي باعتباره أنه يلجأ إلى المبالغة والتمثيل في أدائه لدروس وعظه، وأنه ينوم مستمعيه ومشاهديه بطريقة راسبوتينية.

وقامت الدنيا ولم تقعد!

وأنا لي عادة لم أستطع أن أغيرها أبدًا.

فأنا لا أقدر على مراجعة «بروفات» كتبي قبل الطبع؛ ولهذا أشترط على الناشر أن يكون هو المسئول عن مراجعة الكتاب على الأصل المصحح سلفًا.

وعُدت إلى الكتاب فوجدت هذه العبارات مذكورة فعلًا ومنسوبة إلى الشيخ متولي الشعراوي، وحين عُدت إلى أصول المقالة المذكورة، والكتاب كان مجموعة مقالات نُشرت بالأهرام كلها، لم أجد فيها تلك العبارات؛ إذن هو خطأ أو عبث مطبعي لا حيلة لي فيه، والكتاب قد أصبح في السوق وبين أيدي القراء.

ونشرت اعتذارًا عن هذا الخطأ المطبعي؛ إذ إن الكاتب مسئول عن كل كلمة في كتابه حتى لو كان الخطأ في إيرادها ليس خطأه.

وحاول نفر كثير من المهيجين باسم الدين النفخ في النار وإثارة الرأي العام في مصر وكل بلاد المسلمين ضدي، وكانت مشكلة كبرى.

هذه الأخطاء والفلتات المطبعية خطأ كبير ما في ذلك شك، فحتى لو كان لي بعض الانتقادات الشخصية على الطريقة التي يؤدي بها الشيخ متولي الشعراوي دروسه فإن احترامي الكبير للرجل ومراعاتي لشعور مريديه كانا بالقطع يمنعانني من ذكر كلمة نقد واحدة لشخصه. فالمقال في الحقيقة وإن كان موجهًا إليه، إلا أنه كان يرد «فكريًّا» على فضيلة الشيخ، وكان الرد مؤدبًا تمامًا، ومُشبعًا بروح الاحترام والتبجيل رغم أنه كان ردًّا على فضيلة الشيخ لاتهامنا أنا والأستاذين الكبيرين توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود بالكفر والإضلال والتضليل. هكذا ببساطة شديدة أدخلَنا فضيلةُ الشيخ جَهنم الكبرى وأحل سفك دمائنا، والسبب؟! السبب كما رأى فضيلته هو أننا ندعو لإعمال الفكر للارتقاء بالأمة الإسلامية، والتسليم بأن الله سبحانه وتعالى منحنا تلك العقول الباهرة لنستخدمها في تعليم أنفسنا وتحصيل أكبر قدر من العلوم والمعارف غربية وشرقية وجنوبية وشمالية، واستخدام حصيلة هذا كله في خلق «تفكير» إسلامي نشط، يعيد العقل الإسلامي لمكانته ونقف به نتحدى الغزو الغربي الثقافي والتكنولوجي والعسكري والاقتصادي والسياسي. وكان كل ما ذكرته حول طريقة فضيلة الشيخ متولي الشعراوي في إعادة شرح القرآن الكريم من وجهة نظره أنه يشرحه كعالم لغة يركز على الجمل والتقديمات والتأخيرات والإعجاز البلاغي في القرآن الكريم. وهذا في حد ذاته شيء جميل ورائع، ولكن أن يقتصر إعجاز القرآن وعظمة الإسلام على معجزة اللغة القرآنية ليس هو كل الإسلام، كما أراه ونراه ويراه صاحب كل رأي وبصيرة، فالإسلام رسالة سماوية شاملة، هبط بها الوحي على نبينا لينشر به «دعوة» إسلامية كبرى تنقذ العرب والبشرية جمعاء من أوضاع وثنية مُزْرِيَة، وتحارب الكفار، وتنشئ إنسانًا مسلمًا صالحًا عطوفًا رصينًا صادقًا شجاعًا نبيلًا، بارًّا بالناس، داعيًا إلى الحكمة، مرتقيًا بجيرانه وعشيرته، خادمًا لمصالحهم، راعيًا لشئونهم، ومضحيًا في سبيلهم، ومسئولًا عنهم. وقبل هذا كله، إنسانًا مؤمنًا بإله واحد أحد، لا شريك له، الخلاق العظيم الرحمن الرحيم.

إذن كان المقال إيرادًا لوجهة نظري ووجهة نظر كثيرين في أن الإسلام الحنيف ليس دين طقوس، وإن كانت الطقوس هي مكوناته الخارجية، إنما رسالته الحقيقية رسالة روحية عظمى هدفها بعث المسلم بعثًا جديدًا والانتقال بالجماعة الإسلامية من الجاهلية إلى عصور النور والإيمان والعلم والتحضر.

ولكن تربص بعض المتطرفين ممن يعتنقون التطرف في الدعوة الإسلامية عن مرض وليس صحة أبدًا، بحيث بهذا التطرف يخلعون عن الإسلام كل مكوناته العظمى، ويركزون جهودهم على كيف يرتدي المسلم ثيابه، وكيف أن كل شيء في المرأة خطيئة، حتى ليبشروا بأن ترتدي النقاب من قمة الرأس إلى أخمص القدم، بل حتى وراء فتحات العيون ترتدي نظارة سوداء، حتى لو كانت طبية، وقفازات سوداء أيضًا. وكأن الإسلام جاء ليئد المرأة في ثيابها حية بعدما كانوا يئدونها في الجاهلية ميتة، فهذا انحراف خطير في الدعوة الإسلامية، ليس انحرافًا فقط، بل إني لأعتبره خيانة لديننا الحنيف. فإذا لخصنا الإسلام في تلك الشكليات، ودعَوْنا إلى نبذ العلم وإعمال العقل والعودة إلى الحياة كما كانت عند نزول القرآن، فتلك دعوة لكي ينتصر علينا أعداؤنا ويسحقونا سحقًا، ما دُمنا قد نزعنا عن أنفسنا كل أسلحة العصر، واستسلمنا للبُدائية والسطحية بينما هم ماضون في تقدمهم وانتصاراتهم بالتالي علينا، عسكريًّا وعلميًّا وثقافيًّا وحتى تحضُّرًا.

مع أن الغرب قد أخذ كل علومه عن عرب إسبانيا المسلمين، والمسلمون هم الذين ترجموا كل التراث اللاتيني والإغريقي العالمي، وعنهم أخذت أوروبا هذا التراث، حتى كتاب الشعر لأفلاطون كانوا أول من ترجموه ودرسوه، بل إنهم — هؤلاء المسلمين — هم أول من اخترع علم الجبر وطور علم حساب المثلثات وأنشأ علوم الفلك، وانطلقت قوافل بُنَاتِهِ تغزو كل أرجاء المعمورة من الصين شرقًا إلى أقصى الغرب في شبه جزيرة إيبيريا (إسبانيا والبرتغال الآن) غربًا.

وأيضًا ليس هذا هو الموضوع.

فالموضوع أكبر بكثير وأخطر بكثير من هذا.

فالعالم العربي والإسلامي كله أصبحت مشكلته الأهم هي هذه المشكلة.

الإسلام.

تصوروا! مشكلتنا كمسلمين أصبحت هي إسلامنا وكيف يكون، وكأننا نلغي أربعة عشر قرنًا من هبوط الرسالة إلى يومنا هذا، ونبدأ إسلامنا من جديد.

وهكذا جاء كتابي «فقر الفكر وفكر الفقر» ردًّا على هذه الدعاوى الارتدادية السلفية، المطالبة بإلغاء العقل والفكر والعودة إلى البداوة الأولى باعتبار أن هذا هو ما يريده الإسلام، وما أراده الله سبحانه وتعالى في تنزيل رسالته على نبينا الكريم.

•••

أعود إلى الفتى (السباك) والنِّقاش الذي دار بيني وبينه. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يدور فيها هذا النقاش، فالحقيقة أنني حتى وأنا أعتمر منذ حوالي الشهرين وأطوف بالكعبة وأزور قبر الرسول، كنت ما أكاد ألتقي بأحد المصريين العاملين في السعودية حتى يبادر بسؤالي: هل صحيح أنك قلت عن الشيخ الشعراوي إنه راسبوتين؟

وهكذا تحولت القضية الأساسية إلى مشكلة فرعية لا أساس لها ولا معنى، فأنا كنت أحاول في تلك السلسلة من المقالات أن أذود عن العقل المسلم العدوان الغاشم الذي يبشر به بعض المتطرفين من إلغاء لذلك العقل.

ولكن يبدو أننا في فترة غريبة على حياة المسلمين.

وليست تلك أول مرة ينتكس فيها الإسلام والمسلمون.

فحين تشرذمت الجذوات الإسلامية في العصور الوسيطة، وتفرقت إلى جذوات إخشيدية وأيوبية وفاطمية ومملوكية، هجم الغرب علينا على هيئة حروب صليبية ضارية كان الهدف منها إخضاع المسلمين الشرقيين للكنيسة البابوية في روما، وإبادة هذا الدين الحنيف. ولكن هذه الهجمة الشرسة استنفرت في المسلمين العرب كل ما استطاعوا تجميعه من قوة، وتشابكت الجذوات في نار عنيفة أحرقت خطط ريكاردوس قلب الأسد وفيليب وكل الصليبيين، وارتدوا مدحورين على أعقابهم، وبقيت القدس بلدًا عربيًّا مكفولة فيه الحرية لكل الأديان والعبادات.

أمَّا هذه المرة، وبعد أن تحرر العرب والمسلمون من الاستعمار القديم جاءتنا الهجمة الشرسة الجديدة، رأس رمحها إسرائيل وترسانتها الضارية أمريكا، بكل التوحش والهمجية وبأحدث ما وصلت إليه آلات الدمار.

وفي الخمسينيات والستينيات جمعنا أنفسنا، وإلى حدٍّ ما صمدنا، وفي السبعينيات كدنا ننتصر في حرب ٧٣ لولا أن العدو استعمل كل ذكائه، وجنَّد له أعوانًا من بيننا، وأوقعوا الفُرقة بين الشيعة والسنة، بين الفلسطينيين واللبنانيين، وسحبوا سورية إلى البقاع لتنغرز في وحل معركة تتأجج لها حرب الطوائف في لبنان.

باختصار — قوميًّا — مزقونا تمزيقًا.

واقتصاديًّا: ذبحونا ذبحًا بتروليًّا؛ لكي ننزف اقتصاديًّا إلى حد الزحف على البطون.

وكل هذا كان ممكنًا أن نجد له حلولًا، وأن نفيق من هول الصدمات الضارية المتعاقبة.

وأن نعود نعي وننتبه ونلتئم.

ولكن السلاح الذري الذي استعملوه ضدنا، السلاح المبيد، كانوا يدخرونه طول الوقت للقضاء علينا نهائيًّا.

وتشاء المضحكات أن يكون هذا السلاح هو نفسه أقوى أسلحتنا، أو كان مفروضًا أن يكون أقوى أسلحتنا في مواجهة هؤلاء الصليبيين الجدد.

الإسلام الحنيف.

أجل، اخترقوا إسلامنا الحنيف، اختراقًا ذكيًّا مبتكرًا.

واخترقوه بعدة وسائل.

أولها الطائفية الإسلامية.

وقد استعملوها في إيقاد نيران الحرب بين الحكم الشيعي «المسلم» في إيران والحكم السني «المسلم» في العراق، ودارت — ولا تزال تدور — حرب طاحنة مهولة، أفجع حرب قامت بين طائفتين أو دولتين إسلاميتين في كل تاريخنا بقديمه وحديثه.

وحين نجحت التجرِبة نجاحًا منقطع النظير، إلى الحد الذي تتعاون فيه إسرائيل تسليحيًّا مع إيران ضد العراق، مع أن إيران تذكر أنها إنما تحارب لتحرر القدس عن طريق اكتساح العراق «الكافرة».

حين نجحوا ذلك النجاح المنقطع النظير في العراق، وجربوا الطريقة في لبنان فتمزقت لبنان إربًا إربًا. وبربكم هذه الحرب الدائرة بين أمل الشيعية المسلمة وبين الفلسطينيين اللاجئين المسلمين، ما معناها؟ هل أمر بها أي دين، بَلْهَ دين الإسلام الحنيف، مهما كانت طوائفه وطرقه ومدارسه ومذاهبه؟ هل أمر بها أي كتاب أو إمام؟ إذن لا يبقى إلا معنًى واحد لقيامها؛ هو تسلل العدو إلى الصفوف الإسلامية وإثارة الطائفة ضد الأخرى. وقد ثبت في كتب كاتب إسرائيلي منشق أن إسرائيل كانت تغذي المارونيين بالأسلحة، ثُمَّ تعود إذا قوي المارونيون، فتغذي الشيعة أو الدروز، المهم أن يظل القتال قائمًا ومشتعلًا، وأيضًا بلا سبب، ليزداد تقتيل المسلمين بعضهم لبعض، ويتولَّوْن هم بأنفسهم القضاء على أنفسهم. ولكن الطائفية لم تكن السلاح الوحيد لضرب المسلمين باسم الإسلام.

هنا في مصر أكبر تجمع سكني إسلامي وعربي في الشرق، بدأت موجة حادة لافحة من التعصب والتطرف الإسلامي الذي يدعو لمحاربة حتى أقباط مصر ووصفهم بأنهم كفرة.

وإذا عرفنا أن هذا التيار بدأ في عصر وبتشجيع من السادات، وذلك يخدم موضوعيًّا الأعداء الذين وضعوا هدفهم فصل مصر عن عالمها العربي أوَّلًا، ثُمَّ الإجهاز عليها من الداخل أيضًا، وبنفس السلاح؛ إسلامنا الحنيف.

من هنا بدأنا نلحظ في مصر وكأنه نوع من إسلام جديد ينشأ، إسلام لم نعرفه أو نعهده من قبل؛ حملة ضارية من الدعاة تستولي على عقول الشباب وتجرهم وراءها إلى فهم هو أضيق أنواع الفهم للرسالة المحمدية الكبرى، حتى تنشأ في مصر، الفتنة الجَهنَّمية: فإمَّا أن تتحول إلى إيران أخرى تحارب جاراتها العربيات المسلمات، وإمَّا أن تتحول إلى لبنان أخرى يتناحر فيها المسلمون والأقباط في حرب أهلية ضروس.

تلك هي الخطة الموضوعة لمصر، قهرها بإسلام مستورد لا علاقة بينه وبين ما درج عليه المسلمون في مصر من عبادات ومذاهب. فقد اختارت مصر الإسلامية المذهب الشافعي — أكثر المذاهب اعتدالًا بين المذاهب الأربعة وأكثرها وسطية — باعتباره يناسب طبيعة المسلم المصري وحقيقته، ولكن هذا الإسلام «المستورد» الجديد قائم على التعصب الكامل ضد المسيحيين من ناحية، ومن ناحية أخرى ضد كل ما له علاقة بالعمل أو المنطق أو العلم أو التقدم.

واستشرى هذا النوع المتطرف استشراء النار في الهشيم في بلد حدث فيه فراغ فكري وعقائدي هائل أثناء عصر السادات، بتحريم كل تعليمات ودعوات الإخوان المسلمين الذين أعتقد بل وأطالب بأن يكون لهم رأيهم وتنظيماتهم وجرائدهم العلنية، فلقد عاشرتهم حُرًّا في الحركة الوطنية قبل الثورة وسجينًا معهم في أوائل حكم عبد الناصر عقب حادث المنشية، وأشهد أنهم كانوا من أكثر من رأيت في حياتي إيمانًا وصدقًا مع النفس ومع الدين، كانوا ولا يزالون فعلًا إخوانًا مسلمين.

أمَّا تلك التنظيمات الإرهابية التي أوجدها وشجعها السادات، والآن استَشْرَتْ إلى درجةٍ أخذتْ تطعن فيها حتى في صدق إسلامية الإخوان المسلمين؛ فهي الشيء المَحْقُون داخل المجتمع المصري، والتي لم تكتفِ بتجنيد الشباب وعمل غسيل مخ أو تضييق مخ لهم، وإنما أصبح لهم الآن مؤسسات اقتصادية وبنوك وشركات، هدفها الاستيلاء على الحكم بالثورة، وبالقوة الغاشمة إخضاع كافة المصريين لمفهوماتها، ولو سرَى الدم أنهارًا وأنهارًا.

كان «السباك» فعلًا مثالًا للشباب المسلم.

فلقد ناقشته لبضع ساعات من نهار ثاني أيام العيد، فلاحظت حرصه الشديد في العمل وأمانته التامة في المحاسبة وشراء الأدوات، وأدبه الجم في التعامل مع زملائه ومعنا، حبذا لو أصبح كل الشبان المصريين على شاكلته.

حتى لو حكمني هذا الشاب فقد اطمأننت إلى الحديث والحوار مع كثيرٍ من أمثاله أن حكمهم سيكون عادلًا، لا تطرف فيه ولا تكفير، ولا إهدار دماء ولا إذكاء حقد.

وما دام الأمر قد وصل إلى هذا الحد.

وما دامت الحرب قائمة على قَدَم وساق بين دولتين إسلاميتين، وبين عدة طوائف إسلامية متناحرة، وكأن بينها وبين بعضها حقدًا وكرهًا عمره مئات السنين.

وما دامت عملية الحقن مستمرة بهدف خلق تنظيمات إسلامية متعصبة في مصر تقضي على كل أخضر ويابس فيها.

وما دامت هذه كلها أمورًا لا يمكن أن تحلها كلها دولة إسلامية وحدها، أو حتى عدة دول، فما بالك بكاتب أو مثقف أو بضع كتاب.

ما دام هذا كله حادثًا، فإني أطالب بعقد مؤتمر فكري إسلامي حر حتى لو انعقد المؤتمر في بلد أوروبي أو مسيحي، يناقش كل هذه المفهومات للإسلام، ولتطبيق الشريعة، وكل تلك الخلافات والتقاتل بين الطوائف الإسلامية.

فهذا هو أبسط ما يُمليه علينا أي عقل أو تعقل؛

إذ لو جَمَعَنا مؤتمرٌ كهذا لَانكشفَ فيه الموسوسون،

وظهرت على السطح كل أنواع الانحرافات والتعصبات؛

حينذاك فقط نستطيع أن نضع أيدينا على الداء، وأن نجد له الدواء،

فالمستحيل هو أن نترك الأمور تجري في أعنتها وننام مستريحين إلى أن كل شيء سيصير إلى ما يُرام.

فكل شيء يصير من سيئ إلى أسوأ،

ولا خلاف يحل نفسه بنفسه،

ولن يحل القتال والتذبيح أي خلاف.

رحمتك اللهم بمسلميك.

فنحن ظمأى إلى تطبيق شريعتك وقوانينك بنفس الروح التي أمليت على نبيك صلوات الله عليه وسلامه، وليس أبدًا كما هو حادث الآن، بتحويل دينك الحنيف إلى دين تقتيل وعراك، وتعصب أعمى لا يرى الشمس في عز النهار.

حتى لو كانت الشمس ملء الكون تتلظى الأرض بنورها ونارها، مثل شمس ذلك اليوم الثاني من أيام عيد الفطر المبارك، أعاده الله علينا ونحن قد أُبنا إلى سلام، ليس إلى سلام بيننا وبين أعدائنا المتوحشين معاذ الله، ولكن يا إلهي، سلام بيننا وبين أنفسنا. إنك سميع مجيب الدعوات يا رب العالمين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤