الفصل التاسع

الحرب

إن الحرب والاستعداد لها والتهديد بإثارتها تَسُد — إن عاجلًا أو آجلًا — كل طريقٍ يؤدي إلى ترقية المجتمع. هذه هي الحقيقة المُرة التي لا مَفر منها، الحقيقة التي اتضَحَت لنا من البحوث التي قدمناها في الفصول السابقة من هذا الكتاب.

والآن سوف نبحث بإيجازٍ شديد في طبيعة الحرب، وأسبابها، وما يمكن أن يَحل مَحلها إذا أمكن لنا أن نستغني عنها، وطرق علاج هذا الجنون العسكري الذي أصاب الناس في هذه الأيام.

(١) طبيعة الحرب

  • (أ)

    الحرب ظاهرةٌ إنسانيةٌ محضة. إن الحيوانات الدنيا قد تتبارز، وهي في حرارة التهيج الجنسي، وقد تَقتتِل في سبيل القوت، أو لهوًا ولعبًا؛ فالذئب لا يلتهم الشاة إلا وهو جائع، وهو في هذا كالقَصَّاب يقتل الذبيحة ليبيعها لنا طعامًا نأكله. والهِرة قد يحلو لها أن تلعب بالفأر فتقاتله من أجل ذلك، وهي حينئذٍ أشبه ما تكون بالصائد يخرج للصيد فيقتل في سبيل لَهوِه الحيوان. إن عمل الذئب والهرة، كعمل القصَّاب والصائد، ليس فيه من الروح الحربية — كما نعرفها — لمحةٌ ولا إشارة. وكذلك القتال بين الكلاب الجائعة، أشبه ما يكون بالشِّجار بين السُّكارى في الحان — ليس من الحرب في شيء. إنما الحرب معناها الفتك بالألوف في نظامٍ مُتعمَّدٍ مقصود، أجل إن هناك حشراتٍ اجتماعية تخرج إلى القتال في جيوشٍ مُنظَّمة، ولكنها تُوجِّه هجماتها دائمًا نحو عدوٍّ من جنسٍ آخرَ غير جنسها، إن الإنسان لَفريدٌ في تنظيم قتل الألوف من أبناء جنسه.

  • (ب)

    إن بعض علماء البيولوجيا — ومن أبرزهم سر أرثر كيث — يرون أن الحرب وسيلة الطبيعة في تطهير المجتمع، وهي الوسيلة التي تَكفُل له بقاء الأصلح من الأفراد والأمم المتمدنة. ولكن هذا زعمٌ باطل؛ إذ إن الحرب تفتك بالشبان والأقوياء، وتُبقي على المرضى والضعفاء. وليس هناك ما يحملنا على أن نعتقد أن الشعب الذي أَلِف وسائل العنف وأجاد فنون الحرب أرقى من الشعوب الأخرى؛ فليس أرقى الأمم أشدها جُرأة على القتال. ولم يبرهن التاريخ على أن أقدر الناس على الحرب هم أصلحهم للبقاء. الحرب دائمًا تقضي على نُخبةٍ من الرجال الأقوياء المُمتازِين، وهي بالنسبة للأمم والشعوب لا تسير على قاعدةٍ معروفةٍ مرسومة؛ فهي أحيانًا تضمن السيادة والبقاء للشعوب التي تجيد فن القتال، وأحيانًا أخرى تنتهي بدمار هذه الشعوب وتُبقي على الشعوب التي لا تُتقِن فنون الحرب.

  • (جـ)

    تُوجَد في العصر الحاضر مجتمعاتٌ إنسانيةٌ بدائية، مثل الإسكيمو، لا تعرف الحرب، بل ولا تخطر لها على بال. في حين أن كل المجتمعات المُتحضِّرة مجتمعاتٌ محاربة، فهل الحرب والمدنية أمران متلازمان؟ وهل الحرب ضرورة للحضارة لا مفر منها؟ تدل البحوث الأثرية على أن المدنيات القديمة كانت تعرف الحرب وتُجيدها، وأن الشعوب المتأخرة تتخذها وسيلة لتحقيق أغراضها؛ فهي إذًا ليست من مستلزمات الحضارة وضروراتها. وأغلب الظن أن نشأة الحروب مرتبطةٌ بظهور زعماءَ يُحسون بالعظمة وتمتلئ رءوسهم بفكرة السيادة الشخصية والشهرة وخلود الاسم بعد الموت. وما تزال فكرة «المجد» و«الشهرة الخالدة» تختمر في رءوس الدكتاتوريِّين وقادة الحروب، وتلعب دورًا هامًّا في إثارة الحروب، حتى في عصرنا هذا الذي تُعد فيه الاعتبارات الاقتصادية ذات أهميةٍ قصوى.

  • (د)
    يجب أن نعلم أن مدنيات العالم المختلفة قد وقفت من الحرب مواقف مختلفة؛ فالصينيون والهنود يختلفون في نظرتهم إليها عن أهل أوروبَّا. هؤلاء (أي الأوروبيون) يعبدون البطل العسكري، وهم منذ نشأة المسيحية يُقدِّسون الرجل الذي يموت استشهادًا في الجهاد. وليس كذلك الصينيون؛ فإن الإنسان المثالي عند كونفيوشس هو الإنسان العادل العاقل الشفيق المثقَّف، الذي يعيش مسالمًا في مجتمعٍ مُنظَّمٍ منسجم. والكنفوشية تُؤثِر حكمة العقل على الشجاعة البدنية، ويُصرِّح أئمتها أن التضحية بالحياة قبل الأوان لا تليق بالرجل الحكيم. أمَّا إعجاب الأوروبيِّين بالبطولة العسكرية وبالاستشهاد في القتال فقد حدا بأكثرهم إلى العقيدة بأن الميتة الطيبة خير من الحياة الطيبة، وأن المرء يستطيع أن يُكفِّر عن حياةٍ طويلةٍ مليئة بالجرائم والآثام بعملٍ واحد ينم عن الشجاعة والبطولة. وصوفية لاوتسو Lao Tsu الصيني تُتمِّم مذهب كونفيوشس العقلي؛ فالإنسان — عند لاوتسو — الذي يُحب أن يعيش عيشةً هادئةً طيبة ينبغي له ألا يفرض شخصيته على غيره، وألَّا يشعر بأهميته، وألَّا يبدأ غيره بالعدوان، كما ينبغي له أن يتصف بالتواضع، وأن يرُدَّ الشر بالخير.

وقد باتت المُثل الصينية العليا منذ عهد كونفيوشس ولاوتسو تجنح إلى الهدوء والمسالمة. أمَّا الشعراء الأوروبيون فقد مجَّدوا الحرب وشادوا بها. كما أن رجال الدين الأوروبيِّين يُبرِّرون الاضطهاد الديني والاعتداء القومي. ولم يكن الأمر كذلك في بلاد الصين في العهود السالفة؛ فإن الفلاسفة والشعراء في تلك البلاد كانوا — وما يزالون — يَنفِرون من الروح العسكرية الحربية. الجندي في تلك البلاد رجلٌ وضيعٌ لا يرتفع إلى مستوى العالِم أو رجل الإدارة. ومن مآسي التاريخ الكبرى أن إدخال المدنية الغربية على الصين كان معناه إدخال الروح العسكرية على ثقافةٍ ظلَّت زُهاء ثلاثة آلاف عامٍ تدعو بغير توانٍ إلى سياسة السلم والكف عن القتال. أمَّا في العصر الحديث فقد تبدَّلَت هناك الأمور، وفُرض التجنيد الإجباري على عددٍ كبيرٍ من الصينيِّين عام ١٩٣٦، والجندي هناك اليوم يظفر بإعجاب الجماهير. ومما ساعد على تقوية الروح الحربية في الصين وتعزيزها الاعتداء الياباني المُتكرِّر. وقد تصبح الصين بعد جيلَين دولةً استعماريةً معتدية.

ويُعبِّر بوذا في تعاليمه أحسن تعبير عن حب الهنود للسلام؛ فالبوذية — كالهندوكية — تُعلِّم المرء ألَّا يؤذي غيره من الكائنات. البوذية تُحرِّم على الرجل أن يشتغل بصناعة الأسلحة أو بيعها أو بصناعة السموم والمُخدِّرات، أو بالجندية، أو قتل الحيوان. البوذية وحدها من بين ديانات العالم العظمى هي التي شقَّت طريقها بغير قتالٍ وبغير اضطهادٍ أو رقابة أو تعذيب؛ فهي من هذه الناحية أرقى من المسيحية التي شقَّت طريقها بين الناس بالسيف وإراقة الدماء. والغضب عند البوذيِّين مُشينٌ بكرامة الإنسان. أمَّا المسيحيون فيرون أن من حق المرء أن يَحنَق وأن يغضَب؛ ومن ثَمَّ فإن الأمم المسيحية ترى نفسها مُصيبةً إذا هي غضِبَت لكرامتها، فشنت من أجلها الحرب، وارتكَبَت في سبيلها الفظائع والآثام.

الحرب إذًا ليست طبيعية، ولا يُبرِّرها العقل، ويمكن أن تزول من وجه الأرض، كما زالت المبارزة بين الفرسان من أجل المرأة، وقد كانت عادةً مألوفة في العصور الوسطى، وكما زالت — إلى حدٍّ كبير — جرائم قتل الزوجة الخائنة أو عاشق الأم أو الأخت. وكان الناس فيما مضى يحسبون هذه الجرائم طبيعيةً ولا يُحاسَب عليها مقترفوها. الواقع أن طبيعة الإنسان مرنةٌ يمكن تشكيلها على صورٍ مختلفة؛ فالرجل المتمدن الآن قد يغار على حبيبته، ولكنه قلما يثور لخيانتها إلى حد قلتها. وعلى هذا القياس نقول إنه بوسعنا — إن صحت عزائمنا — أن نتخلص من وباء الحروب، كما تخلصنا من قتل الزوجات الخائنات وعُشَّاقهن. ليست الحرب من قوانين الطبيعة، وليست من طبيعة الإنسان، إنما هي تشتعل لأن الناس يريدون إشعالها، ونستطيع أن نريد شيئًا آخر غيرها فنستبدله بها. وأنا أعترف بأن تغيير الإرادة الإنسانية أمرٌ شاقٌّ عسير، ولكنه ليس بالأمر المستحيل.

(٢) أسباب الحروب

أقول ثانيةً إن الحرب تشتعل لأن الناس يحبون إشعالها، وهم يحبونها لأسبابٍ مُتعددةٍ متنوعة، نذكر منها ما يلي:
  • (أ)
    كثيرٌ من الناس يُحبون الحرب؛ لأن أعمالهم وقت السلم مُذِلةٌ مُخيِّبة لآمالهم، أو لأنها مُمِلة لا تبعث فيهم اشتياقًا ولا حماسة. وقد دلَّت البحوث الحديثة في أسباب الانتحار على أن نسبته تهبط إلى الثلثَين بين المدنيِّين غير المُقاتلِين في أوقات الحروب،١ ويرجع ذلك إلى بساطة العيش إبَّان القتال، وإلى الحماسة الوطنية التي تدفع الأفراد إلى البقاء للعمل في سبي الوطن، وإلى أن الحياة في زمن الحرب ترمي إلى هدفٍ مُعيَّن — هو الانتصار على الأعداء. ويرجع تشبُّث الناس بالحياة كذلك إلى الأمل في انقلاب الأمور وتحسُّن الأحوال، وإلى التخفُّف من سآمة العمل ومَلَل الوظيفة؛ لأن العمال والمُوظَّفِين يشعرون أنهم يؤدون عملًا نبيلًا نحو أوطانهم بمعونتهم رجال الحرب على تسيير عجلة القتال. ثُمَّ إن اتساع الصناعات الحربية يُوجِد عملًا للمتعطلين ويخلُق نوعًا من الرفاهية المؤقَّتة بين العمال. ويُلاحَظ — فوق ذلك — أن الأفراد يتحرَّرون إلى حدٍّ كبير من قيود الأخلاق الجنسية؛ لأنهم — وسيف الموت مُسلَّطٌ فوق رءوسهم — يحبون أن يظفروا من الدنيا بخير ما فيها من مُتع. أضف إلى ذلك كله أن الحياة في زمن الحرب شائقة جدًّا، على الأقل في السنوات الأولى منها؛ وذلك لأن كثرة الإشاعات، وما تُذيعه الصحف كل صباحٍ من أنباء المعارك يُرهِف الحس ويثير المشاعر. وقد كان المدنيون حتى نهاية الحرب العُظمى بَعيدِين عن أخطار القتال، إذا استثنينا سكان المناطق التي كانت عُرضةً للغزو المباشر. ولكنهم في الحروب المقبلة سيَتعرَّضون لما يَتعرَّض له الجندي في ساحة الوغى. وسوف يترتب على ذلك أن تفتُر حماسة المدنيِّين للحرب. أمَّا إذا برهنت الغارات الجوية على أنها أقل خطرًا مما يرى الخبراء، فقد لا تنطفئ جذوة الحماسة للقتال بتاتًا، على الأقل في الأشهر الأولى من اندلاع اللهيب.

    ويدُل تاريخ الحرب العظمى على أن عددًا كبيرًا من المُحاربِين أنفسهم كانوا يستمتعون ببعض ضروب القتال. وكان يُرحِّبون بفِرارهم من الأعمال المملَّة الميتة التي كانوا يمارسونها وقت السلم، حتى إن كان هذا الفِرار على حساب التعب البدني والمخاطرة بالموت وبالتشويه الجثماني. غير أنَّا نُرجِّح أن ظروف الحروب المقبلة سوف تكون قاسيةً مُروِّعة مما يجعل ذلك النفر من البشر الذين يُحبون المغامرة والقتال بطبعهم يمقُتون الحرب ويخشَون ويمُجُّون النزول إلى ساحاتها. ولكن هذا الإحساس بِبغض القتال لن يتولَّد حتى تشتعل الحرب فعلًا بين الأمم. وإلى أن يحين هذا الحِين ستعمل جميع الحكومات بجدٍّ ونشاط على نشر الدعاية القوية الخبيثة ضد من تتوسَّم فيهم العداوة لا ضد الحرب في حد ذاتها. هذه الحكومات تنذر رعاياها بأنها ستُضرَب بالقنابل من الجو تُسقِطها عليهم أساطيلُ محتشدةٌ من طائرات الأعداء. وهي تُقنِعهم — أو تُرغِمهم — بضرورة التدريب على الاحتياط من الغارات الجوية، وعلى غير ذلك من ضروب التدريب العسكري. وهي تدَّعي ضرورة التسليح ضد الهجمات وللدفاع. وهي تُنفِق على هذا التسليح ما يَقرُب من نصف ميزانيتها. وهي تصنع ملايين الأقنعة الواقية وتُوزِّعها على السكان للوقاية من الغازات السامة — وهي تعلم أن هذه الأقنعة لا تحمي حاملها ولا تَقِيه، كما أن الأطفال والمرضى والمُسنِّين لا يستطيعون استعمالها، وهي لا تصلُح وقايةً من أكثر أنواع الغازات السامة. غير أن الحكومة تصم آذانها عن الاستماع إلى ما ينصح به الخبراء المحايدون.

    وأعود فأقول إن مجهود الحكومات جميعًا مُوجَّه إلى الدعاية ضد الأعداء، وإلى الدعوة لضرورة الحرب وإلى زيادة التسليح. وهناك سببان لنجاح هذه الدعاية: أولهما ما ذَكرتُ من قبلُ وهو أن كثيرًا من المُحاربِين وغير المُحاربِين يُرحِّبون بالحرب لأنهم يجدون فيها مخرجًا من ملل السلم الرتيب، وثانيهما سأذكره فيما يلي عندما أعالج وجهًا آخر من أوجه الأسباب السيكولوجية لاشتعال الحروب.

  • (ب)

    الشعور بالقومية وحب الوطن سببٌ قوي من أسباب الحروب. إن فكرة القومية مُحبَّبة إلى النفوس لأن فيها إرضاءً لبعض رغبات الإنسان؛ فالقومية عقيدةٌ دينية، الإله المعبود فيها هو الدولة، ورمزها الملك أو الدكتاتور المُقدَّس. والفرد في هذه الدولة المقدَّسة يعتبر نفسه أرقى من جميع الأفراد في جميع الشعوب الأخرى. وإذًا ففي هذه العقيدة القويمة علاجٌ لعقدة النقص. وقد أدرك الدكتاتوريون هذه الحقيقة، فتراهم يُؤجِّجون نيران الغرور القومي، فيجنون ثمار ما يعملون في اعتراف الملايين لهم بالجميل؛ لأن هذه الملايين تنعم بالاعتقاد بأنها تتشرف بالعضوية في أمةٍ مُقدَّسةٍ مجدها أثيل. إن الفرد العادي فقير لا أهمية له ولا قيمة؛ ولذا فهو يجد في انتمائه إلى أمةٍ مجيدةٍ بعض العِوض عن ضَعته وتفاهته.

    واحترام النفس ينشأ عنه دائمًا الحط من قَدْر الآخرين. والغرور والخيلاء والكبر تُولِّد الاحتقار والكراهية لأبناء الشعوب الأخرى. ومن هنا ينشِب القتال.

    ويَكمُن وراء تقديس الدولة خطرٌ آخر، وذلك أن أكثر الرجال والنساء يسلكون في الظاهر سلوكًا حسنًا، ولكنهم يُضمِرون في نفوسهم دوافعَ دنيئة لا يقرهم عليها المجتمع، وإنك لتراهم فَرحِين بقصص العصابات والقرصان والخداع؛ لأنهم عن طريقها يُنفِّسون عما تنطوي عليه نفوسهم الخبيثة، وهم يجدون في الدولة ما يجدون في هذه القصص، بل يجدون فيها أكثر من ذلك؛ لأن الدولة شخصيةٌ معنويةٌ مقدَّسة، عظيمةٌ في قوتها وسلطانها، ولكنها منحطةٌ من الوِجهة الخلقية. إن أخلاق الساسة في الشئون الدولية لا تختلف في شيء عن أخلاق عصابات اللصوص والقرصان والمُخادعِين. ويستطيع المواطن أن يُنفِّس عن رغبته في الإجرام لا في أشرطة السينما فحسب، بل في ميدان العلاقات بين الأمم أيضًا. إن الدولة المقدَّسة — التي ينتمي إليها المواطن — تُهدِّد غيرها من الدول وتُخادع وتتبجَّح بطريقةٍ تُرضي فينا الطبائع الدنيئة المكبوتة. إن الرجل قد يحب زوجه وأطفاله، وقد يعطف على جيرانه، ويُخلص في عمله، لا يضر أحدًا ولا يصيب غيره بأذًى، ولكنه يشعر بالنشوة حينما تنتصر بلاده على غيرها من البلدان، وحينما تتسع رقعتها وتُخضع غيرها، أو بعبارةٍ أخرى حينما تعتدي على غيرها من الأمم الوادعة وتخدعها وتَسرِق جهدها ومالها.

    إن الأمة معبودٌ عجيب، ولها على النفوس سلطانٌ غريب، إنها تفرض علينا واجباتٍ شاقةً فنؤديها، وتطلب إلينا تضحياتٍ عظيمةُ فنقدمها؛ وذلك لأننا نُحبها ونُقدسها، إننا نُحبها لأنها تُثير فينا الطبائع الدنيئة الخبيثة، وهي تُقدِّم لنا المعاذير لتظاهُرنا بالصلف والكبرياء على غيرنا من أبناء الأمم الأخرى، وهي تُهيئ لنا الفرصة بما تشن من حروب لأن نشهد المَذابح، فنَروي برؤية الدماء نفوسًا متعطشةً إلى الفتك والدمار.

    ونكتفي بهذا القدر من الكلام على الأسباب السيكولوجية للحروب. ولنبحث الآن في أسباب الحرب المباشرة، وهي أسبابٌ — وإن تكن سيكولوجية كذلك إذا أخضعناها للتحليل الدقيق — سياسيةٌ واقتصادية في ظاهر أمرها. ونحن في الواقع إنما نلجأ إلى هذا التقسيم — سيكولوجي وسياسي واقتصادي — عند البحث في أسباب الحرب لسهولة التبويب. ولكنه تقسيم له مثالبه؛ لأننا بهذا الفصل بين الأسباب ننظر إلى شئون «السياسة» و«الاقتصاد» كأنها عواملُ لم تنبع من داخل نفوسنا، وإنما هبَطَت علينا من عالمٍ آخر، ونحسبها عوامل قد تنفصل عن الطبيعة البشرية. أجل إن للسياسة والاقتصاد أثرهما المستقل، ولكن الإنسان ليس بالآلة الصمَّاء التي تتأثَّر ولا تُؤثِّر؛ فهو كثيرًا ما يتدخل في هذه العوامل السياسية والاقتصادية، ويمسها بالتعديل والتبديل حتى تلائم حاجاته؛ ولذا فلا ينبغي لنا أن ننظر إلى السياسة والاقتصاد كأنهما عاملان لهما أثرهما المستقل، ولهما سلطانهما الذي لم يتفاعل مع نفوسنا؛ لأن هذه النظرة تؤدي بنا إلى نتائجَ خاطئة. وأنا أُكرِّر القول بأننا حينما نفصل العوامل السياسية والاقتصادية عن العوامل النفسية فإنما نفعل ذلك لتيسير البحث فحسب؛ لأن عوامل السياسة والاقتصاد سيكولوجيةٌ في طبيعتها.

  • (جـ)

    وأول الأسباب السياسية للحرب هي الحرب ذاتها؛ فكم من حربٍ اشتَعلَت نيرانها بسبب الاستيلاء على قطعة من الأرض لها قيمةٌ حربية، أو بقصد الوصول إلى الحدود الطبيعية — أي الحدود التي يسهل الدفاع عنها، والتي تجعل الهجوم على الدول المجاورة أمرًا ميسورًا. إن المزايا الحربية المحضة لها عند حكام الأمم أهمية المزايا الاقتصادية. ثُمَّ إن مجرد حشد الجيوش وبناء الأساطيل البحرية والجوية سببٌ من أسباب نشوب القتال. يقول الرجل العسكري: «يجب أن نستخدم قوانا الحربية كي ندربها على إجادة القتال حتى تكون أقرب إلى النصر في الحرب المقبلة.»

    ويجدُر بنا هنا أن نقول كلمةً في الدور الذي يلعبه التسليح في إثارة الحروب. إن كل رجال السياسة يزعمون أن تسليح بلادهم إنما هو لأعراض الدفاع فحسب، وأنه لا يقصد به الهجوم. ثُمَّ إنهم يزعمون — فوق ذلك — أن تسليح الدول الأجنبية يُحتِّم عليهم تسليح بلادهم. إن كل أمة تتخذ الحيطة للدفاع عن نفسها ضد ما تتخذه الدول الأخرى من أسباب الاحتياطات الدفاعية! ولا مراء في أن هذا التسابق في التسليح لا بد ينتهي بإعلان الحرب والنزول إلى ميدان القتال. إن التسليح يؤدي حتمًا إلى القتال لسببين: أولهما نفسي؛ وذلك لأن تسليح بلدٍ من البلدان يبعث الخوف والشك والحقد والبغض في البلدان المجاورة. وفي مثل هذا الجو الموبوء ما أسرع أن ينتهي الخلاف والجدال بالقتال والمعارك. والسبب الثاني فني؛ وذلك أن الأسلحة إذا لم تُستخدم في حينها تصبح طرازًا قديمًا قد لا يصلح لملاقاة العدو الذي يستخدم أسلحةً حديثة الطراز. خذ مثلًا لذلك الطائرة. إنها تتقدم كل يوم باطراد؛ ولذا فإن الدولة التي تُحس بأنها خيرٌ من غيرها تسليحًا تُسارِع إلى إعلان الحرب قبل أن يتفوق عليها غيرها في نوع السلاح، فتحاول أن تجاريها، ويكلفها ذلك مالًا طائلًا قد لا تتحمله إذا كانت من الأمم الفقيرة. ثُمَّ إن أكثر الأسلحة تقوم بصنعها الشركات الأهلية، ومن الجلي أن من مصلحة هذه الشركات الإكثار من صناعة السلاح، وبيعه لأمتها، وللأمم الأجنبية الأخرى بربحٍ عظيم. وذلك من أسباب الحروب الهامة، وسأعود إلى الكلام فيه ثانيةً في موضعٍ آخر من هذا الفصل.

  • (د)

    وقد تشتعل الحرب لنشر عقيدةٍ دينية أو سياسية؛ فحروب الإسلام والحروب الصليبية والحروب الدينية الأوروبيَّة في القرنَين السادس عشر والسابع عشر، وحروب الثورة الفرنسية، والحرب الأهلية الأمريكية، والحرب الإسبانية الأهلية الأخيرة، كلها أمثلةٌ لحروب الغرض منها نشر فكرةٍ خاصةٍ أو عقيدةٍ بعينها. حقًّا إن بعض هذه الحروب قد يرجع إلى أسبابٍ أخرى غير نشر العقيدة، مثل الطمع في جمع الثروة، أو السيادة وبلوغ المجد، أو غير ذلك. ولكن الغرض الأول في جميع هذه الحروب هو نشر الفكرة التي يتحمَّس لها المُقاتِلون؛ فلو لم تكن هناك رغبة في نشر عقيدةٍ جديدة أو الدفاع عن عقيدةٍ قديمةٍ ما قامت هذه الحروب وما قاتل المحاربون فيها بالحرارة والحماسة والشجاعة التي يتصفون بها دائمًا. وقد حل التعصُّب القومي في العصر الحديث محل العقائد الدينية والسياسية في الزمان القديم. وتدل الدلائل على أن الحروب المقبلة كلها سوف تهب للدفاع عن رأيٍ من الآراء، كما كانت الحروب في الزمن الخالي تنشَب للدفاع عن الدين.

  • (هـ)

    وثَمَّةَ سببٌ آخر من أسباب الحرب ألمعنا إليه من قبل إيجازًا، وذلك هو تحقيق «المجد» الذي يعقب النصر. والمجد حُلمٌ لذيذ يحلُم به الملوك وقواد الجيوش؛ فمن أجل المجد كان ملوك آشور يقاتلون، ومن أجل المجد دوَّخ الإسكندر الأكبر المشرق والمغرب، ومن أجله قاتل ملوك العصور الوسطى ونبلاؤها، ولويس الرابع عشر، والأُسَر المالكة في أوروبَّا في القرن الثامن عشر، ونابليون بونابرت. ومن أجله يقاتل هتلر وموسوليني في العصر الحديث. إن الزهو والغرور والتعطُّش إلى العظمة والمجد كثيرًا ما تدفع الحاكم إلى إقحام بلده في حربٍ ما كان أغناه عنها، وبخاصةٍ إذا كان الحاكم دكتاتورًا مستبدًّا على رأس أوليجاركيةٍ حربية.

  • (و)

    ولقد تحسب المجد من خصائص الملوك والقواد وحدهم. كلا؛ فإنه يعود على كل فردٍ من أفراد المجتمع في البلدان التي تشتد فيها العواطف القومية وتقوى؛ فالفرنسيون جميعًا شاطروا لويس الرابع عشر مجده. وقد نجَحَت الثورة الفرنسية من أَثَر الدعاية التي كانت تحاول أن تُقنِع الناس بأن المجد لهم أجمعِين. ومثل هذه الدعاية تعم العالم اليوم، فيتصور الرجل العادي أن في نصر أمته فخارًا له ومجدًا. والصحافة والراديو والسينما تُشعِر كل فردٍ أن له في المجد نصيبًا. وعندما تسوء الأمور داخل البلد الدكتاتوري، ويبدأ الناس بالتذمُّر والضجر، كثيرًا ما يرى الدكتاتور أن في مجد القتال علاجًا لذلك. وقد كان المجد في الماضي أرخص منه في الحاضر؛ لأن المدنيين في العصر الحديث يُكابدون مَشقَّات الحرب كما يُكابدها المحاربون، وذلك بعد استخدام الطائرة في القتال؛ فكلنا يدفع ثمن المجد إن كنا من الظافرِين. والحرب بالوسائل الحديثة تُهلِك الحَرثَ والنسل؛ فيقاسي منها الرجل في كسْر بيته كما يقاسي منها الرجل في ساحة القتال.

  • (ز)

    من أهم الأسباب الاقتصادية في تقاتُل الأمم الطمع في أرضٍ خِصبةٍ تملكها أمةٌ أخرى؛ فقد أعلن هتلر في خُطَبه مِرارًا أن ألمانيا بحاجة إلى أرضٍ جديدةٍ يقطنها السكان الزائدون عما تحتمله مساحة البلاد الألمانية.

    وقد أصبَحَت رغبة السيطرة على البلدان الغنية بالمواد الخام التي لا يُستغنى عنها في الصناعة أكثر أهميةً في الأزمنة الحديثة من الرغبة في امتلاك الأراضي الخِصبة؛ فقد كانت مناجم الفحم والحديد في اللورين سبب النضال بين فرنسا وألمانيا، وترجع حرب اليابان في منشوريا وشمال الصين إلى حاجة اليابان إلى المعادن. ولم تشترك ألمانيا وإيطاليا مع إسبانيا في حربها الأهلية لمجرد نشر آرائها الفاشستية، وإنما كان الدكتاتوران يطمعان في الحصول على مناجم النحاس والحديد في تلك البلاد، وهي المناجم التي كانت قبل اشتعال الحرب تحت السيطرة الإنجليزية.

  • (ﺣ)

    وفي ظل الرأسمالية تحتاج الدول الصناعية الكبرى إلى أسواقٍ خارجية؛ لأن الإنتاج يزيد على حاجة السكان، وعلى القوة الشرائية الداخلية. ولقد كان منشأ الرغبة في التوسُّع الاستعماري عند الدول العظمى في القرن التاسع عشر الحصول على أسواقٍ خارجية تبيع فيها منتجاتها. وما إن ظفرت الدولة بالسوق — إما عن طريق الغزو أو عن طريق التدخُّل السلمي — حتى شرع أرباب الصناعة الذين يُورِّدون السلع لتلك السوق في إمداد البلدان التي تقوم فيها بالآلات التي تمكنها من إنشاء المصانع والاستغناء عن منتجات الدولة الفاتحة. وهذا العمل من أعجب المتناقضات في نظام الرأسمالية. إن أكثر البلدان المتأخرة في الصناعة قد استَورَدَت الآلات التي تكفيها سد حاجاتها، بل والتي تُمكِّنها من تصدير السلع الزائدة عن حاجاتها إلى الخارج. وقد أمدها بتلك الآلات أصحاب رءوس الأموال الذين كانوا من قبلُ يتخذون تلك البلاد أسواقًا لسلعهم. وتلك ولا شك سياسة جنونية؛ لأن أصحاب رءوس الأموال يفقدون تلك الأسواق في النهاية، فيبحثون عن غيرها، ويُثيرون من أجل ذلك الحروب الشعواء.

  • (ط)

    ويسوقنا ذلك إلى سببٍ آخر هامٍّ من أسباب الحروب، وذلك هو اهتمام الأقليَّات القوية بمصالحها الخاصة. وأقوى هذه الأقليَّات وأسوَؤُها أثرًا جماعة صُنَّاع الأسلحة؛ فمما لا شك فيه أن الحرب والاستعداد لها تُدِر عليهم ربحًا عظيمًا. ولا مراء في أن مصلحة هذه الطائفة في إشعال نار الحرب؛ ولذا تراهم لا يفتئون يثيرون الفتن ويخلقون أسباب الشقاق بين الحكومات، وذلك بشتى الوسائل — من الدعاية إلى الرشوة. وهم يخدمون كل صوتٍ يرتفع مناديًا بنزع السلاح؛ ومن ثَمَّ فإن أعضاء حزب اليسار ينادون دائمًا بضرورة استيلاء الدولة على هذه الصناعة. وقد استولت الحكومة الإنجليزية بالفعل على جانبٍ كبيرٍ منها، فتحرَّرَت من نفوذ أصحاب رءوس الأموال الكبيرة الذين لا هَمَّ لهم إلا زيادة الأرباح. ولكنَّا يجب ألَّا ننسى أن التسليح تسليح على أية حال، سواء قامت به الحكومة أم الشركات؛ فإن الطائرة التي تصنعها الحكومة تفتك بالناس مثلما تفتك الطائرة التي تخرج من مصنعٍ تديره شركةٌ رأسمالية، بل إن صناعة الأسلحة في مصانع الدولة يجعل هذه الصناعة مشروعةً ويُبرِّرها إلى حدٍّ كبير، وينجم عن ذلك أن إلغاء هذه الصناعة يصبح عسيرًا إذا تولَّت إدارتها الحكومة. ومما يزيد الطين بِلَّة أن الحكومات المركزية — بعدما تسيطر على صناعة التسليح — لا تحب أن تتخلى عنها لأنها وسيلةٌ فعَّالة للاستبداد. ثُمَّ إن الدولة أقوى من كل صاحب مصنعٍ بمفرده، كما أن العمال المُشتغلِين بصناعة الأسلحة في مصانع الدولة يمكن تحويلهم بسهولة إلى جيشٍ مُدرَّب تسيطر عليه الحكومة.

    وأخيرًا يجب ألا نغفُل عن المشاكل الدولية التي تترتب على تحويل هذه الصناعة إلى صناعةٍ قومية. إن الدولة التي تصنع الأسلحة تطمع في الربح كما يطمع الأفراد؛ ولذا تراها تبحث عن الدول الضعيفة في هذه الصناعة كي تبيعها أسلحتها. وهي لا تجني من وراء ذلك الربح فحسب، بل إنها تستطيع بذلك أيضًا أن تسيطر على سياسة الحكومة المشترية. وهذا من دواعي المنافسة بين الدول الكبرى التي تصنع الأسلحة. وهو لونٌ جديد من ألوان المنافسة، وسببٌ آخر للنزاع الدولي ولاشتعال الحروب؛ فاستيلاء الدولة على هذه الصناعة إذًا معناه استبدال شرٍّ بِشر. إننا لا نبغي نقل هذه الصناعة من أيدي الأفراد إلى أيدي الحكومات، إنما نبغي محوها محوًّا تامًّا. ولا يكون ذلك إلَّا إذا اقتَنعَت الأغلبية بضرورة الإلغاء، وسنتحدث فيما يلي عن طريقة إقناع الأغلبية.

    ومن خطل الرأي أن نصُب اللوم على صُناع الأسلحة وحدهم؛ فإننا جميعًا لَملومون، وكلنا يتجر بالموت؛ لأننا نؤيد الحكومات التي تسير على سياسة إعادة التسليح، ونُعضِّد سياسة البلاد الاقتصادية والدبلوماسية والحربية التي ترمي إلى التوسُّع الاستعماري. غير أن التبِعة التي تقع على عاتق الأقوياء والأغنياء أجسم من التبِعة التي تقع على كواهل الضعفاء والفقراء. وتبِعة التاجر الذي يستغل ماله في المستعمرات لا تقل عن تبِعة الرجل الذي يصنع السلاح؛ لأن التاجر والصانع كلاهما يجد في المستعمرات مُرتَزقًا ومغنمًا.

    وطائفة التُّجار والصُّناع كثيرًا ما تجُر الدول إلى التطاحُن لأنها ترى مصلحتها في هذا التطاحُن. وهي تستطيع عن طريق الصحافة أن تُقنع العامة الجاهلة البريئة. وإنه لَيُسيء هذه العامة الساذجة أن ترى دولةً أجنبيةً (لمصلحة أغنيائها) تُهدِّد مصالح الأغنياء من أبناء أمتهم! فتُقاتل بحماسةٍ شديدة وتُريق دماءها في مصلحة الأقلية الغنية.

(٣) العلاج والسياسة الجديدة

نكتفي بما قدمنا عن طبيعة الحرب وأسبابها، ونبحث الآن في الطرق التي يمكن اتباعها لمنع اشتعال الحروب، وفي طرق إخمادها بعد أن تشتعل، ثم نبحث بعد ذلك في السياسة الجديدة التي يمكن أن تحل محل السياسة القديمة، وفيما يمكن أن يقوم مقام الحرب من الناحية السيكولوجية.

ويَجمُل بنا أن نذكُر الطرق القائمة الآن فعلًا لمنع الحروب. وهي طرق برهَنَت كلها على الفشل، ولا بد أن نستبدل بها غيرها.

من هذه الطرق عُصبة الأمم، وقد انتهت بالفشل والخِذلان؛ وذلك لأنها لم تُؤسَّس على المبادئ الصحيحة، وساعد على فشل العُصبة أن أمريكا رَفضَت أن تنضم إليها، كما أن الروسيا والدول المعادية أُبعدَت عنها عدة سنوات. ولكن العُصبة — حتى إن ضمت إليها أمريكا وألمانيا والروسيا — لن تنجح في تحقيق الغرض منها، لأسباب أخرى. إن العصبة تسمح بعضوية الجماعة التي تمتلك جيشًا، مهما تكن هذه الجماعة قليلة العدد، في حين أن الجماعة التي ليس لها جيشٌ لا يكون لها حق العضوية في العصبة، مهما تكن كبيرة. إن العصبة تُعرِّف الأمة عمليًّا ونظريًّا «بأنها مجتمعٌ مُنظمٌ للحرب». والواقع أن هذا التعريف ينطبق على كل أعضاء العصبة. أمَّا أي تعريفٍ آخر يُبنى على أساس العنصر أو اللون أو اللغة أو الثقافة، أو حتى الحدود الجغرافية، فهو تعريفٌ ناقصٌ غير جامع ولا مانع؛ فالعصبة إذًا إن هي إلا عصبة من مجتمعاتٍ منظمة للحرب.

والروح العسكرية التي تسود العصبة تَتبيَّن واضحةً في الوسيلة التي تقترحها العصبة لضمان السلام؛ فلقد وضع مؤلفو العصبة عبارةً في قانونها تقضي بفرض العقوبات الاقتصادية أولًا، ثُمَّ العقوبات العسكرية ثانيًا، على كل دولةٍ معتدية؛ فالعقوبات العسكرية هي الحرب بعينها. والعقوبات الاقتصادية إذا كانت صارمةً أدت في النهاية كذلك إلى إعلان الحرب من جانب الدولة التي تُفرَض عليها، فتقابلها الدول الأخرى بالمثل. ويُسمِّي مؤيدو فكرة العقوبات الحرب بأسماءٍ مختلفة؛ فهم يُسمُّونها «سلامة المجموع» أو غير ذلك. ولكنَّا يجب ألا تخدعنا الألفاظ؛ فإن «سلامة المجموع» معناها تحالفٌ حربي في وجه تحالفٍ حربي آخر، وتُسمَّى دول الحِلف الأول بدول العصبة، ودول الحِلف الثاني بالدول المعتدية.

ويعتقد أصحاب فكرة العقوبات أن مجرد إظهار القوة العسكرية من جانب أعضاء العصبة يكفي لإرهاب الدول التي تعتزم الاعتداء، فتَكُف عن عزمها. إنهم يزعمون أن القوة كلما زادت قل احتمال استخدامها؛ ولذا فهم يقولون بإعادة التسليح في سبيل السلام. بيد أن حقائق التاريخ لا تؤيد هذا الزعم؛ فإن التهديد لا يُرهب أمة قَوِيَت عزيمتها، واليائس لا ينكمش من رؤية القوة الساحقة. وليس هناك ما يحملنا في العصر الحاضر على الفرض بأن القوة المُتجمِّعة ضد الدولة المُعتدية ستكون قوةً ساحقة، نصرها مُحققٌ عند الاحتكاك؛ إذ المنظور أن تكون دول العصبة والدول التي تعاديها طرفَين متكافئَين من مجموعتَين من الدول المتحالفة، بل إن هذين الحِلفين قد أخذا الآن فعلًا في الظهور؛ ففرنسا والروسيا، وقد تنضم إليهما إنجلترا، سوف تمثل دول العصبة. وإيطاليا وألمانيا واليابان هي المعادية. وستبقي الدول الصغيرة محايدةً، أو تنضم إلى الطرف الذي تتوقع له النصر. والخلاصة أن من يستعد للحرب يبدأ سباقًا في التسليح، ويُؤجِّج في النهاية سعير الحرب التي كان يستعد لها.

وبناءً على نظرية العقوبات تقوم العُصبة بالعمل العسكري كي تصل إلى تسويةٍ عادلة بين الخصمَين، ولكن الأمل في الوصول إلى تسويةٍ عادلة في نهاية حربٍ تشنها العصبة أملٌ واهٍ ضعيف. إنما تنتهي الحروب بالتسوية العادلة حينما يتشبَّع الظافرون بروح العدل والتسامح وحسن المعاملة. وإذا كانت الحرب شديدةً طويلة الأمد، والخسائر التي تسببها فادحةً كبيرة، كان الظافر أبعد ما يكون عن العدل والتسامح؛ ففي الحرب الماضية مثلًا، اشتدت الحماسة والعداوة إلى حدٍّ بات معه من المستحيل من الناحية النفسية أن يرضى المنتصرون بصلحٍ إنساني عادل. وبرغم ولسن وشروطه الأربعة عشر انتهت الحرب بمعاهدة فرساي، وهي المعاهدة التي جَعلَت من الضروري أن يظهر في ألمانيا رجلٌ مثل هتلر يُطالِب بالانتقام لما لَقِيَت ألمانيا من ذلٍّ وهوان. وإن حربًا يشنها أعضاء العصبة المتحالفون كي يفرضوا عقوبةً عسكرية على المعتدي لا بد أن تنتهي كما انتهت حرب ١٩١٤–١٩١٨ بالفتك والدمار، بل لقد تكون أشد فتكًا. فهل هناك ما يدعونا إلى افتراض أن دول العصبة المنتصرة ستكون أشد تسامحًا من الحلفاء في عام ١٩١٨؟ كلا ليس هناك ما يدعونا إلى مثل هذا الفرض. إن أصحاب فكرة العقوبة يعتنقون ذلك الوهم القديم الذي يقول: «إن الحرب تُنهي الحرب» أو «القتال أنفى للقتال» وهذا رأيٌ بعيد عن الصواب؛ فالحروب لا تنهيها الحروب، بل إنها كثيرًا ما تنتهي بسلمٍ ظالمةٍ تجعل اشتعال حربٍ انتقامية أمرًا لا مَفر منه.

ويجدر بنا هنا أن نذكر كلمة عن مشروع «القوة البوليسية الدولية» ويجب أولًا أن نشير إلى أن هذه العبارة مُضلِّلةٌ إلى حدٍّ كبير؛ وذلك لأن عمل البوليس ضد الفرد المجرم يختلف كل الاختلاف عن العمل الذي تقوم به أمةٌ أو جماعة من الأمم ضد أمةٍ مجرمة. البوليس العادي يعمل في دقةٍ بالغة؛ فهو يلقي القبض على المجرم دون سواه. أمَّا الأمم التي تحب أن تتخذ لنفسها سلطة الشرطة على الأمم الأخرى فهي تؤدي عملها باستخدام قواتها المسلحة، وهذه القوات لا تستطيع إلا أن تعمل بغير دقة، فهي تقتل الملايين أو تُشوِّهم أو تفتك بهم جميعًا، وأكثر هذ الضحايا أبرياء لم يرتكبوا جرمًا من الجرائم؛ ولذا فإن المشابهة بين الجيش وقوة البوليس، وبين الحرب ومنع الجرائم مُضلِّلةٌ خاطئة. إن قوة البوليس الدولية ليست في حقيقتها قوة بوليسية، وأولئك الذين يطلقون عليها هذا الاسم إنما يخدعون الجماهير. والمرء لا يستطيع أن يفكر تفكيرًا سليمًا إلا إذا سُمِّيَت الأشياء بأسمائها الصحيحة. وقوة البوليس الدولية — إذا هي أُنشِئَت — لن تكون قوةً بوليسيةً بالمعنى الذي نفهمه من هذه العبارة، بل ستكون قوةً للفتك بالناس بغير تمييز، وهذه خطة لا يُقرُّها أحد. وليس من حقنا أن نخدع الشعوب البريئة بأن نُطلِق على قوةٍ كهذه نفس الاسم الذي نُطلِقه على القوة التي تُدير حركة المرور، وتُلقي القبض على اللصوص.

إن هذه القوة الدولية لم تنشأ بعدُ، ولا يُحتمل أن تنشأ، ولكن من حقنا أن نسأل مقترحيها: كيف يمكن تجنيدها؟ وكيف نمدها بالضباط؟ وكيف نُسلِّحها؟ وأين نضعها؟ ومن ذا الذي يقرر متى تُستخدم، وضد من تُستخدم؟ ولمن يكون ولاؤها، وكيف نضمن إخلاصها؟ هل من المحتمل أن الضباط المُلتحقِين بهذه القوة يشتركون في غزو بلدهم وهزيمته؟ وهل يُحتمل أن يقذف الطيارون أبناء أمتهم بالقنابل؟ وكيف يمكن إقناع جميع الأمم بمساعدة هذه القوة بالرجال والمواد؟ وهل تُقدِّم كل دولة من المعونة مثلما تقدم الأخرى؟ وإذا لم تكن المعونة متساوية، وأَمدَّ عددٌ قليل من الدول الكبرى الجزء الأكبر من هذه القوة، فماذا يمنع هذه الدول من استبدادها بالعالم بأسره؟ ومن هذه الأسئلة يتبين لنا أن المشروع خياليٌّ غير عملي.

ولذا فلا داعي للتفكير فيه، ويجب أن تُلغى المادة السادسة عشرة من قانون العصبة؛ لأن محاولة وقف القتال — بعد نشوبه — بفرض العقوبة العسكرية، أو باستخدام جيشٍ دولي وقوةٍ جوية دولية أمرٌ مقضي عليه بالفشل. إن الحرب لا تُوقفها الحرب، والقتال لا ينفي القتال. إن محاربة الدول المتحاربة إنما يُوسِّع رقعة التخريب، ويضع عقبات جديدة في طريق الوصول إلى تسويةٍ عادلة للنزاع الدولي. وينبغي أن تجعل العصبة من واجبها تركيز جهودها لمنع الحرب من الاشتعال، ولا يكون ذلك بإعلانها الحرب على الأمة المعتدية، إنما يكون بالتسوية السلمية للنزاع الدولي، وبتوسيع نطاق التعاون الدولي في دراسة المشاكل الاجتماعية البارزة ومحاولة حلها، ثم بالتفكير في وسائل منع أسباب النضال. وهذه الوسائل قائمة بالفعل اليوم بصورةٍ نظرية، وإنما تحتاج منا إلى قوة العزيمة وصدق النية كي نجعلها وسائلَ فعَّالة ذاتَ أثَر.

وليست بنا حاجة إلى الإفاضة في القول في طريقة التسوية السلمية والتعاون الدولي. إن هذه الطريقة قد تكون أداةً حسنة حقًّا، ولكنها تمسي عديمة النفع إذا رفضها الناس أو أساءوا استخدامها. وكثيرًا ما ترفض الدول استخدامها إذا كان في الأمر ما يمس «الشرف القومي» أو «المصالح الحيوية». وتُؤثِر الدول حينئذٍ أن تسلك طريق العنف والقتال. وحتى في الأحوال التي تقبل فيها الدول التسوية السلمية وسيلةً لحسم النزاع تراها تقدم عليها بِنيَّةٍ سيئة تقضي على كل أمل في نجاحها. وقد حدث هذا في الخلاف الذي نشِب بين شيلي وبيرو عام ١٨٨٣، والذي لم ينته بالصلح — رغم كل محاولات التسوية السلمية — إلا عام ١٩٢٩، وذلك حينما تدخل الرئيس هوفر في الأمر وأمكنه أن ينقع الفريقَين. وحدث هذا أيضًا في مؤتمر القوات البحرية سنة ١٩٢٧، ومؤتمر نزع السلاح الذي انعقد بين عامَي ١٩٣٢ و١٩٣٤؛ حيث لم يمكن الاتفاق بين الدول لأنها لم تُقبل على المؤتمرات بنيةٍ حسنة. وقد فشلت كذلك مؤتمراتٌ أخرى كثيرةٌ اقتصادية ومالية لسوء نية المُؤتمرِين، مع أن وسيلة المؤتمرات في حد ذاتها وسيلةٌ حسنة للتفاهُم.

وهناك نظامٌ آخر يلائم الدول المتأخرة، وهو نظام الانتداب، ولكن الدول المستعمرة لا تحب أن تتنازل عن مستعمراتها لتنفيذ هذا النظام، كما أن الدول المنتدبة كثيرًا ما تحول الانتداب إلى استعمار. وثَمَّةَ مثالٌ آخر لسوء نية الدول، وذلك حينما وضَعَت عصبة الأمم مشروعًا لضمان حقوق الأقليَّات، فرفَضَت الدول ذات الأقليَّات المشروع، وأصرَّت على ظلم الأقليَّات.

ومما تقدَّم يَتبيَّن أن العصبة لا يمكن أن تعمل على نشر السلام؛ لأنها بتعريفها وفي حقيقتها عصبةٌ من أممٍ متأهبةٍ للقتال؛ ولذا فلا يمكن تحويل الأمم الحربية الحاضرة إلى أممٍ ترغب في السلام وتعمل على تحقيقه إلا بجهد الأفراد المُستقلِّين الذين يعملون وحدهم أو في جماعات. وهؤلاء عملهم شاقٌّ عليهم عسير، وسأتحدث عنه في الفصل المقبل. أمَّا ما بقي من هذا الفصل فسأعود فيه إلى ذكر أسباب الحرب السيكولوجية التي تَحدثتُ عنها فيما سلف، ثُمَّ أُبيِّن كيف يمكن لنا أن نعالج هذه الأسباب:
  • (أ)
    وأول هذه الأسباب أن الكثيرِين من الناس يُرحِّبون بالحرب لأن أعمالهم وقت السلم مملةٌ مذلة، تافهةٌ لا معنى لها. فلو أنا طبقنا مبدأ الحكم الذاتي في الصناعة وميادين العمل الأخرى استطعنا بذلك أن ننقذ العمال من إحساسهم بالذلة التي تبعثها ضرورة الطاعة للأوامر التحكُّمية التي يُمليها عليهم رؤساء لا يُحسون بالتبِعة. ثُمَّ إن عضوية الفرد في جماعةٍ تعاونيةٍ صغيرة تجعل حياة العامل مُحتمَلةً مقبولة. ويجب — فوق ذلك — لكي نُحبِّب العمل إلى العامل ألَّا نُرغمه على أداء عملٍ لا يحبه ولا يرضاه. وقد أَصرَّ فوريي Fourier منذ أمدٍ بعيد على ضرورة تنويع العمل. وقد أَخذَت بعض المصانع برأيه في السنوات الأخيرة، وجُرِّبَت نظريته في عددٍ من مصانع ألمانيا وأمريكا والروسيا وغيرها من الدول، فكانت النتيجة طيبة تبعث على التفاؤل؛ إذ خفَّ الملل وزاد الإنتاج. ويُمكِننا أن نُنوِّع للعامل عمله تنويعًا طفيفًا، فينتقل العامل في مصنع السجاير مثلًا من عملية لف التبغ في لُفافاته إلى حَزمه ووَزنه. ويمكننا كذلك أن نُنوِّع العمل تنويعًا كبيرًا، فننقل العامل من الصناعة إلى الزراعة. والآثار النفسية في كلتا الحالتَين حسنةٌ طيبة.
  • (ب)

    والسبب الثاني السيكولوجي لاشتعال الحرب، أن الناس يشعرون أثناء الأزمات القومية أن للحياة أهميةً وهدفًا (ومن ثَمَّ كان النقص في نسبة الانتحار أثناء الحرب كما ذَكرتُ من قبل). في أوقات الأزمات يكون الغرض الذي نرمي إليه جميعًا واضحًا جدَّا، وهو الانتصار القومي، وتكون الواجبات بسيطةً ومحددة. وينتهي ذلك الغموض في المُثل العليا، وتلك القلقلة في الأغراض التي تسود أيام السلم، وتحل محلها أثناء القتل مُثلٌ عليا محدودةٌ معروفة، وهي: النصر بأي ثمن. كما أن الحياة الاجتماعية المُعقَّدة في زمن السلم تقف عند حدٍّ أو تحل محلها حياةٌ اجتماعيةٌ بسيطة جذَّابةٌ تنشأ عن قتال الجماعة من أجل البقاء؛ ذلك أن الخطر يزيد من الإحساس بالتماسُك الاجتماعي، ويُلهب فينا الحماسة الوطنية، فيصبح للحياة مغزًى ومعنًى، ويحيا المرء حياته وقلبه مُفعَم بالعاطفة القوية الحارَّة.

قُلتُ إن الحياة الحديثة في زمن السلم ليس لها أهمية ولا غرض. ويرجع ذلك إلى أن النظام الذي يسود العالم الغربي على الأقل في هذه الأيام نظامٌ يُسمِّيه مستر جرلد هيرد Mr. Gerald Heard نظام العلم الحديث الآلي mechanomorphic، وهو نظام يُشبِّه الكون بآلةٍ كبرى تسير بنا نحو الموت والفناء، مما يجعلنا لا نقيم وزنًا إلا للحياة المادية، ونعتبر العقل دون الجسم في الأهمية. في هذا النظام ينظر المرء إلى النجاح الشخصي والرفاهية الحسية وسد حاجات البدن كأنها الأغراض التي ينبغي لأجلها أن يعيش. ولكنَّا بدأنا نَملُّ هذا النظام، فباتت الحياة من جديد خلوا من المعنى والغرض، ولجأنا إلى وسائلَ مُصطنَعة مُفتعَلة نملأ بها فراغ نفوسنا، كقراءة الصحف، والاسترسال في الأحلام أثناء عرض الشُّرط السينماتوغرافية، والاستماع إلى الموسيقى والأحاديث تُذاع بالراديو، والاشتراك في الألعاب أو مشاهدتها، وغير ذلك من أنواع التسلية الأخرى بجميع ضروبها. ويحاول بعض الزعماء أن يرُدُّوا للحياة معناها ومغزاها، ويُقدِّمون لنا المبادئ المختلفة لهذا الغرض فنرحب بها ونصفق لها، ولكنها مبادئُ خطِرةٌ على السلام العالمي، ومن أمثلتها القومية والاشتراكية؛ فقد كانت القومية هي الباعث المباشِر لنشوب الحرب العظمى التي رحَّبَت بها الجماهير؛ لأنها كانت لا ترى لحياتها معنًى ولا معزًى. وقد فرَّجَت الحرب أول نشوبها عن النفوس قليلًا، ولكن سرعان ما تبدَّدَت الأوهام، وعاد إلى الناس سأمهم وتشاؤمهم، وعاد إليهم الشعور بأن الحياة لا ترمي إلى غرض. وهذا الشعور أشبه ما يكون بفجوةٍ شاغرةٍ تتطلب الامتلاء بأنواع التسلية المختلفة التي تصرف الذهن عن هموم الحياة، وليست ضروب التسلية هذه في حد ذاتها غرضًا للحياة ولا هدفًا لها، ولا يمكن أن يمتلئ بها فراغ النفس. فوَجدَت مبادئ الاشتراكية والقومية نفوسًا مستعدة للإيمان بها، لعلها تلتمس فيها شيئًا من الطمأنينة، واعتنق الملايين من الشبان هذه العقائد الجديدة، وأحسوا للحياة بمعنًى ولوجودهم بالغرض، فبعثهم ذلك إلى التضحية بالنفس وإلى تحمل المشاق وإظهار الشجاعة والتقشُّف في سبيل بث هذه العقائد المُقدَّسة. ولكن هذه الفضائل التي تحلى بها الشبان تُعدُّ كلها ثانوية، وظلت تنقصهم الفضائل الأولية الضرورية لنشر لواء السلام فوق العالم، وأهمها المحبة والمعرفة الصحيحة. أمَّا الوطنية والاشتراكية فهما من العقائد التي تغرس في النفوس الكبرياء والبغضاء والقسوة، وتُضيِّق دائرة التفكير والتعاطُف.
فالاشتراكية والقومية إذًا ليستا بالعلاج الناجع لخلو الحياة من المعنى والغرض؛ لأنه علاج يؤدي إلى الحرب، وإنما العلاج الصحيح للداء الذي يشكوه العالم هو أن ننشر بين الناس عقائدَ جديدةً تحل محل العقيدة في النظام الآلي Mechanomorphic السائد، أو الفلسفة التي تنطوي عليها القومية والاشتراكية.

هذه العقائد الجديدة ونتائجها الخُلقية سوف نبحثها بالتفصيل في فصلٍ آتٍ. أمَّا في الفصل التالي فسوف نبحث في الدور الذي يستطيع الأفراد المستقلون أن يلعبوه في ترقية المجتمع.

١  تبلغ نسبة الانتحار أقصاها في المجتمعات المُعقَّدة الراقية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤