فوضى
خلدت ديانا وجيري إلى الفراش في منتصَف الليل تقريبًا، ثمَّ ليزي بعد ذلك بقليل. لم يكن الشكل المجسِّد لألِف أو هاي ميكس موجودَين في تلك الليلة؛ لذا ظل جونزاليس وحيدًا. خرج إلى الشُّرفة واستلقى على بطنِه على أحد الكراسي القابلة للطيِّ المصنوعة من الخشب والقماش، يغمره الضوء القادم من القمر، ويُفكر فيما حدث بينه وبين ليزي ذلك اليوم.
كان قد تعلَّق بالإشارات التي منحتها ليزي له، أمارات على أنها تُبادله ما يشعر به. لقد بنى على أقل القليل — على كلمات وعد معدودة — هيكلًا من الآمال، وشعر بالحماقة إذ جعل سعادته الفورية رهنًا بما سيحدث بينهما تاليًا. كان مفتونًا بها على نحوٍ لم يحدث له منذ سنوات … لكنه طرد هذه الفكرة عن ذهنه، ونأى بنفسه عن عقدِ أي مقارنات، راغبًا في ترك اللحظات تتكشَّف بقوَّتها الخاصة ومفاجآتها.
كان يستطيع الشعور بتحوُّل في أنماط حياته يظهر من رحم تلك الفترة الوجيزة، رغم أنه في حقيقة الأمر لم يحدث الكثير هنا …
فكَّر في جيري، وعرف أن شيئًا مذهلًا كان يحدث في حقيقة الأمر هنا … كلا، لم يكن واهمًا بشأن استمراريةِ ما يفعلونه؛ فسيموت جيري لا محالة، وسيتفجعون عليه. لكن في الوقت ذاته فإن ما كانوا يفعلونه كان يكسو كل شيء حوله ببهجة رقيقة أو لطيفة … فلم يكن ذلك شيئًا هينًا، أن تَنتزع بضع لحظات من الموت.
وهكذا استلقى جونزاليس، وعقله يستعرض الحقائق الواضحة لوجوده الجديد بينما أخذت الأفكار والصور المرتبِطة بليزي تعاود الظهور، وتكسو كل شيء ببهجة محتملة.
كان يحدِّق في سماء الليل حين بدأت تهوي فجأة. فاضطرب القمر وسقط بعيدًا عن مرمى البصر، مُتدحرِجًا ككرة بيضاء تنزلق على تلٍّ خفي، وتناثرت النجوم في كل اتجاه. وفي غضون ثوانٍ ساد ظلام دامس. وفي كل مكان حوله لم يَعُد يوجد إلا الخواء؛ إذ اختفَت البحيرة والشرفة والغابة المحيطة، وصار الهواء مليئًا بأصوات؛ أزيز وهمهمات غير متناغمة، طنين ورنين، نداءات أشبه بالأصوات لكنها عديمة الكلمات. صرخ لكن خرجت الكلمات منه على شكل أنين وهدير، بحيث زادت من الضوضاء. بدا أنه يَهيم دون هدف، يسقط لأسفل ويرتفع، ويتحرك إلى الجانبين، كل هذا وسط النغمات المتنافرة التي تملأ الهواء.
انفتح عالم من الأشكال الملتوية المتكرِّرة أمام عينيه؛ حيث أخذت أشكال شبيهة بخيول البحر تختفي وشقوق سوداء تَنفتح. سقط نحو ثقب ذي حوافَّ مسننةٍ بدا على بُعد مليون ميل، لكنه اقترب منه بسرعة، وانحرف نحو حوافه الممزقة، وهوى داخله ليكتشف أن ثقبًا آخر انفتح داخل الثقب الأول، تبعه آخر وآخر … وعبْر هذه الشقوق في نسيج الواقع أخذ يهوي ويهوي دون نهاية فيما يبدو.
خرج من أحد الممرات ليجد الكون خاليًا فيما عدا مكعب أسود، يخترق جوانبه عددٌ لا نهاية له من الثقوب، ويطفو في هوة ساطعة عديمة اللون. وبينما أخذ يقترب منه صار المكعَّب أكبر حجمًا إلى أن أصبح أي إحساس بحجمه الفِعلي مرتبكًا؛ إذ لم يكن ثَمَّة شيء في مجال جونزاليس البصري ليقيسه استنادًا إليه، ولا شيء في ذاكرته ليقارنه به.
هرع نحو مركز أحد جوانب المكعب ومرق منه، نحو عَتَمة وصمت شبه تام (وإن كان بات يستطيع الآن سماع الرياح وهي تَعصِف إلى جواره، وبذا عرف أن ثَمَّة شيئًا ما يحدث) …
بعد ذلك رأى وهجًا على مسافة، وهجًا ساطعًا مُنتشِرًا أشبه بأضواء مدينة تُرى من على مبعَدة، وبينما واصل السقوط، صار الوميض أكبر وأشد سطوعًا، وانتشر كما لو كان سلةً عظيمة من الضوء كي يُمسك به …
وقف على سهلٍ مُستوٍ لا نهائي تحت سماء بيضاء. أخذت نقاط بعيدة وصغيرة تكبر في الحجم بينما بدا أنها تسرع نحوه، ثم صارت لها أشكال غير محدَّدة، ثم تجسدت حوله. وقفت ديانا والشكل المجسِّد لألِف وهاي ميكس منتصبي القامة، يواجهون جيري، الذي وقف في مركز هذا المثلث الذي شكَّله ثلاثتهم. صار جيري مكسوًّا بعُقيدات كثيفة من الضوء بدا أنها تلتهمه، آلاف منها في حركة متواصلة، غطاء فضي من حشرات مضيئة تندفع من الثلاثة الآخرين في تيار دائم مشع. وقفت ليزي، مثل جونزاليس، تشاهد ما يحدث.
خاطبهما الشكل المجسد لألِف قائلًا: «إن جيري مريض بشدة.» وشعر جونزاليس للحظة بذنبٍ ورهبة لا تفسير لهما، كما لو كان هو الذي سبَّب كل هذا عبْر التفكير فيه.
تساءلت ليزي: «ما الذي بوسعنا فعله؟»
قال الشكل المجسد لألِف: «بوسعنا أن نُحاول مساعدته. ابقيا هنا، وتحلَّيا بالصبر، وباستخدام كل مواردي يمكنني الحفاظ عليه.»
سأله جونزاليس: «ما المغزى؟ لن يَسعنا البقاء هكذا إلى الأبد.»
قال الشكل المجسِّد لألِف: «هذا صحيح، لكن لو أُتيح لي الوقت الكافي، فسيُمكنني استنساخه هنا.»
ومن وسط نهر الضوء المتدفِّق قالت ديانا: «أرجوكما!» وكانت نبرة الإلحاح والخوف واضحة في صوتها. شعر جونزاليس فجأة بالخجل بسبب مناقشته ما هو مُمكن وغير ممكن، كما لو كان يدري حقيقة الموقف. قال: «سأفعلها. سأفعل كلَّ ما بوسعي.»
قال الشكل المجسد لألِف: «فقط راقب، وانتظر.»
•••
استفاق جونزاليس على نحوٍ شاق وعنيف؛ إذ أخذ جسده يرتعد في حركات لا إرادية، وتقلَّص مجال رؤيته إلى نفق صغير غائم تكتنفه شبورة سوداء، وكانت الفكرة الوحيدة المتسقة فعليًّا في عقله هي: «ما الذي يحدث بحق الجحيم؟»
قال صوت شوالتر: «هل يواجه خطرًا من أي نوع؟»
قال تشارلي: «كلا، لكنَّنا لم نسمح بعملية فصل التزامن على النحو الملائم؛ لذا فإنَّ كيمياء دماغه مضطربة.»
«أمر طيب.» هكذا قال صوت تراينور، وشعر جونزاليس بجزع شديد وقتها … «ما الذي يفعله تراينور هنا بحق الجحيم؟ كم من الوقت مكث داخل البيضة؟»
قال تشارلي: «إنه يتسبَّب في إزالة قسطراته. لنحقنه بمهدئ للعضلات بحق السماء.»
شعر جونزاليس بوخذة من الألم وسمع هسيس مسدس الحَقْن، وعندما رفعته الأذرع الميكانيكية ووضعتْه على نقالة، كان هادئًا ومخدرًا تمامًا.
•••
استرد جونزاليس وعيه بالكامل ليجد نفسه في عنبرٍ به ثلاثة أسرَّة، يتابعها أحد الروبوتات. وصَل تشارلي بعد دقائق من استيقاظ جونزاليس، وقد بدا عليه الإنهاك الشديد، وكأنما لم ينم منذ أيام. كانت عيناه محمرَّتين وشعره أشبه بعشٍّ فوضوي من الأشواك المتناثرة. سأل جونزاليس: «كيف تشعر؟»
«لستُ متأكدًا.»
«بوجه عام، أنت بخير، لكن قرارات الناقلات العصبية الخاصة بك لم تصل إلى مستواها الطبيعي بعد؛ لذا ربما تجد بعض الصعوبة على المستوى الانفعالي والإدراكي لبعض الوقت.»
فكَّر جونزاليس: «بالتأكيد.» كان خروجه من البيضة سيئًا في مرات سابقة، لكن لم يتعيَّن عليه من قبلُ قطُّ التأقلم مع شيء كهذا. كان جسده مشحونًا بطاقةٍ عصبية لا سيطرة عليها، كما لو كان جِلده سيُنتزع منه ويرقص على نغمة خاصة به. وأينما نظر، بدا العالم على حافة تغيير كبير؛ إذ كانت الألوان تتباين على نحوٍ رهيف، والخطوط الخارجية للأجسام تتمايل وتبدو غير واضحة. كان يشعر بالارتباك في كل مكان، ينبعث من الأجسام مثل موجات الحرارة التي تتصاعد من جُلمودٍ صحراوي، كما لو كان العالم المادي يشعُّ خوفًا.
سأله جونزاليس: «كم من الوقت؟»
«لا أدري، لكن قد يستغرق بضعة أيام، ربما أكثر. لقد كنت أراقب كيمياء دماغك عن كثب، ويبدو منحنى التأقلم سلسًا، وإن كان بطيئًا.»
«كيف حال ليزي؟»
«في وضع مشابه، لكنها أفضل حالًا منك بقليل؛ لأنها قضت هناك وقتًا أقل منك. أما الدكتورة هايوود فلا تزال في حالة اتصال كامل.»
«لماذا؟»
«لأننا لم نستطِع البدء في سلسلة فصل التزامن.»
«ماذا؟ وما السبب؟»
«من المستحيل القول. الأمر عينه يَنطبِق على جهاز «الميميكس»؛ فلا تزال ديانا وجهاز «الميميكس» مُتصلَين بألِف وجيري. في نقطةٍ ما سيتعيَّن علينا فصلهما ماديًّا، ونأمُل ألا يتسبب ذلك في مشكلة.»
«ما الذي يجري هنا بحق الجحيم؟ ما خطْب جيري؟ قالت ألِف إنه في ورطة.»
«لقد تغيَّرت حالته إلى الأسوأ. ونحن نُبقيه حيًّا في الوقت الحالي، لكننا لا نعلم كم من الوقت سيستمر هذا؛ بل إنني لا أعلم إن كنا سُنواصل المحاولة لوقت طويل. فلتسأل رئيسَك عن هذا.»
«تراينور، أهو هنا؟ لقد ظننتُ أنني أهلوس.»
«كلا لم تكن هذه هلوسة …» وخَفَت صوت تشارلي في نهاية العبارة، وشعر جونزاليس أن تكملة العبارة الضمنية هي: «أتمنَّى لو كان الأمر كذلك.» أردف تشارلي: «سأطلب من أحدهم العثور عليه وإحضاره إلى هنا؛ فقد قال إنه يريد الحديث معك بمجرَّد استيقاظك.»
•••
جلس جونزاليس وهو في حالةِ تشوُّش عميقة تالية على عملية الاتصال، وأخذ يَستمع إلى تراينور وهو يلوم فرع مجموعة سينتراكس في هالو قائلًا: «هؤلاء الأشخاص ليس لديهم أي إحساس بالمسئولية.»
سأله جونزاليس: «نحو مجس إدارة سينتراكس؟»
«نحو أي شخص بخلاف ألِف وجمعية الاتصال. من الواضح أن شوالتر سمحت لهم بالسيطرة على عملية اتخاذ القرار.»
كان جونزاليس يرى، حتى وهو في هذه الحالة العقلية المشوشة، ما سيجنيه تراينور من وراء ذلك. لقد كانت شوالتر كبش الفداء، وسيحرص مَن يَحُلُّ محلها أيًّا كان على أن تكون أولى أولوياته هي التشديد على استراتيجيات الإدارة الآتية من مقر سينتراكس على كوكب الأرض. بعبارة أخرى، كان مجلس الإدارة يستعيد السيطرة، عن طريق تراينور. ومن المتوقع أن يتلقى تراينور مكافآت ملائمة نظير ذلك.
قال جونزاليس: «الجمعية … ألِف …» ثم توقف، وقد احتبست الأفكار في عقله وهو يفكر كيف سيشرح لتراينور كيفية سير الأمور هنا، والكيفية التي تعيَّن أن تسير الأمور بها هنا، بفضل ألِف.
قال تراينور: «هوِّن عليك. يقول الأطباء إنك مررت بوقت عصيب هناك، وهذا ما أعنيه يا ميخائيل: إنهم لا يمتلكون بروتوكولًا بحثيًّا عقلانيًّا، ولا يتخذون الاحتياطات المعقولة. اللعنة، أنت محظوظ أنك خرجت من هناك بهذه السهولة.»
سأله جونزاليس: «كيف وصلت إلى هنا بهذه السرعة؟» وكان يعجز عن إيجاد الكلمات التي يشرح بها لتراينور الخطأ الذي يرتكبه.
«لقد كنت أستشير هورن من البداية.» واستدار كما لو كان شيء أثار انتباهه فجأة على الجدار البعيد وأضاف: «إنه إجراء معتاد. وبمجرد أن عرَّفني هورن بما يحدث أتيت في مكُّوك عسكري على الفور.»
فكَّر جونزاليس: جميل كجرذ قذر. لم يكن هذا مفاجئًا له؛ فقد كان تراينور يحرك لاعبيه من دون أدنى اعتبار لأمنياتهم. سأله جونزاليس: «هل سيَحُلُّ هورن محل شوالتر؟»
استدار تراينور مواجهًا إياه وقال: «على أساسٍ مؤقت ربما، بمجرد أن أحصل على موافقة مجلس الإدارة على هذا الإجراء. سننظر هذا الأمر لاحقًا.»
«وماذا سيحدث الآن؟»
«يجب اتخاذ بعض القرارات. لقد سمحت لهم بالحفاظ على حالة جيري تشابمان حتى الآن، لكن بمجرد أن نتمكَّن من حل مشكلة إخراج الدكتورة هايوود من ذلك الاتصال، أنوي تسليم زمام المشروع لهورن بحيث يتخذ الإجراءات الملائمة.»
كانت مشاعر الحزن تغمر جونزاليس لأسبابٍ يعجز عن شرحها لذلك الرجل، وبدلًا من ذلك قال: «انظر يا تراينور، أنا متعب بشدة.»
«بالتأكيد يا ميخائيل. استرح قليلًا وهوِّن على نفسك. سنتحدث بمجرد أن تشعر أنك بحال أفضل، لكنني أعرف ما أحتاجه في اللحظة الحالية.»
غادر تراينور، واستلقى جونزاليس لبعض الوقت على سرير المستشفى المرتفع في الهواء، وعقله يفكر في أمورٍ عدة من دون نمط ظاهري محدد، بينما أخذ العالم من حوله يرسل إشاراته المبهمة والقلق يسري داخله في موجاتٍ قوية.
فكَّر جونزاليس في نفسه قائلًا: «الأحمق اللعين!» بينما كانت ابتسامة تراينور المتشفية تلوح أمام عينيه. كم أكرهك. ثم تعجب من عنفِ ما كان يشعر به.
غفا قليلًا ثم فتح عينيه وعلم أنه بحاجة إلى أن يحاول الحركة. تحرك أحد الروبوتات على الأرضية نحوه وقال: «أتريد مساعدتي؟»
قال جونزاليس: «ابقَ هنا ريثما أخرج من الفراش. لستُ واثقًا من أنني سأتحرك على نحوٍ جيد.»
تحرك الروبوت إلى جوار الفراش، ومد مجموعتين من الأذرع الخارجية وقال: «انتظر، يمكنك استخدامي في النزول.»
تحرَّك جونزاليس بحرص شديد، فأمسك بالأذرع الشبيهة بالمخالب، ودلدل ساقيه من جانب السرير، ثم خطا على ظهر الروبوت، ثم على الأرضية، وقال: «أشكرك، أحتاج إلى الاغتسال.»
«عفوًا، ستجد الحمام وراء ذلك الباب.»
•••
أخبر الروبوت جونزاليس بالمكان الذي يستطيع أن يجد فيه ليزي وتشارلي. نزل جونزاليس، على ساقين متقلقلتين، عددًا من درجات السُّلم ثم استدار نحو رواقٍ مكسوٍّ بألواحٍ ليفية من الغبار القمري مدهونة باللون الأزرق ومطعَّمة بهياكل من الألمنيوم. وفي منتصف الرواق وصل إلى بابٍ معلَّق فوقه لافتة تقول «مرفق التحكم الرئيسي». أضاءت لافتة على الباب بالكلمات «انتظر التحقق»، ثم «ادخل»، وانفتح الباب.
كان تشارلي يجلس بين مجموعة من شاشات المراقبة، وأمامه كانت أغلب الأضواء تومض باللونين الأحمر والكهرماني. اعتقد جونزاليس أن تشارلي كان يبدو أشد حزنًا وأكثر إرهاقًا مما كان قبل ذلك. وقفت ليزي إلى جواره، ونظر جونزاليس إليها في بهجة وارتياح. قال: «مرحبًا.» فقال تشارلي: «أهلًا.» أما ليزي فقد لوَّحت بيدها وابتسمت ابتسامة مقتضبة، لكن بدا هذان الفعلان آليين، وكأنها تودِّع قريبًا لها من نافذةِ قطارٍ مغادر. تحوَّل قلق جونزاليس إلى انفعال جياش، ووجد نفسه عاجزًا عن التحدث بكلمة.
تردد صوت إريك تشو من لوحة المراقبة يقول: «تشارلي، لدينا مشكلة.»
بدأ تشارلي في التوجه إلى الشاشة، لكنه توقَّف وقال: «أتريدان مشاهدة هذا؟» ونظر إلى كلٍّ من ليزي وجونزاليس.
قالت ليزي: «أحتاج إلى ذلك.»
وقال جونزايس: «وأنا أيضًا.»
أشاح تشارلي بيده في الهواء وقال: «حسنًا.» ثم نقر أحد المفاتيح، فأظهرت الشاشة الرئيسية صورة لوحدة العناية المركزة التي يُبقُون فيها على جسد جيري. كان ستة أشخاص قريبًا يطفون حول الفقاعة المركزية، وكانوا يرتدون أزياءً جراحية تمتد من العنق إلى أخمص القدم، ويضعون على رءوسهم أغطية بلاستيكية شفافة. وداخل الفقاعة، كان الكائن الذي كان جيري يومًا ما ينتفض في عنف داخل شبكة مقيِّدة. كان سطح جسده كله يهتز، وكان يصدر عويلًا عاليًا رأى جونزاليس أنه كان أسوأ ضوضاء سمعها في حياته.
تساءل تشارلي: «إريك، هل لديك تشخيص؟»
استدار إريك كي يواجه الكاميرا الرئيسية بالغرفة.
«نعم، فشل عصبي تام.»
«تكهناتك؟»
«أتمازحني؟»
«لأغراض التوثيق يا إريك.»
لاحظ جونزاليس ببعض الاهتمام أن إريك بدأ يتصبب عرقًا على نحوٍ ملحوظ بينما كان تشارلي يتحدث، وبدت عينا الرجل تتسعان وقال: «إنه ميت — لا يزال ميتًا وسيظل ميتًا — وهو ميت على نحوٍ أسوأ مما كان عليه من قبل … هذا هو تكهني. هذا ليس مريضًا لعينًا يا تشارلي. إنه ساق ضفدع مأخوذ من صف علم الأحياء، هذا كل ما في الأمر. نحن في حاجة لمناقشة هذا الأمر مع ألِف يا رجل.»
قال تشارلي: «لا يمكننا الاتصال بألِف، لا يقدر أحد.»
قال إريك: «هراء لعين.»
استدار جونزاليس حين انفتح الباب خلفه، ورأى شوالتر وهورن يدخلان منه. كانت فتحتا أنف شوالتر متسعتين — إذ كانت غضبى ومتشككة — بينما كان هورن يحاول ألا يُظهر أي انفعال على وجهه، لكن كان بإمكان جونزاليس أن يرى ما بداخله كما لو كان جسده زجاجيًّا شفافًا؛ إذ كان اللعين سعيدًا لأن الأمور تسير على النحو الذي يبتغيه.
قالت شوالتر: «تلقيت التقرير منذ نصف ساعة. ما الجديد؟»
قال تشارلي: «تحدثي إلى إريك.»
خرجت ليزي من الباب الجانبي، وتبعها جونزاليس خارجًا من الغرفة، وسارا في الرواق الضيق وصولًا إلى الغرفة التي كانت ديانا مستلقية فيها على ظهرها، ملفوفة بالأشرطة المقيدة للحركة. كان وجهها شاحبًا لكن كانت علاماتها الحيوية قوية، وكان نشاطها العصبي طبيعيًّا في كل وجه. جلس التوءمان إلى جوارها، تُصدران تعليقاتٍ لا يفهمها غيرهما ويراقبان في اهتمامٍ شاشة المراقبة التي كان يهيمن عليها اللونان الأخضر والكهرماني.
كان ثَمَّة رجل بدين يسير في دوائر حول أريكة ديانا. كان لديه ذراعان قويتان وبطن ضخم وله جبهة منخفضة يعلوها شعر أسود كثيف، وكان حاجباه معقودَين كما لو كان يفكِّر بعمقٍ في طبيعة الأشياء. وبينما كان يسير، كانت الكلمات تخرج منه. وحين رأى ليزي وجونزاليس قال: «غير معتاد بالمرة، صعب للغاية. أمر مقلق. مقلق لكن مثير للاهتمام. مقلق للغاية. مثير للاهتمام بشدة. عندما … عندما … عندما أجده، أجده، هاه، سأعرفه.»
قالت ليزي: «أي تغيرات حديثة؟»
هز الرجل رأسه نفيًا وواصل السير.
عادت ليزي إلى الردهة، فأوقفها جونزاليس بأن وضع يده على ذراعها وسألها: «أأنتِ بخير؟»
ردت: «لا أدري.» وكان قادرًا على قراءة بعضٍ من متاعبه هو في وجهها. لكن كان ثَمَّة شيء آخر هناك، كانت نظراتها غامضة. قالت: «أرجوك لا تسأل أي أسئلة. ثَمَّة كثير من الأمور يجري حاليًّا.»
انفتح الباب فجأة حين وصلا إليه، ووجدا شوالتر تقول: «لن نتدخل في تلك الأمور. نحن نطلب منكم أن تمنحونا حرية الفعل.»
تساءلت ليزي: «ماذا يجري؟»
استدار أربعتهم كي ينظروا إلى الشاشة، التي أظلمت تمامًا.
•••
على الطاولة الفولاذية المصقولة رقد جثمان مُفرَّغ من الأحشاء. على السطح البطني للجثمان أُزيلت طبقات من الجِلد إلى الوراء بحيث كشفت عن التجويفين البطني والصدري الخاليين، بينما على السطح الظهري كان العمود الفقري مكشوفًا. كان الجزء العلوي من الرأس منشورًا، وأُزيل المخ، وتدلت فروة الرأس حتى العنق.
تحرك أحد الروبوتات حول الطاولة، بينما سويقاته تصدر هسيسًا أسفله. جذب نحوه عربة معدنية استقر عليها عدد من الأكياس البلاستيكية الموضوع عليها ملصقات، وكلٌّ منها يحوي أحد الأعضاء. توقَّف الروبوت وأخذ أحد الأكياس من فوق الطاولة ووضعه إلى جوار الجمجمة المفتوحة للجثمان. شق الكيس بإحدى أذرعه المسننة، ثم مد داخله يدًا عنكبوتية ذات سبع أصابع، ورفع المخ برفق، وأماله، ثم وضعه داخل الجمجمة، ثم أعاد الجزء العلوي المنشور من الجمجمة إلى موضعه. وباستخدام خيط جراحي وإبر خرجت من إحدى أذرعه، خيَّط الروبوت فروة الرأس سريعًا كي تضم جزأي الجمجمة معًا. ومع مرور الدقائق، عمل الروبوت على استبدال أعضاء الجثمان وخياطة الحواف الأمامية.
دفع الروبوت الطاولة جانبًا وجذب نحوه نقالةً موضوعًا عليها كفنٌ قطني أبيض مفتوح. وبعد أن مد الروبوت ذراعًا تحت فخذي الجثمان، وأخرى تحت الجزء العلوي للعمود الفقري، رفع الجثمان ووضعه على الكفن، ثم ضم جانبي الكفن معًا، وأغلقه مستخدمًا خيطًا حريريًّا وإبرة.
وقف الروبوت دون حراك للحظة، بعد أن أنهى ذلك الجزء من المهمة، ثم جمع الأكياس البلاستيكية الخاوية ووضعها في أنبوب القمامة. نظَّف طاولة التشريح مستخدمًا أربع فُرَش قاسية تبرز من إحدى أذرعه، ثم غسل الطاولة بخرطوم بخار متدلٍّ من السقف.
دفع الروبوت النقالة التي تحمل الكفن، مسترشدًا بالأشعة تحت الحمراء، عبْر رواق مظلم وصولًا إلى مصعد شحن في نهاية الرواق. ارتفع المصعد إلى أعلى طوابق هالو، أدنى الغلاف الخارجي مباشرة.
نقل الروبوت شفرات الدخول إلى الباب، وحصل على شفرات التأكيد، ولم يتوقف بينما أخذ الباب ينفتح كي يسمح له بالدخول. وبمجرد أن اجتاز الروبوت الباب بدأ في إصدار ضوضاء، عويل موسيقي.
بدت صناديقُ معدنية ارتفاعها عشرون مترًا ظاهرة وسط أعمدة خرسانية تمتد لأعلى حتى الظلام. برزت أنابيب تحمل الأتربة من الصناديق وامتدت بين الأعمدة؛ أنابيب ضخمة تثبتها في مواضعها كابلات تثبيت تمر من الأسفل.
وقف الروبوت، وهو لا يزال يكمل مرثاته، عند أحد الصناديق ومد كابلًا مغلفًا من الألياف البصرية مزودًا ببوصلة معدنية في طرفه، وأدخل الوصلة في لوحةٍ ومضت عليها أضواء ذات مغزًى. وقف الروبوت لنحو نصف دقيقة، يتبادل المعلومات مع منظومةِ تحكُّمِ فرنِ إعادة التدوير، ثم فصل الكابل وتحرك مُصدِرًا هسيسًا عبْر الأرضية المعدنية نحو النقالة. وخلفه، انفتح باب الفرن.
دفع الروبوت النقالة، مُصدِرًا عويلًا مرتفعًا، نحو الباب المفتوح، وتوقَّف صامتًا للحظة، ثم دفع الكفن من النقالة إلى داخل الفرن.