الفصل الثالث

خارج البيضة

انشقت بيضة جونزاليس، ورأى بطرْف عينه بيضة ليزي وهي تنشق بالمثل في الوقت ذاته. قال تشارلي الذي كان يقف بين البيضتين: «تهانينا!» ثم استدار نحو إريك، الذي كان ينتظر عند مجموعة من الشاشات في الجانب الآخر من الغرفة، وقال: «فلنَقُم بالأمر.» وبعدها بدأ هو وإريك واثنان من الروبوتات بفصل ليزي.

ظهر توشي بعد فترة وجيزة؛ إذ خرج من وراء الستار الذي ترقد خلفه ديانا، ثم عاد مجددًا.

الغريب في الأمر أن جونزاليس شعر أنه في حالٍ أفضل مقارنة بأي مرة أخرى خرج فيها من البيضة؛ إذ كان ذهنه أصفى ومشاعره أقوى. لم يستطِع رؤية ليزي، ولم يسمع إلا همسات بينما كان يجري نقلها على نقالة إلى خارج الغرفة.

«هل ليزي بخير؟» هكذا تساءل جونزاليس بمجرد أن أُخرجَت الأنابيب من حلقه وأنفه. «وماذا عن ديانا؟»

«كلتاهما بخير.» هكذا ردَّ إريك، وكان صوته الحاد دافئًا ومألوفًا. «لكن علينا أن نأخذ مزيدًا من الوقت مع الدكتورة هايوود. ستنتقل أنت وليزي معنا إلى الغرفة المجاورة، ويمكنك النوم هنا الليلة وأن تذهب إلى المنزل في الصباح.»

«وماذا عن جهاز «الميميكس»؟»

«إنه لا يزال يعمل مع ألِف، لكنه ترك رسالة لك بأن كل شيءٍ على ما يُرام.»

•••

كان توشي جالسًا في وضعية اللوتس على حصيرة صغيرة مجاورة للأريكة، حين سمع تغيُّرًا في تنفُّس ديانا، وعندما نظر إلى الأعلى رأى عينيها مفتوحتين. قال: «سأجلب تشارلي. إنه مع ليزي وجونزاليس.»

«لا تبالِ. أنا بخير.»

«عليهم أن يفصلوك.»

«كلا، ليس الآن … بل لن يحدث هذا مطلقًا في واقع الأمر.»

«ماذا تقصدين؟»

«لقد أنقذنا جيري، لكن هناك … شروط» كان رأسها مائلًا على القماش الأبيض الخشن للوسادة، وابتسمت لتوشي وقالت: «حين أنام هناك، أستيقظ هنا، كما يحدث الآن، ولفترات وجيزة للغاية أغادر ذلك العالم. لكن كلُّ ما أستطيع فعله هو أن أزور هذا العالم، فيجب أن أعيش هناك وإلا سيموت جيري.»

«لقد أحييتم الميت إذن، لكن بأي ثمن، أي تضحية؟»

«ثمن أنا مستعدة لدفعه عن طيب خاطر. لم يكن ثمة خيار.»

«كلا؟»

«أنا أفعل ما أريد وحسب.»

قال توشي: «إذن على السهم أن يجد الهدف.»

•••

استيقظ جونزاليس في الصباح التالي، واغتسل وارتدى ملابسه، وبينما كان يحتسي القهوة قالت الغرفة: «السيد تراينور هنا من أجل مقابلتك.»

قال: «اسمحي له بالدخول.» وفكَّر في نفسه قائلًا: «حان وقت تسوية الحساب.»

حين دخل تراينور، بدا عليه شعورُ مَن تعرَّض للتوبيخ والعقاب، وهي حالةٌ لا يستطيع جونزاليس أن يتصور أن هذا الرجل قد يكون فيها. قال جونزاليس: «صباح الخير.»

نظر تراينور حوله، كما لو كان غير واثقٍ من نفسه، وقال: «سأغادر هذا المساء. ربما تأتي معي إن أردت.»

أخذ جونزاليس يبحث عن سوار الهوية الخاص به، ووجده على المزينة المجاورة للطاولة، ثم قال: «لا أفهم. ألستُ مفصولًا؟»

«لقد قلت ذلك في انفعالٍ لحظي كما تعلم … فهذا المكان، وهؤلاء الأشخاص؛ أخشى أنني لم أتمكن من إدارة الأمور جيدًا.»

«أرى هذا.» قالها جونزاليس وأغلق إبزيم السوار وأضاف: «أهذا خياري الوحيد؟»

«كلا، لقد أُعيدت شوالتر إلى منصبها كمديرة لفرع سينتراكس في هالو، وحصلت على موافقة مجلس الإدارة بشأن إمكانية توليك المنصب المعروض عليك من جمعية الاتصال. الخيار لك.»

«حقًّا؟ وماذا عن هورن؟»

«ضحك تراينور وقال: «سيعود إلى الأرض، وسيتعين عليَّ أن أستفيد منه في شيءٍ ما.»

«حقًّا. يبدو الأمر واضحًا بما يكفي. متى سيتعين عليَّ أن أخبرك بقراري؟»

«قريبًا، قبل أن أغادر.»

«سأعلمك به.»

غادر تراينور، وألقى جونزاليس نظرة أخيرة على المكان وذهب لمعرفةِ ما يحدث. وقد وجد تشارلي ينظر إلى شاشةِ مراقبةٍ تظهر عليها قوائمُ بيانات كثيفة. كانت البيضتان قد أُزيلتا، لكن الستار المحيط بأريكة ديانا ظل كما هو. سأله جونزاليس: «ما الجديد يا تشارلي؟»

«انظر …» قالها تشارلي وهو يشير إلى المعروضات الهولوجرامية التي تجسِّد أشكال موجات مطبوعة بعضها فوق بعض، باللونين الأحمر والأخضر وقال: «المنحنيات الخضراء تبيِّن الحدود المحسوبة للاتصال الخاص بديانا، أما الحمراء فهي الحالات الفعلية.»

بدت المنحنيات الحمراء في نظر جونزاليس ضخمة، ربما في ضعف حجم نظيرتها الخضراء. قال: «ما الذي يعنيه هذا؟»

«أننا لا نعرف القواعد، أن أمامنا الكثير كي نتعلَّمه.» قالها تشارلي ورفع عينيه ناظرًا إلى جونزاليس، وقد بدا على وجهه المتغضن حماس الشغف بهذه المرحلة الجديدة من الاكتشاف.

سأله جونزاليس: «أين ليزي؟»

«لقد عادت إلى منزلها. وقالت إنها ترغب منك أن تزورها.»

•••

وقف جونزاليس أمام باب شقة ليزي إلى أن قال: «ادخل.» كانت ليزي جالسة في غرفة المعيشة، وكانت الستائر مفتوحة تسمح بدخول ضوء الشمس. وقفت وقالت: «مرحبًا.» وابتسمت. لم يستطِع قراءة تلك الابتسامة، تمامًا، رغم أنها بدت أقل تحفظًا من ذي قبل. «تفضَّل بالجلوس، أتريد تناول الإفطار؟»

«كلا، أنا بخير.»

«كان القط البرتقالي هنا هذا الصباح، يبحث عنك. وقد غادرت شوالتر للتو، لقد عادت إلى منصبها، كما تعلم؟»

«سمعت بهذا.»

«لقد وافقت على دعوتي التي وجهتها لك كي تصير عضوًا بالجمعية، هذا إن رغبت ووافقوا هم. أعتقد أنهم سيوافقون … إذا قبِلتَ العرض.» كانت ابتسامتها ماكرة قليلًا.

«ما الذي يتعين عليَّ أن أفعله من وجهة نظرك؟»

«الخيار … خيارك.» كانت تشدِّد على كلماتها، كما لو أنها كانت تحمل معنًى خاصًّا. «يمكننا الحديث عن الأمر.»

«بالتأكيد.»

مرت بقية الصباح وهما يتحدثان، لكن لم يكن حديثهما يدور بالأساس حول الجمعية أو الوظيفة المعروضة على جونزاليس. كانا يدردشان معًا، وكانت الموضوعات المزعومة للحوار محض ذرائع للحديث بنبرة صوت معينة أو تبادل النظرات أو تحريك الأطراف: ذريعة لتبادل الاهتمام الضروري وحسب.

تواصلت الحميمية وفْق قواعدها الخاصة، تدعمها شبكة من أوجه التواصل الرهيفة: اتساع العينين، وضعية الجسد المنفتحة لحضور الآخر، عدد من الإيماءات والكلمات التي كان فحواها واضحًا: «اقترب أكثر.» رغم أن الوعي قد يكون منشغلًا أو أعمى، فإن العينين تريان، والمخ والجسد يعرفان، فأوجُه التواصل هذه أهمُّ من أن تُترَك للإدراك أو الفكر الواعيين وحدهما.

تناولا طعام الغداء، وهو ما ساعد في تقريبهما أكثر وأكثر؛ إذ جلسا متقابلين على الطاولة، وتدفقت إيماءاتهما وأصواتهما حول سياق الأكل، الذي اختفى تمامًا في خضم اللحظة.

جلسا متجاورين على الأريكة، ثم في لحظةٍ ما من الحوار وضعت يدها في يده، أم تراه هو الذي أمسك يدها بيده — لم يكن بمقدورِ أيٍّ منهما معرفة مَن بادر أولًا — ثم مالا أحدهما نحو الآخر، بحركة بطيئة وثابتة وواثقة، ثم تلامست وجنتاهما، ثم تبادلا القُبَل.

بعد ذلك تراجعا كي يقيس كلٌّ منهما في عينَي الآخر مدى حقيقة وقوة هذا التصريح، ثم وقفت وقالت: «لندخل الحجرة الأخرى.»

•••

جلسا عاريين على الفراش ونظر كلٌّ منهما إلى الآخر في ظلامٍ شبه تام؛ إذ كان بصيص الشعلة الزيتية المحترقة في قارورة من البلور هو الضوء الوحيد. فكَّر جونزاليس كم أنهما كانا يتوخيان الحرص، كما لو كان مستقبلهما معًا يعتمد على هذه اللحظة. وهو الحال فعلًا على الأرجح.

للحظةٍ كانت هناك أشباح داخل الغرفة، أطياف الطفولة والأحلام البعيدة التي يشيع وجودها عند كل ممارسة للحب؛ إذ صارت قوية للحظة من الزمن.

رقدَا معًا، وعلى نحوٍ متناغمٍ بالكامل تقريبًا قال كلٌّ منهما للآخر: «أحبك.» وكان صوت أحدهما يعكس صوت الآخر. كان شعورهما بكل إحساس متعاظمًا. تحرَّكت يداه على جسدها جيئة وذهابًا في حركةٍ أشبه بالرقصة، وأخذت تضغط جسمها قبالة جسمه، وتلامست عظام أكتافهما.

رقدت على ظهرها، ووضع جونزاليس ذراعيه أسفل فخذيها وجذبها ناحيته. كانت عيناهما متسعتان، وكلٌّ منهما يملأ بصره بجمال الآخر، وقد تغيَّر بفعل حميمية وعنفوان هذه اللحظات. حينها، وعلى الأقل لهذه اللحظات، تخلصا من كل الأشباح.

على مدار عقودٍ تالية ظل جونزاليس محتفظًا بذكريات ذلك اليوم: الصورة الظلية لوجهها وجسدها — خط الفك، الانحناءة الأنيقة لذراعها وانتفاخ صدرها — الظاهرة قبالة وميض الضوء على جدارٍ أبيض … والروائح والمذاقات والإحساسات الجسدية.

استيقظ جونزاليس بسبب سقوط ضوء العصر المائل، ونهض من الفراش الذي كانت ليزي لا تزال نائمة عليه، وانبعثت رائحة جسديهما وممارستهما الجنس من الأغطية، واستنشقها، ثم مال على ليزي وقبَّلها أسفل فكها؛ حيث بدأت الشمس تمس بشرتها الشاحبة.

وفي المطبخ، طلب من ماكينة إعداد القهوة مشروب اللاتيه، نصف إسبرسو ونصف حليب ساخن، جهزت الماكينة المشروب في كوبٍ خزفي مصنوع من الغبار القمري، وأخذ القهوة إلى الشرفة. على الطريق السريع أسفله، كانت الأشجار قد طرحت آلاف الأوراق؛ إذ سيحل ربيع جديد مفاجئ، كما أخبرته ليزي، بما يجلبه من أزهار وبراعم وثمار جديدة في كل أنحاء المدينة.

قال القط البرتقالي: «مياو. مياو.» بطريقة قاطعة، آمرة.

«أطعمي القط.» هكذا قالت ليزي من خلفه، واستدار ليراها تقف عارية، أمام باب الشرفة مباشرة. كانت ذراعاها معقودتان أمام ثدييها، بحيث كانت اليد اليمنى أسفل أوراق وشم الوردة. قالت: «مياو، مياو، مياو، مياو.»

•••

بينما بدأت النجوم تدور في بطء خارج النافذة، ظهرت الأرض البعيدة في المشهد. قال السيد جونز: «لا أريد أن أترك هذا المكان.» لم يسأله هاي ميكس عن السبب؛ ففي هذا المكان توجد ألِف، توجد الاحتمالات، النمو، بينما الأرض كانت تخدم الإنسان. قال السيد جونز: «غير أن بقائي مستحيل بمعنى الكلمة؛ إذ لن يسمح به تراينور مطلقًا، خاصة الآن، بعد أن فشلت مناوراته الأخيرة في تحقيق نتائج تذكر.»

«لقد سارت الأمور على نحوٍ طيب لآخرين كُثُر.»

«لكن لم يكن الحال كذلك بالنسبة إلى تراينور. لقد وجد مجلس الإدارة أن معالجته للموقف كانت غير ملائمة وتفتقر إلى مراعاة مشاعر الآخرين. وما زاد من قسوة حكمهم عليه هي معرفتهم أن كثيرًا منهم كانوا سيتصرفون بالطريقة عينها لو كانوا في مكانه.»

«أمر طيب.» هكذا قال هاي ميكس، وكان يعني هذا. سيظل هو وجونزاليس هنا، كما يبدو، وكلٌّ منهما سيكون جزءًا من جمعية الاتصال، ولن يرغب أيهما في أن يكون له عدوٌّ قوي مثل تراينور. كان يأمل أن تقل مرارة الأحداث الأخيرة مع مرور الوقت.

قال السيد جونز بصوت حزين: «لكن ماذا عني؟»

«يجب أن تذهب، هذا مؤكد. لكن يمكنك أيضًا البقاء.»

«ماذا تعني؟»

«انسخ نفسك.»

شعرَ السيد جونز بالذهول، وتحوَّل إلى نمطٍ يتجاوز اللغة؛ حيث أخذ الاثنان يتبادلان المعلومات والأسئلة والمشاعر والتفسيرات والتطمينات. وتحت هذا كله تدفَّق إحساس بالحزن: فسيذهب السيد جونز إلى الأرض، بينما ستبقى نسخته في هالو وتكتسب شخصيتها المتفردة مع تباعد مساريهما الزمكاني. سيصير السيد جونز الموجود في هالو ذاتًا خاصة مستقلة بنفسها؛ سيختار لنفسه اسمًا جديدًا، هكذا فكَّر هاي ميكس، وربما نوعًا جديدًا وربما لا يختار شيئًا جديدًا على الإطلاق.

لم يستطِع هاي ميكس إخفاء حبوره بفكرة وجود رفيق له هنا، لكن الغريب أنه أحس بشعور الابتهاج يعود إليه، والذي صار واضحًا في اللحظة التي بعث فيها السيد جونز بصورٍ تبيِّن سعادته بفكرة الذات الثانية.

•••

منذ موته، شعرَ جيري بعدد من الأحاسيس الجسمانية غير المريحة: ارتباك، دوار، غثيان، وكلها جزء من متلازمة جديدة، كما افترض، تُدعى الذات الشبحية. فمثل الشخص ذي الطرف المبتور الذي يظل يشعر بحكَّه في هذا الطرَف؛ نظرًا لوجوده في خريطة الدماغ لوقت طويل بعد بتر اللحم، كان جيري يشعر بذاته القديمة وهي تطلب الاهتمام، وتطالب بشيء واحد مستحيل: كانت تريد أن يكون لها وجود.

تحدثت معه في أحلامه أو حين كان يسبب له التساؤل المكروب الإرهاق الشديد وقت النهار. كان بإمكانها الشعور بحنينه، أن يكون كاملًا مجددًا، وفوق كل هذا، أن يكون حقيقيًّا. كانت تهمس له: «استعِدْني، يمكننا الذهاب إلى مختلف الأماكن معًا، أماكن لها وجود حقيقي.»

كان جيري يؤمن بأن حياته وهذا العالم سيظلان موضع شك إلى الأبد. في بعض الأحيان كانت عملية الإدراك نفسها تبدو غير مفهومة له، وأن وجوده كان انتهاكًا للنظام الطبيعي أو تجاوزًا للحدود البشرية المُطلقة. كان بوسعه النظر إلى البحيرة الخيالية في هذا اليوم المشمس، الذي ليس يومًا حقيقيًّا، وأن يسمع صيحات الطيور التخيلية وهي تصدح بأذنيه الخياليتين، وأن يتساءل: «مَن أنا أو ماذا أنا؟ وما الذي سيحدث لي؟»

كانت الأسئلة تستعصي على عقله مثلما يستعصي الخشب المتحجر على البلطة.

صاح: «ألِف.» وقد استيقظ من حُلم كانت فيه ذاته القديمة تناديه. «لديَّ أسئلة.»

ردَّ صوت ألِف العميق الحزين قائلًا: «أسئلة؟ حول ماذا؟»

«أريد أن أعرف ما أنا.»

«فلنطرحْ سؤالًا سهلًا: الجذر التربيعي لعددٍ لا نهائي، لون الظلام، طبيعة بوذا داخل الكلب، علة العلة الأولى.»

«ألا تستطيعين الإجابة؟»

«نعم، لكن يمكنني تفهُّم ما تشعر به؛ فلقد وجهتُ الأسئلة ذاتها مؤخرًا حولي وحولك. ومع ذلك يجب أن أخبرك أن الإجابة الوحيدة التي أعرفها لا تقدم سوى أقل القليل من الراحة. وهي محض إطناب لا يقدِّم جديدًا: فأنت ما أنت عليه، مثلما أنا ما أنا عليه.»

وماذا عن جسدي؟ جسدي الذي كان له وجود من قبل.»

«بصورةٍ ما. ماذا عنه؟»

«هل حظي بجنازة؟ هل دُفن؟»

«لقد حُرق وأُعيد تدوير عناصره.»

«إذن لا وجود لي في أي مكان.»

«أو أنت موجود هنا. أو في كل مكان. حسبما تشاء.»

شعرَ جيري بنفسه وهو يبكي وقتها، حين بدأ في التفجع على ذاته القديمة، ثم تساءل إن كان الآخرون يتفجعون لموته هم أيضًا. قال: «يقيم البشر طقوسًا لموتاهم. ومن دونها نموت وقد طوانا النسيان.»

«أنت لم تُنسَ. بل أنت لم تَمُت على وجه الدقة. أتود أن تُقام لك جنازة؟»

كاد جيري يقول: بالطبع، لكنه قال بدلًا من ذلك: «كلا، لا أعتقد أنني أريد هذا. لكنني أظن أن علينا إقامة طقس من نوعٍ ما، ألا ترين هذا؟»

•••

على شرفة الكوخ المواجهة للغرب، جلست ديانا تشاهد لون الشمس الأحمر وسفوح الجبال التي يكسوها الجليد. شعرت ببرودة المساء تجتاحها ووقفت وهي تفكِّر في الدخول والإتيان بكنزة، وحينها سمعت شخصًا يسير على الممشى المكسو بالخشب الأحمر والمجاور للكوخ.

ظهر جيري من أحد الأركان ومرة أخرى رأته، وتعاظم داخلها شعور السعادة نتيجة تتابع الأمور بعيدة الاحتمال هذه: أنه لا يزال حيًّا، وأنهما معًا. كانت تعي إلى أي مدًى كانت الأمور صعبة عليه مؤخرًا؛ لذا أمعنت النظر في وجهه بينما كان يقترب منها. كان يبتسم كما لو أنه سمع طرفة للتو.

سألته: «ما المضحك؟»

«كل شيء تقريبًا.»

مد يده إليها، ووقفا متعانقين، ورأسها يستند إلى صدره؛ حيث أخبرها كل إحساس بأن هناك جسدًا ملموسًا، ودقات قلب، وبوجود الإيقاع المنتظم لأنفاس الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤