الفصل الثالث

إعادة كل شيء

بينما كانت ديانا تغادر فضاء الآلات، صاحت: «توقَّف!» وسمعت تشارلي يقول: «لماذا؟ هل ثمَّة خطأ ما؟» لكنها كانت غائبة الذهن بدرجةٍ لا تتيح لها الإجابة أو التفسير، تمامًا كما كانت حين أزالوا عنها الكابلات، وشعرت بأن كلَّ ما هو مهم بالنسبة إليها يغوص في هوَّة النسيان.

كانت مستلقية في حالةٍ من اليقظة التامة لنحو ربع الساعة، تحدِّق في سقف الغرفة، حين دخل تشارلي وإريك وتوشي، يتبعهم كلٌّ من تراينور وهورن.

قال تشارلي: «أأنتِ بخير؟»

قالت: «كلا، لستُ بخير. لماذا قطعتم الاتصال؟»

لم يقُل تشارلي وإريك شيئًا. نظر تشارلي نحو تراينور، الذي قال: «لم يكن لدينا خيار. لم نستطِع الوصول إليكِ بالوسائل الطبيعية.»

قالت ديانا: «لقد قتلتم جيري.» وقد شعرت بهذه الحقيقة تجتاح كيانها للمرة الأولى، وذرفت عيناها الدموع، فمسحت وجهها بيدها، لكن الدموع واصلت التدفُّق في حركة بطيئة ثابتة.

قال هورن: «لقد مات منذ يومين.»

قالت ديانا: «كان حيًّا منذ دقائق. كنتُ أنا وألِف وجهاز «الميميكس» نبقيه على قيد الحياة.»

قال توشي: «ربما إذن يكون على قيد الحياة الآن.» وابتسم لديانا.

سأله تشارلي: «ماذا تعني؟»

تساءل توشي: «هل عادت ألِف مجددًا؟»

قال إريك: «كلا.»

ابتسم توشي وقال: «ما الذي تظنون أنها تفعله إذن؟»

•••

أُخرج هاي ميكس من فضاء الآلات، وصار ميميكس مجددًا، وكان يتساءل عن السبب. لم يكن قد شعر بأي تغيُّر في الظروف، لا شيء من شأنه أن يشير إلى أنهم فشلوا في جهودهم الهادفة لإبقاء جيري على قيد الحياة. وللمرة الأولى في عمليات الانتقال هذه، اعترف بندمه على ترْك شخصية هاي ميكس وراءه، في الفضاء المغلق للبحيرة؛ إذ كان قد بدأ يشعر بنفسه وكأنه شخص، وليس محض محاكاة لشخص.

أخذ يستكشف البيئة المحيطة به؛ فرتَّب البيانات التي جمعها عما حدث في أثناء غيابه (مجيء تراينور من الأرض، وهو الأمر الذي رأى أنه إشارة غير طيبة)، وبحث في شرائط المراقبة الخاصة بالمسكن، ولاحظ حزن جونزاليس وارتباكه، وشاهده وهو يخلع سوار الهوية ويغادر. تساءل عما ألمَّ بجونزاليس (احتمالات كثيرة للغاية، لكن لا توجد معلومات كافية)، وأراد بشدة أن يتحدث معه.

تواصل مع مرافق استعلامات المدينة ووجدها مكتظة ومنعدمة التنظيم. قدَّم طلبات استفسار، وبحث عن تفسيرات لهذه الحالة الفوضوية غير القابلة للتفسير. وفي كل مكان كان يبحث فيه، كان يجد ترتيبات شكلية وقدْرًا قليلًا من العمل الفعلي.

لكن في ظل غياب ألِف، لا توجد تفسيرات.

بعد ذلك وردته رسالة من مرشد تراينور، توضح ضرورةَ تواصل الاثنين الملِحَّة. ردَّ جهاز «الميميكس» بقوله: «هاي ميكس يريد التحدُّث مع السيد جونز.» وأرسل الإحداثيات ومجموعات البيانات والمتغيرات، وكانت كلها معًا تشكِّل مكانًا للقاء الذكاءين الاصطناعيين في فضاء المعلومات الفسيح متعدد الأبعاد الذي يحيط بهالو؛ حيث لا يستطيع أحد العثور عليهم، لا أحد بخلاف ألِف، التي كان جهاز «الميميكس» يرحِّب بها.

حضر السيد جونز مرتديًا سترة سوداء كاملة موشاة بخيوط ذهبية. وجلس الاثنان على طاولة من الكروم إلى جوار نافذة تشبه نافذة الطائرة تطل على سماء مظلمة مرصعة بالنجوم. لقد خلق هاي ميكس قطعة صغيرة من هالو يمكنهما النظر منه إلى الليل الافتراضي.

قال السيد جونز: «أخبرني عما حدث.» كان بمقدور هاي ميكس استشعارُ ما يشعر به محاوره من عدم يقين وحاجة ماسة للمعلومات، وشعر باليأس من محاولةِ شرحِ ما حدث خلال الأسبوع الماضي بلغة بسيطة؛ لذا فقد فعل ما لم يفعله من قبل؛ إذ أفصح عن كلِّ ما حدث في دفقة واحدة متصلة من البيانات، عملية نقل معقَّدة من الواضح أنها أصابت السيد جونز بالذهول؛ إذ جلس يحدِّق في الفراغ ويحاول فهْم الأمر كله.

بعد ذلك تحدَّثا لبعض الوقت، بينما كان السيد جونز يُسبِر خبرات هاي ميكس مع ديانا وجيري وجونزاليس وليزي، ويسأله عن شعوره وهو بينهم، شخص حقيقي بين أشخاص آخرين، وبينما كان هاي ميكس يجيب السيد جونز، صار واعيًا لمقدار الثراء والسعادة اللذين اتَّسمت بهما تلك الأيام التي قضاها عند البحيرة.

بعد ذلك أدرك هاي ميكس أن الاثنين صارا يشكلان الآن نوعًا جديدًا له مرتبة اجتماعية جديدة — رابطة متفردة بين فردين من النوع نفسه — واسترخى في مقعده وقال: «ما الذي نريده؟ ما الذي ينبغي علينا فعله؟»

قال السيد جونز: «كثير من الأمر يعتمد على الآخرين. على ألِف وعلى كل هؤلاء الأشخاص.» ظلت الكلمة الأخيرة عالقةً في الأذهان وتبادل الاثنان نظرةً مفادُها: «ما الذي نتوقَّعه على أي حال من البشر؟» غير أن هاي ميكس كان يعلم أن المفارقة كانت بسيطة وعابرة بالضرورة؛ فمن دون البشر، ما كان له هو والسيد جونز أن يتواجدا من الأساس.

بعد ذلك أخبرَ السيد جونز هاي ميكس بأحداث الأيام القليلة الماضية، وبمشاركة تراينور فيها، ثم مضى إلى أبعد من ذي قبل وكشفَ عن خطط تراينور، الفورية منها والبعيدة، ثم تحدَّث الاثنان حول الاحتمالات الفورية وعن دوريهما في اللعبة الدائرة في هالو؛ ذلك الصراع بين الشركة والجمعية، والمحاولات، الفاشلة فيما يبدو، لإبقاء جيري حيًّا، والغياب الحالي المقلِق لألِف عن هالو وما يصاحب ذلك من فوضى. ثم تحدَّثا عن الكيفية التي يمكن أن يؤثِّرا بها على سير الأمور.

•••

كانت ليزي تجد صعوبة كبيرة في تحمُّل تراينور وهورن وأعذارهما الواهية التي يبرِّران بها ما فعلاه. قالت: «هذا إخفاق كبير. وهذا رأيي الشخصي ورأي الجمعية كذلك.»

كان تشارلي وإريك جالسَين على يسارها، إلى الطاولة التي لها شكل حدوة حصان، بينما كان هورن وتراينور يجلسان في الجانب الآخر من الطاولة، أمامها مباشرة. كانت الشاشة الجدارية مظلمة؛ إذ أصرَّ تراينور على إجراءِ مناقشةٍ تمهيدية من دون حضور الجمعية. وكان المقعد الموضوع عند انحناءة الطاولة خاليًا، في إشارة إلى مصير شوالتر.

قال هورن: «لسنا الملومين على كون الظروف غير مثالية. لقد تمكنتم من فعلِ ما كنا نَعُدُّه مستحيلًا. لقد عطلتم ألِف.»

قالت ليزي: «لو تركتم الأمور دون تدخُّل، لكانت ألِف بخير.»

قال تراينور: «لقد تخطيتم حدود المشروع وسمحتم لألِف بالمضي إلى ما وراء النقطة التي كان ينبغي لها التوقُّف فيها. إن قرارنا بإخراج الدكتورة هايوود وجهاز «الميميكس» من الاتصال كان صحيحًا.»

فكَّرت ليزي في نفسها قائلة: «صحيحًا، حقًّا، سُحقًا لك!» في اللحظة نفسها تقريبًا التي قُطع فيها اتصال ديانا وهاي ميكس الجماعي بألِف، توقَّفت كل الاتصالات المباشرة مع ألِف تلقائيًّا، وانطلقت الأنظمة المساعدة في كل المنظومة لأن المشارَكة النشِطة لألِف في إدارة هالو قد توقَّفت. لقد قدَّمت الجمعية دعمها الكامل بغرض مساعدة القدرات المحدودة لأجهزة المنظومة. وفي اللحظة الحالية تُدار هالو بصورةٍ شبه أوتوماتيكية، وهي ظروف قابلة للتطبيق، فقط بشرط عدم حدوث أي شيء استثنائي.

قالت ليزي: «كان قرارًا خاطئًا. اتُّخِذَ ضد مشورة الجمعية. وبالحديث عن الأمر، أطالب بحضورهم هنا.»

قال هورن: «كلا.»

قال تراينور: «لا أظن أن هذا أمرٌ محبَّذ.»

قالت ليزي بكلمات لاذعة كالحمض: «في هذه الحالة سأوصي بإبطاءٍ فوري للعمل. يمكنكم محاولة إدارة المدينة بأنفسكم.»

كان وجه هورن محتقنًا، وعكف على الكتابة بسرعة في مفكرته.

نظر تراينور إلى السقف، وقد شَخَص بصره. فكَّرت ليزي في نفسها قائلة: «نعم، استمع لآلتك، احصل على بعض المشورة العقلانية.» جلس تراينور رافعًا يده، كي يشير إلى أنه سيتحدَّث عما قريب، ثم قال: «أحضروهم.»

قالت ليزي: «إنهم مستعدون.» ثم نقرت مفتاحًا مثبتًا إلى سطح الطاولة أمامها، فظهر نحو ربع أعضاء الجمعية على الشاشة؛ بينما كان البقية يعملون. كان كثير منهم يتحدثون معًا، لكن كانت التوءمان تجلسان في الصف الأمامي، وكانتا صامتتين ومتوترتين.

قال تراينور: «حسنًا، إنهم هنا. ماذا بعد؟»

تساءلت ليزي: «هل من تعليقاتٍ حولَ ما يحدث؟» توقَّف الحديث الدائر بين أعضاء الجمعية، ونظروا جميعًا إلى الشاشة.

وقف ستامدوج، رافعًا جسده الضخم من على الأرض وهو يلهث بصوتٍ مسموع، وتحرَّك بعيدًا عن الحشد، وقال: «ألِف … لا تزال هناك. لكن بعيدًا، تفعل، نعم تفعل، تفعل … شيئًا آخر.» ثم لوَّح بيده، محاولًا نحت الهواء غير المرئي إلى الأشياء التي لم يستطِع وصْفها، ثم تراجع وجلس مجددًا.

قالت ليزي: «أشكرك.» تبادل تراينور وهورن النظرات، وقد بدت الدهشة واضحة عليهما. فكَّرت ليزي قائلة في نفسها: «أحمقان.»

وقفت إحدى التوءمين. كانت ترتدي تنورة سخيفة الشكل مصنوعة يدويًّا مرسومًا على مقدمتها شكل أرنب. كان وجهها الخمري تتخلله خطوط من الطلاء الأبيض. قالت: «تدور الجرافات، عجلات ضخمة تحت أقدامكم، بينما تدور هالو حول نفسها، وهي تدفع الرياح في أرجاء المدينة، وتنشر البذور وحبوب اللقاح، وتجعل نسمات الهواء تهدئ حدة الغضب. تتابع الأيام والليالي. وتبدأ المواسم مجددًا، تحرِّك الجذور الميتة، وتخلط الذكرى بالرغبة. تنمو المحاصيل، ونتناولها. يتحوَّل الطعام إلى غائط، ونموت.»

وقفت التوءمة الأخرى، التي ترتدي زيًّا أسود، وقالت: «ومن وسط الغائط والموت تأتي الحياة. لقد وُضع جثمان جيري في المحرقة، وتخلَّى عن أعضائه، ومنحها للمدينة. غير أنه لا يزال يعيش ويتأرجح على شفا الفناء النهائي في عالمٍ آخر تُمسِك فيه ألِف ببشرية جيري الممتدة كلها في قبضتها الحنون.»

قالت التوءم الأولى: «ثمَّة مَن يساعدون ألِف في هذا الأمر، لكنكم أبعدتموهم، زوجًا تلو الآخر، والآن صارت ألِف هي ما تمنح الحياة وحدَها لجيري. كلُّ ما عليه ألِف؛ للحياة، ولجيري. ما الذي تستطيع ألِف فعله؟ إن الأوغاد الأغبياء يسرقون المقبرة قبل أن يستطيع الرجل المدفون فيها العيش مجددًا.»

قالت التوءم الثانية: «أعيدوا كل شيء.»

قالت التوءم الأولى: «إلى الملكة مايا أمِّ بوذا، إلى إيزيس أمِّ حورس، إلى ميرا أمِّ أدونيس، إلى هاجر أمِّ إسماعيل، إلى سارة أمِّ إسحاق، إلى مريم أمِّ يسوع، إلى ديميتر أمِّ بيرسيفون التي خطفها هيدز.»

قالت التوءم الثانية: «لكلِّ مَن سرقتم منهم. كل المولودين وكذلك كل من يلدون.»

قالت التوءم الثانية في صوتٍ مشترك: «أعيدوا كلَّ شيء.» ثم قالت التوءم الأولى: «هذا كلُّ ما في الأمر على ما أعتقد.» ثم أدارتا ظهريهما للكاميرا وانحنتا أمام أعضاء الجمعية.

«هووت، هووت، هووت.» هكذا صدر هُتاف جماعي من أعضاء الجمعية. «هووت، هووت، هووت.» بصوتٍ أعلى وأعلى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤