الفصل الأول

الصنائع في عهد محمد علي

قد اشتهر أن هذا القطر زراعيٌّ، وأن الصنائع لا تقوم لها قائمة لخلوِّه من الفحم والحديد وكثير من المواد. نعم إنه قطر زراعي، ولكن أليس من أنواع المزروعات ما هو من مواد الصناعة؟ وهل مصر خالية من كل المواد الأخرى الصالحة لها؟ ثم هل خلو بلد من البلدان من بعض مواد الصناعة حائل دون الاشتغال بها؟ وإذا كان الأمر كذلك، فبماذا نفسر اشتغال جمهور الصناع بإنجلترا بصناعة المنسوجات القطنية مع أن الجزر البريطانية لا تنبت فيها شجرة القطن؟ فالحق في ذلك أن الهمم تذلل الصعاب، وأن الصنائع في مصر ميسورة بوجود كثير من خاماتها، وسهولة جلب الكثير من المواد الأخرى إليها؛ لتوسط موقعها، ورخص ما تتكلفه الصنائع فيها برخص مرافق الحياة، خصوصًا لطبقة الصناع والعمال.

وقد كان هذا القطر في تاريخه القديم صناعيًّا، بل كانت شهرته الصناعية تسامي شهرته الزراعية، وليس في كل بلدان أوروبة الفحم والحديد، ولم يحل ذلك دون اشتغال أهلها بالصنائع المختلفة. وقد استغنى كثير من بلادها عن الفحم — والحاجة أم الاختراع — فحوَّلوا تيارات الأنهر إلى قوة دونها بمراحل قوة نار الفحم، مع رخص الأولى وغلاء الثانية.

والصنائع يتولد بعضها من بعض، وتنمو وتتناسل كالكائنات الحية، فقليلها يكون كثيرًا على توالي الأيام متى صدقت العزائم وتوجهت الهمم.

لذلك نعرض على القراء صفحة من تاريخ مصر في أيام محييها جدنا الأعظم محمد علي؛ ليروا ما أنتجته قوة العزيمة من الصنائع، التي تولاها الذبول بموته إلى أن أصبحت اليوم أثرًا بعد عين، ولو عني بها خلفاؤه عنايته بها لكان لمصر منها ثروة عظيمة، ولربما تغير تاريخها فعاشت مستقلة عزيزة الجانب إلى الآن.

الفائدة التي نريد أن نستخلصها من هذه العبرة اليوم هي صلاحية بلادنا لكثير من مختلف الصنائع، وصلاحية أهلها للنبوغ فيها، وأن الاستقلال الحقيقي الذي غرس بذوره محمد علي في مصر، والذي نروم أن نظفر به الآن لا يتم لنا والبلاد مفتقرة افتقارًا معيبًا في شئونها الاقتصادية إلى غيرها، وليس ذلك فقط، بل هي مهددة في المادة الوحيدة التي عليها المعول في حياتها بما ستنتجه المستعمرات البريطانية عاجلًا أو آجلًا من القطن، فيجب أن يجعل المصريون ذلك نصب أعينهم، ويعدوا له عدته حتى لا تفاجئهم الكوارث بغتة وهم غافلون. وإننا ننقل هذه الصفحة التاريخية من كتاب مانجان وكلوت وهامون مع الاختصار والتلخيص:

(١) مصانع الغزل والنسيج بالقاهرة

(١-١) مصنع الخرنفش

في مصنع الخرنفش مائة دولاب؛ عشرة لغزل الخيط الثخين، وتسعون للخيط الدقيق، وفي الأولى مائة مغزل وثمانية، وفي الأخرى مائتان وستة عشر مغزلًا. وهذا هو المتبع في هذه الصناعة، فكل دولاب للخيوط الثخينة يكون بإزائه تسعة للخيوط الدقيقة.

وفي المصنع نحو السبعين آلة لتجهيز القطن قبل غزله مع نحو هذا العدد من عدد دواليب الغزل.

وفي قسم النسيج ثلاثمائة نول لصنع البفتة والبصمة والشاش الموصلي والباتستة وغيرها، وبعدما تبيض هذه المصنوعات بالمبيضة التي أنشئت لهذه الغاية بين بولاق وشبرا تُعاد إلى مخازن الخرنفش لتُباع فيها. ويباع ثوب البفتة الجيدة الذي عرضه ذراعان وطوله اثنتان وثلاثون ذراعًا بستين قرشًا، والتي أقل جودة بخمسين قرشًا، وثوب الباتستة الذي عرضه ذراعان إلا ربعًا وطوله سبع عشرة ذراعًا ونصف ذراع بخمسة وثلاثين قرشًا، وثوب الشاش الموصلي الذي عرضه ذراعان إلا ربعًا وطوله اثنتان وثلاثون ذراعًا بخمسين قرشًا.

وكان البيع أولًا بالنقد والنسيئة، ثم أبطلت النسيئة على أثر الخسائر الفادحة الذي كانت سببًا فيها.

وفي مصنع الخرنفش ورش للحدادة والسباكة والبرادة والخراطة والنجارة ألحقت به لتصليح ما يعطب من آلاته.

(١-٢) فابريقة مالطة

وشُيِّد في بولاق مصنع أكبر اتساعًا من مصنع الخرنفش يديره مسيو جومل — موجد قطن مصر وهو منجمها الذهبي — وسمي «فابريقة مالطة» لوجود صناع من المالطيين فيه بكثرة، وفيه ما في مصنع الخرنفش من دواليب الغزل ولواحقها، وآلات تجهيز القطن، إلا أن قسم النسيج فيه مائتا نول فقط، وأقسامه الصناعية للحدادة والبرادة والخراطة والنجارة لم تُعدَّ فقط لإصلاح آلاته، بل أُعدَّت فوق ذلك لإصلاح آلات مصانع الوجهين البحري والقبلي، وفضلًا عن ذلك ففي فابريقة مالطة:

(١) ورشة نجارة صُنَّاعها فرنسيون وأَرْوام تصنعُ نماذج وأشياء أخرى من الدقة والنَّفاسَة بمكان.

(٢ و٣) ورشتان للخراطة لكل منهما آلة ضخمة يديرها ثمانية ثيران؛ لتتحرك دواليبها، وتتحرك بها صوانٍ وأقلام من الفولاذ للتضليع والتخريم، ومثاقب ومحافر، ومناشير لنشر الخشب والنحاس، ومخارط عديدة.

(٤) مخرطة كبيرة ومرازب تحركها آلات تدور بواسطة الثيران.

(٥) مطرقة ومنفاخان تتحرك بآلة تدور بأربعة ثيران.

(٦) أما المسبك ففيه بعض العيوب، فالأفران ليست محكمة الوضع، والرمل المستعمل ليس مدقوقًا دقًّا كافيًا، وفي كثير من الأحيان يفسد العمل؛ لأنهم لا يدعون القوالب تَجفُّ الجفاف المطلوب.

وفي هذا المسبك ثمانية أفران موقدة دائمًا، وعماله مصريون، إلا أن رؤساءه من السوريين.

وبالقرب من فابريقة مالطة ثمانون حانوتًا لصنع مراسي المراكب وما يلزم لبناء السفن الحربية. وما يُستهلك من الحديد والفحم في هذه المصانع عظيم المقدار جدًّا.

(١-٣) فابريقتا إبراهيم أغا والسبتية للغزل

ويشاهد بجوار فابريقة مالطة مصنعان لغزل القطن: أحدهما يسمى فابريقة إبراهيم أغا، والثاني فابريقة السبتية، وفيهما تسعون دولابًا للغزل، وستون آلة لتجهيز القطن للمغازل، وليس فيهما ورش للصنائع الأخرى اكتفاء بورش فابريقة مالطة.

(١-٤) مصنع النسيج وأمشاط الغزل بحي السيدة زينب

وفي حي السيدة زينب أنشئ مصنع لصنع أمشاط الغزل، يخرج في الشهر ثلاثين مجموعة من الأمشاط اللازمة لمعامل الغزل، ويُصلح الأمشاط التي أصابها تلف. وفي هذا المصنع قسم للنسيج فيه ثلاثمائة نول وخمسمائة عامل، وهو يخرج في الشهر ألفي ومائتي ثوب طول كل منها اثنتان وثلاثون ذراعًا، وعرضه ذراعان.

(١-٥) مصنع نسيج البركال

وبالقرب من «مبيضة بولاق» أنشئ بناءٌ حسن تم سنة ١٨٣٣م، ونصب فيه مائة وخمسون نولًا للنسيج، منها تسعة تدار بآلة بخارية. والطابق العلوي من هذا البناء خاص بالغزل، والنول الواحد يخرج في الأسبوع أربعة أثواب من الصنف الرقيق المسمى بركالًا. والثوب أربعون ذراعًا في عرض ذراع ونصف ذراع. وفي هذا المصنع أربعة من الإنكليز يتولون إدارته، ويُعلِّمون المصريين الصنعة.

(١-٦) المبيضة

ظهرت مبانٍ جديدة بين بولاق وشبرا خططت بذوق سليم، ومن جملتها منازل خلوية، وحظيرة واسعة؛ لتبيض الأثواب فيها بطرق مختلفة. وتطبع أثواب البصمة بواسطة الألواح أو الأسطوانات، ويطبع في الشهر نحو الثمانمائة ثوب من البصمة التي برعت مصر في صنعها، فأقبل عليها الجمهور، وفضلها على الواردة من ألمانيا وإنجلترا؛ بسبب ما تمتاز به من دقة الصنع، ومتانة النسج، وجمال الرسم، وثبات الألوان على كثرة الغسل، فزاحمت وارد البصمة من الخارج حتى قل هذا الوارد.

وشيد أيضًا في شبرا شهابية، وشبين، والمحلة الكبرى، والمنصورة مبيضات أخرى، مثل مبيضة القاهرة، والأثواب المعدة للبيع تلمع في هذه المبيضات ثم تطوى، ويباع ثوب البصمة الملون باليد بخمسة وسبعين قرشًا، والمبصوم بالآلة بستين قرشًا. وتطبع المبيضة المناديل التي تزين النساء بها رءوسهن، وتخرج من هذا الصنف في الشهر نحو الأربعمائة ثوب من الشاش الموصلي «الموسلين»، ويعمل من الثوب الواحد الذي طوله اثنتان وثلاثون ذراعًا ستة وعشرون منديلًا، تلون وتطبع على ألواح خشب البرازيل أو باليد. ويباع المنديل بستة قروش إلى عشرة حسب جودة نقشه، وبستة عشر قرشًا إذا كان ملونًا باليد بالألوان القرمزية.

(٢) بقية مصانع القاهرة

(٢-١) مصنع الحرير

المنسوجات الحريرية تصنع في مصر منذ الأزمنة القديمة، غير أن محمد علي أراد أن يوسع نطاق هذه الصناعة فغرس ملايين الأشجار من شجرة التوت لتربية دود القز، وكان أول مصنع أنشأه بالقاهرة هو مصنع الحرير بحي الخرنفش، فقد أنشأه سنة ١٨١٦م،١ وأحضر له أساتذة الصنعة من فلورنسا من أعمال إيطاليا، ولكنه ما لبث أن نقله إلى محل آخر بالقاهرة، فأصبح مصنع الخرنفش خاصًّا بالمنسوجات القطنية، وجلب لمصنع الحريرِ الجديدِ من الآستانة أساتذةً أكفاء أكسبوه شهرة واسعة، وتخرج على أيديهم صناعٌ مهرةٌ من المصريين. وكان أولًا تصنع فيه القطيفة وأثواب الخز الرقيقة. وفيه الآن مائتا نول تنسج عليها المنسوجات الحريرية المختلفة، ومن بينها منسوجات مطرزة بالأسلاك الذهبية، ومصنوعاته مثل مصنوعات الآستانة والهند ذات رسوم جميلة، وألون زاهية، غير أن ألوانها لم تبلغ ثبات ألوان المصنوعات الهندية.

(٢-٢) مصنع الجوخ

أقيم مصنع الجوخ في بولاق على شاطئ النيل منذ سنين، ولكن صناعته مرت في سلسلة من التجارب طويلة، وصادفتها عقبات كأداء كلفت الخزانة أموالًا باهظة، إلا أن الوالي الذي جمع بين البراعة الفائقة والصبر غير المتناهي في تنفيذ مشاريعه، لم تثن عزيمته هذه الصعاب، بل كانت كأنها مُغريةٌ له على المثابرة، فأمر وكلاءه في مرسيليا أن ينتخبوا له رؤساء للعمل من المهرة يكونون أقدر ممن سبقوهم، فوقع اختيارهم على خمسة فرنسيين من مهرة مصانع الجوخ في لانجدوك.

وبعد أربع سنين قضوها في تكوين تلاميذ حاذقين في الصنعة، وتدريب آخرين على إدارة الآلات؛ تخرج من مصنع بولاق غزَّالون، ونساجون، وكباسون، وقصاصون، وصباغون، وعصارون بارعون. ولم يكتف الوالي بذلك، بل أرسل كثيرًا من الشبان المصريين إلى فرنسا، وألحقهم بالبعثة المصرية ليتعلموا هذه الحرف المتنوعة في مصانع ريمس وألبيف تحت إشراف رئيس البعثة.

وفي مصنع بولاق الآن مائة نول للنسيج تخرج في الشهر مائة وثمانين ثوبًا، وتدور أنواله بآلتين يحرك كلًّا منهما ثمانية ثيران، والعمل جارٍ الآن لإقامة مائة نول أخرى فيه. ويحتوي مصنع الجوخ على كثير من العدد وآلات الكبس والعصر وغيرها من الأجهزة والأسطوانات، وفي مصبغته ست خابيات من القصدير، بينها اثنتان من النحاس للون الأزرق. والألوان المستعملة لصبغ الجوخ هي الأزرق الأدكن، والأزرق السماوي، والأحمر، والبني، والأخضر الأدكن «الغامق».

وتتكلف ذراع الجوخ ثمانية قروش وسبع بارات. ومعظم جوخ بولاق من الصوف الخالص.

وبالقاهرة مصانع أخرى للمنسوجات الصوفية غير مصنع بولاق إلا أن ما يصنع فيها من الصوف الواطئ، ويرسل ما يصنع فيها إلى مصنع بولاق لدهسه وكبسه. ويبلغ ما تخرجه هذه المصانع عشرين ألف ذراع في الشهر تُستهلك في ملابس الجنود، وبخاصة رجال البحرية بالإسكندرية.

وصوف دمنهور والمنية أحسن الأصواف التي تستعمل في مصانع الجوخ. وقد استعمل فيها أيضًا صوف تونس. أما صوف ألبانيا وسورية فأظهرت التجربة عدم صلاحيته.

ولتربية الصوف الصالح لهذه الصناعة يجب أن تحفظ الأغنام من التراب، ولا تعرض لحرارة الشمس، وأن تغسل قبل جزها.

وبلغ من عناية محمد علي بصناعة الجوخ والصوف أن جلب لها الأغنام الأوروبية المعروفة بالمرنوس، وأنشأ لها المراحات الواسعة، قال هامون، ناظر مدرسة البيطرة والإصطبلات الأميرية، في كتابه، ما ملخصه:

إن صوف الأغنام المصرية، بسبب طوله وخشونته وصلابته، كان من النوع غير الجيد لصنع الجوخ والطرابيش والثياب الرقيقة؛ لذلك كان يشتري العزيز من صوف غنم أوروبة بنحو الثمانمائة ألف فرنك سنويًّا، فأراد أن يوفر هذه المبالغ الطائلة فاشترى عددًا وافرًا من أغنام أوروبة المعروفة بالمرنوس.

ولما أصيبت بالأضرار؛ لجهل رعاتها العرب وقلة المراعي، صدرت أوامره ببناء مراحات لها بجهات سبرباي، ومحلة روح، والمنصورة وغيرها، وكُلِّفتُ من قِبَله أن أنظر في أحوالها. وقد عملت لها لائحة إجراءات تتبع في كل جهة. وقد تولد منها ومن الأغنام المصرية نتاج حسن الصوف ينتفع به في الصنعة، واتخذت الإجراءات لتجنيس الأغنام المصرية بها في عموم أنحاء الوجهين القبلي والبحري. وبلغ عدد الأغنام الأوروبية سنة ١٨٣٧م سبعة آلاف وخمسمائة وثمانية وأربعين.

(٢-٣) مصنع المنسوجات الصوفية

المنسوجات الصوفية التي تصنع في مصانع مصر خاصة بكسوة الجنود البحرية وأغطيتهم «البطاطين»، وصوفها من النوع الغليظ الوارد من الوجه القبلي. وبهذه المصانع أربعمائة نول.

(٢-٤) مصنع الحبال

وأقيم في القاهرة مصنع كبير للحبال ترسل مصنوعاته إلى دار الصناعة «الترسانة» بالإسكندرية؛ ليضم إلى ما يصنع فيها من هذا النوع لحاجة الأساطيل المصرية.

(٣) مصانع الوجه البحري

(٣-١) مصنع الطرابيش بفوة

ومن المعامل التي أفادت مصر مصنع الطرابيش بفوة، وهو من حيث النظام والاقتصاد وجودة المصنوعات في الدرجة الأولى بين المصانع المصرية، وأول مدير له تاجر مغربي، جلب إليه الصناع من تونس. وقد تعلم المصريون تحت إدارتهم جميع فنون هذه الصناعة، وصاروا الآن هم المعلمين به. والحكومة تجلب له الصوف من أليكانت. ولا يغسل هذا الصوف قبل صنعه؛ لأنه نظيف جدًّا، حتى لم يكن ينقص من وزنه بعد صنعه إلا القليل، أو لا ينقص شيء على الإطلاق. ولا بد من دهنه، فلكل رطل من الصوف نصف رطل من الزيت، ولا يمكن صنعه إلا بعد إجراء هذه العملية. ويصنع كل طربوش من خيط واحد لا من خيوط متعددة. وعندما توضع في المكبس تترك فيه ثلاثة أيام مع الاستمرار في صب الماء المغلي عليها، ثم يصب عليها مخلوط الصابون، وتمر في الماء البارد لتنظيفها، وتصبغ بالقرمز والعفص والطرطير والشبة. ويخرج معمل فوة في اليوم سبعمائة وعشرين طربوشًا. والصوف المخلوط تصنع منه الطرابيش التي من الصنف الواطئ، وبعدما تأخذ العساكر كفايتها من الطرابيش يباع الباقي لتجار مصر.

(٣-٢) مصانع الغزل بفوة

وفي فوة أيضًا مصنعان لغزل القطن بهما خمسة وسبعون دولابًا وأربعون مشطًا، ويدير آلاتهما ستة عشر ثورًا، وفيهما تغزل الخيوط الدقيقة.

(٣-٣) مصنع قليوب

أول ما بني من مصانع الوجه البحري مصنع قليوب، حيث يوجد لصناعة الغزل المواد الأولية، وهو في مكان فسيح، وفيه عدد عظيم من العمال، بينهم كثير من الأوروبيين رؤساء الصناع، وبه سبعون دولابًا، وثلاثون مشطًا تديرها ثلاث آلات. وبني في قليوب أيضًا مسبك ومصنع لصنع أنوال النسج.

(٣-٤) مصنع شبين الكوم

وفي شبين الكوم من أعمال المنوفية يوجد مصنع فيه سبعون دولابًا للغزل وثلاثون مشطًا، وما يغزل في هذا المصنع يرسل إلى القاهرة.

(٣-٥) مصنع المحلة الكبرى

في المحلة الكبرى بناء فسيح فيه مائة وعشرون دولابًا للغزل وستون مشطًا، وفيه أيضًا مائتا نول للنسج تنسج عليها الثياب اللازمة للأهالي. ويحتوي البناء المذكور على مسابك ومصانع للحدادة والبرادة والخراطة لأجل صنع دواليب الغزل والأمشاط وغيرها من الآلات التي تحتاج إليها مصانع الغزل الأخرى.

(٣-٦) مصنعا زفتا وميت غمر

وفي زفتا بمديرية الغربية مصنعٌ للغزل فيه خمسة وسبعون دولابًا للغزل وخمسون مشطًا. والخامات اللازمة لهذا المصنع تأتي إليه من المحلة الكبرى، وفي منية غمر مصنعٌ مثل مصنع زفتا في عدد دواليبه وأمشاطه وآلاته.

(٣-٧) مصنع المنصورة

وفي المنصورة مصنع للغزل ومخزن، وفي المصنع مائة وعشرون دولابًا وثمانون مشطًا. وفيها أيضًا مصنع للنسج به مائة وستون نولًا. ومن لواحقهما مسبك ومصنع للحدادة والبرادة والخراطة.

(٣-٨) مصنع دمياط

وفي دمياط مثل ما في المنصورة من مصانع الغزل والنسج.

(٣-٩) مصنع دمنهور

وفي دمنهور مصنع فيه مائة دولاب للغزل وثمانون مشطًا، ومصنع للنسج ينسج فيه الصوف الذي تصنع منه الكبابيت والبطاطين اللازمة للجيوش البرية والبحرية. ومنسوجاته تنقل إلى مصنع الجوخ ببولاق لتكبس وتصبغ.

(٣-١٠) مصنع رشيد

lوفي مدينة رشيد مصنع فيه مائة وخمسون دولابًا للغزل وثمانون مشطًا، وفيها أيضًا مصنع لنسج القلوع، كما أن بها مصانع للحدادة لعمل ما يلزم السفن. وقد ركب برشيد مستر توماس جالوي، الميكانيكي الإنكليزي، آلة بخارية؛ لتدير طواحين تبييض الأرز، وأسس مسيو روسي مدبغة على نسق مدابغ أوروبة، والحكومة كانت تبيع له الجلد النيئ، وهو يبيعه لها مدبوغًا بثمن متفق عليه.

(٤) مصانع الوجه القبلي

(٤-١) مصنع بني سويف

أشهر مصانع الوجه القبلي مصنع بني سويف، وهو للغزل فقط، وفيه مائة وعشرون دولابًا وثمانون مشطًا تدار بثلاث آلات بواسطة الثيران.

(٤-٢) مصنع أسيوط

وفي أسيوط معمل غزلٍ فيه مائة وعشرون دولابًا وثمانون مشطًا أيضًا. والمغزول في هذا المصنع والمصنع السابق يرسل إلى القاهرة لنسجه وبيعه.

(٤-٣) المصانع الباقية

شيد الوالي غير المصنعين السالفي الذكر ستة مصانع بالمنية، وفرشوط، وطهطا، وجرجا، وقنا، وإسنا، وهي في حركة مستمرة، إلا أن الحكومة غير راضية عن حاصلاتها؛ ولذلك أرسلت إليها مفتشًا لينظمها تنظيمًا آخر موافقًا للبلاد التي هي فيها.

(٥) مصانع الكتان

وقد أنشأ الوالي أيضًا مصانع للكتان كثيرة في القاهرة، وفي الوجهين البحري والقبلي. وأكثر هذه المصانع في الوجه البحري، وجملة ما في هذه المصانع من الأنوال ثلاثون ألف نول، ويبلغ ما تنتجه في السنة ثلاثة ملايين مقطع يستنفد أكثرها في القطر المصري، ويصدر الباقي إلى تريستا وليفورن.

(٦) إجمال لما هي عليه مصانع الغزل بمصر وملاحظات خاصة

في مصانع الغزل بمصر ألف وأربعمائة وتسعة وخمسون مغزلًا، منها مائة وخمسة وأربعون لغزل الخيط الثخين، وألف وثلاثمائة وأربعة عشر لغزل الخيط الدقيق. وتخرج المغازل الأولى في الصيف يوميًّا أربعة عشر ألفًا وخمسمائة رطل، وفي الشتاء عشرة آلاف ومائة وخمسين رطلًا يوميًّا، وتخرج الثانية في يوم الصيف ثلاثة عشر ألفًا ومائة وأربعين رطلًا، وفي يوم الشتاء ثمانية آلاف وخمسمائة وأربعين رطلًا.

وعدد أنوال النسج ألف ومائتان وخمسة عشر نولًا، تصنع في اليوم من أيام الصيف ستة آلاف وخمسًا وسبعين ذراعًا من النسيج، وفي اليوم من أيام الشتاء ثلاثة آلاف وستمائة وخمسًا وأربعين ذراعًا.

ويصدر إلى إيطاليا وألمانيا جزء من القطن المغزول، والباقي ينسج في مصر، وتصدر التجار من المنسوجات المصرية مقادير إلى سورية وآسيا الصغرى وجزر الأرخبيل.

ومن الممكن زيادة حاصلات هذه المصانع بقدر الخمس على الأقل إذا روقبت العمال مراقبة دقيقة، ودفعت أجورهم بنظام.

ويبلغ عدد العمال واحدًا وثلاثين ألف عامل وفي أخلاقهم وعنايتهم بعملهم بعض المآخذ.

وكان المنتظر أن تربح الحكومة ربحًا عظيمًا من هذه المصانع؛ لأنها تشتري القطن بأثمان رخيصة، وتستخدم العمال بأُجَر زهيدة، ولكن المصروفات الباهظة في مشترى الآلات الكثيرة، وفي استهلاك الخامات الجسيمة، وفي إقامة المصانع الجديدة؛ استنفدت ما كان ينتظر من الربح وزيادة.

أما من حيث الأصناف التي تخرجها الصناعة المصرية فقد راجت رواجًا عظيمًا أضرَّ بواردات إنجلترا التي من نوعها، خصوصًا المصنوعات الواطئة والبصمة. وكان المستهلك من البفتة الهندية في مصر عظيمًا، فانقطع ورودها بعدما حلت محلها البفتة المصرية. ومنسوجات البنغال كذلك أصبحت أثرًا بعد عين.

ولولا خوف الإطالة لذكرنا الأسباب التي مكنت هذه المصانع الحديثة من مزاحمة مصانع أوروبة، وأوردنا ما لها من المزايا التي ترجع بالفائدة على الحكومة وأهل البلد، غير أننا نرى التوسع فيها أزيد من الحاجة ليس من فائدة مصر. ولعل كثيرًا من الأيدي التي تستخدم في بناء المعامل وإدارتها من الأنفع للبلد استخدامها في الزراعة، وفي ضمير الزمن ما يخبئه القدر لهذه المصانع من التقدم أو الرجوع إلى الحدود المعقولة.

(٧) بقية المصانع

(٧-١) مصنع ألواح النحاس بالقلعة

ألواح النحاس تستعمل لتبطين السفن، وقد أعد لها مصنع بالقلعة تحت إدارة توماس جالوي الإنجليزي. ويعمل معه أربع رؤساء عمل ماهرون من الإنجليز: اثنان للأسطوانة، وواحد للآلة البخارية، والرابع للسبك وتخليص النحاس من المواد الغريبة.

أما العمال المصريون فعشرون موزعون على الأعمال المختلفة، وفي كل عملية سبك يستعمل خمسة وثلاثون قنطارًا من النحاس. وتخرج الأسطوانات كل يوم سبعين لوحًا إلى مائة لوح ذات مقاسات مختلفة، والنحاس المصنوع جزء منه من داخلية القطر، والباقي يجلب من تركيا وتريستا وليفورن، بعضه على شكل ألواح، ومعظمه على شكل قوالب. ويلزم لكل عملية سبك خمسة وعشرون قنطارًا من الفحم. وقد يصل ذلك إلى أربعين قنطارًا حسب اختلاف سمك الألواح المصنوعة.

وتجلب مصر الفحم من إنكلترا، وقد ابتاعت الحكومة أخيرًا صفقة من هذا الوقود مقدارها مائة وثمانون ألف قنطار. ويستهلك المصنع كل يوم مائة وعشرة قناطير إذا لم يشتغل ليلًا، وإلا زاد المُستهْلَك من الفحم ستين أو سبعين قنطارًا.

(٨) معامل السكر بالوجه القبلي

في سنة ١٨١٨م، بنت الحكومة معملًا للسكر في الريرمون بمديرية المنية على نظام معامل السكر بجزر الهند الغربية، وأداره في أول الأمر أحد الإنجليز، ثم خلفه صاحب مصنع في جزيرة كورسيكا، امتازت إدارته في عهده بالنظام والاقتصاد؛ فاتسعت أعماله، وصارت حاصلاته الجيدة تستهلك في البلد، ولكن في سنة ١٨٢٦م أضرَّت به واردات السكر المكرر من أوروبة لأن الناس فضلوها على سكر الريرمون؛ لجودتها ورخص ثمنها.

وقد أصبح السكر من مواد الاستهلاك المهمة في الثغور البحرية، وعند سكان القاهرة والوجه البحري. وفي سنة ١٨٣٣م، صنع معمل الريرمون اثني عشر ألفًا وتسعمائة وخمسة وتسعين قنطارًا من السكر الخام، وبنت الحكومة مصنعين آخرين للسكر؛ أحدهما في ساقية موسى بمديرية المنية، والثاني في الروضة بالقرب من ملوي. وفي مصنع الريرمون استعمل أربعة آلاف وثمانمائة قنطار من العسل لتقطير الروم؛ فأنتجت ثمانية وأربعين ألف أقة روم من درجة ٢٨.

(٩) مصانع الزجاج

كان الزجاج يصنع في مصر قبل ولاية محمد علي، إلا أن مصنوعاته فضلًا عن رداءتها كانت لا تفي بحاجة القطر؛ فأنشأ لذلك مصنع الزجاج بالإسكندرية، وجاءت مصنوعاته كمثيلاتها بأوروبة، واستعملت في سائر أنحاء البلاد، ثم أنشأ معملًا آخر للزجاج على مسافة قريبة من ضفاف المحمودية، وعلى بعد بضعة فراسخ من الإسكندرية بالجهة التي تعرف الآن بمعمل الزجاج.

ويفكر الوالي في إنشاء غابة من الأشجار بالقرب من هذا المعمل الجديد ليتخذ الوقود اللازم له منها.

هذا وفي البلاد مصانع أخرى — أنشئت حديثًا — لتحضير النيل «النيلة»، ومعاصر لأصناف الزيوت ضربنا عن ذكرها بالتفصيل صفحًا.

وقد أتينا في رسالتنا «الجيش المصري البري والبحري» على ذكر دار الصناعة بالإسكندرية «الترسانة» وما فيها من مختلف الصناعات لبناء السفن. وسنذكر في الرسالة الآتية معمل البارود بالروضة، ومسبك بولاق الكبير، فاستغنينا بذلك عن ذكرها هنا.

١  يفهم من تاريخ الجبرتي أن محمد علي ابتدأ في عمارة ورشة الخرنفش سنة ١٢٣٢ﻫ، وتمت في شهر ذي الحجة سنة ١٢٣٣ﻫ. وهذا يوافق سبتمبر سنة ١٨١٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤