الفصل الثاني

المدارس الحربية والمعامل العسكرية

كتبنا منذ أمد قصير رسالتنا في الجيش المصري البري والبحري في عهد محمد علي، وكان ذلك على أثر ما نشر في بعض الجرائد عنه، تنويهًا بما كانت تملكه مصر في ذلك الحين من القوة العسكرية التي صانت بها بيضتها، وذادت عن حياضها، وفتحت ما جاورها من الممالك. وقد اطلعنا أخيرًا على بحث في إحدى جرائدنا أيضًا عن المدرسة الحربية الوحيدة التي تملكها مصر الآن، يراد به بيان ما هي عليه من القصور، وما يجب أن يكون فيها إذا أريد إصلاحها، فلفت ذلك نظرنا إلى ما كان لمصر في عهد جدنا الأعظم محمد علي من المدارس الحربية المتنوعة، والمعامل العسكرية المتعددة، ورأينا في نشر ذلك على الجمهور المصري تذكيرًا بأوليتهم، وتعريفًا بماضيهم القريب يجب أن يكونوا على بينة منه.

وقد ترجمنا هذه الفصول من كتاب مانجان، قنصل فرنسا الجنرال بمصر في عهد محمد علي؛ لأنه أوفى ما كتب في هذا الصدد، وهو كتاب مُشاهِدٍ رأى بعيني رأسه ما دوَّنه، فهو من هذه الجهة وثيقةٌ تاريخية قيِّمة، وتحفة ثمينة من كنوز تاريخ مصر الحديث، في أيام محييها ومنشئها محمد علي، يجدر بأبناء الجيل الحاضر أن يدرسوها ويحيطوا بها علمًا، حتى يقفوا على سر تلك النهضة الفائقة التي رفعت مكانة مصر بين العالمين في ذلك الحين، وجعلت الغربيين يرمقونها بعين الإكبار، ويدونون أخبارها باهتمام عظيم فاق اهتمام بنيها أنفسهم.

ولعل القارئين لهذا الأثر، وفيه ما فيه من ذكرى صالحة تستنهض الهمم الراقدة، يسترشدون بهذا الماضي المجيد في حياة مصر الحاضرة والمستقبلة، ويجعلونه نورًا بين أيديهم، قال مانجان في كتابه «تاريخ مصر في عهد محمد علي»:

(١) المدارس الحربية والمعامل العسكرية

إذا أراد صاحب البلاد أن يكون لها جيش على النظام الحديث، مؤلف من المشاة والفرسان ورجال المدفعية، فإن هذا الجيش يحتاج إلى مدارس تقوم بمهمة تخريج الضباط اللازمين لمختلف هذه الأسلحة، وإلى مستشفيات تعتني بأفراده إذا مرضوا، ولا بد فضلًا عن ذلك أن تكون له إدارة حربية تشرف على هذا العمل العظيم؛ إذ بدونها لا يتأتَّى وجود جيش مُنظَّم.

فمحمد علي الذي شغف بتمدين مصر اقتنع بهذه الحقيقة، ولم يهمل شيئًا قط للوصول إلى هذا الغرض، فقد أحضر من مختلف بلاد أوروبة أساتذة وأطباء وصيادلة ومعلمين، وشيد في أماكن اختيرت أحسن اختيار تلك المدارس والمستشفيات. وهذا العمل الكبير الذي هو وليد فكرة محمد علي وحدها ابتدأ اهتمامه به منذ عشر سنوات، وظهرت نتائجه الباهرة الآن، بعدما امتدت يد الإصلاح إلى كل فرع من فروع التعليم، وخطت المدارس كافة خطوات واسعة المدى، فأتت بأحسن النتائج التي تسترعي نظر القارئ. وسأتكلم فيما بعد عن هذه المعاهد النافعة بإسهاب.

عرف محمد علي أن أساس تقدم أوروبة، لا سيما فرنسا، التي كان يقلدها في كل شيء، إنما قام على بث روح التعليم، فاهتم اهتمامًا عظيمًا ببث هذا الروح في بلاده التي كان مولعًا بها، وأنشأ مجلسًا للمعارف مُؤلَّفًا من رئيس وثلاثة أعضاء اصطفاهم من خيرة الرجال. وقد أدى هذا المجلس وظيفته وقام بواجبه بكل نشاط، وكان يعقد جلساته كل يوم في ذلك البناء المقام على أنقاض القصر الذي سكنه من قبلُ القائدُ العظيمُ بونابرتُ وخلفاؤه في حي الأزبكية. ومختار بك، ناظر المعارف والأشغال العمومية، هو الذي اختير رئيسًا لهذا المجلس.

وقد تأسس في القاهرة معهد به رهط عظيم من التلاميذ وزعوا على كثير من الفصول، وكان بعضهم يتلقى اللغة الفرنسية، والبعض الآخر اللغة العربية، واختص فصلان بدراسة اللغتين التركية والفارسية. وهذا المعهد عين له ناظر أخذ على عاتقه حفظ النظام بين تلاميذه الذين كان كلهم داخلية.١

وكان تحت إدارة مجلس المعارف المذكور أيضًا مدرسة المدفعية بطُرا، ومدرسة الفرسان بالجيزة، ومدرسة المشاة بدمياط — وهذه الأخيرة وحدها كان فيها مائتا تلميذ يتعلمون اللغتين العربية والتركية، والرياضة، وكيفية استعمال الأسلحة — ثم مدرسة الطب البيطري وباقي المدارس الابتدائية المنتشرة في أنحاء المديريات.

وكان مسيو لينان، رئيس مهندسي القناطر والجسور، يتلقى الأوامر من المجلس المشار إليه، ويحيل ما يلزم إحالته منها على التابعين له.

ومدرسة الزراعة بنبروه كانت أيضًا تحت إشراف مجلس المعارف المذكور، وكان فيها أربعة معلمين فرنسيين يعلمون أربعين تلميذًا من أبناء الفلاحين علم الفلاحة، ويطلعونهم على أساليب إصلاح الأرض وزرعها.

(١-١) مدرسة الطب والمستشفى العسكري والمجلس الصحي

شيد بين قريتي الخانقاه وأبي زعبل، على الأوضاع والرسوم التي قام بتخطيطها الدكتور كلوت بك، رئيس أطباء الجيش، بناء هذا المستشفى الجامع، الذي أدى وظيفته الأصلية باستعداد تام من حيث معالجة المرضى، وكان فوق ذلك مدرسة طب يتعلم فيه التلاميذ ويطبقون العلم على العمل.

ويرى الزائر حول هذا المستشفى حقلًا جميلًا زرعت فيه العقاقير والنباتات الطبية، وحوى ما كان نادر الوجود جدًّا منها.

وفي مدرسة الطب التي به ثمانية من نوابغ المدرسين يتلقى عنهم التلاميذ علوم التشريح، والجراحة، والأمراض الباطنية والظاهرية، والطب الشرعي، والطبيعة، والكيمياء، والنبات، وأربعة مدرسين آخرون للغة الفرنسية، ومترجمان يقومان بترجمة ما يلزم لمدرسة الطب ومدرسة الصيدلة معًا.

وبلغ عدد هؤلاء التلاميذ مائة وأربعين بمدرسة الطب، وخمسين تلميذًا آخرين يدرسون فن الأقرباذين في قسم الصيدلة. وفي نهاية كل سنة يمتحنون جميعًا ليعرف مبلغ ما حصلوا عليه.

وقد وَسِعت غرف المستشفى سبعمائة وعشرين سريرًا. وهي غرف نسقت تنسيقًا بديعًا، وتخللها الهواء الطلق، وحلت النظافة منها في كل مكان؛ حيث نيط بمدرسي مدرسة الطب ملاحظة خدمة المستشفى، فقاموا بذلك وبالتدريس في آن واحد.

ودعت حاجة مدينة القاهرة إلى إقامة مستشفى آخر في ميدان الأزبكية يسع ثلاثمائة سرير لمرضى الرجال، ومائتين لمرضى الإناث. وهو تابع للمستشفى الأول بأبي زعبل، وفرع منه تنقل مرضاه إليه عندما يكثر عددهم، أو تكون أمراضهم خطرة، كما أنشئ مستشفى خاص بالولادة له أساتذة وطلاب عديدون، ومدرسة للقابلات تحت إدارة إحدى قابلات باريس الماهرات.

وأما المجلس الصحي فكان أعضاؤه أربعة، اختيروا من مشاهير الأطباء الذين في خدمة الوالي، يرأسهم الدكتور كلوت بك. ووظيفة هذا المجلس الأولى السهر على الصحة العمومية، ثم اختيار الأطباء والصيادلة للجيش بعد امتحانهم، وعرض أسماء الناجحين منهم على ناظر الحربية. وكان الأمر كذلك في نقلهم وترقيتهم بعدما يتلقون أوامر الناظر في هذه الشئون.

(١-٢) مدرسة الطب البيطري

وشيد بالقرب من المستشفى الآنف الذكر مستشفى جميل للخيل كان أيضًا مدرسة للطب البيطري، أسسها مسيو م. هامون، وبلغ تلاميذها مائة وعشرين طالبًا يدرسون فيها البيطرة على أستاذين فرنسيين. وفي المباني الملحقة بهذه المدرسة إصطبلات كان يوجد بها عادة مائة حصان.

ثم نقلت المدرسة المذكورة إلى شبرا بعدما شيد لها هناك دار فسيحة، ومحل لتربية الخيول والاعتناء بها حوى ثلاثين حصانًا من فحول الخيل للنزوان «طلوقة»، وستمائة وسبعين فرسًا.

(١-٣) مدرسة المشاة بالخانقاه

أعدت هذه المدرسة على أحدث نظام ليتعلم فيها أربعمائة شاب مصري قسموا إلى ثلاثة بلوكات. والعلوم التي تتلقى فيها هي التمرينات، والإدارة الحربية، واللغات العربية والتركية والفارسية. وكان بها ضابط جراح للاعتناء بالجرحى والمرضى، وكانت أول ما أنشئت بمدينة دمياط، ثم نقلت إلى الخانقاه.

(١-٤) مدرسة الفرسان بالجيزة

هذه المدرسة كانت في نفس القصر الذي سكنه المملوك الحربي الشهير مراد بك، والذي قضى فيه بونابرت الليلة التالية لمعركة الأهرام. وهذا القصر يملي علينا ذكريات مجيدة، حتى إن الذين زاروا مصر في هذا العهد لا يزالون يعرفون هذا القصر، رغمًا عما أدخله الأتراك فيه من التغييرات. وقد أصبح الآن ثكنة جميلة للفرسان، ومدرسة نظمها مسيو فاران، الذي كان أركان حرب المارشال جوفيون سانت سير.

وفي هذه المدرسة يتعلم مائتا جندي حديثو السن مناورات الفرسان، فضلًا عن الحركات العسكرية. وهم مشاة، وكانوا يرتدون ملبسًا مشابهًا تمام المشابهة لملبس الفرسان الفرنسيين فيما عدا القلنسوة، ولهم أساتذة يعلمونهم اللغتين التركية والعربية، وضباط لقيادتهم. ونظامها هو نفس النظام المتبع في مدرسة سومور، إلا بعض تغييرات طفيفة استلزمتها الحالة المحلية، وفيها أيضًا أساتذة لتعليم اللغة الفرنسية، والرسم، والمبارزة، وترويض الخيل.

ويتعلم فيها التلاميذ فوق ما مضى استعمال النفير «البوق»، وسائر آلات الموسيقى التي تستخدم في فرق الفرسان. وهؤلاء التلاميذ كانوا خليطًا من المصريين والأتراك، وهم يتخرجون منها ضباطًا لفرق الفرسان متعلمين ومدربين تدريبًا حسنًا، ولهذه المدرسة كبقية المعاهد الأخرى ناظر مكلف بالسهر على حفظ النظام بين مرءوسيه، وتوقيع الجزاءات، وتوزيع الغذاء والعلف، ورئيسه المباشر هو ناظر الحربية؛ لأنه من الرجال الحربيين.

(١-٥) مدرسة المدفعية بطُرا

أسس هذا المعهد المفيد الكولونيل الإسباني، دون أنطونيو دي سيجويرا، وهو الذي أوحى إلى إبراهيم باشا فكرة وجود مدرسة خاصة بالمدفعية لتخريج ضباط أخصائيين في هذا السلاح؛ إذ قدم منذ أربع سنوات مشروعًا صدق على جميع محتوياته، فأسست المدرسة على مقتضاه منذ هذا الوقت، وانتخب لها ثلاثمائة طالب من مدرسة قصر العيني الابتدائية، يتعلمون فيها مبادئ اللغات الفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية.

وكان يعطيهم الكولونيل دي سيجويرا نفسه دروس الرياضة والرسم، عدا معلمين آخرين، يعلمونهم ويدربونهم على كيفية استعمال المدافع، فتقدموا تقدمًا سريعًا في العلوم النظرية والعملية، وأظهر الذين أرسلوا منهم في الجيش المغير على سورية نشاطًا فائقًا ومهارة عظيمة، كما أظهرت المدفعيتان الثقيلة والخفيفة مثل هذا النشاط والمعرفة التامة، خصوصًا ضباطهما الذين كانوا ذوي كفاءة ودراية عظيمة بفنهم.

والوالي الذي لا يجهل فائدة مدرسة طُرا المدفعية، أراد أن يرى بعيني رأسه نتائجها، فزارها، ثم أبدى سروره وارتياحه من أساتذتها ونظامها ومعداتها، وأظهر ذلك الارتياح بإنعامه في نفس يوم الزيارة على الكلونيل دي سيجويرا برتبة البكوية، وترقيته إلى رتبة جنرال.

ويوجد بالقرب من هذه المدرسة في حظيرة بطُرا أربع وعشرون بطارية من المدافع، وفي هذه المدرسة مستشفى خاص يديره أحد الأطباء، ويساعده في ذلك صيدليٌّ؛ لأجل معالجة المرضى.

(١-٦) مدرسة الموسيقى بالخانقاه

أراد محمد علي أن يكون نظام جيشه كنظام الجيوش الأوروبية، فأمر أن يكون لكل ألاي من الجيش موسيقى، وكلف مندوبيه بفرنسا أن يستحضروا آلاتها، وينتخبوا معلميها، وقد كان ذلك، وقام هؤلاء المعلمون بتعليم هذا الفن للمصريين في زمن وجيز، حتى إن المهارة التي كان يوقع بها الفلاحون المصريون النغمات الموسيقية على النوتات أدهشت جميع الفنيين، وخصوصًا الأجانب من جميع الجنسيات، الذين كانت تجذبهم إلى شواطئ النيل شهرة محمد علي، فكانوا يأتون أفواجًا لزيارتها، حتى أصبحت هدفًا لأنظار أوروبة.

لذلك أسس في الخانقاه معهدًا للموسيقى يسع مائة وثلاثين تلميذًا، تحت نظر مسيو كاريه، وقام بتدريس هذا الفن فيه أربعة معلمين، دفعتين في اليوم، وبتعليم اللغة العربية معلمون آخرون، وإذا احتاجت ألايات المشاة إلى موسيقيين أمر ناظر الحربية فعُمل امتحانٌ لهؤلاء التلاميذ، ومن كان منهم أكثر معرفة فُضِّل على غيره، وأُلحِق بالفرق التي في احتياج إلى موسيقيين.

(١-٧) مدرسة قصر العيني الابتدائية

هذا البناء الواسع المشيد على شاطئ النيل بين القاهرة والفسطاط كان بادئ بدء محل نزهة ولهو، ثم حوله الفرنسيون إلى مستشفى ذي حصون، وفي إحدى قلاعه وضع رفات القائد الشهير كليبر، ثم غير الترك وضع هذا البناء، وحولوه إلى ثكنة للفرسان، وبعد ذلك أضاف إليه محمد علي مباني جديدة جعلته أكبر مما كان. وفيه الآن ثمانمائة طالب تتراوح أعمارهم بين عشر سنين وخمس عشرة سنة ينتسبون إلى أسر تركية ومصرية. وقد اختير لهم معلمون للغات العربية والتركية والفارسية. وهذه المدرسة إعدادية تؤهل طلبتها للالتحاق بمدارس الطب والمشاة والفرسان والبحرية، وفيها مكتبة تحتوي على خمسة عشر ألف مجلد لمؤلفين فرنسيين وإيطاليين.

(٢) معامل القلعة وتوابعها

منذ عشر سنوات كانت هذه المعامل شيئًا لا يذكر، ولكنها الآن متسعة الأرجاء، وأقسامها الواسعة تشغل جزءًا عظيمًا من القلعة يمتد من قصر صلاح الدين القديم إلى باب الإنكشارية الذي يطل على ميدان الرميلة. وهي تحت إدارة قائد المدفعية أدهم بك، ويشتغل فيها تسعمائة صانع في معامل الأسلحة، يصنعون في الشهر من ستمائة إلى ستمائة وخمسين بندقية. والبندقية الواحدة تتكلف اثني عشر قرشًا. ولرؤساء الصناع مرتبات ثابتة، وللعمال أُجَر يومية.

وفي مصنع خاص تصنع زناد بنادق المشاة، وسيوف الفرسان ورماحهم، وفي معامل أخرى تصنع النيازك «الفواشيك» وحمائل السيوف، وكل ما يتعلق بمعدات المشاة والفرسان، وكذلك اللجم والسروج وملحقاتها. وصناديق المفرقعات ومواسير البنادق تشغل مكانًا متسعًا جدًّا. أما أهم هذه المعامل فهو معمل صب المدافع الذي يستدعي بذل مجهود كبير، وانتباه أكبر، ويصنع فيه من ثلاثة مدافع إلى أربعة من عيار أربعة وثمانية أرطال في كل شهر.

وفي بعض الأحيان يصب فيه مدافع الهاون ذات الثماني بوصات، ومدافع من هذا النوع يبلغ قطرها أربعًا وعشرين بوصة. وعماله لا يقلون عن ألف وخمسمائة عامل، يستهلكون كمية عظيمة من الحديد والفحم، ولا غرابة في ذلك، فكل والٍ له جيش عرمرم ومدفعية جسيمة يجب أن يكون له معامل كهذه فيها كل ما يلزم لتموين تلك القوات.

(٣) معمل البنادق في الحوض المرصود

تأسيس هذا المعمل كان عقب تأسيس معامل القلعة، وفي حوالي آخر سنة ١٨٣١م شُرع في جمع العمال له وأُعدَّ للعمل، وقد كان قبل هذا التاريخ فيه أنوال للنسج.

وألقيت عهدة النظام فيه على عاتق مسيو مارنجو، المولود في مدينة جنوا، والمعروف منذ بضع سنين باسم علي أفندي، والذي اكتسب معلومات وتجارب قيمة في أثناء خدمته بمعامل القلعة تحت إمرة القائد أدهم بك، فاشتغل بهمة وثبات، وتخرج على يديه صناع ماهرون في أنواع صنعة البنادق من جميع الأحجام.

وبلغت طوائف العمال في هذا المعمل ألفًا ومائتي شخص، ما بين عامل ورئيس عمال وصبي، وهم يصنعون في الشهر نحو التسعمائة بندقية، منها ثلاثمائة إنجليزية دون مواسيرها. والبنادق المصنوعة في هذا المعمل للمشاة النظاميين والفرسان ورجال المدفعية، على نفس النموذج المستعمل في الجيش الفرنسي. ومتوسط ما تتكلفه البندقية أربعون قرشًا.

وكانت تعمل تجربة للمدافع في كل أسبوع عندما يكون الحديد المصنوع منه من نوع غير جيد شبيه بما يستعمل الآن، فتكون النتيجة أن يُلقى خُمس عدد هذه المدافع ويُترك في زوايا الإهمال؛ لأنه لم يحتمل التجربة. وإذا كان الحديد من النوع الجيد الواجب استعماله في هذا العمل الخطير لا تتجاوز الكمية الملقاة منه السدس.

أما البنادق فكانت تصنع صنعًا جيدًا على العموم، ولأجل معرفة عيوبها بدقة يجب أن يكون الإنسان ذا دراية تامة بكل ما يتعلق بصناعة هذه الأسلحة. والعيوب تأتي من نوع الحديد وليست من عدم مهارة العامل على الأرجح.

(٤) مسبك الحديد

مسبك بولاق بناء شُيِّد تشييدًا فخمًا، وله منظر جميل ينم عما يؤديه من الخدم العظيمة، والبناء وحده بلغت قيمته مليونًا ونصف مليون من الفرنكات، وواضع رسمه هو مسيو جالوي، المهندس الميكانيكي الذي في خدمة الوالي. وقد وضعه على نموذج مسبك لندرة. والمكلف بإدارته رئيس إنجليزي معه خمسة من الإنجليز، وثلاثة مالطيين رؤساء أعمال، وفيه أربعون تلميذًا مصريًّا موزعون على جميع أقسام المسبك.

وفوق ذلك عُيِّن له ناظر مكلف بضبط حسابه ومسك دفاتره، يعاونه كاتبان قبطيان في ذلك، وهو يراقب أيضًا نظار جميع فروع المسبك، ورئيسه المباشر القائد أدهم بك، مدير معامل القلعة. وهذا الناظر برتبة ضابط. ويُصبُّ في هذا المسبك كل يوم خمسون قنطارًا من الحديد المعد لصابورة المراكب والآلات التي تصنع في المعامل. وهذه العميلة تستلزم خمسين قنطارًا من الفحم الحجري، وتبلغ مصروفات المسبك عشرة آلاف قرش إلى أحد عشر ألف قرش في الشهر، عدا ثمن المهمات.

(٥) معمل البارود وملح البارود

أقيم بناء هذا المعمل بالمقياس في طرف جزيرة الروضة في مكان فسيح ومناسب؛ لبعده عن جميع المباني الآهلة بالسكان، ومديره هو مسيو مارتيل، الذي كان مستخدمًا في معمل البارود بمدينة سانت شماس، ويشتغل تحت إدارته تسعون عاملًا موزعون على أقسامه الكثيرة، ومن بين هؤلاء العمال ثمانية عشر عاملًا يخلطون الكبريت والفحم وملح البارود، وواحد وعشرون عاملًا يقلبون البارود في الطواحين. وهي عشر طواحين لكل واحدة منها عشرون مدقة، وتتحرك بعشر آلات تدور بواسطة البغال التي يسوقها عشرة رجال.

ويصنع في اليوم في هذا المعمل خمسة وثلاثون قنطارًا من الرش، على يد أربعين عاملًا مكلفين بهذه المهمة، وطريقة صنع البارود في مصر هي طريقة التبخير كما أوضحنا ذلك بالجزء الثاني من كتابنا. وهذه الطريقة اقتصادية أكثر من طريقة النار، وقد كثر صنع البارود بمصر بإنشاء كثير من المعامل التي تصنع ملح البارود. وإننا نذكر أسماءها بالتوالي على حسب الناتج من كل منها سنة ١٨٣٣م:

قنطار
١٥٧٨٤ قنطار
٩٦٢١ معمل القاهرة
١٦٨٩ معمل البدرشين
١٥٣٣ معمل الأشمونين
١٢٧٩ معمل الفيوم
١٢٥٠ معمل أهناس
٤١٢ معمل الطرانة
١  يفهم من هذا الوصف أن المعهد المذكور هو مدرسة «الألسن».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤