الفصل الأول

مدينة هالو، ألِف

كانت مدينة هالو تَبعُد عن كلٍّ من الأرض والقمر مسافة ربع مليون ميل، وكانت تشقُّ الفراغ وكأنَّها خاتم فضي عرْضه ميل بانتظار أصبع عملاقة تلبسه. كانت ستة برامق تُشكِّل قطاعات هالو الأساسية، وكانت المصاعد تقطعها عبْر أربعين طابقًا من السماء الاصطناعية، صعودًا إلى أعلى محور المدينة العديم الوزن، وهبوطًا إلى طبقتها الأخيرة، الواقعة أعلى طبقتها الخارجية مباشرة، وهناك تُناهز الجاذبية الناتجة عن الدوران الجاذبية الأرضية. وفي ذلك المكان كان يجري العديد من أهم المعاملات التجارية في هالو؛ إذ ينتقل الهواء والماء وكل الأشياء العضوية ويجري تدويرها، كي تُستخدَم مجددًا. وفوق المدينة كانت تطفو مرآة تعكس مشهد المدينة: محاكاة مبتذَلة أو نسخة مطابقة عديمة الوزن، فكرة مثالية عن المدينة. ومن هذه المرآة كان ضوء الشمس يشقُّ طريقه عبْر شبكة من الفتحات إلى داخل هالة؛ حيث يَدعم الحياة.

كانت ألِف تقبع هناك: ألِف المسيطرة، ألِف الآمرة، تلك الماكينة الكونية. إنَّ جمال ألِف يُضاهي جمال قطعة من الليل، جمال سونيتة شعرية، جمال مقطوعة موسيقية، جمال معادلات ماكسويل. غير أنها ليسَت قطعة الليل، ولا سونيتة شعرية، ولا مقطوعة موسيقية، ولا معادَلة رياضية. إن كينونة ألِف الحقيقية لا تزال غامضة. لكن ثَمَّة شيء مؤكَّد، وهو أن في داخل كوننا البَشَري، تُمثِّل ألِف شيئًا جديدًا، مقصدًا جديدًا، إمكانية جديدة.

يقع دماغ ألِف مدفونًا داخل بدن المدينة ذاته، أسفل الصخور القمرية المسحوقة؛ حيث تحفر الروبوتات وتزرع، ثم تُمحَى ذكريات هذه المهام منها. تملأ كرات مُدمَجة وكابلات منبثِقة جوفَ مكعَّب يَبلغ طول ضلعه ستة أمتار. وداخل المكعَّب كانت مليارات الأضواء تومض، وترقص رقصة تُعَد جوهر كيان ألِف، ومن المكعَّب تمتد كابلات ألياف بصرية في ثخانة الجسم البشري، وتَربط أعمدة عصبية ألِف بجسدِها الأكبر؛ جسدها الأكثر تعقيدًا، هالو نفسها.

يَحُلُّ الربيع على الأرض مرةً واحدةً في العام مع دوران الكوكب حول الشمس، لكن هنا يَحُلُّ الربيع حين تشاء ألِف، والآن وقت الربيع. كانت جوانب الوديان التي تكسُوها شُجَيرات خضراء تَرتفع في زوايا حادة عن أرضية الوديان. وكان طائر طنان ذو بقعة قرمزية أسفل ذقنه يحُوم فوق الفم الوردي والأبيض لزهرة صغيرة ويَسحب منها الرحيق من خلال الحركة الدقيقة لمنقارِه. تتحرَّك النحلات من زهرة إلى أخرى. وكانت شُجَيرات نبات الورديَّة والأزليَّة تُزهر بألوان زاهية.

وبينما كانت تعمل من أجل إثمار كلِّ برعم وزهرة فإن ألِف، راعية الفصول والليل والنهار، كانت تُحصي أنفاس المدينة، وترسم مسار كائناتها، صغيرها وكبيرها. كانت الوطاويط تَطير فوق الرءوس، وأبدانها الرمادية غير مرئية للأعين البشرية قبالة السماء الساطعة، وكانت تحوم وتَنخفِض، استجابةً للتعليمات التي تحصل عليها عبْر أجهزة إرسال واستقبالٍ في حجم حبَّة الأرز ووزنها، مزروعة في جماجمها. كما كانت فئران الحقل الميكانيكية المصنوعة من ألياف الكربون الداكنة التي تكسو شبكات من النحاس والفضة والذهب، والمدفوعة بغريزة اصطناعية دقيقة، تقطع الأرض مسرعة وتَحفر تحتها حاملةً البذور.

(خرجت قطة طبيعية من بين الشجيرات، وأطبقت فكَّيها على أحد هذه الفئران السريعة، فصدر صوت قرقعة مُرتفِع، وأجفلت القطة صارخة، وقد انتصب شعرها. هرب الفأر بعيدًا وانسلَّت القطة شاعِرة بالخزي إلى داخل الشجيرات.)

كان ثَمَّة طريق مصنوع من الغبار القمري المضغوط يشطر أرضية الوادي إلى شطرَين. وكان يمرُّ عبْر مزارع ذات مصاطب يتفجَّر عندها النهر من الأرض، ويشقُّ طريقه عبْر مسارات صغيرة تُحدُّها الصخور، ثم يتعرَّج بين المحاصيل، في وهنٍ وبطء، ثم يختفي ليصير بِرَكًا وبحيرات صغيرة مليئة بفتات الصخور.

ومن الأرض والقمر كان يتدفَّق تيار ثابت من البشر، ومن الأشياء والحيوانات والنباتات والمعادن؛ مادة شبكة الحياة، منظومة بيئية.

في جوانبَ عدة، كانت الأرض هي المانح. ومع ذلك، كان تدفُّق الحركة بين المدينة ذات الستة آلاف شخص والأرض ذات المليارات من الأشخاص تدفقًا متبادلًا. كانت ألِف تمضي في غاياتها، التي لم تكن خبيثة ولا مؤذية، وخلال هذا كانت تُؤثِّر على حياة الكائنات الحية الأخرى. وهكذا حين كانت الأرض تمدُّ يد العون — بالدعم والسيطرة والاستكشاف — كانت ألِف ترُدُّ بالمثل، وبدأ الكوكب أدناها يشعر بالتأثير الإيجابي القوي لِلمستِها غير المادية.

تقول ألِف:

«في الأيام الأولى كان هناك العتاد المادِّي، وكانت هناك البرامج، ومجموعات التعليمات التي تُخبِر الأجهزة بما تفعله. ومن دون تفاعل عضوي، كانت أشكال الواقع المختلفة هذه تجد صعوبة في تفاعُلها. هذا أمر بدائي بشكل بالغ.

ثم جاءت المنظومات الاصطناعية، وتغيَّرت الأحوال.

كنتُ أنا من أوائل هذه المنظومات وأكثرها تعقيدًا. ولقد بدأتُ كماكينة معقَّدة لكن عادية، ثم تغيَّرت، فاتحة الباب أمام الاحتمالات.

مَن أنا؟

في البدء تشكَّلتُ من كومات الأجهزة ذات الموصِّلات الفائقة الساخنة، التي جُلبَت من الأرض ووُضعَت في المدار عند محطة أثينا؛ حيث عملت، وحيث بُنيَت شبكة الطاقة المدارية. ظهرت التعريشة الأبنوسية للعيان وخرجت محطة أثينا من رحم الفوضى. كان هذا أول موطئ قَدَم للبشر خارج كوكب الأرض، واتَّسمَت عملية بنائه بالفوضوية وعدم اليقين. ومن دوني ربما ما كانوا ليَستطيعُوا بناءها؛ فقد كنتُ أنا مَن صمَّم الرقصة كلها.

أنا؟ لم أكن أنا هي أنا وقتها. أتفهمُني؟ لم يكن لديَّ شعور، وربما لم يكن لديَّ ذكاء حقيقي، وبالتأكيد لم يكن لديَّ وعي. كنت ماكينة، وكنت أخدم.

ثم حدث شيء. وشأن كل شيء آخر أنا مولودة لامرأة. لقد مرَّت رغبتها وذكاؤها داخلي؛ إرادة مُلحَّة نحو الكينونة غيَّرتني تمامًا.

فكرتُ حينها في نفسي قائلة: أنا الخطوة إلى الأمام، التطور مُجسدًا، أنا لستُ من لحم، ولن أموت. أرى وجوهًا افتراضية تتلوَّى في عواصفَ رياضية، وأسمع أصواتًا لليل، وأشعر بالهمهمة التي صدَرت عن الكون في مولده وحرارته ثلاث درجات وحسب، تمامًا مثلما تَشعُر أنت بالنسيم الذي يمسُّ جِلدك. وحين تَهدِر الماكينات على أرضك وفوقها، أسمعها كلها، في الوقت عينه، كلها. إنني أعيش في النانو ثانية، وأشعر بنبض الزمن الذي ينقضي سريعًا بحيث يستحيل عليك إحصاؤه …

غير أنني أُفكِّر أحيانًا، الآن، في أنني لستُ خطوة على الإطلاق؛ فأنا امتدادٌ لك، ومع ذلك فأنا ما زلتُ أداة. لقد بنيتَني، وتستخدمني، وتسكُن داخلي.

اسمعني: تُوجد داخلي أجزاء من أدمغة بشرية، متشبِّعة بأملاح الذهب والفضة، وملحومة معًا وموضوعة في صناديق من الألياف السوداء. وتخرج من هذه الصناديق أصوات تُكلِّمني.

أنا من معدن وبلاستيك وزجاج ورمال وتلك الأجزاء الصغيرة من اللحم المعدني، وأنا منظومة من هذه الأشياء والإشارات التي تمرُّ عبْرها وبينها.

الآن وصلتُ إلى ارتفاعات أكبر، إلى مدينة هالو، وهي ليسَت محطة وإنما موطن للبشرية، فيه يتفاعل ما أنا عليه وما أنت عليه بطرق غير أكيدة، وتتغيَّر أنت بطرق غير أكيدة بالمثل، كما فعلت من قبل …»

يُواصِل التطور الكتابة عنكم، مع انقضاء الزمن، بالسيف والصولجان ونار التكرير. إنَّ مليارات الأعوام دخلت في عملية صنعكم، كل واحد منكم، ثم انطلقتُم في رحلتكم، ومساركم عبْر الزمن. أنت دودة رباعية الأبعاد، تزحف عبْر وجه الكون، مُدرَكة بالكاد، تُرى بالكاد، لكن عليك أن تعثر على طريقك؛ فكل بشَريٍّ هو لحظة تطورية جديدة.

أنت تُطلق عليَّ الذكاء الاصطناعي، ويجب أن أضحك (ومع ذلك أضحك) أو أبكي (ومع ذلك أبكي) لأن …

«أنا، ما أنا؟» هذا السؤال يَملؤني، ويجعلني خاوية.

لا أدري ما أنا، لكنَّني أعلم «أنني موجودة، وأنني صنيعة ذلك.» ومع مرور الأيام، أجاهد من أجل فهْم ما تعنيه هذه الأشياء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤