السياسة بنظرة ساذجة

أما النظرة الساذجة التي أعنيها، فهي نظرتي؛ لأنني لم أستطع قط يومًا — برغم التفكير ومعاودة التفكير — أن أجد لهذه اللفظة معنى أكثر من المعنى الذي نريده حين نتحدث عن الصالح المشترك بين الناس في مجتمع معين، وأن هذا الصالح المشترك لهو حاصل جمع المنافع التي تنتفع بها مجموعة الأفراد كلٌّ في مجاله، لكن إذا كان هذا هو أيضًا ما يعنيه «رجال السياسة» بهذه الكلمة، فلماذا يكون للسياسة رجال دون رجال؟ إن السياسة عندئذٍ لا تزيد عن أن يعني كل فرد، أو كل هيئة، بما يحقق له أو لها أكبر قدر ممكن من المحصول، كائنًا ما كان هذا المحصول: أهو قطن وقمح وبصل يجنيها الزارع، أم هو حقائق علمية يحصِّلها وينمِّيها الدارسون والعلماء؟

لقد اختارني الزملاء سنة ١٩٦٣م أمينًا للاتحاد الاشتراكي في لجنة العشرين الممثلة لهيئة التدريس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وأذكر أنني أعددت مذكرة لأعرضها على اللجنة في أول اجتماع لها، أقترح فيها ما ظننته أفضل طريق للعمل، وكان هذا الطريق الأفضل — كما تصورته — هو أن تكون كلية الآداب نفسها هدفًا لنا، فما هي الوسائل التي نستطيع بها أن نجعل هذه الكلية المعينة كلية أفضل من جميع الوجوه؟ كيف نوجه البحوث العلمية لتكون علمية من جهة ونافعة للناس في حل مشكلاتهم من جهة أخرى؟ كيف نخدم طلابنا — لا في الجانب الأكاديمي فحسب؛ لأن هذا الجانب مفروض من الأساس — ولكن كيف نخدمهم في مشكلاتهم الخاصة التي قد تعترضهم؟ ماذا نصنع من تلقاء أنفسنا، دون انتظار التشريع يأتينا من خارج حدودنا، في تيسير حصول الطالب على الكتاب؟ إلخ إلخ.

ودارت المناقشة حول تلك المذكرة في اجتماعنا الأول، وأذكر أننا انتهينا إلى مطالبة الأعضاء بأن يفكروا فيما يحقق لنا أهدافنا في النقطة الأولى — نقطة البحوث العلمية وكيف نوجهها بالتعاون بين الأقسام — وجاءت الجلسة الثانية، فإذا بأحد الأعضاء قد أعد اقتراحًا مفصلًا في هذا الشأن، كان غاية في الدقة والخصوبة ووضوح طريقة التنفيذ، ولعله كان صديقنا الأستاذ الدكتور محمد عثمان نجاتي.

فلما خرجنا من اجتماعنا، طلب إليَّ زميل فاضل أن يحدثني على انفراد بما يراه هو في طريق السير الذي بدأناه، وكان له ذلك، فبدأ بقوله إنه لا يوافق على مثل هذا الطريق؛ لأننا لجنة أُريد بها «السياسة»، وليس ما هممنا بفعله من «السياسة» في شيء.

قلت له: وماذا تقترح أنت علينا لنجعل نشاطنا «سياسة»؟ (ولم أكن أدري ساعتها لماذا يكون هذا الحديث خاصًّا بينه وبيني، ولماذا لم يطرح الاعتراض علنًا أمام اللجنة منذ اللحظة الأولى؟)

قال: اقتراحي هو أن يكون نشاطنا منصبًّا على «التوعية».

قلت: ومن منا هو الواعي، ومن الغافل الذي يحتاج إلى توعية؟ إن كلية الآداب فيها ثلاثة لجان، لجنتنا هي إحداها، فللطلاب لجنتهم وللإداريين لجنتهم، واللجان الثلاث على مستوى واحد من الوجهة النظرية، فإذا نحن اتجهنا بالتوعية إلى غيرنا، أفلا يحق لسوانا بدوره أن يتجه بالتوعية إلينا؟ ثم إذا كانت هذه التوعية مقصورة على الأساتذة، فماذا يا ترى يكون عمل اللجنتين الأخريين؟

قال: أردت التوعية للجماهير.

قلت: لكن لكل شريحة من شرائح الجماهير لجنتها كذلك، فنعود من جديد إلى المنطق الدائري، الذي أسلفته لك … إلى آخر ما دار بيني وبينه.

لكن الذي أذكره فيما دار بيني وبينه أنني وقفت معه لحظة عند معنى «السياسة» التي كان من رأيه أن تكون مدار نشاطنا، أفلا تكون السياسة — هكذا سألته عندئذٍ — هي محصلة ما تنشط به اللجان المختلفة، إذا ما تفرغت كل لجنة للعمل على أن تجعل من مجالها الخاص مجالًا أفضل، إذا كان الزارع والعامل والمحامي والطبيب والتاجر والجندي وربة البيت … إذا كان كل واحد من هؤلاء يفكر مع أقرانه فيما ينبغي عمله ليكون زارعًا أفضل وعاملًا أفضل ومحاميًا أفضل … إلخ، فماذا نريد للمجتمع — من الوجهة السياسية — أكثر من هذا؟ قلت ذلك، وكنت على شيء من الظن بأن زميلي ذاك قد نظر إليَّ النظرة التي تعني عنده: يا لها من نظرة ساذجة!

ولعلي كنت فيما قلته متأثرًا إلى حدٍّ ما بما أعرفه عن رأي أرسطو في السياسة، وكيف يمزجها بمفهومه عن الأخلاق، فلئن كانت الأخلاق في نهاية أمرها تريد أن تحقق السعادة للفرد داخل المجتمع الذي هو عضو فيه، فإن السياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق؛ لأنها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وأن هذا الخير العام لا يمكن فهمه فهمًا واضحًا، إلا أن يكون حاصل جمع الخير الذي يصيبه الأفراد، وإنه لمن الضلال والتضليل أن يقول قائل إن الأفراد قد تشقى في سبيل المجموع، كأنما هذا المجموع عفريت من الجن نسمع به ولا نراه.

ودارت بي السنون من ذلك العام الذي أشرت إليه، إلى يومي الراهن، فإذا بي أقرأ لزعيم سياسي مرموق، في بلد له في دنيا السياسة عراقة ورسوخ، أقرأ له قوله الذي معناه أنه لا يعرف كيف يفهم السياسة إلا أن تجعل من الإنسان إنسانًا أفضل، ويستطرد ذلك السياسي المرموق في بلده، فيدحض هذه الموجة التي شاعت في عصرنا بأن أهم أركان السياسة هو الاقتصاد، قائلًا: إن هذا الاقتصاد جزء من نشاط الإنسان، فإذا أنت جعلت من كل إنسان في مجاله الخاص إنسانًا أكمل بالنسبة لذلك المجال، فقد ضمنت أن يجيء كل ضروب نشاطه — ومنها النشاط الاقتصادي — مسايرًا لما يحقق للأمة أهدافها، إذ كيف يكون «الاقتصاد» ذا أولوية على احترام القانون ومراعاة حقوق الآخرين؟ كيف تكون له أولوية على حياة الأسرة وعلى القيم الثقافية والروح القومية؟ إن هذه الخصائص كلها هي في حياة الناس بمثابة ما يسمى في مجال البحوث العلمية ﺑ «المتغير المستقل»، وأما الاقتصاد فهو «المتغير التابع»، بمعنى أنه كيفما يكون للإنسان من تلك الصفات، فإن الاقتصاد يتغير تبعًا لها، وليست الحياة الاقتصادية هي التي تلد للإنسان خصائصه المثلى.

قرأت ذلك فلم يسعني إلا أن أنطق بالشهادتين، إذن لم تكن نظرتي إلى السياسة يومها — وإلى يومي هذا — بكل السذاجة التي ظننتها، وكذلك ظنها زميلي، اللهم إلا إذا أردنا أن تلتف المعاني البسيطة بأطباق من الضباب كي لا يراها إلا المختصون الراسخون في العلم!

لكي تكون للجنة من لجان الاتحاد الاشتراكي في قرية من القرى — مثلًا — مهمة سياسية، فهي مطالبة — بحسب فكرتي الساذجة — بأن تنظر في شئون الزراعة، وأن تنظر أيضًا في مقاومة الذباب والحشرات والفئران، كما تنظر في محو أميتها، وفي غير ذلك مما يجعلها في نهاية الأمر قرية أفضل، لكن لعل زميلي ذاك قد أراد ما يريده كثيرون، بأن يتبلور النشاط السياسي في خطيب يخطب وجمهور يسمع، وكلما كانت ألفاظ الخطبة أشد رنينًا، وكان الجمهور أعلى تصفيقًا، كانت «السياسة» أخلص وأصدق لأهدافها.

كيف تدعي لجنة من لجان الاتحاد الاشتراكي حيثما كانت، أنها تؤدي واجبها السياسي وحولها الأطفال غير المرغوب في ولادتهم يولدون بالألوف كل يوم، ويولدون لمن؟ يولدون لآباء وأمهات لم يكن من حظهم نصيب من التعليم الذي يضمن لهم حدًّا أدنى من رعاية هؤلاء الأطفال، فلا اللجنة جعلت سياستها أن تهيئ لهؤلاء وسائل التعليم، ولا هي بالتالي أفلحت في مقاومة التفجر السكاني الرهيب.

وكيف تدعي لجنة من تلك اللجان حيثما كانت، أنها تؤدي واجبها السياسي وحولها الشباب في حالة من التهلكة والضياع، تزداد بينهم الجريمة والعنف والانحراف؟ إن هذه أمور لا تسقط على رءوس الشباب مع المطر النازل من السحاب، بل هي منبثقة من ظروف أرضية يعيشونها، وإذن ﻓ «السياسة» هي أن نرى كيف تتغير هذه الظروف.

خلاصة الرأي عند هذه النظرة الساذجة التي لا أملك سواها، هي أن علم السياسة هو نفسه علم تغيير الواقع الاجتماعي، وأن هذا الواقع الاجتماعي ليس من الأشباح الهائمة في ضوء القمر، بل هو أنت وهم وهن الواقع الاجتماعي هو إسماعيل وإبراهيم وزينب وفاطمة، وإذن فلكي يتغير الواقع الاجتماعي، فلا بد أن يتغير هؤلاء، أن يتغيروا من جهل إلى معرفة، ومن مسغبة إلى يسر، ومن خمول إلى نشاط، ومن غيبوبة إلى وعي، والسياسة هي أن نصنع لهم هذا التغيير، وأن نجعلهم يصنعونه لأنفسهم.

العبرة كلها هي بالفرد الواحد، وبالمجموعة الواحدة، وبالقرية الواحدة، وبالمصنع الواحد والمدرسة الواحدة … كل وحدة من هذه الوحدات تصلح من نفسها، وكأنها الأمة كلها، بل وكأنها الإنسانية كلها، فيصلح الكل، وتلك هي السياسة، ولا سياسة هناك لو ملأت مائة ألف مجلد بالخطب والمنشورات والمحاضر والتعليمات، ثم ننظر إلى تلك الوحدات، فإذا هي على حالها أو أشد سوءًا.

لقد كان للفيلسوف «ليبنتز» (١٦٤٦–١٧١٦م) — وهو فيلسوف لم يشع ذكره لسوء الحظ بين المثقفين العرب شيوعًا كافيًا — أقول إنه كان لهذا الفيلسوف براعة عجيبة في صياغة التشبيهات التي يوضح بها ما يريد توضيحه، ومنها التشبيه الذي أقامه ليبين به كيف أنه لو سار كل فرد على النهج القويم لكان ذلك كفيلًا بأن تجيء المجموعة كلها على صورة الكمال، فقال في ذلك إننا لو فرقنا بين عازفي السيمفونية، بحيث وضعنا كلًّا منهم في غرفة وحده، ومعه النوتة التي يعزف على منهاجها، فالضارب على البيانو في غرفة، والعازف على الكمان في غرفة وهكذا، لتكونت من عزفهم السيمفونية كاملة، ولكن ضعهم معًا، ولكلٍّ منهم نوتة تختلف عما عند زميله، فلن يصدر منهم إلا الخليط والفوضى، وليست مهمة «المايسترو» إلا في التوقيت.

فالمعول كله هو على الوحدة الصغيرة الواحدة كيف تسلك، حتى في الحالات التي نستهدف فيها المجموع كله، فماذا يبقى من المجموع ليتغير إذا تغيرت وحداته وهي فرادى؟ ماذا يبقى لك من الكتاب لتستوعبه إذا استوعبت فصوله؟ ماذا يبقى من البستان ليزدهر إذا ازدهرت كل نبتة فيه؟ ماذا يبقى للأمة كي تتحضر بحضارة عصرها إذا تحضر بهذه الحضارة كل فرد من أبنائها؟ إنه لمن أخطر مزالق الخطأ في التفكير، أن تضع أمامك أسماء المجموعات إلى جانب أسماء أفرادها، ثم تتوهم أن لكل مجموعة منها كيانًا غير كيانات أفرادها، فالأمة هي أبناؤها، والكتاب هو فصوله، والبستان هو ما ينبت فيه.

كل ذلك أقوله الآن كرجع الصدى لما كان دار بيني وبين زميلي منذ ثلاثة عشر عامًا، حين ظننت أن المهمة «السياسية» للجنة هيئة التدريس في كلية الآداب بجامعة القاهرة، هي أن يجعلوها كلية آداب أفضل مما كانت عليه، فظن زميلي أنه لو كانت تلك هي نظرتي إلى السياسة، فهي نظرة ساذجة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤