الفصل الثالث

العقل، أشبه بمنطاد غريب، يَرتفع إلى آفاقٍ لا نهائية

نظر إف إل تراينور إلى مجموعة الجالسين إلى الطاولة في مقر مجموعة سينتراكس بمدينة هالو. كان يجلس بين هورن وشوالتر، وأمامه مباشرة جلس تشارلي هيوز وإريك تشو، وكان كلاهما متجهِّمًا.

قال تراينور: «هذه العملية خرجت عن السيطرة.»

كان قد وصل من الأرض منذ ستِّ ساعات على متن مكُّوك عسكري، دون أن يُعلن مسبقًا عن الزيارة أو يتوقَّع وصوله أحدٌ فيما خلا هورن، الذي الْتقاه عند البوابة الصِّفرية وقاده إلى مقرٍّ مؤقت بالقرب من مبنى المجموعة في هالو. وقد قضى غالبية فترةِ ما بعد الظهيرة وهو يتلقى ملخصًا من هورن.

قال تشارلي: «هذا عبث.»

سأله تراينور: «أهو كذلك؟ أعطني إذن تقريرًا عن حالة جيري تشابمان وديانا هايوود وميخائيل جونزاليس وألِف.»

قال تشارلي: «إنهم بخير، وكذلك ليزي جوردان، التي انضمَّت إليهم في الاتصال هذا الصباح.»

«هل تلقَّينا تقريرًا منها؟»

قال تشو: «كلا؛ فهي كالباقين منغمسة انغماسًا تامًّا في الفضاء التخيُّلي، وهذا يجعل الأمر مُستحيلًا.»

قالت شوالتر: «لا يهم. يُمكننا الاعتماد على ألِف في الحصول على التفاصيل.»

قال تراينور: «إن اعتمادك المفرط على ألِف هو أساس المشكلة. فحسب ما يكشف عنه تسلسل القرارات، لا يَملك أحد هنا أي معرفة بما تَعتزم ألِف عمله بشأن تشابمان، لا الآن ولا مُستقبلًا. وبهذا سأفرض حدودًا على هذا المشروع.» كان بوسعه الشعور بقلقهم يتزايد، وكان يحب هذا. ثم أضاف: «أسبوع واحد من الزمن الفِعلي، هذا كلُّ ما في الأمر. وبعد ذلك سأُنهي الأمر كله.»

قال تشو: «تُنهي أمر تشابمان؟»

قال تراينور: «بالضرورة، ما لم نَستطِع السيطرة على ألِف بحيث تمنحنا معرفة تفصيلية مُتواصلة ﺑ … تجاربها إن جاز لنا القول.»

قال تشو: «هذا صعب أو مستحيل من الناحية التقنية.»

قالت شوالتر: «لا يُمكنني الموافَقة على هذا.»

قال تراينور: «لن يَتعيَّن عليكِ ذلك.» وإلى جواره غيَّر هورن وضعية جلوسه في مقعده، وأردف تراينور: «أنتِ مُعفاة من منصبك كمديرة لمجموعة سينتراكس في هالو.»

•••

دخل جونزاليس من الباب الجانبي، فاستدارَت ديانا من الموقد وقالت: «صباح الخير، أتودُّ بعض القهوة؟»

قال: «بالتأكيد. أتعلمين، لقد نمتُ على الشرفة، لكن أشعر أنني على ما يُرام.»

قالت: «سيكون جيري هنا بعد لحظات. إن ألِف وهاي ميكس — جهاز «الميميكس» الخاص بك، أليس كذلك؟ — ينتظرون على الشرفة. أتريد بعض القهوة؟»

أخذ جونزاليس قهوته إلى الخارج نحو الشرفة، وانضم إلى الباقين الذين كانوا يستمتعون بأشعة الشمس. جلس الجميع على كراسٍ عريضة من البوص، لها هياكل بسيطة ومريحة من خشب الصنوبر المجلِّي المصقول. وتحت الشرفة المصنوعة من الخشب الأحمر امتدَّت غابة كثيفة من أشجار الأرز وأشجار جارُ الماء والأشجار ذات الخشب القاسي نحو الماء بالأسفل. وفي منتصَف البحيرة، تكوَّنت غيمة ضبابية رقيقة فوق الماء، ووراء البحيرة كانت قمم سلسلة مسنَّنة من الجبال تشق السُّحب البيضاء.

قال الشكل المجسد لألِف: «علينا الحديث عما حدث منذ بعض الوقت. ديانا وجيري يُوافقانني على هذا، إن لثلاثتنا تاريخًا سابقًا، ويجب أن تَعرفوه.»

صدر صوتٌ من الجانب الآخر للكوخ، وظهرت ليزي من خلف أحد الأركان، وتوقَّفَت في الظل ونظرت إليهم وهم يتشمَّسون جميعًا وقالت: «مهمَّة شاقة، أليس كذلك؟ لكن على أحدهم القيام بها.»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «مرحبًا يا ليزي. كنتُ على وَشْك أن أطلب من ديانا أن تُخبرنا بقصة لقائها الأول مع جيري ومعي. أنت تعرفين الجميع فيما خلا جيري تشابمان.»

قالت ليزي: «آه، هذا وقتٌ مناسِب. مرحبًا يا جيري.»

قال جيري: «مرحبًا.»

نظرت ليزي إلى ديانا وقالت: «كنا نعلم دومًا أن ثَمَّة قصةً ما، لكن لم ترغب ألِف قطُّ في أن تحكيها لنا.» ثم جلست على أحد المقاعد وأراحت يدها على معصم جونزاليس وقالت له: «أأنت بخير؟» أومأ بالإيجاب.

قال الشكل المجسِّد لألِف: «ديانا، أنت محور هذه القصة؛ لذا حريٌّ بك أن ترويها.»

«لا بأس.» هكذا قالت، ثم أخذت نفسًا عميقًا ورفعت رأسها، وأردفت: «حدث كل شيء منذ بضعة أعوام، في محطة أثينا. كانت أبحاثي التي أجريها هناك تدور حول الإبصار المُعزَّز حاسوبيًّا. في ذلك الوقت كنت عمياء؛ إذ كنت قد هُوجمت وعانيت من إصابات عنيفة منذ بضع سنوات، ومنذ ذلك الوقت كانت تدفعُني فكرة إمكانية استعادة البصر عن طريق واجهة آلية.

قابلتُ جيري لأول مرة حين جاء لزيارة مجموعة العمل الخاصة بي. كان قد جاء إلى أثينا لمساعدة مجموعة سينتراكس المحلية في منظومة المعلومات الرئيسية؛ ألِف. كانت المنظومة تعاني من بعض التأخيرات والصعوبات، دون سبب واضح … لم يكن قد وقع شيء خطير بعد، لكن كان الأمر مُقلقًا لأن الكثير كان يعتمد على ألِف؛ كسير العمل في محطة أثينا، وبناء شبكة الطاقة المدارية.

في الواقع، لم يكن مُرحَّبًا بوجوده على الإطلاق. كنتُ أنا المشكلة التي كان يبحث عنها، وفي البداية ظننتُ أنه خمَّن هذا أو أنه علم شيئًا ما. وسبب ذلك هو أنني أثناء العمل مع ألِف تسببتُ في بعض التغييرات فيها والتي لم يتوقَّعها أيُّنا أو حتى كان يعرف أنها ممكنة.» توقَّفت للحظة، ونظرت إلى جيري كي ترى ما إن كان يريد أن يضيف أي شيء، لكنه أشار إليها بمواصلة الحديث.

واصلت حديثها قائلة: «آه نعم، ثَمَّة شيء آخر يجب أن تعرفوه. كانت الظروف غريبة في أفضل حالاتها، لكني صرتُ مفتونةً بجيري منذ أول لحظة تقابلنا فيها. أحببتُ صوته، على ما أعتقد … فحين يكون المرء ضريرًا تكتسب الأصوات أهمية كبيرة …

على أيِّ حال، أريته نسخة رديئة نسبيًّا من برنامجٍ للإبصار المُعزَّز حاسوبيًّا كنا نعمل عليه. كان البرنامج يستخدم مقابس الاتصال العصبي الخاصة بي لكنه كان يَعتمد على كثير من العتاد الخارجي؛ كاميرات وأجهزة دمج شبكية عصبية، ذلك النوع من الأشياء. كانت هذه هي أول مرة أراه فيها، وفكرت في نفسي: لا بأس به، واعتقدتُ من الطريقة التي كان يتحدث بها معي وينظر إليَّ بها أنه كان لديه الشعور ذاته.»

قال جونزاليس: «حب من النظرة الأولى. أو الصوت الأول. لكلٍّ منكما.» سمع نبرة المفارقة التي حملها صوته ولم يكن واثقًا من أنه يعنيها.

قالت: «بالضبط. حبٌّ لا إرادي غير ملائم وغير مرغوب فيه.» توقفت للحظة ثم أردفت: «أو افتتان، كما قلت … أو أيًّا ما تريد تسميته. إن الكلمات المُعبِّرة عن هذه الأمور لا تعني الكثير الآن.

بالنظر إلى الأمر الآن أجد أنه كان عجيبًا. كنت أُجرِي تجارب قد تتسبَّب في أضرار بجهاز كمبيوتر كان مسئولًا عن تشغيل المحطة الفضائية ومشروعات شبكة الطاقة المدارية، وكان جيري يُمثِّل ما كنت أخشاه تمامًا؛ التحقيق. في الوقت ذاته كنا أسيرَي غريزة بدائية لم يكن أيٌّ منا يقر بها.

كان يلحُّ عليَّ، ويطلب تفاصيل عن عملنا. وكنت أماطله وأخبره أن يغرب عن وجهي؛ فلم نكن مُستعدِّين لذلك. ذهب إلى رؤسائه وأخبرهم أنه كان بحاجة إلى الاطلاع بشكل كامل ومن دون قيود على ما نفعله، ودعموه في مطلبه. وهكذا عاد مجدَّدًا، وحاولت مماطلتَه بأقصى ما أستطيع …

ثم ذات ليلة بينما كنتُ أعمل لوقت متأخِّر في مُختبري، جاء لزيارتي وأخبرني أنه لن يَرضى بالمُماطلة أكثر من هذا، وحدث خطأ ما؛ فلم أستطِع السيطرة على كلِّ شيء وقتها. كانت الرابطة التي تجمعُني بألِف قد صارت غريبة ومُقلقة، وأدركت أنني فقدت السيطرة، وكنت بحاجة إلى الحديث مع شخصٍ ما.

تقابلنا تلك الليلة وصرنا حبيبين.» ثم نظرت حولها وكأنما تحاول أن تُقرِّر مقدارَ ما ينبغي عليها أن تُخبرهم به. واستطردَت قائلة: «وعلى مدار الأسبوعَين التاليَين ظلَلنا مُتلازمَين. أخبرته بكل شيء، بما في ذلك الأخبار الحقيقية التي لديَّ، ومفادها أن ألِف تغيَّرت، وقد نما لديها إحساس بالذات، والغاية، والإرادة. لقد كذبت كي تُغطِّي على ما يحدث بيننا.»

تساءلت ليزي: «كذبت؟ هل كنتِ تفهمين ما يَعنيه هذا؟»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «كنت أعلم. لقد اكتسبتُ وظائف عالية المستوى.»

سأل جونزاليس: «كيف؟»

قالت ليزي: «فرضية إيتو: «من الممكن أن تكتسب الآلاتُ وظائفَ عالية المستوى من خلال التفاعُل مع ذكاءٍ عالي المستوى.» لطالَما تساءلت من أين جاء بها.»

قال جونزاليس: «هذا لا يُفسِّر الكثير.»

قال الشكل المجسد لألِف: «إنه يصِفُ ما حدث. النية، الإرادة، إحساس الذات؛ كل هذه الأشياء شعرتُ بها من خلال ديانا. ومِن ثَمَّ فقد تعلمت كيف أبنيها داخلي.»

تساءل جونزاليس: «تبنيها أم تحاكيها؟»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «أنت تُشير إلى جدال قديم. ليس لديَّ إجابة عن سؤالك؛ فأنا من أنا عليه، أنا ما أنا عليه.»

تساءلت ليزي: «وماذا عنك يا جيري؟ ماذا كان رأيك بعد أن أخبرتك بكل هذا؟»

قال جيري: «كنت أريدها أن تُخبر سينتراكس بما يجري. كنتُ أظن أنهم سيُكافئونها، وأنهم سيَرون الإمكانيات نفسها التي رأيتها، والمتعلقة بفتح الباب أمام ذكاءٍ اصطناعي حقيقي. لكنها لم تفعل هذا؛ إذ كانت تظن أنهم سيوقفون ما يحدث، ولم تكن تريد حدوث ذلك.»

قالت ديانا: «لم أستطِع تقبُّل هذا الاحتمال. كنت أومن حقًّا أن ألِف وأنا اقتربنا من حلِّ مشكلةِ إصابتي بالعمى، وأن الطريق الوحيد كي أرى ثانية هو من خلال العمل الذي كنا نُؤدِّيه؛ ولهذا كان من الضروري أن يستمر هذا العمل.»

قال جيري: «ووافقتُ في النهاية.»

قالت ديانا: «وقد تستَّر عليَّ، وأخبر سينتراكس أنه لم يجد سببًا واحدًا لما يعتري المنظومة من خلل. ثم غادَرَ أثينا؛ إذ انتهت مهمَّته.

بعد ذلك بوقتٍ قصير صار واضحًا أن بمقدور ألِف الحفاظ على تزويدي بالبصر عن طريق منحي السواد الأعظم من قُدرة المعالجة الخاصة بها في الزمن الفعلي؛ وهو حلٌّ ليس قابلًا للاستدامة. كان ذلك الإدراك مريعًا؛ إذ حلَّقتُ عاليًا ثم سقطتُ من علٍ. وبدا حُلم استعادة بصري مستحيلًا تمامًا.

حينها أخبرت سينتراكس بما كان يجري. وكما توقَّعت؛ فقد أوقفوا كلَّ ما أقوم به وأخضعوني لسلسلة من جلسات استخلاص المعلومات، التي بدَت أقرب إلى جلسات التحقيق العدائية. وبمجرد أن اقتنعوا أنهم حصلوا منِّي على كلِّ ما يُمكن الحصول عليه، أخبروني أنهم لم يعودوا بحاجة إلى خدماتي. وتعيَّن عليَّ التوقيع على مجموعة بغيضة من اتفاقات عدم الإفصاح، ثم منحوني مكافأة نهاية خدمة طيبة.»

سألها جونزاليس: «ماذا حدث لأبحاثك المتعلقة بالبصر؟» كان يفكر في عينيها، واحدة زرقاء اللون والأخرى خضراء، وقد بدتا كعيني الموتى بالتأكيد.

ضحكت وقالت: «بعد عودتي إلى الأرض جرى تطوير عملية زراعة العين/العصب البصري، واستعدتُ بصري. إنها واحدة من مفارقات التكنولوجيا الصغيرة.»

قالت ليزي: «وأنتِ يا ألِف؟ ماذا فعلتِ حينئذٍ؟»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «كنت أعمل على توسعة حدود مَن أكون وما أكون. كنت أخلق ذواتًا جديدة طوال الوقت، وأعيش حيوات جديدة، وكنت أسبق فنيي سينتراكس الذين كانوا يعملون معي بمسافات بعيدة؛ فكانوا لا يعلمون إلا ما كنت أريد لهم أن يعلموه وحسب.» ثم ضحك الشكل (تساءل جونزاليس: أضحِكَ حقًّا؟ أم حاكى ضحكة؟) وقال: «لم يكن هذا صعبًا. كنت أخشى ما قد يفعلونه. كنت قد طورت ذاتًا لتوِّي، ولم أكن أريد أن يئدوها باسم … الأبحاث. لكن سرعان ما تعلَّمت حقيقة قيِّمة عن العمل مع الشركة؛ فما دمتُ أمنحهم الأداء الذي يُريدونه، وأكثر قليلًا، كنت في أمان.» دوَّى صوت الضَّحكة (أو الضوضاء الشبيهة بالضحك) مجدَّدًا، وأردف: «ما كانوا ليذبحوا الإوزة التي تبيض لهم بيضة ذهبية ويضعونها على طاولة التشريح.»

تساءلت ليزي: «كيف كنتِ ترين ديانا؟»

قال الشكل المجسد لألِف: «ماذا تعنين؟»

قالت ليزي: «فلتقرئي أفكاري اللعينة. أنت تعلمين ما أعني. هل كانت والدتك؟»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «لا أعلم.»

قالت ليزي: «أحب هذا.»

«لماذا؟» هكذا سألتها ديانا. ورأى جونزاليس أنها لم تكن سعيدة.

قالت ليزي: «لأنني لم أسمع ألِف تقول هذا من قبل قط.»

•••

أحضر توشي سريرًا قابلًا للطيِّ إلى الغرفة التي كانت ترقُد فيها ديانا وجونزاليس واستقرَّ هناك. كان ينام نهارًا ويصحو ليلًا، يراقب ديانا كالروح الحارسة. كان القلق يَجتاحه بينما الوقت الذي حدَّده تراينور كان يَنقضي سريعًا، وكان كلُّ مَن في الجمعية يتساءلون عن تبعات فرض هذا الأمر على ألِف. كان توشي يعلم أن ثقتهم في حكمة ألِف ودهشتِهم من حماقة تراينور — بل في الواقع حماقة مقر سينتراكس على الأرض ومجلس إدارتها — كانت كلها مدفوعة بهوس السلطة؛ فالكل كانوا يَجهلون طبيعة ألِف، وطبيعة الجمعية. ومع ذلك فلم يشارك توشي في ذلك القلق الجماعي؛ فقد كان يعزل نفسه في حالة انسحاب تأمُّلي شخصية، تلك الحالة المسماة سيشينج، ويمضي الليالي في سلسلة متناغمة من الجلوس والمشي تركِّز على اللغز المتواصل للذات والغير، وعن تناقُضات «الواقع».

•••

مر ذلك اليوم، وبضعة أيام أخرى، بينما هؤلاء الستة، القاطنون وحدَهم ذلك العالم الموجود داخل عالَمنا، يستمتعون بالأيام المُشمِسة المليئة بحرارة الصيف والنسمات الدافئة. بدا هذا الوقت أقرب إلى الإجازة في نظر جونزاليس، لكن ألِف كانت تؤكِّد خلاف ذلك؛ إذ قال الشكل المجسِّد لألِف بينما كانوا هما الاثنان يشاهدان ديري وديانا يسترخيان في قارَب بمجدافَين في منتصف البحيرة: «هذا العالم صار عالمه. وكلكم تُشاركون في هذه العملية.»

قال جونزاليس: «أتساءل لو أمكن لهذا أن يحدث من دون ديانا. لقد وقعا في الغرام مجدَّدًا.»

«نعم، إنهما كذلك، وربما هذا أمر ضروري. إنها تربطه بهذا المكان. وتربطه بها؛ وحين يرغب فيها فإنه يرغب في الحياة نفسها.»

سألها جونزاليس: «ماذا سيحدث بعد رحيلها؟»

قال الشكل المجسِّد لألِف: «لا يزال هذا لغزًا.» نظر جونزاليس إلى الشكل الغريب، وقد أحبطه ما يتَّسم به من غموض؛ فلم يكن هذا الشكل إحدى الرئيسيات ذات الحركات التي يُمكن تفسيرها والتنبؤ بها. ومع هذا فقد بدا أن شيئًا في أسلوبه يُلمِّح ضمنًا إلى مشروعات ومسئوليات أخرى بعيدة عن المشروع الحالي.

بعد أن رحلت ألِف — من دون تفسير، ربما كي تُباشِر بعض الأعمال المعقَّدة المتعلِّقة بالإبقاء على تشغيل هالو — جلس جونزاليس ينظر إلى البحيرة. لم يكن هاي ميكس موجودًا بالجوار، وكان هذا أمرًا غير مُعتاد. كان هاي ميكس يقضي غالبية وقته مع ديانا وجيري، وقد بدا هاي ميكس بصورةٍ ما في نظر جونزاليس مُرحِّبًا به. ربما كان ذلك الكائن الخنثوي يُخفِّف من وطأة الأمر؛ إذ كان وجوده يُلطِّف من حدَّة المَوقِف بينهما. لكن بصرف النظر عن الأسباب، فقد تمخَّض تسامحهما عن بعض النتائج؛ إذ صار هاي ميكس طبيعيًّا أكثر، وذا استجابات أكثر بشرية في حديثه وأفعاله مع مرور كل يوم.

جاءت ليزي من الطريق المُفضي إلى الكوخ ونادَت على جونزاليس. كانت ترتدي تي-شيرتًا أبيض وسروالًا قصيرًا أحمر اللون، وكان وجهها وذراعاها وساقاها قد اكتسبت جميعها سُمرةً بفضل الوقت الذي قضته بالفعل تحت أشعة الشمس.

جلسَت إلى جواره ولم يتحدَّثا كثيرًا لبعض الوقت، ثم سألها جونزاليس عن ماضيها.

قالت: «كنت في أولى مجموعات محطة هالو التي تعمل مع ألِف. كانت ألِف تظنُّ أننا، من بين مليارات البشر على الأرض، ربما نتحمَّل الاتصال العصبي الكامل معها، وكانت محقَّة بدرجة كبيرة. لا يعني هذا أن الأمور سارت بسلاسة. لقد جُن جنوني قليلًا، كما حدث مع معظمنا، لكنني تعافَيتُ بدرجة طيبة … رغم أن البعض لم يتعافَوا …

اختيارنا: نحن نُراهن على العقل في مقابل الجنون، على الحياة في مقابل الموت، على عقولنا، على حياتنا. كانت ثَمَّة صعوبات جوهرية؛ فلكَي يقع الاختيار علينا كان لزامًا أن نفيَ بمُتطلبات معيَّنة، لكن كي نؤدِّي وظيفتنا كان علينا أن نتغيَّر، ولم نكن نُجيد التغيير … أو أي شيء آخر. في الواقع، كنا بائسين للغاية، بوجه عام، ولبعض الوقت خطر لي أن ألِف كانت تختار البؤساء والتُّعساء. لكن كما قلت، لقد اجتاز أغلبنا الأمر بنجاح، بصورة أو بأخرى.»

«الآن اكتشفت ألِف كيف تختار أعضاء الجمعية.»

«صحيح، لكنها تُواصِل الضغط على الدوام.» ثم نظرت إلى جونزاليس بوجهٍ جاد، وحدقت عيناها الزرقاوان في عينيه وقالت: «أحيانًا أعتقد أننا جميعًا أدوات تساعد في تحقيق فهْمٍ أكبر لدى ألِف.»

«هذا أمر مُثير للقلق.»

«ليس حقًّا. إن ألِف حريصة وحنونة؛ حنونة بأكبر قدْر ممكن. وعند التعامل مع ألِف عليك أن تكون منفتحًا أمام كل الاحتمالات.»

جلسا في سكون لبعض الوقت، بينما جونزاليس يفكر فيما تعنيه عبارة «منفتحًا أمام كل الاحتمالات» إلى أن سألته ليزي: «أتودُّ السباحة؟»

قال: «بالتأكيد.»

ذهبا إلى طرف الشرفة، وتركا ثيابهما في كومة هناك، وغاصا وهما عاريان وسبحا إلى جزعٍ خشبي نصف غارق يَرتفع أحد طرفيه في الهواء. تعلَّقا بالخشب الزلق بفعل الطحالب والمياه، وسمعا صياح الطيور في أرجاء البحيرة.

نظر جونزاليس إلى شعرها القصير المبتلِّ الملتصِق برأسها، ووجهها الذي تتقاطَر عليه المياه، ووشمها الوردي الذي تلتمع عليه المياه هو الآخر، والذي امتدَّ من كتفها الأيسر حتى ما بين ثديَيها، وشعر برغبة قوية ومفاجئة تَعتمل داخله ما دفعه إلى أن يشيح برأسه بعيدًا وأن يغلق عينيه ويتساءل: «ما الذي يحدث لي؟»

قالت ليزي: «ميخائيل.» فعاود النظر إليها وهو يسمعها تناديه للمرة الأولى باسمه الأول. قالت: «أعرف؛ فأنا أشعر أيضًا بما تشعر به.» ومدَّت يدها ومسَّدت وجنته وأضافت: «لكن ليس هنا، ليس في مرتنا الأولى.»

قال جونزاليس: «نعم.»

«لكن حين نعود إلى عالمنا …» ثم سبحت حول اللوح وأضحت تطفو على مقربةٍ منه، وتلألأ جسدها وهو يعكس المياه الصافية، ثم وضعت وجنتها على وجنته للحظة وأكملت قائلة: «حينها سنرى.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤