الفصل الأول

في الأعماق السحيقة

استيقظ جونزاليس ذلك الصباح على أصوات المدينة تأتيه عبْر الجدران؛ أصوات صرير وجلبة ودمدمة خافتة تكاد تكون تحت صوتية، أصوات الدائرة العظيمة من المعدن والصخور المنسحقة التي تدور حول نفسها خلال الليل. والآن كان يجلس في شرفته، وهي واحدة من ست شرفات تعلو جانب بدن هالو، وكلٌّ منها مبنيٌّ على سطح المنزل أدناها. وأمام النافذة، كانت زهور البلوميريا ذات البتلات الخمس، بألوانها الحمراء والأرجوانية الفاقعة، تخرج من الفروع السميكة الغليظة لإحدى الأشجار المقابلة لنافذته الأمامية. كانت رائحة الهواء غنية ورطبة هذا الصباح، وهي علامة على ارتفاع مستوى الرطوبة، وذلك قبل بدء إحدى دورات الاستصلاح مباشرة؛ وهي واحدة من روائح المدينة التي يتعين فيها على كل شيء عضوي أن يُحفَظ وأن يجري تحويله؛ الماء والأكسجين والكربون، كلِّ ما هو نادر وعزيز.

وإلى الأسفل منه، كان الطريق السريع الدائري يحمل حركة المرور في هالو؛ ففي حاراته الخارجية كان الناس يمشون على أقدامهم أو يركبون دراجات، وفي الحارات بالمنتصف كانت عربات الترام والشاحنات تتحرك على قضبان مغناطيسية. انحنى زوجان شابان، رجل وامرأة، بجوار أجَمَة ورود تنمو قرب الطريق وتفحَّصا أوراقها. وضعت المرأة يدًا على ذراع الرجل، فنظر إليها وابتسم، ثم مسَّ وجنتها بيده.

أدهشته غرابة المدينة، التي فيها ارتفعت أحداث بسيطة من حياة الناس إلى آفاقٍ استثنائية بفضل وقوعها في مدينة صناعية وتحت سماء صناعية.

حين كان طفلًا سافر مع أسرته إلى طوكيو، في وقتٍ كانت الرحلة فيه تستغرق غالبية اليوم، واجتاحته أضواء النيون الكثيفة بالمدينة كما لو كانت فيروسًا، وتقيَّأ وجبته الأولى هناك (كان يذكر أنها مكونة من السمك والمعكرونة المتبلة بأوراق الأقحوان) وظل شاحبًا ويعاني الحُمى طيلة غالبية اليومين الأولين اللذين قضاهما هناك.

استطاع التأقلم مع طوكيو سريعًا، لكن لم يكن يعرف موقفه حيال هالو؛ فرغم أنه كان قادرًا على قراءة لغة هالو وفهْم إشاراتها؛ فقد كان يعلم أن المدينة كانت أبعد كثيرًا عنه؛ أبعد بأميال عن موطنه نعم، لكنها أبعد كذلك في مناحٍ لم يستطِع قياسها. كانت هالو تحتوي على عددٍ لا نهاية له من المدن، وعددٍ لا نهاية له من الاحتمالات، ومِن ثَمَّ فإن الانغماس الكامل في هالو كان يتطلب منه أن ينفتح على واقعٍ يتسم بالتعددية وعدم اليقين والرعب.

في الحقيقة، كان يجد صعوبة في استيعاب أي شيء؛ فمنذ أن أُخرج من البيضة وهو يشعر بشعور غريب وغير مريح، وواصل السير على حافة الهلوسة، التي كان يجتازها من حين لآخر؛ ففي الليلة الماضية بينما كان يحاول النوم، ظهرت أشكال مجردة مرسومة بخطوط حمراء على سقف غرفته، زخارف ممتدة بأبجدية غريبة أو خيالية تتجاوز حدود الفهم البشري …

ثم كانت هناك ليزي: لم ترَه أو تتحدث إليه، ولم تمنحه أي تفسير فيما خلا أن لديها مشكلات خاصة بها الآن. شعر جونزاليس بحزن يعجز عن التعبير عنه بسبب المسافة الفاصلة بينهما. وحين كان يتردد داخله صوتٌ ساخر يتساءل: «ما الذي فقدته؟» كان يجيب بإجابة واحدة فقط هي: «الإمكانية.» لقد عاد إلى حيث كان منذ بضعة أيام، لكن الآن صار هذا الموضع غير مقبول على ما يبدو.

وضع جونزاليس قدحَ القهوة وجلس يحدق فيه. كان القدح المصنوع من سيراميك التربة القمرية والمطلي بلون أزرق كلون بيضة طائر أبي الحناء، ليس له مظهر مميز، لكنه مع ذلك أبرزُ بصورةٍ ما، بمنأى عما يحيط به وبشكلٍ يظهر سمة روحانية، وميضًا داخليًّا غير مرئي بالمرة وغموضًا في الشكل …

سمع جونزاليس صوت قرقعة، ضوضاء أصدرها الكون لنفسه حين ظن أن لا أحد يسمعه، وفكَّر جونزاليس: «يا إلهي، ما الذي يحدث هنا؟»

نهض جونزاليس، شاعرًا بقلقٍ شديد يعتمل في صدره، ودخل إلى غرفة نومه، وهناك فتح المزلاج المعقد الخاص بسوار معصمه ووضعه على سطح المزينة المعدني المدهون باللون الأبيض.

ثم اجتاز غرفة المعيشة، دون أن يكون معه ما يشي بهويته ويراقب تحركاته، وعبَر من الباب وسار بعيدًا.

•••

سار جونزاليس بمحاذاة الطريق السريع الدائري، ولم يجذب شيء بعينه انتباهَه لكنه كان غير راغب قطعًا في العودة إلى المبنى السكني الخاوي وإلى العزلة والقلق اللذين ينتظرانه هناك.

وجد نفسه في الساحة الرئيسية؛ حيث اصطحبته ليزي هو وديانا في ليلتهما الأولى في هالو. اجتاز الميدان، مرورًا بلافتة مكتوب عليها «المقهى الافتراضي»، ثم وقف بلا حراك، يشاهد تدفُّق الناس من حوله. كان البعض يسير بمفرده، بخطوات سريعة نحو هدف محدد، أو ببطء وهم غارقون في التفكير، بينما سار البعض الآخر في جماعاتٍ، يتحدثون في حبور أو جدية، فكَّر جونزاليس: «هراء،» وهو يتساءل عما سيقوله هاي ميكس عن هؤلاء الأشخاص وحركاتهم، ما الذي كان يعنيه كل هذا؟

«جونزاليس.» سمع صوتًا ينادي اسمه على نحوٍ رتيبٍ حادٍّ، وحين استدار رأى التوءمين.

بينما اقتربتا منه، كانت إحداهما تتمتم بكلام مبهم سريع، وكانت ترتدي معطفًا أسود اللون وتحدق بحزن في الأرض. أما الأخرى فكانت تبتسم، وكان وجهها مغطًّى بدهان أبيض وترتدي بلوزة بيضاء وتنورة غريبة الشكل من قماش لبني اللون جرى قُصَّت وحِيكت على نحوٍ غير متقن من دون الاكتراث للمقاسات أو الغرز، وعلى مقدمتها كان ثَمَّة شكل غير متقن لأرنبٍ مرسوم بدهان أحمر زاهٍ.

قالت التوءم المبتسمة، تلك التي كانت بشرتها السمراء ملطَّخة باللون الأبيض، بنبرة واضحة وإيقاع رسمي: «اليوم هي أليس.» ثم رقصت على قدم واحدة في خرق، وتنورتها تتلاطم حولها. وأضافت: «وشقيقتها هي يوريديس.» ثم أشارت إلى الفتاة الأخرى التي دفنت وجهها في يديها. قالت: «أليس هي العذوبة والابتسامات، والخطوات الصغيرة وقماش القرينول المُنشَّى، بينما يوريديس هي الحزن والتراخي الكسول والحرير الأسود. وهما معًا تحدِّدان أبعاد الحُلم.» ثم خطت إلى الخلف وابتسمت، وابتسمت شقيقتها معها. سألته: «هل تعاني من مشكلات يا سيد جونزاليس؟ تعتقد الجمعية أن الأمر كذلك. ونؤمن أنك ضائع بين عالَمين. أهذا صحيح؟»

قال: «ربما أنا كذلك.»

قالت: «حسنًا إذن.» ثم وضعت سبابة يدها اليمنى على شفتيها المزمومتين وأخذت عيناها تدوران يمنة ويسرة، وقالت: «أنا أفكِّر.» ثم بعد انقضاء بضع ثوانٍ أضافت: «أعلم ما عليك فعله.»

سألها جونزاليس: «وما ذلك؟»

قالت: «اتبعنا.» أومأت الفتاة الأخرى، وتحدثت بكلام غير مفهوم، ونظرت إلى جونزاليس عبْر قناع من الحزن الشديد، كما لو كانت على وشْك الانخراط في بكاءٍ لا نهاية له.

سألهما جونزاليس: «إلى أين؟»

قالت التوءم أليس: «لا تكن غبيًّا. إلى أين ستأخذك أليس ويوريديس؟»

سألها جونزاليس: «إلى جُحر الأرنب؟»

ابتسمت أليس، وهزت يوريديس رأسها نفيًا.

سألهما جونزاليس: «تحت الأرض؟»

ابتسمت التوءمان في تزامنٍ بدا مثاليًّا.

•••

عند قاعدة الشعاع الثاني؛ حيث توجد لافتة تقول «سيصل المصعد بعد عشر دقائق»، قادت التوءمان جونزاليس عبْر نفق محدَّب يمتد تحت الشعاع. وبينما كانت الفتاتان تسيران أمامه، كانتا تغمغمان بلغتهما المبهمة، وأدرك أن الأرضية تنحدر دون شك إلى الأسفل، بحيث تمر أسفل المستوى الرئيسي للحلْقة. كانت كرات زرقاء في منتصف السقف توفِّر ضوءًا هادئًا. وبعد أن قطعوا نحو مائة خطوة، وصلوا إلى بابٍ عند نهاية النفق. وفوق الباب كانت كلمات مكتوبة بضوء أحمر ساطع تقول:
لا يُنصَح بالتجول الحر بعد هذه النقطة.
أتود الدخول؟

التفتت أليس وأشارت إلى اللافتة. وهزَّت كتفيها كما لو كانت تقول: «حسنًا؟»

قال جونزاليس: «أريد الدخول.»

صدر عن الباب صوتٌ يقول: «ادخل.» وانزلق شقاه إلى الجانبين داخل إطاره.

خطا ثلاثتهم إلى مساحة شاسعة معتمة، عالم قابع في الأعماق، وساروا على امتداد ممشًى رئيسي تميزه أسهم وامضة ولافتة تضيء على نحوٍ متقطع بالكلمات التالية: «على الأشخاص غير المصرح لهم السير في الممر المضاء».

مرُّوا بسلسلة من الورش، حجيرات مقسمة محجوبة وراء ستائر احتواء. كان ثَمَّة ضوء ينبعث من أحد الأبواب، فتوقفت التوءمان، وأشارت يوريديس إلى جونزاليس كي ينظر بالداخل.

كانت مئات القدور متراصة على الأرفف الموضوعة على امتداد الحوائط من الأرض إلى السقف. كان كثير منها بسيطًا، أوعية كروية تقريبًا لها أفواه واسعة، مصنوعة من الفخار الأحمر. وكانت ثَمَّة أوعية أخرى لها الشكل نفسه لكنها كانت مكسوة بطبقة رقيقة ومدهونة وتميزها حزمة واحدة من الألوان تلتف حول منتصفها: ألوان أساسية زاهية على خلفية من معجون شفاف. وكانت ثَمَّة قدور أخرى ذات أشكال وتصميمات معقدة، يصعب تفهمها في نظرة واحدة.

جلست امرأة عجوز منحنية فوق دولاب الخزاف، وكانت تدندن بكلمات يصعب تبينها بينما كانت يداها الكبيرتان تشكلان الطمي الطري الدوار. نظرت لأعلى إلى جونزاليس الواقف لدى الباب. كان وجهها مليئًا بتجاعيد غائرة، وبشرتها شاحبة، وكان لديها حاجبان مستقيمان يعلوان عينين سوداوين. كانت ترتدي فستانًا أبيض ضاربًا إلى الصفرة كان ينسدل حتى الأرضية ومئزرًا من مادة مطاطية سوداء. كان شعرها مغطًّى بوشاح كحلي داكن وكان مشدودًا ومربوطًا خلف رأسها.

ضحكت العجوز واستدارت مجددًا إلى الدولاب، وبدأت في الدندنة مرة أخرى. وتحت يديها بدأ الطمي يرتفع إلى الأعلى ويكتسب شكلًا. كانت تُشكِّله من الداخل إلى الخارج، وكأنها خالق يمد يده إلى قلب المادة، إلى أن صار قِدْرًا ذات قاعدة ثخينة تدور على الدولاب.

توقَّف الدولاب عن الدوران، وبحركات سريعة ودقيقة وضعت القِدر المشكَّلة حديثًا على حاملٍ مجاور للدولاب. مدت يدها داخل القِدر وشرعت في العمل، لكن جونزاليس لم يستطِع أن يرى بدقةٍ ما كانت تفعله؛ إذ كان جسدها يحجب الرؤية. بعد ذلك أخذت حامل طلاء وفرشاة من رفٍّ يعلو رأسها وشرعت في تلوين سطح القِدر.

وبينما كانت تباشر العمل، كانت تنظر لأعلى من حين لآخر، لكن بدا عليها أنها لم تكن تمانع وجود الأشخاص الثلاثة الواقفين هناك؛ لذا فقد ظلوا واقفين يشاهدونها؛ وكان جونزاليس منبهرًا بالقوة والسرعة التي تتسم بها حركتها، ومتلهفًا لرؤية ما سيبدو عليه شكل القِدر.

وأخيرًا أدارت القِدر ناحيتهم بحيث أضحَوا قادرين على رؤيتها. على جانب القِدر كان ثَمَّة وجه، وكان فمه وأنفه عبارة عن نتوءين مطليين على الفخار، وكانت عيناه بيضاوين. كان بدن القِدر البصلي الشكل يشوه ملامح الوجه، لكن حين أمعن جونزاليس النظر، رأى …

كان ذلك وجهه هو، محاكاة ساخرة خبيثة له، وكانت ملامحه ملتوية على نحوٍ ذميم.

ضحكت المرأة، وقد أطربها إجفاله المفاجئ. رفعت القِدر ونظرت إلى الوجه، ثم إليه، ثم إلى القِدر مجددًا، وعاودت الضحك بصوتٍ مرتفع، ثم ضغطت القِدر بين يديها الملطختين بالطمي، مرارًا وتكرارًا، إلى أن صارت كتلة عديمة الملامح من الطمي. ألقت الكتلة عبْر الحجرة داخل صندوق معدني كبير كان موضوعًا قبالة الحائط البعيد.

«أوووووووه.» صدر هذا عن التوءمين، بصوتٍ موحَّد. «أوووووووه.»

قالت أليس: «لسنا خائفين.» بينما غطَّت أختها وجهها بكلتا يديها. أردفت أليس: «عجوز سخيفة.»

ظلت عينا المرأة العجوز مثبتتان على جونزاليس وهي تمد يدها داخل كيس بلاستيكي مليء بالطمي الطري، واقتطعت منه كتلة أخرى للعمل عليه. كانت تعمل عليه على الدولاب الدوار حين بدأت التوءمان تُصدران ضوضاء حادة معبِّرة عن الاستهجان، وفرَّتا مبتعدتين.

عاودت المرأة الدندنة مجددًا بينما خرج جونزاليس وسار خلف الفتاتين في الممر.

•••

إلى جوار الممر كانت ثَمَّة بوابة، تعلوها لافتة مكتوب عليها بحروف وامضة:
مركز هالو لاستزراع الفطر.
محظور قطعًا على الأشخاص غير المصرح لهم تجاوز هذه النقطة!

وعلى مسافةِ نحو مائة قدم من المكان الذي يقف فيه جونزاليس، كان ثَمَّة درج معدني يفضي إلى ممر ضيق يعلو مزرعة الفطر. نظر إلى الخلف نحو الطريق المظلم الذي جاء منه، ثم إلى الأمام حيث كانت أعمدة مائلة من ضوء الشمس تنحدر نحو مزرعة الفطر، وفيما وراءها؛ حيث كان الظلام يكتنف كل شيء. إما أن التوءمين تركتاه، وإما دخلتا في هذا المكان.

خطا جونزاليس إلى البوابة وقال: «مرحبًا، إنني أبحث عن فتاتين، توءمين.»

«لحظة واحدة من فضلك.» هكذا قالت البوابة. كما توقَّع جونزاليس؛ فقد كان الذوق يُحتم أن ترد آلية تشغيل البوابة على أولئك الذين لا يمتلكون شفرة الدخول.

وقف جونزاليس شاعرًا بالارتباك في تلك الإضاءة الخافتة لبعض الوقت، إلى أن جاءت امرأة من الجانب الآخر للبوابة وقالت: «مرحبًا.» كانت سمراء ضئيلة الحجم؛ فكانت بشرتها خمرية وعيناها سوداوين تعلوهما طية جبهية رقيقة. كانت ترتدي حذاءً عالي الرقبة يصل إلى ركبتيها، وتنورة سوداء طويلة، وسترة واسعة من الحرير الوردي مزينة بفراشات مرسومة بخيوط وردية أكثر دكانة. كانت جذابة للغاية، وعظام وجهها دقيقة، وحركتها رشيقة. قالت: «اسمي تريش. التوءمان موجودتان بالداخل، تنتظرانك.»

«اسمي جونزاليس.»

«أعرف هذا، تفضَّلْ بالدخول.» وبينما كانت تتفوه بالكلمات الأخيرة انفتحت البوابة. انتظرت وشاهدت جونزاليس وهو يعبرها، ثم انغلقت البوابة خلفه.

سألها: «كيف تعرفين اسمي؟»

«من الجمعية. أنا صديقة لكثير من أعضائها … التوءمان بطبيعة الحال وغيرهما … ليزي.» وقفت في هدوء تشاهده وأردفت: «ماذا تعرف عن زراعة الفطر؟»

«لا شيء.» كان يعلم أن الفطر ينمو في جميع أنحاء ولاية واشنطن، وكان الناس يجمعونه بتفانٍ عظيم، وأحيانًا كانوا يحققون ما يرون أنه نجاح هائل: فطر الإنائية أو البوليط أو المروث الأهلب أو الغوشنة. في الحقيقة، لم يبدُ الأمر كله في نظر شخص قادم من جنوب فلوريدا عجيبًا وذا صبغة شمالية وحسب، وإنما خطير كذلك؛ فقد كان جونزاليس يعلم أن ما يبدو وجبة لطيفة يمكن أن يكون رسول هلاك.

«لا بأس.» هكذا قالت تريش وتوقَّفت، وتوقَّف هو إلى جوارها. ثم استدارت إليه، فلمح شفتيها ذواتَي اللون الأحمر القاني وأسنانها البيضاء. قالت: «إن هالو تحتاج الفطر كعامل تحلُّل؛ إذ يتسم الفكر بكفاءة بالغة في تحويل المواد العضوية الحية إلى سليولوز.» أومأ جونزاليس، فأضافت: «في أي بيئة طبيعية — سواء هنا أو على الأرض — تتنافس الأبواغ معًا، فيموت الكثير منها، ويجد بعضها مكانًا يمكنه فيه الترعرع، بحيث ينمو إلى كتلة أفطورية، وهذه الأخيرة تزهر وتصير فطرًا. وبينما ينمو الفطر فإننا نتدخل، كما يفعل كل المزارعين، كي نعزل أنواعًا معينة ونوفِّر ظروفًا مواتية لنموها. غير أن «بذورنا»، إن شئت تسميتها، أو الأبواغ، دقيقةُ الحجم للغاية، وتتطلب عملية العثور عليها وعزلها وحثِّها على الإزهار دقةً عالية وأسلوبًا معينًا؛ أي إنها تتطلب فنًّا.»

توقفت عن الحديث وأومأ جونزاليس.

وصلا إلى هيكلٍ خفيض عبارة عن جدران معدنية تكسوها ألواح بلاستيكية وتوقفا أمام باب مكتوب عليه «غرفة التلقيح المعقمة». عبرا من لوح بلاستيكي إلى غرفة انتظار خاصة بالمعمل المعقم. قالت: «ألقِ نظرة من هذه النافذة.» ووراء النافذة كانت روبوتات صغيرة تعمل على طاولات لا يتجاوز ارتفاعها قدمين. ومثل الروبوت الذي شاهده في حدائق بيركلي روز، كانت مزودة بعجلات تتيح لها الحركة وماسكات مزودة بأصابع دقيقة من الألياف في نهاياتها.

قالت: «إن أيديها تتسم بدقة ورهافة لا يمكن لبشر تحقيقهما. وهي تركز على مهمتها وحسب؛ فهي تحفظ نوايانا بشكل كامل وخالص.»

«إنها آلات.»

«لو شئت أن تسميها كذلك.» ثم أشارت من النافذة؛ حيث كان أحد الروبوتات يمسك بإبر تلقيح قبيحة المنظر وهو ينقل بعض المواد إلى أطباق بتري. وأردفت: «أستطيع التعرُّف على روبوتاتي من خلال حركاتها، حتى وسط مجموعة من الروبوتات الأخرى.»

لم يقُل جونزاليس شيئًا. واصلت حديثها قائلة: «إن المادة الأفطورية الخالصة تُستخدَم في تلقيح الحبوب والنخالة المعقمة. تتمدَّد المادة الأفطورية عبْر وسيط معقَّم، وتُعرف النتيجة باسم مشيجة الفطر.»

أردفت وهي تبتسم: «كثير من التفاصيل الفنية. بمجرد أن تكون لدينا مشيجة الفطر تستطيع الروبوتات أخذ سلالها والانتشار في أرجاء هالو، بحيث تغرس مشيجة الفطر في العشب والخشب الميت، وفي جذور الشجيرات … وستنمو مشيجة الفطر وتزهر؛ ومِن ثَمَّ يصير لدينا فطر.» ثم توقفت لبرهة وقالت: «أي أسئلة؟» هزَّ جونزاليس رأسه نفيًا، فقالت: «إذن فلنتجه إلى الباب التالي.»

غادرا غرفة انتظار المختبر عبْر الستار المعلق وانعطفا إلى اليسار. كان المبنى المجاور للمختبر عبارةً عن هيكل واهٍ شبيه بالخيمة ومصنوع من عوارض معدنية تكسوها ألواح بلاستيكية ملونة؛ حمراء وزرقاء وصفراء وخضراء.

قالت من خلفه: «بهذه الطريقة يكون الفطر موجودًا وقت وجبة العشاء من أجلي. أأنت جائع؟»

قال: «لستُ جائعًا بشدة. ما هذا المكان؟»

قالت: «المنزل.»

امتلأ المكان بضوء مبهج منتشر؛ إذ دخلت أعمدة ضوء الشمس التي رآها جونزاليس بالخارج وانتشر الضوء. بدا المكان شبه عادي، به جدران وأسقف عادية من الألواح الجدارية.

كانت التوءمان تنتظران في المطبخ، بين الزهور ومساحات العمل البلاستيكية الصفراء الفاقعة. جلستا عند طاولة مركزية على مقاعد من البلوط المُبيَّض.

سألت تريش: «أتودان تناول الطعام؟»

قالت أليس: «نعم، ونعتقد أن السيد جونزاليس» — ثم قهقهت — «ينبغي أن يتناول العشاء الخاص.»

قالت تريش: «لا أظن ذلك.»

سألها جونزاليس: «ما الذي تتحدث عنه؟»

بدا على المرأة التردُّد للحظة ثم قالت: «أنا أوفر للجمعية فطرًا ذا تأثير نفسي، أنواع من فطر السيلوسيب غالبًا.»

قال جونزاليس مُخَمِّنًا: «وهم يستخدمونه بهدف الاستعداد لعملية الاتصال.»

قالت: «أحيانًا. وفي أحيانٍ أخرى لا يكون سبب استخدامه واضحًا.»

قالت أليس: «من أجل الإلهام، من أجل الخيال.»

وقالت توءمتُها يوريديس: «من أجل المواساة. حين أتذكر أورفيوس ورحلتنا من باطن الأرض — اللحظة المريعة التي نظر فيها إلى الوراء وضاع إلى الأبد — حينها تنتابني حالة من الحزن الشديد، وأتناول فطر تريش كي أكبح حزني. وحين أفكِّر في اليوم الذي انضممتُ فيه إلى المينادات اللواتي مزَّقن جسد أورفيوس إربًا، أتناول فطر تريش — والذي لا يختلف عمَّا نتناوله اليوم، لحم الرب — ثم أتذكر الهياج الذي هاجمنا به المغني الجميل، وأتذكر شعور الذنب اللاحق، وحزني، لكنني أستقي العزاء من معرفة أن الرب كان سعيدًا.»

قالت أليس: «وأنا بإمكاني أن أنمو حتى طول عشر أقدام.»

قالت تريش: «بمقدور الفطر الوفاء بأغراض عديدة.»

قالت أليس: «ينبغي عليك تناول الفطر. أنت حزين ومرتبك في الوقت ذاته. سيساعدك على أن تنمو لحجمٍ أكبر أو أصغر حسب الظروف.»

قال جونزاليس معترفًا: «ربما كنت حزينًا ومرتبكًا، لكنني أعتقد أنه سيزيدني سوءًا.» ومن حوله أخذ ضوء الغرفة يخفق قليلًا، وبدأت الأشكال الموجودة عن حافة رؤيته تهتز.

قالت يوريديس: «الارتباك وصولًا إلى الوضوح. إذا كنت عاجزًا عن الخروج من تحت الأرض، فعليك أن تتعمق أكثر.»

فكرة سخيفة، لكنها علِقت في ذهنه. سأل جونزاليس: «هل يتناول أعضاء الجمعية الفطر بعد عملية الاتصال؟» في أحيانٍ كثيرة كان يستعد للدخول في البيضة عن طريق تناول بعض العقاقير ذات التأثير النفسي، فلماذا لا يحدث العكس، بحيث يتم تناول الفطر بغرض التعافي من عملية الاتصال؟ وفكَّر في نفسه: «منطق ما تحت الأرض، صورة معكوسة.»

شعر فجأة بقلق عارم يتملكه، بحيث استطاع أن يتنفس بالكاد. ترنح قليلًا، ثم جلس على كرسي ونظر إلى الأخريات. شاهدته الفتيات الثلاثة وهو يتنفس بعمق. قال: «أريد تناول الفطر.»

سألته تريش: «أأنت متأكد؟»

«أريد ذلك.»

قالت: «حسنًا، أولًا سأطعم التوءمين، ثم أجهِّز لك الفطر.»

ذهبت تريش إلى الثلاجة وأخرجت منها كيسًا بلاستيكيًّا مليئًا بخليط من الخضراوات والفاصوليا المبرعمة. نزعت السدادة المطاطية من فوهة دورق إرلنماير وصبَّت منه الزيت في قاع قِدْر معدنية مطلية كانت تُسخن على موقد غازي مفتوح. انتظرت حتى ظهرت بعض خيوط الدخان الفاتحة من القِدر ثم ألقت فيه الخضراوات والفاصوليا وقلَّبت الخليط لدقيقة أو اثنتين. بعد ذلك أطفأت قدْر طهي الأرز الكهربائي، وهو عبارة عن علبة معدنية مطلية بالسيراميك لها لون أحمر زاهٍ، ثم حملته إلى حيث تجلس التوءمان.

وضعت طبقين لامعين من الألمنيوم وعصي طعام أمام التوءمين، وفتحت قِدْر طهي الأرز ووضعت منها بعض الأرز في كل طبق، ثم أمالت قِدْر الخضراوات وصبَّت الخليط الذي بداخلها على الأرز. قالت: «تفضلا، هذا لكما.» ثم نظرت إلى حيث يجلس جونزاليس، الذي بات هادئًا على نحوٍ عجيب، وقالت: «سأعود بعد دقيقة.»

تناولت التوءمان طعامهما وأعينهما مثبتة على جونزاليس.

عادت تريش وهي تحمل سلة سلكية صغيرة مليئة بالفطر. قالت: «الفطر السحري. إنه أحد الأنواع المزروعة هنا، وقد تعرَّض لتغيرات تجعله مختلفًا عن النوع الموجود على الأرض.» ثم أخرجت ثمرة فطر كبيرة لها ساق أبيض طويل وقلنسوة ضاربة إلى البني.

سألها جونزاليس: «هل سبق أن أخطأتِ في تحديد نوع الفطر؟»

قالت تريش وهي تبتسم: «كلا. ليس علينا البحث بين آلاف الأنواع عن النوع المناسب، كما يفعل جامعو الفطر؛ فهذا الفطر خاص بنا، مزروع على النحو الذي أوضحته لك، بحيث يلائم احتياجاتنا.» ثم وضعت الفطر على لوح التقطيع وبدأت في تقطيعه إلى شرائح، وقالت: «لقد نظفته في السقيفة.» وحين انتهت، استخدمت السكين في إزاحة الشرائح نحو وعاء خزفي سماوي اللون. استدارت نحو قِدْر الطهي وصبَّت بعض الزيت فيها، ووقفت تبتسم لجونزاليس بينما كان الزيت يسخن. وعند صدور أول خيوط الدخان وضعت الفطر في القِدْر بحركات سريعة بعصي الطعام. أخذت تقلبه لنحو نصف دقيقة، ثم أمالت القِدْر وصبت الفطر في الوعاء الأزرق. ثم وضعت الوعاء أمام جونزاليس ووضعت اثنتين من عصي الطعام مطليتين باللون الأسود على حافة الوعاء.

أمسك جونزاليس بالعصوين ورفع طبقه، وبدأ الأكل، فأخذ يدفع الفطر نحو فمه. عند قِدْر الطهي أخذت تريش تقلِّب مزيدًا من الخضراوات وقالت: «إنني أطهو عشائي.»

استرخى جونزاليس في مقعده، وهو ينظر إلى الوعاء الفارغ. فكَّر في نفسه قائلًا: «حسنًا، سنرى الآن.» ثم قال: «كم نوعًا من الفطر تزرعين؟»

«عدد وافر، البعض من أنواع عادية، والبعض الآخر من نوعيات خاصة، لأغراض الأبحاث. إن ألِف تحدِّد الأنواع، وكمياتها.»

كانت التوءمان ملتزمتَين الصمت تمامًا. وبينما كانت تريش تتناول طعامها، شاهدتا جونزاليس، الذي بدا عليه الاستسلام التام. بدا ما فعله شيئًا غبيًّا للغاية، أشبه بوضع النار على موضع حرق؛ كان المنطق يقضي بذلك. ابتسم وفكَّر في نفسه قائلًا: «ما علاقة المنطق بالحياة هذه الأيام على أي حال؟» ابتسمت التوءمان له ردًّا على ابتسامته.

تساءل جونزاليس: «مَن كانت تلك المرأة؟»

سألته تريش: «مَن تعني؟»

قال جونزاليس: «المرأة العجوز، صانعة الفخار.»

قالت تريش: «إنها تصنع قدورًا فخارية، وتدرِّس. إن سينتراكس تستعين بها، وقد جلبتها ألِف إلى هنا.»

«لماذا؟» هكذا سألها جونزاليس؛ إذ ما علاقة سينتراكس أو ألِف بالفخار؟

«كي تشجع الآخرين.» هكذا قالت إحدى الفتاتين بوضوح. استدار جونزاليس لكن لم يكن بوسعه معرفة أيهما تحدثت.

ضحكت تريش وقالت: «كي تشجع الفن في هالو. صناعة الفخار من الطمي القمري، والزجاج الملون، وقماش بذلات الطيران المصنوع من السليكا القمرية.»

جلس جونزاليس يفكِّر في هذه الأشياء إلى أن أدرك أن تريش انتهت من تناول طعامها بالفعل، وأنهم كانوا يجلسون إلى الطاولة منذ بعض الوقت، منذ وقت طويل في الواقع، كما بدا لجونزاليس. وعلى نحوٍ لا إرادي، دفع جونزاليس كرسيه بعيدًا عن الطاولة.

قالت تريس: «لا بأس.» ونهضت الفتاتان من مقعديهما وسارتا خلفه. وحين بدأ في الاستدارة، شعر بأيديهما على كتفيه وعنقه، تدلك عضلاته التي ارتخت تحت ضغطها. قالت تريش: «لقد بدأ المفعول. والآن عليك أن تسير في أرجاء هالو، شمالها وجنوبها، جيئة وذهابًا …» ثم توقفت، بينما واصلت أيدي التوءمين العمل. ثم أردفت: «سِر في الغابات، وانظر ماذا نزرع هناك … فطر المروث الأهلب، وفطر الحدائق العملاق، وفطر المحار، وفطر الشيتاكي …»

«شيتاكي.» هكذا قال — شي تا كي — وكانت مقاطع الاسم تنساب وكأنها قِطَع من المعدن المصهور تنسكب عبْر المياه …

قالت: «يمكن للتوءمين أن تساعداك، أو يستطيع أحد الروبوتات أن يأخذك في إحدى جولات التلقيح. أو يمكنك الذهاب وحدَك إذا كنت تفضِّل ذلك.»

«أجل.» هكذا قال، وقد صارت صورته وهو يسير في دورة كاملة حول المدينة الفضائية، يستكشف ويعثر على ما يقع وراء ما هو مرئي للعيان، حاضرة بقوة. «سأذهب وحدي.»

قالت: «اذهب أينما شئت.» وقد التمع شعرها الأسود بالأضواء. وتساءل متى وضعتها هناك، ثم فكَّر إنها ربما كانت هناك طوال الوقت.

ومِن خلفه همست إحدى التوءمين قائلة: «لا حاجة بك للخوف. انهض، واذهب أينما يأخذك خيالك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤