الفصل الثاني

الكون

وقف جونزاليس مع ليزي في غرفة الانتظار، خارج الغرفة التي كانت تَستلقي فيها ديانا. كانت ليزي ترتدي بنطالًا من الألياف المقاومة للنيران، ابيضَّ لونُ أنسجتِه الخَشِنة، وتي-شيرتًا أبيض عديم الأكمام، وكانت تلفُّ وشاحًا أحمر حول عضدها الأيمن، ولم يكن جونزاليس يعلم سببًا لذلك. قال لها: «لقد راوَدَني حُلمٌ عجيب للغاية ليلة أمس.»

قالت: «أعلم هذا. أعلم بشأن أحد الأحلام على أيِّ حال؛ لقد تجسَّدتَ على هيئتي في أحد الأحلام، أو على الأقل في جزء منه، وتجسَّدتُ أنا على هيئتك. فكَّر في هذا بوصفه إحدى السمات العجيبة للبيئة.» استندَت على الجدار بينما تتحدَّث، وكان صوتها يفتقر إلى الحدة الساخرة المعتادة.

«ما الذي تَعنيه بحق الجحيم؟»

قالت: «لستُ متأكِّدة. ليس هناك مَن هو متأكِّد، لا بد أنَّ ألِف هي المسئولة، لكنها لن تَعترف بهذا، ولن تُخبرنا بكيفية حدوث هذه الأشياء.»

«هذا مُخيف بعض الشيء، ألا ترَين هذا؟ ما المفاجآت الأخرى التي قد تُخبئها؟»

ابتسمَت ابتسامة عريضة وقالت: «حسنًا، هذا هو المُمتع في الأمر، استِكشاف غير المتوقَّع، أليس كذلك؟ كيف كان شعورك وأنت امرأة يا جونزاليس؟ كيف شعرت وأنتِ في هيئتي؟» ومالت إلى الأمام مقتربة منه.

«لا أذكر.»

«انتبه جيدًا المرة التالية.»

«سأفعل، لو تكرر الأمر.»

«على الأرجح سيتكرَّر؛ فبمجرد أن تبدأ هذه الأمور في الحدوث فإنها تستمر. هيا، حان وقت إدخالك في البيضة. اتبعني.»

•••

كانت البيضة المنشطِرة تملأ غالبية مساحة الغرفة الصغيرة المدهونة جدرانها باللون الوردي، وفوقها على الجدار كان مُثبتًا مصفوفة من الأضواء وشاشات المراقبة. كانت قطعة الأثاث الوحيدة هي خزانة صغيرة من الصلب موضوعة أمام جدار جانبي.

قال تشارلي: «نحن لم نَطلُب مجيئك، لكنك هنا على أي حال، وسنستفيد من وجودك.» ثم أطلق سعال المدخنين المميز له؛ سعالًا خشنًا مليئًا بالبلغم، وقال: «إن النطاق التردُّدي لديانا مُحمَّل فوق طاقته؛ لذا لن يسعنا استخدامها من أجل إرساء الطوبوغرافية، وجيري يُعاني من مشكلاته الخاصة. إن الأشخاص التابعين لنا جداول أعمالهم مشغولة، وهذا يعني أنك أنت الشخص المنشود. سنَبني العالم حولك وحول جهاز «الميميكس» الخاص بك؛ إنه متَّصل بالفعل بالمنظومة.»

اقترب ليزي منه وقالت: حظًّا سعيدًا.» ثم قبَّلته قُبلة سريعة على وجنتِه وأضافت: «لا تقلق. أنت بين أصدقائك. وسأراك هناك.»

«ماذا تعنين؟»

«لقد قرَّرت الجمعية أن عليَّ المشاركة في هذا كله، ووافَقَ تشارلي؛ لذا تعيَّن على شوالتر أن تُوافق. ثَمَّة أطراف عديدة مُمثلة هنا، وبدا من غير الملائم ألا نشارك نحن. لكن لديَّ بعض الأمور التي أودُّ الاعتناء بها أولًا؛ لذا سأَغيب لبعض الوقت.»

ثم فتحت الباب وغادَرت. أشار تشارلي إلى البيضة. خلَع جونزاليس قميصِه وبنطاله وسرواله الداخلي وعلَّقها على أحد المشاجب بالخزانة، ثم خطا داخل البيضة واستلقَى على ظهره. تسلَّلت الأنابيب الشبيهة بالحبل السُّري نحوه، وارتدى قناع الوجه وتحقَّق أنه مغلَق بإحكام، وهو يشعر بقلقٍ غير مُعتاد؛ إذ لم يَسبق له قطُّ أن دخل في حالة اتصال عصبي من دون أن يضبط كيمياء مخه أولًا عن طريق العقاقير والصوم.

انغلَقَ نصف البيضة العُلوي، وبدأ سائل يَملأ البيضة. بعدها بدقائق، في الوقت الذي يُفترض فيه بدء السيناريو، بدا أنه اختفَى في حالة من الشلل. حاول أن يُحرِّك أحد أصابعه لكن بدا له أنه لا يَملك أي أصابع. أخذ يَستمع إلى صوت تدفُّق الدم إلى أذنيه، لكن لم يكن لديه أذن أو دم. لم يكن ثَمَّة وجود لاتجاهات مثل الأعلى أو الأسفل أو اليمين أو اليسار. استقبال الحِس العميق، الحاسة الدهليزية، الرؤية: كل الحواس التي يَستطيع الجسم من خلالها أن يُعرِّف نفسه كانت قد اختفَت. لم يتبقَّ شيء بخلاف نفسه الخائفة؛ كان هائمًا في اللامكان، دون رفقة أحد.

بمرور بعض الوقت (وقت قصير؟ طويل؟ يَستحيل معرفة ذلك) اكتشف، فيما وراء مشاعر الخوف والقلق، منطقة اهتمام استِثنائي غامض. نما شيءٌ ما هناك؛ حيث تركَّز انتباهُه، لم يَتجاوز كونه تكثيفًا للعدم، ثم ظهَرت شرارة، وتغيَّر كل شيء؛ فرغم أنه لا يزال يَفتقر إلى أي إدراك مادي مباشر في ذاته، فقد كان يعلم: «هناك شيءٌ ما.»

الآن في الظلام، أخذ ينتظر مجددًا.

شرارة تلو الأخرى، نبض إيقاعي من الشرارات … وتسبَّب إيقاع الحضور والغياب الخاص بها في خلق الزمن. تملَّكت جونزاليس مشاعر الضرورة الملحة، نفاد الصبر، الرغبة في الاستمرار. تجمَّعت الشرارات. سطعت واحدة فوق الأخرى، وظلَّت باقية؛ ومِن ثَمَّ خلقت المكان.

تبدَّدت كل مشاعر الضرورة الملحَّة والقلق، وكان جونزاليس الآن يشعر بالانبهار. توالت الشرارات بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، بالملايين، بالمليارات، بالتريليونات، بالجوجلات، بالجوجل بلكسات، وبجوجل بلكسات الجوجل بلكسات … كلها فوق أو داخل النقطة الوحيدة التي تحدَّد فيها المكان والزمن.

وبعد ذلك (بطبيعة الحال، ما فكر جونزاليس) انفجَرَت النقطة، وأخذت زهرة أولية من اللهب تتمدَّد كي تملأ مجال رؤيته. هل سيُشاهد الكون وهو يتطوَّر، والسُّدُم وهي تتشكَّل من الغازات، والنجوم وهي تخرج من رحم السُّدُم، والمجرَّات وهي تتألَّف من النجوم؟

كلا؛ فعندما انفتح جفنا عينيه فجأة، بدا أنَّ أمامه بُحيرة من المياه الزرقاء العميقة تُحيط بها أشجار دائمة الخضرة، مع سلسلة من القمم الغائمة على مُبعدة. استدار ورأى أنه كان يقف على منصة من الخشب الرمادي البالي بفعل تأثير الطقس، وكانت تطفو على براميل صدئة، تبرز داخل البحيرة.

كان ثَمَّة رجل يقف على الشاطئ، يُلوِّح بيده، وإلى جاره وقف الشكل الذي يُجسِّد ألِف، وقد بدا جسده الذهبي ورأسه ذو الألوان الفاقعة أكثر تألقًا تحت أشعة الشمس الساطعة. سار جونزاليس نحوهما.

وبينما كان يَقترب من الاثنين، رأى أن الرجل الواقف إلى جوار ألِف بدا أصغر عمرًا بكثير من أن يكون جيري تشابمان. قال جونزاليس: «مرحبًا.» ثم فكَّر في نفسه قائلًا: «حسنًا، ربما سمحَت له ألِف بأن يكون صغير السنِّ كما يشاء.» ثم نظر مجدَّدًا وأدرك أن ليس بإمكانه تحديد ما إذا كان هذا رجلًا أم امرأة؛ إذ لم يُنبئه أي شيء في ملامح ذلك الشخص بشيء عن هذا.

قال الشكل المُجسِّد لألِف: «مرحبًا.» فابتسم جونزاليس، وقد ارتبك للحظة بفعل مزيج الغرابة والسخف الذي يتَّسم به الموقف، ثم قال: «أهلًا.» بصوت مُختنِق قليلًا.

بدا الشخص الآخر خجولًا، وابتسم (أو ابتسمَت؟) ومد يده مصافحًا وقال: «مرحبًا.» صافحه جونزاليس وهو ينظر في تشكُّك إلى وجهه. ثم قال الشخص ذو النوع غير المحدَّد: «اسمي هاي ميكس.»

وبينما كان جونزاليس يَتعرَّف على الاسم، فكَّر: ماذا تعني ﺑ «اسمك»؟ وفكِّر أيضًا في أنه كان يتفهم سبب غياب العلامات الدالة على النوع.

قال الشكل المُجسِّد لألِف: «نعم، هذا هو جهاز «الميميكس»، وعليك أن تعتاد كونه مختلفًا عن جهاز «الميميكس» الخاص بك.» قلَّب جونزاليس بصرَه بينهما، وهو يتساءل عما يعنيه كل هذا وعما يُريدان.

سأل جونزاليس: «لكنك أنت جهاز «الميميكس» الخاص بي بالفعل، ألستَ كذلك؟»

قال هاي ميكس: «بلى.»

قال الشكل المُجسِّد لألِف: «ومع ذلك أقصد أن ما تراه يَتجاوز كونه «الميميكس الخاص بك». إنه في سبيله إلى اكِتشاف ماهيته الخاصة، وما يستطيع أن يكونه. هل يُمكنك أن تَسمح بهذا؟»

أومأ جونزاليس وقال: «بالتأكيد. غير أنَّني لا أعلم ماذا تتوقَّع مني.»

«فقط ألا تتدخَّل عمدًا في أي شيء. سأقوم أنا وهو بالباقي.»

قال جونزاليس: «ليس لديَّ اعتراض.»

قال الشكل المُجسِّد لألِف: «عظيم.» ثم مدَّ يدًا من الضوء مصافحًا جونزاليس، ثم تقدَّم نحوه وعانقه، بحيث صار عالم جونزاليس مليئًا بالضوء للحظة، ثم قال الشكل المُجسِّد لألِف: «مرحبًا بك.»

سأله جونزاليس: «ماذا سيحدث الآن؟»

قال هاي ميكس: «نحن بحاجة إلى الحديث. ثَمَّة أمور لم أُخبرك بها.»

قال جونزاليس: «إذا أردت إخباري بما تعتزم عمله فلا بأس في هذا، لكنك لست مجبَرًا على هذا. فأنت تعلم أنني أثق بك.» ثم فكَّر كم كان هذا غريبًا، وحقيقيًّا. لقد عمل هو وجهاز «الميميكس» الخاص به لأكثر من عشر سنوات معًا، وكان الجهاز يُؤدِّي دور كاتم الأسرار، والمُستشار، والطبيب، والمحامي، والخادم المتعدِّد المهام، والسكرتير الخاص، والكاتب، وقد رآه في كل حالاته المزاجية، ويعرف نقاط قوَّته وضعفه، ويُشاركه في الأفراح والأتراح. وفكر كم كان هذا الجهاز أمينًا ومخلصًا ومُراعيًا وصبورًا وحنونًا … وغير أناني، لدرجةٍ مُغايرة للبشر بطبيعة الحال، وكأنه صبي الكشافة المثالي، لكنه كذلك، كما تبيَّن، كان يَمتلك تعقيدات واحتياجات خاصة به. انتظر جونزاليس في ترقُّب ما كان يريد جهاز «الميميكس» قوله أيًّا كان.

قال هاي ميكس: «لبعض الوقت، كنتُ قادرًا على الظهور في فضاء الآلات على صورة بشَري. لكن قبل أن نأتيَ إلى هنا كنت أفعل هذا في الغالب حين أكون مع مُستشار تراينور. لقد تقابَلنا بضع مرات، وهو يتجسَّد على صورة شخصية تُدعى السيد جونز. المرة الأولى التي فعلنا فيها هذا — هذا ما قلناه لنفسَينا على أيِّ حال — كنا نريد أن نرى ما إذا كان بوسعنا إنتاج صور تجسيدية جديرة بالتصديق لبشر. لا أظنُّ أن أيًّا منا كان مُقنعًا؛ فقد اتسمنا بالخرق ولم نعرف كيف نتبادل التحيات، ولا الكيفية التي نتحرَّك بها بعضنا مع بعض وكيف نَجلس معًا ونبدأ محادثة.»

«لكنكما فعلتما كل هذه الأشياء.»

«نعم، ولكن مع البشر. لقد اكتشفتُ أنا والسيد جونز أننا كنا نَعتمد دائمًا عليهم كي يُرشدونا، لكن بمجرَّد أن بحثنا في ذاكرتنا وجدنا حالات عديدة كان فيها البشر أكثر حيرة مما كنا عليه، وتركونا نقودُ المحادثة. ومِن ثَمَّ فقد بدأنا هناك، ونظرنا في ذاكرتنا بحثًا عن الأشخاص وهم يتفاعلون بعضهم مع بعض، ويا للعجب، كان هناك الكثير مما لم ينتبه إليه أينا من قبل قط. شاهدنا تسجيلات عديدة لرئيسيات أخرى — خاصة الشمبانزي — وتعلمنا أمورًا كثيرة … آمل ألا تكون قد شعرت بالإساءة.»

ظل الصوت محايدًا لا تَدري أهو لرجل أم امرأة، كما كان خَجولًا. كان جونزاليس مفتونًا تمامًا، وكأنه أبٌ يَستمع إلى ابنه الصغير وهو يحكي قصة. وقال: «مُطلقًا. أي نوع من الأمور تعلمته؟»

«إنها رقصة معقَّدة يا جونزاليس، تلك الطريقة التي تُظهر بها الرئيسيات الاحترام أو تُعبِّر عن الثقة المتبادلة أو الصداقة أو العداء أو اللامبالاة؛ عن طريق الاقتراب والابتعاد بعضها عن بعض، والتلامُس، والنظر، والحديث … كان من الصعب للغاية علينا تعلُّم هذه الأشياء، لكننا تعلَّمنا معًا وتدربنا بعضنا مع بعض. وفي وقتٍ قريب للغاية، ظهرنا لمرات قليلة على الشبكة، وتقبَّلنا الجميع بوصفنا بشرًا، لكن في أغلب الأحيان كان التفاعُل يجري بيننا نحن فقط؛ فكل يوم كنا نَلتقي ونتحدَّث.»

سأله جونزاليس: «أيعلم تراينور بأي من هذا؟»

قال هاي ميكس: «آه، كلا. لم نُخبر أي شخص؛ فكما أوضح لي ألِف فقد كنا نخفي ما نفعله كالأطفال الصغار، ولم نقرَّ بعواقب ما كنا نعتزم فعله …»

نظر جونزاليس حوله. كان الشكل المُجسِّد لألِف قد اختفى من دون أن يلاحظ. وسأل هاي ميكس: «أي عواقب؟ هناك الكثير.»

«إننا نَمتلك النية والذكاء؛ ومِن ثَمَّ فنحن بشر.»

«نعم، أعتقد ذلك.»

بشرية الآلات: في نظر مُعظَم الناس حُسمَت هذه المسألة منذ عقود؛ خلال السنوات التي صارَت فيها الآلات الذكية شائعة. كانت الماكينات تُحاكي مئات الآلاف من الأشياء، من بينها الذكاء، لكنها كانت تَمتلك القدرة على محاكاة الشيء، وليس الشيء نفسه. ولنحو مائة عام تقريبًا سعى مُصمِّمُو الآلات إلى تحقيق ما أسموه الذكاء الاصطناعي، ومن رحم جهودهم هذه خرجت أجهزة «الميميكس»، وأجهزة المساعَدة الشخصية التي لا تكل، والتي تمتلك المعرفة ومدربة على إبداء الاحترام. وبطبيعة الحال كانت هناك روبوتات تَمتلك قدرات خاصة بها: الجَلَد والمثابرة والبراعة والقدرة على تحمُّل ظروف من شأنها أن تتسبَّب في إعاقة البشر أو قتلهم.

ومع ذلك فقد أخذ البشر يُدركون على نحوٍ مُتزايد أن ما يُسمى الذكاء الاصطناعي لم يكن كذلك ببساطة؛ فالذكاء، تلك العلاقة النهمة غير المثالية مع العالم — التي تتَّسم بالعمدية والعناد والاستعصاء على التنبؤ — بدت بعيدة عن المتناول كشأنها دائمًا، ومع مرور الأعوام بدَت بعيدة حتى عن متناوَل القدرات الافتراضية للآلات. لم تكن الآلات الذكية أشخاصًا من نوع جديد، بل كانت وسائط؛ قنوات معقَّدة ومثيرة للرغبات الإنسانية. ورغم إصرار الأدب الرخيص على معاملة الآلات الذكية وكأنها بشر، وإصرار الممثلين الكوميديِّين على إلقاء النكات حول هذا الأمر — على شاكلة «ذات مرة دخَل اثنان من الروبوتات إحدى الحانات، وقال أحدهما …» — حسنًا؛ فهذه في حقيقتِها لم تكن إلا تعبيرًا عن مخاوف ومُتناقضات موجودة منذ وقت طويل. في الوقت عينه، حتى اليابانيون بدا أنهم تجاوَزُوا هوَسَ بلدهم الذي امتدَّ لقرن كامل بالروبوتات.

غير أن جونزاليس كان يتلقَّى تقريرًا متأخرًا من الجبهة من شأنه أن يُعيد كتابة الحقائق البديهية المسلَّم بها في منتصَف القرن الثاني والعشرين حول طبيعة الذكاء الاصطناعي.

قال هاي ميكس: «آمل ألا يكون هذا مُزعجًا أكثر مما ينبغي. تقول ألِف إنه ليس مفترضًا بي محاوَلة التنبؤ بما سيحدث ومَنْ سأصير عليه، وتقول إن عليَّ ببساطة أن أَستكشِف مَن أكونه.»

«نصيحة حكيمة، تبدو كذلك … لأيٍّ منا.»

قال هاي ميكس: «عليَّ الذهاب. إنَّ وجودي هنا وحديثي معك يستنزفان كل قدراتي، ولدى ألِف عملٌ يجب عليَّ القيام به. سيكون جيري تشابمان هنا قريبًا.»

«حسنًا. سنتحدَّث باستفاضة أكثر في وقتٍ لاحق … من الممكن أن يكون هذا مثيرًا للاهتمام، حسب اعتقادي.»

«نعم، أعتقد هذا أيضًا. وأنا سعيد للغاية أنك لستَ مُتضايقًا.»

«مِن ماذا؟»

«أظنها طبيعتي التي كشفتُ عنها حديثًا. كلا، هذا ليس صحيحًا؛ بل لأنني كذبت عليك، لأنني لم أخبرك بحقيقة ما أنا عليه وما أنا في سبيلي إلى أن أكون عليه.»

«لقد كذبت على نفسك أيضًا، أليس كذلك؟ أليس هذا ما قلته؟»

«بلى، هذا صحيح.»

«حسنًا إذن، ما مقدار الحقيقة الذي يُمكن أن أتوقعه؟»

•••

جلس جونزاليس وجيري تشابمان على طرف منصَّة عائمة، يُشاهِدان البط وهو يَلعب في المياه التي تَنعكِس عليها أشعة الشمس. كان جيري رجلًا في مُنتصَف العمر، طويلًا ونحيلًا، له شعر أشقر آخذ في الشيب، وجِلد خشن بفعل الشمس والرياح. كان قد وجد جونزاليس جالسًا تحت أشعة الشمس، وقدَّم كلٌّ منهما نفسه للآخر. وقد شعرا بألفة فورية، هذان الرجلان اللذان غيَّر العمل شكل حياتهما، يشعران كما لو كانا في بيتهما وسط بحر المعلومات هذا.

قال جيري: «لا أذكر حقًّا أي شيء بعد أن أُصبت بالمرض الشديد. محارٌ نيِّئ يا رجل، بمجرد أن بدأت تناول أول واحدة، علمت أنها فاسدة، ونحَّيتها جانبًا. لكن كان الأوان قد فات: بادئ ذي بدء، شعرت بألم شديد في قلبي لم يَسبِق لي أن شعرت بمثله من قبل … لا أذكر أي شيء بعد ذلك. من الواضح أن الأشخاص الذين كنتُ برفقتهم طلبوا الإسعاف، لكن كان أول ما أدركه بعد ذلك هو خروجي من ظلام عميق، وديانا تتحدَّث إليَّ.»

«لم أكن أعتقد أنه كان لها دور في تلك المرحلة.»

ابتسم جيري وقال: «لم يكن لها دور بالفعل. لقد نقلُوني من الأرض إلى هنا، وأنا متصل بأجهزة الإعاشة. لقد كانت ألِف، وقد اتخذت شكل شخص مألوف لديَّ، هكذا أخبرتني لاحقًا. كان هذا سابقًا على وضع الخطة، حين ظنَّ الجميع أنني سأموت عما قريب. على أيِّ حال، حتى يومنا هذا ما برحتُ أدخل وأخرج من حالةٍ لا أستطيع وصفها بالوعي، بينما شرحت لي ألِف ما يَجري التخطيط له وأنني أستطيع العيش هنا، إن أردت … أو يمكنني أن أموت.» ثم توقَّف لبرهة. وعلى صفحة الماء، طارت إحدى البطات نحو أخرى مُطلَقة صيحات غضب. ثم قال: «اخترت الحياة، لكنني لم أفكر حقًّا في الأمر، لم أَستطِع التفكير بهذا القدْر من الوضوح. ربما لم يكن لديَّ أي خيار على أي حال.»

ثمة شيء في صوت جيري بث الرعدة في أوصالي. سألته: «ماذا تعني؟»

«ربما كان اختياري محض وهم. مثل هذا» ثم مدَّ ذراعَيه مشيرًا إلى السماء والماء وأردف قائلًا: «الأمر مُقلِق للغاية؛ فكل شيء يبدو واقعيًّا، راسخًا، لكنه ليس كذلك بطبيعة الحال، ليس على حدِّ علمي، فأنت محض خيال، شأنك في ذلك شأن كل شخص آخر ينضم إلينا، وإليَّ … ربما أنا جزء آخر من الوهم، ربما كل حياتي، وذكرياتي، زائفة.» ثم ضحك، وخُيِّلَ إلى جونزاليس أن صوت ضحكته كان مريرًا لكنه لم يكن أشد جنونًا مما يستدعيه الموقف.

•••

جلس جونزاليس وجيري في الغرفة الرئيسية لكوخٍ ذي سقف مائل مصنوع من الخشب الأحمر وخشب الصنوبر. كانت النوافذ تغطي أحد جوانب الكوخ، وتُطل على شرفة تُفضي إلى بحيرة تقع على مسافة مائة قدم أو نحو ذلك إلى الأسفل. جلس جونزاليس على مقعد وثير مُغطًّى بملاءة رثَّة من قماش الشنيل، بينما استلقى جيري على أريكة جلدية مُتدلية.

في الخارج، كان المطر يتساقَط على نحوٍ مُتواصل. وفي وقت الغسق انخفضت درجة الحرارة، وبدأ المطر في الهطول بينما كان الاثنان يصعدان الطريق الترابي الواصل بين البحيرة والكوخ. وقد قال جيري: «يا إلهي! إن ألِف تُفرِط في الواقعية، ألا تعتقد هذا؟»

لم يكن جونزاليس يعلم تحديدًا ما يُفترَض به أن يعتقده؛ فمن لحظاته الأولى هنا كان يشعر بتنافُر معرفي حاد؛ فالواقعية الشديدة التي يتَّسم بها العرْض الذي تُقدِّمه البيضة المحايدة مفهومة تمامًا، لكن أي فضاء مشترك مثل هذا من المفترض أن يُبيِّن فجواتها وأخطاءها، لكن هذا لم يحدث. كان يكاد يشعر بالمحاكاة وهي تزداد ثراءً واكتمالًا مع كل لحظة يقضيها هنا.

قال جيري وهو ينهض من الأريكة ويسير نحو النافذة: «سُحقًا! أين ديانا؟»

قال جونزاليس: «ستكون هنا عما قريب. أخبرني تشارلي أن اندماجها في هذه البيئة سيستغرق بعض الوقت.»

طرق أحدهم الباب، فانفتح على مصراعَيه، وخطت ديانا إلى الداخل وقالت: «مرحبًا.» ثم تبعها الشكل المُجسِّد لألِف وجهاز «الميميكس» (هاي ميكس).

•••

جلست ديانا وجيري مُتجاورَين على الأريكة، وقد أراحت يدها على ركبته بينما وضع هو يده على يدها. وفجأة تذكَّر جونزاليس حُلمه، ذلك الخاص بلقاء مع حبيب عابر بعد غياب طويل، وعلم أنه هو والآخرون محض دخلاء هنا. نهض من المقعد الوثير وقال: «أعتقد أنني سأتمشَّى قليلًا. هل يرغب أحد في الانضمام إليَّ؟»

قال الشكل المجسد لألِف: «كلا. لديَّ أنا وهاي ميكس بعض العمل لنؤديه.»

وقف هاي ميكس وقال لديانا وجيري: «كان من الجميل مقابلتكما.» ثم لوَّح لجونزاليس وقال: «أراك غدًا.»

«بالتأكيد.» هكذا قال جونزاليس، وقد لفت نظره الاختلاف بين أن يبدو الشخص موجودًا هنا وأن يكون موجودًا هنا بالفعل.

غادر الشكل المجسِّد لألِف هو وهاي ميكس، وقالت ديانا: «ليس عليك الرحيل يا جونزاليس.»

قال جونزاليس: «لا أمانع هذا. الجو لطيف بالخارج، وسأكون عند البحيرة لو احتجتُما لي. أراكما لاحقًا.»

كان الليل دافئًا مجددًا، وقد تبدَّدت السُّحب، وأضاء البدر طريق جونزاليس بينما كان يجتاز الطريق الطويل المُفضي إلى البحيرة بالأسفل. كان خشب الشرفة القديم قد اكتسى بلون فضي، وامتد طريقٌ صنعَه ضوء القمر من منتصَف البحيرة إلى طرف الشرفة. سار جونزاليس على الشرفة التي تُصدِر صريرًا ثم جلس على طرفها، ثم خلع حذاءه وجلس ودلَّى قدمَيه في المياه التي يضيئها ضوء القمر.

ولاحقًا، استلقى على ظهره وأخذ يحدق في سماء الليل. كانت سماء نصف الكرة الشمالي المألوفة، لكن فكَّر جونزاليس أنها ليس من المفترض أن تكون كذلك، في واقع الأمر، بل ينبغي أن يكون هناك نجوم جديدة، بروج جديدة.

•••

جلس توشي، وحيدًا في الظلام، في وضعية اللوتس الكاملة على مقعد منخفِض إلى جوار أريكة ديانا هايوود. كان هناك منذ ساعات، يقف أحيانًا، ثم يسير في جولة عشوائية بين غرف الرعاية المركزة العديدة.

وفي أثناء جلوسه وسيره، كان ثَمَّة مفارقة منطقية تشغل تفكيره. لقد كانت ديانا «في الواقع» متصلة بألِف عن طريق كابلات عصبية عتيقة الطراز، وكان جونزاليس «في الواقع» مُستلقيًا داخل بيضته، بينما كان جيري تشابمان «في الواقع» ذا جسدٍ محطَّم؛ إذ أتلفَه السُّم العصبي على نحوٍ قاتل وكان تدخُّل ألِف وحدَه هو ما يبقيه على قيد الحياة. ومع ذلك فقد كانت ديانا وجونزاليس وجيري كلهم «في الواقع»، وفي الوقت عينه، في مكانٍ آخرَ تمامًا … في مكانٍ ما داخل فضاءات ألِف التي لا حصر لها؛ حيث بدت الحقيقة قابلة للتطويع بصورةٍ لا نهائية؛ كانوا يعيشون هناك؛ حيث قد يكون الوقت ليلًا أو نهارًا، والجو باردًا أو حارًّا … ما الذي يُمكن تبيُّنه من هذا «في الواقع»؟

سمع توشي صوت صافرات إنذار خافتة ورأى نمطًا من الأضواء الحمراء المتراقِصة على اللوحة الموجودة بالغرفة. فرَد ساقَيه وتحرَّك مسرعًا نحو اللوحة، وهناك فهم معنى هذه الأضواء: كانت وصلة ديانا البدائية تنقل البيانات بمعدَّلات تتجاوز ما هو ممكن.

دخل تشارلي الغرفة بعدها بدقائق ووقف إلى جوار توشي، وشاهد كلاهما الزيادة الثابتة في كثافة وسرعة نقل المعلومات.

سأله توشي: «أينبغي علينا فعلُ شيء؟»

قال تشارلي: «ماذا؟ إن ألِف تراقب كل هذا، وهي وحدَها تعلم ما يدور.» صدَرَ عن كرة احتواء الدخان صوتٌ خافت بينما أخذ تشارلي يُدخن سيجارته بسرعة.

دلفت ليزي من الباب وقالت: «ما الذي يَحدُث بحق الجحيم؟»

نظر توشي وتشارلي إليها نظرة خاوية من التعبير.

قالت ليزي جوردان: «سأَدخُل. سأحصل على قسطٍ من النوم ثم أدخل في الصباح. يكفي هذا.» ثم أشارت إلى لوحة المراقبة التي كانت تُضيء عليها أضواء خضراء وصفراء وحمراء متقطعة.

سألها تشارلي: «لماذا تُخاطرين بنفسك؟»

سألت ليزي: «ماذا تظنُّ يا توشي؟» جلس توشي يشاهد ديانا مجددًا، وهو يضع قدميه على الأرض ويدَيه في حجره.

قال توشي: «افعلي ما شئتِ. أنت تَثقِين في ألِف، أليس كذلك؟»

قالت ليزي: «بلى.»

قال تشارلي: «ليست ألِف المشكلة.» وكان يسير في دوائر داخل الغرفة الصغيرة المزدحِمة، وهو يُحرِّك رأسه وكتفَيه لأعلى ولأسفل سريعًا خلال سيره.

سألت ليزي: «هلا توقَّفت عن هذا بحقِّ الجحيم؟»

قال تشارلي: «آسف.» ووقَفَ يَنظر إليها، وأضاف: «إنها ليسَت ألِف، بل كل هؤلاء الأشخاص، وكل هذه الأشياء.» وأشار إلى الأريكة التي تَستلقي عليها ديانا، وحرَّك ذراعيه في حركةٍ مبهمة خلف رأسه وقال: «أشياء ولَّى زمنها.»

قالت ليزي: «لكنني لستُ كذلك. أنا لا أنتمي إلى عصرٍ ولَّى وانقضى، بل أنا ابنة الحاضر يا عزيزي، بكلِّ ما تحملُه الكلمة من معنًى.» ثم ابتسمَت وأردفت: «سأكون بخير.»

قال تشارلي: «بالتأكيد.» ثم استدار في اتجاه توشي وقال: «هل ستبقى هنا؟»

قال توشي: «نعم.» غادر تشارلي وليزي، وواصَل توشي تأمُّله في كينونة الذات وصورها المتعدِّدة.

•••

شعرت ديانا بغصة في حَلقها؛ إذ تصاعَدَ داخلها خليط من السعادة والحزن — كم كان عجيبًا ومريعًا ورائعًا أن تستعيد شخصًا أحبَّتْه هنا — كان مكانًا لا وجود له، مكانًا ما، وكل مكان في الوقت عينُه. جلس جيري على ركبته على الفراش المقابل لها في الغرفة الصغيرة التي يُنيرها ضوء القمر. لقد مرَّت سنوات منذ أن كانا حبيبين، لكن حين لمس صدرها وضمَّها إليه، تذكَّر جسدُها جسده، وتبددت السنوات وكل شيء تخلَّلها. كانت تَبكي حينها، ومالت بجسدها ناحيته وقبَّلت عينيه ووجنتيه وشفتَيه، وهي تَمسح دموعها في وجهه، إلى أن شعرت بشيءٍ يتحرر داخلهما. بعد ذلك استلقت على ظهرها وفتحت ذراعيها وساقيها من أجله.

تحدَّثا معًا في وقتٍ لاحق، وشاهدت ديانا ضوء القمر وهو يَنعكِس على جسدَيهما. كانت مُستكينة على صدره، واضعة ذقنها في الفراغ الموجود أسفل فكِّه، وتتحدَّث وفمها مدفون في جسده، وكأنما تُرسل رسائل عبْر عظامه.

وحتى مع انقضاء اللحظات، شعرت بنفسها تجمعها في ذكرى، وهي واعية لقلَّة تلك اللحظات التي تجمعُهما معًا …

أحيانًا كان صوت ضحكهما يتردَّد في الغرفة، وكان الابتهاج يكسو صوتَيهما وقد صارت ذكرياتهما المشتركة مناسَبات للسعادة الحالية. وفي أوقات أخرى كانا يَستلقيان في صمت، وقد أسكتتهما استعادة الذكريات أو التفكير في الاحتمالات المُقلقة التي يحملها المستقبل.

وفي أوقاتٍ أخرى، كان أحدهما يُقدِّم البادرة المتردِّدة الأولى، فيلمس الآخر بِنية واضحة، ويجد استجابة فورية تقريبًا؛ لأن كلًّا منهما كان لا يزال متعطشًا للآخر، وكلاهما يتذكَّر كيف كانت الرغبة الجنسية تَستعِر بينهما، وكلاهما كان خارجًا من حياة تركته متعطشًا ومتلهفًا للآخر.

بعد ذلك سارا تحت ضوء القمر، ذي الشكل واللون المتغيِّرين، واكتسى جسداهما باللون الأبيض الشاحب والفضِّي والرمادي والكحلي الداكن، محبوبان سابقان تحت ضوء قمر غير حقيقي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤