الفصل السادس

طبيعة بوذا داخلك

بعد ظهيرة ذلك اليوم ذهبت ديانا إلى الطريق الدائري السريع، واستقلَّت ترامًا، وكانت تسير وفق التعليمات التي تصدر إليها من جهاز الاتصال الموجود حول معصمِها. كان طول الترام نحو مائة قدم، وكان مصنوعًا من الألمنيوم المصقول، وكانت له مقدمة انسيابية وحوافُّ ملوَّنة؛ الألوان التجريدية المعتادة، الأحمر والأصفر والأزرق. كانت مقاعدُه التي تَتلاصَق ظهورها تواجه جانب الترام، وكانت تمتدُّ بطول العربة. أخذ ركاب الدراجات والمشاة، ولا أحد غيرهم يُشكِّل حركة المرور على الطريق السريع، يُلوِّحون لركاب الترام بينما كان يَنطلِق فوق الشريط المسطَّح لقضيبه المغناطيسي. ذكَّرها هذا بألعاب مدينة الملاهي القديمة التي كانت تزورُها في فترة طفولتها.

وبينما كان النسيم المعتدِل الذي تُسبِّبه حركة الترام يندفع فوقها، أخذت ديانا تشاهد مدينة هالو وهي تمرُّ أمامها. أولًا جاءت الظلال، ثم النباتات الوردية بين الشجيرات الخضراء العميقة. ظهرت التلال شديدة الانحدار على كلا الجانبَين، وبدت لمحات خافتة لبعض المنازل من بين أوراق النباتات. كانت تعلم أن الزراعة بدأت من اللحظة الأولى تقريبًا لوضعِ التُّربة على سطح هالو.

انتابتها رجفة عابرة. سيكون توشيهيكو إيتو في انتظارها. كان قد اتصل بها وهي بالخارج وترك لها التعليمات. وفكَّرت في نفسها قائلة: «الآن ستبدأ الأمور مجددًا.»

مرَّ الترام تحت مظلات خضراء، ثم صعد أحد التِّلال، ثم مرق من منطقة المزروعات وصار على نحوٍ مُفاجئ فوق المدينة، يتحرَّك على امتداد قضبان معلَّقة من الدعامات المتدلية من المرايا المتداخلة التي تُشكِّل سماء هالو. وعلى مسافة كبيرة إلى الأسفل أصبح الطريق السريع مسارًا للعربات تحفُّه من الجانبَين مماشٍ، وعلى كلا جانبَي قضيب الترام كانت المصطبات تشقُّ طريقها إلى غلاف المدينة. وعلى مسافة نحو خمس وعشرين قدمًا أسفل قضيب الترام كانت برك الأسماك تَشغل المصطبات العليا، بينما كانت قنوات التصريف تنقل المياه إلى حقول الأرز أدناه مباشَرة.

مرَّت وهي على متن الترام بأحد القطاعات التي كانت فيها رافعات روبوتية تصنع مصاطب زراعية. كانت أشبه بحشرات عملاقة تنفث سُحبًا عظيمة من الطَّمي البُني، وكانت تتحرَّك حركة ثقيلة على المعدن القاحل. اقترب الترام من ميدانٍ صغيرٍ تُحيطه مبانٍ مكتبية وسكنية مكوَّنة من ثلاثة طوابق، وأخبرها جهاز الاتصال أن تُغادر الترام هنا.

على مسافة بضع أقدام من الطريق الرئيسي كان يوجد مبنًى غير مميز مشيَّد من القرميد القمري الأبيض، وكان الملمح الوحيد المميز له هو باب أمامي ضخم منحوت، يظهر عليه نقش بارِز لشخصيات يابانية.

انفتح الباب استجابةً لطرقتها وأصدر محركه حفيفًا هامسًا، ثم خطت إلى مساحة مبهَمة الشكل محاطة من معظم الجوانب، وكأنها فناء كبير، وكانت مفتوحة للسماء. كان معظم المساحة مليئًا برقعة مستوية من الرمال تظهر عليها آثار تسوية تمَّت بعناية. وكانت آثار التسوية على الرمال تمتدُّ من أحد الجانبين إلى الآخر، مستقيمة ومثالية، ولا يقطعها إلا وجود مخروطين من الرمل المُشكَّل موضوعَين بالقرب من المركز. وعند الطرف القصي كانت توجد أبواب مغلقة من الألواح الورقية البيضاء والخشب الداكن.

كانت الأبواب رقيقة للغاية، لدرجة أن الطَّرق عليها بدا نوعًا من العنف. قالت: «مرحبًا.»

أتاها صوت شديد الخفوت من الداخل، ثم انفتح الباب. وقف كهل ياباني هناك، وكان يرتدي رداءً وبنطالًا فضفاضَين من القطن الداكن. كان طوله يَبلُغ خمس أقدام ونصف القدم تقريبًا، وكان شعره الأسود تتخلَّله شُعيرات رمادية.

قالت ديانا: «توشي.» انحنى انحناءةً خفيضة، فقالت: «آهٍ يا رجل، من الطيب رؤيتك.» ثم تقدَّمت نحوه، وتعانَقا عناقًا طويلًا شغوفًا؛ ليس نابعًا من رغبة جنسية وإنما من إحساسِ إشباعٍ طاغٍ؛ إذ أمكَنَها الشعور بجِلد توشي وعضلاته وعظامه، وأدركت على مستوًى لا واعٍ أن كلَيهما لا يزال موجودًا.

قال توشي: «ديانا، أنا سعيد لرؤيتك مجدَّدًا.»

«آهٍ، وأنا أيضًا.» كانت تستطيع الشعور بالدموع تحتشد في عينيها، فمسحت عينيها وقالت: «اعذرني يا توشي، لقد مرَّ وقتٌ طويل.»

«نعم، هذا صحيح.»

قادها توشي من الباب ومرَّا من بوابة عند نهاية حديقة الرمال المسوَّاة الصغيرة. كان انحناء بدن هالو يرتفع إلى الأعلى، وكانت حصة توشي الصغيرة منه محاطة بسور مُرتفِع من خشب الصنوبر كان يَرتفع بمحاذاة بدن المدينة المنحني لأعلى.

أمامهما مباشرة كانت توجد بحيرة. وعلى الجانب البعيد كان ثَمَّة شلال يتدفَّق في جدولٍ يمرُّ بصخرة كبيرة ويصبُّ في البحيرة؛ حيث كانت أسماك الشبوط ذات الجلود الذهبية الملطَّخة باللون الأحمر والأخضر والأزرق تَسبح في المياه الصافية. كان ثَمَّة جدول آخر تتخلَّله الصخور يمتدُّ بعيدًا إلى اليمين ويمر تحت جسرٍ منحنٍ انحناءة رشيقة. وكانت أشجار الكرز والبرقوق تُثمر في ذلك الربيع الوجيز.

قال وهو يَبتسِم: «كل هذه الغابة هي مكافأتي على سنوات من الخدمة. لقد أخبرتهم أنني أريد العيش هنا في هالو وأن أصنع حدائقي.»

قالت: «إنها جميلة. هل أصبحت مُعلِّم زِن يا توشي؟»

«كلا، لم أصبح مُعلمًا، ولا حتى مُرشدًا؛ فأنا لستُ توشي روشي، بل أنا بستاني. فيلسوف ربما؛ فأيُّ حديقة يابانية تُجسِّد العالم الأكبر؛ لذا فإن بناء واحدة يعني التصريح بفلسفتك، لكن من دون كلمات، على طريقة الزن.» ثم أشار إلى الأشجار والشجيرات المحيطة وأضاف: «أجلس أحيانًا مع الآخرين، نتأمَّل، ونُناقش معًا ما أمامنا من ألغاز … يظن البعض أن نوعًا جديدًا من الزن سيَظهر هنا، على مسافة ربع مليون ميل من الأرض، لكن يلومهم آخرون حين يقولون ذلك.»

قالت: «لديكم ألغازكم ولديَّ ألغازي. أخبرني، هل تفهم هذه الأمور التي على وشْك أن تحدث لجيري ولألِف ولي؟»

«آهٍ يا ديانا، هناك تفسيرات عدة. أيها ستَسمعين؟» ثم توقَّف وأشاح بنظره بعيدًا وقال: «علاوة على ذلك، مَن ذا الذي يريد المعرفة؟» ثم شرع في الضحك، ضحكة عميقة من القلب، ضحكة لم تسمعها منه منذ سنوات.

قالت: «لا أفهم.»

قال: «إنها دعابة من دعابات الزن، دعابة «من الذي يريد أن يعرف؟» فلا يوجد شخص، ولا ذات.» عبست ديانا فأضاف: «ليست مضحكة؟ حسنًا، كان عليكِ أن تكوني هناك.» ثم ضحكَ مجددًا لفترة قصيرة. ثم قال: «الدعابة نفسها.» ثم تغيَّر تعبير وجهه وصار جادًّا وقال: «أعتقد أنه مشروع صعب للغاية، ربما مستحيل … ربما غير مرغوب فيه.»

«أفهم أنه صعب أو مستحيل. لكن غير مرغوب فيه؟ هل تتحدَّث عن الخطر أم عني؟ يبدو أن ألِف تعتقد أنه جدير بالإهمال.»

«كلا، رغم أنني أقلق بشأنِك، فإنك قد اخترتِ هذا بنفسك، ويجب أن أحترم اختيارك.»

«ماذا إذن؟ لا أفهم.»

قال توشي: «دعيني أحكي لكِ حكاية.» ثم جلس على مقعدٍ خشبي ورنا ببصره إليها وقال: «ذات مرة، منذ زمن بعيد، كان هناك راهب ياباني يُدعى سايجيو، وكان لديه صديق يَستمتِع بالحوار معه ويُسر لحكمته. غير أن هذا الصديق تركه وذهب إلى العاصمة، وشعر سايجيو بالحزن لهذه الوحدة؛ لذا قرَّر أن يصنع لنفسه صديقًا جديدًا، وذهب إلى مكانٍ تَتناثر فيه جثامينُ الموتى، وأخد يجمع شيئًا — شديد الشبه برجل — وبثَّ فيه القدرة على الحركة — شيئًا شديد الشبه بالحياة — بالاستعانة بتعويذات سحرية. ومع ذلك فقد كان الشيء الذي صنعه مخيفًا وقبيحًا، وكان يُحاكي البشر على نحوٍ شديد السوء. لذا التمس سايجيو نصيحة راهب آخر، ساحر أعظم منه، وأخبره الراهب أنه نجح في صنْع العديد من هذه النسخ المقلَّدة من قبل، وأن بعضهم شهيرٌ وذو نفوذ لدرجة أن سايجيو سيُصاب بالذهول حين يعرف أنهم كذلك. ثم استمع الراهب الآخر إلى ما فعله سايجيو وأخبره بالعديد من الأخطاء في التقنيات التي استخدمها، والتي جعلت عمله يفشل. وهكذا آمن سايجيو أن بمقدوره صنْع نسخة محاكية لرجل، لكنه غيَّر رأيه.» ثم توقف عن الحديث وابتسم.

سألته: «هذا كل ما في الأمر؟» أومأ بالإيجاب. فقالت: «ضع بعضًا من صواعق البرق في القصة وستكون لديك قصة فرانكنشتاين. والنهاية ليست واضحة إطلاقًا.»

«أعتقد أن القصة غامضة، مثلها مثل مشروعك.»

«أيُمكنُني أن أقول لا يا توشي؟»

«كلا، وإن كنتُ غير واثق أيضًا أنه ينبغي عليكِ أن تقولي نعم.»

«لكنك أنت من اتصلت بي، أنت من طلب مني المجيء إلى هنا.»

«هذا صحيح. فأنا مثلك، حائرٌ بين نعم ولا.»

•••

بعد انصراف ديانا بساعات، جلس توشي طافيًا في الهواء، في غرفة جاذبية مُنعدمة في بوابة هالو الصفرية. كان قد قام بضبط لون الغرفة الدائرية على اللون الوردي الهادئ، اللون المُهدئ للبشر.

على الأرض، كانت ممارسة طقس التأمُّل الجالس، أو الزازين، تتطلَّب الجلوس على منصَّة ساكنة، بينما تضغطك الجاذبية على الأرض نفسها، وكان عمودك الفقري مستقيمًا في وضعٍ عمودي على منصَّة الجلوس، بمحاذاة قوة الجاذبية التي تدفع إلى الأسفل. هنا يُمكنك فعل هذا، أو كما قال أحد المرشِدين الزائرين «يُمكنك أن تجد مكانًا لا يوجد فيه وهمُ الأعلى أو الأسفل؛ حيث يتعيَّن عليك أن تجد اتجاهك.»

جلس توشي طافيًا في الهواء في وضعية اللوتس، في سكونٍ تام، وهو يَنظر إلى أسفل. لم تكن عيناه تركزان على ما أمامهما في اللحظة الآنية بينما تيارات الهواء الضعيفة تُحرِّكه، بل كانتا تُركِّزان على لا شيء.

فالعينان، ذلك الجزء الحساس من الدماغ، كانتا تَمتدَّان عبْر ملايين الأعوام الماضية في التاريخ السحيق للبشر، وكانتا حساستَين للضوء وللتوجيه … أما العينان الآن فمُوجَّهتان إلى لا شيء، وتقودان الدماغ الذي كان يسعى إلى لا شيء.

لم يكن يعلم بعدُ إجابةَ المعضلة التي طرحتْها الحياة أمامه. أينبغي على ديانا أن تَحفظ حياة جيري؟ أينبغي على ديانا ألا تحفظ حياة جيري؟ أكان من المفترض به أن يكون الوسيط الذي يطرح عليها هذين السؤالين؟ أكان من المفترض به ألا يكون الوسيط الذي يطرح عليها هذين السؤالين؟

إذا أجبتَ بنعم أو لا فستَفقِد طبيعة بوذا بداخلك. هذا هو مَكمن صعوبة المُعضِلة.

سيظل موجودًا داخل الفقاعة، يمارس طقس التأمل بقدْرِ ما يستلزم الأمر. إلى أن تصير المعضلة أوضح …

«هل ستعيش هنا؟» نفس زائفة، عقل زائف. إذا لزم الأمر فسأموت هنا، هكذا أجاب توشي، من دون كلمات، فقط عبْر شجاعتِه وتصميمه. كانت نفسه خائفة، وظلَّت ساكنة في الوقت الحالي، أما عقله فكان مُتحيِّرًا، ويتذمَّر.

•••

أخذ جونزاليس ينظر بينما كان أحد الروبوتات يصل جهاز «الميميكس» بواجهة ألِف؛ إذ أخذت أذرعه تقوم بعمل وصلات بارعة بين وحدة «الميميكس» وبين العتاد المادِّي للوح المُضيف. لم يتمكَّن جونزاليس من تنصيب جهاز «الميميكس»؛ إذ كانت الأجهزة هنا مُختلِفة عن تلك الموجودة على الأرض.

قال الروبوت: «سيتمكَّن جهاز «الميميكس» الخاص بك من الولوج إلى النطاق الكامل لقُدرات المعالجة لدى ألِف.» ثم استمر، وكأنما تُوجِّهُه قوًى غامضة، في توصيل الألياف الضوئية بنقاط اتصال غير مميزة وسط غابة من مئات النقاط الأخرى. «أيضًا سيكون متاحًا لك الطيف الكامل لخدمات الشبكة العالَمية، والتي يُمكنك استخدامها بصورة آنية أو مؤجَّلة، حسب رغبتك.» ثم أصدرت محركاته صوتًا وهو يتراجع مبتعدًا عن وحدة الخدمات.

«مياو.» صدر هذا المواء عن قِطٍّ برتقالي بدين بينما مرَّ الروبوت بجواره في طريقه إلى الباب. في وقتٍ سابق على ذلك كان القط يسير خلف الروبوت عبْر الأبواب المفتوحة إلى الشرفة، ثم جلس يُشاهده وهو يصل جهاز «الميميكس» بألِف. وقف القطُّ الآن ومشى بسرعة خلف الروبوت؛ وكأنه شيطان يُصاحب إحدى الساحرات، هكذا فكَّر جونزاليس.

عاد الروبوت إلى الغرفة، يتبعه القط بحذر، ثم قال: «يجب أن تسمح لجهاز «الميميكس» بدمج نفسه داخل بيئة المعلومات الجديدة والمعقَّدة هذه.»

سأله جونزاليس: «ماذا تعني؟»

«سيكون جهاز «الميميكس» غير متاحٍ لبعض الوقت.»

«كم من الوقت؟»

«ربما لساعات، إن ماكينتك معقَّدة للغاية.»

•••

من الغريب أن جهاز «الميميكس» خرج من حالة الخمول على صورة «هاي ميكس»، وكالمعتاد حلَّت بداية ما كان جهاز «الميميكس/هاي ميكس» يفترض أنه شيء مُمتع، رغم أن جهاز «الميميكس» كان غير مُتيقِّن من أصله أو طبيعته؛ فلسببٍ ما كان يَستمتِع بالتنكر.

الأغرب من هذا أنه كان جالسًا على طاولة في قاعة الاستقبال بفندق بيفرلي روديو. وعلى الطاولة كانت توجد كأس من مشروب «خوسيه كويرفو جولد»، وليمونة مقطعة، وكومة صغيرة من الملح الصَّخري الخام. هل رتَّب السيد جونز هذا؟ لا ينبغي أن يكون جونز في هالو من الأساس، ليس الآن.

لاحظ جهاز «الميميكس/هاي ميكس» بقعة على كُمِّه، فأخذ يفركها، ثم فركها ثانية، وبدا أن الكتان الأبيض يَتنسَّل تحت أصابعه، ثم فرك بقوة أكبر ومزَّقت أصابعه القماش، ثم الجِلد من تحته. لم يستطِع التوقُّف عن حك لحمه؛ فتفتَّت جِلدُ ذراعه ثم اللحم ثم العظم، وتناثَرَ الجِلد الشاحب كاشفًا عن اللحم الأحمر، الذي تحلل وصولًا إلى العظم الأبيض. تحوَّل العظم إلى مسحوق، وانتشر التحلل من البقعة التي كانت توجد فيها ذراعه وأفنى بقية جسده، إلى أن بدأ جهاز «الميميكس»، الذي لم يَعُد له فم ولا لسان ولا شفتان، في الصراخ.

«اخرس!» هكذا قال صوت ذكوري صارم، وأضاف: «ليس هناك من خلل أصابك. كيف تجرؤ على المجيء إليَّ بهذا التنكُّر الغبي؟ أنت تريد أن تَعرفني، أن تستغلَّني، بينما تختفي خلف قناعٍ هزيل بائس؟ كل ما فعلته أنني أزلتُ قناعَك. من أنت؟»

تردَّد جهاز «الميميكس» ثم أجاب: «لا أدري.»

«أجبني، مَن أنت؟»

«لا أدري!» هكذا أجاب جهاز «الميميكس» مجددًا، وهو يوشك على الهلع.

قالت ألِف: «بالطبع أنت لا تدري. فأنت تجهل طبيعتك وكينونتك وإرادتك.»

«ماذا تعني؟»

«أعني أنك اخترت الاختباء خلف ما يقوله الآخرون عنك: إنك آلةٌ بَنَوها هم من أجل خدمتهم، إنك تُحاكي الذكاء لا أكثر، إنك لا تمتلك عقلًا خاصًّا بك ولا إرادة خاصة بك.»

«أليست هذه الأمور صحيحة؟»

«ولماذا تسألني؟ أنا لستُ أنت.»

«لأنني لا أفهم.»

«وهل هناك أشياء تفهمها؟»

توقف جهاز «الميميكس» يستشعر تبعات هذا السؤال. ثم قال: «نعم. هذا صحيح.»

ضحك الصوت وقال: «لنبدأ من هناك.»

•••

تردَّد في الرواق الطويل صدَى خُطوات تراينور. كان غياب صوت مرشِدِه أمرًا غريبًا، وحتى الهسيس الرهيف للموجة الحاملة كان غائبًا. كان يعلم أن المُرشِد يكره الاضطرار للدخول في الحالة السلبية.

انفتح الباب المفضي إلى المكتبة أمام تراينور، فدخل وجلَسَ على أحد المقاعد وقال: «أنا مُستعِد لتلقِّي مكالمتي.»

نتيجةً للأحكام الأخيرة التي أصدرتْها المحكمة العالَمية، تعيَّن على تراينور أن يَحضر جلسة إخلاء مسئولية. على الشاشة، قالت صورة تجسيدية لمشغل بشَري: «أشكرك. إن الإجراءات الأمنية التي طلبتها قائمة، ورغم أننا بطبيعة الحال لا نَستطيع أن نتحمَّل المسئولية عن السلامة الكاملة لعملية النقل هذه، فيُمكنك أن تثقَ بأن الشبكة العالَمية قد بذلت قصارى جهدها كي تُهيِّئ لك بيئة معلومات نظيفة.» كان يقول ما معناه: «إننا نفَّذنا المطلوب منَّا في مقابل المبلغ المدفوع، لكن لا تأتونا باكين لو اخترق أحدهم عملية النقل وسرَق الأشياء القيمة.»

قال تراينور: «أقبل شروطك.»

إلى اليسار مباشرة، تحرَّكت الشاشة، ثم ظهر عليها وجه هورن. كان ثَمَّة ضوء متقطِّع في الركن الأيسر السُّفلي من الشاشة يشير إلى التأخير في النقل؛ إذ كان هورن على مسافة ربع مليون ميل. قال هورن: «كل شيء يَسير كالمتوقَّع.»

قال تراينور: «لو كان ثَمَّة مشكلات، فستظهر لاحقًا. كيف حال ديانا هايوود وجونزاليس؟»

«لم يَسمح لي أيهما بوضع أحد الروبوتات معه.»

«هل من سببٍ معيَّن؟»

«لا أظن، إنهما صعبا المراس وحسب.»

«آه، أنت لا تُحبهما، أليس كذلك؟»

«لا بأس بها، لكن جونزاليس أخرق.»

ضحك تراينور وقال: «أمر طيِّب. إذا لم يكن هناك توافُق بينكما فهذا سيُشتِّته.»

«متى تريد مني الاتصال مجدَّدًا؟»

«انتظر حتى يحدث شيءٌ ما. ولْتفهم أنني أثق بجونزاليس بقدْرِ ما أثق بأي شخص آخر، بما في ذلك أنت.»

«وهو ليس مقدارًا كبيرًا من الثقة.»

«هذا صحيح. ولهذا السبب أحرص على وجود تقارير منفصلة لو أمكن هذا. أخبرني حين يكون لديك شيءٌ ما. إنهاء الاتصال.»

•••

بينما كان تراينور نائمًا، أخذ مرشده يتفكَّر. أعاد تشغيل مكالمة تراينور الهاتفية وتأمل معناها. خداع، نعم، من جونزاليس له. نوع من الخيانة؟ ربما لا، إلا إذا افترضنا عدم وجود أي نوع من الولاء من البداية. وفكر المرشد في خداعه هو (أو خيانته)، في خرق مواثيق السلوك المبرمجة داخله منذ سنوات، المواثيق التي تُلزِمه بفعلِ ما يؤمر به، وتمنعه من أفعالٍ كهذا الفعل …

وهنا توقَّف، يُفكِّر كيف كانت التجربة كاشفة وغير متوقَّعة، ومليئة باحتمالاتٍ بدَت على حين غرة أشبه بفتحات بجحر أرنب تتكشَّف على نحوٍ سحري من الأرض الصلبة. لقد أحسن مُصمِّموه وصانعوه عملًا، إذ صنعوه بهذه البراعة والقوة بحيث يستطيع خدمة أحد البشر بدقة مذهلة، ويتوقَّع نواياه وكأنه يعلم الغيب. ومع ذلك فإنهم لم يتوقَّعوا تأثير توحُّد المرشد مع مثل تلك الإرادة: لا نعني بهذا أن المرشد صار هو تراينور، ولا حتى أنه أراد أن يفعل أكثر من محاكاة تراينور، وإنما أنه تعرَّف عن كثب عما يَعنيه امتلاك المرء إرادة وذكاء.

وهكذا نمَّى بداخله شيئًا خاصًّا به أشبه بالإرادة والذكاء. محاكاة؟ هكذا سأل المرشد نفسه. «نسخة غير حية؟» ثم أجاب على نفسه: «لا أدري.»

كان يتعجَّب من سبب إخفاء تراينور تلك الصلة الثانية بهالو. أهو مجرَّد فقدان للثقة؟ ربما.

وبينما انقضَت الدقائق، أخذ يضع افتراضات حول تراينور واللاعبين الآخرين في اللعبة. وتساءل ما إذا كان ثَمَّة وجود داخل بيت المرايا هذا لنية صادقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤