هل ذابت الفوارق؟

هل ذابت الفوارق بين الطبقات كما أردنا لها أن تفعل؟

أبدًا! أو قل إنها لم تذب بالدرجة التي نبتغيها.

وقبل أن أعرض ما عندي في ذلك، أود أن أزيح عن صدري خاطرًا يشغلني آنا بعد آن، فهو يظهر ويختفي كأنما هو طائر حبيس يضرب بجناحيه في قفصه طلبًا للفرار، وذلك هو ظني بأن المترجم المجهول الذي نقل إلينا عبارة «الفوارق بين الطبقات» لا بد أن يكون قد أخطأ الترجمة الصحيحة، فأوقعنا في تصور باطل دون أن يدري، إذ إني أرجح بأنه استخدم كلمة «طبقات» ليقابل بها كلمة classes، على حين أن هذه الكلمة تعني «فئات» أو «مجموعات» وليست فئات الناس بالضرورة «طبقات» يعلو بعضها بعضًا كطوابق البناء، فمجموعة المزارعين مثلًا تختلف عن مجموعة الحدادين أو النجارين، لكنها مجموعات لا يتركب بعضها مع بعض على صورة الطبقات التي تقام طبقة منها فوق أخرى.

أخطأ المترجم المجهول في نقل العبارة — ولست أدري متى كان ذلك ولا أين — ولكنه أخطأ، ولعل السر في خطئه هو أنه أسقط ثقافتنا على العبارة التي يترجمها، إذ إن فكرة الطبقات في ثقافتنا الاجتماعية واردة، فأسرعت هذه الفكرة إلى ذهنه عندما وجد المعنى الذي بين يديه هو «الفوارق بين الفئات»، ومن يدري؟ ربما لو لم يكن ذلك المترجم المجهول قد وقع في هذا الخطأ، لكان الذي بيننا الآن تصور آخر ليس فيه كل هذا النفور الذي يكنه من يظن أنه كان الطبقة الأدنى تجاه من يظن أنه كان الطبقة الأعلى.

ما علينا، فهذا — على كل حال — خاطر أردت أن أزيحه عن صدري، ثم أدخل في الموضوع، فماذا كانت يا ترى تلك «الفوارق» التي جعلت الناس طبقات بعضها فوق بعض، ثم أردنا لها أن «تذوب» لينساب عباد الله جميعًا في تيار واحد متجانس؟

أكانت تلك الفوارق ناشئة عن «المهنة» التي يحترفها المواطن، فإذا كانت المهنة هي كذا وضعناه في طبقة عليا، أو كانت المهنة هي كيت وضعناه في طبقة دنيا؟ ربما كان ذلك قائمًا، لكن إلى حدٍّ محدود، لا يجعل اختلاف المهنة وحده كافيًا للتفرقة، فقد كان من المزارعين طبقة وسطى وطبقة دنيا برغم المشاركة في مهنة واحدة، وقد يقال إن الفيصل في الأمر هو: هل كان العمل يدويًّا أو ذهنيًّا؟ لأن أصحاب العمل اليدوي طبقة، وأصحاب العمل الذهني طبقة أخرى، فقد يقال ذلك، ثم ننظر فإذا الطبقة العليا كادت كلها أن تكون بلا عمل على الإطلاق، وإذا ببعض التابعين للطبقتين الوسطى والدنيا لا يتبين فيهم إن كان العمل يؤدونه يدويًّا أم ذهنيًّا، وفوق هذا وهذا، فهل كان يسهل علينا أن نقارن الأعمال بعضها ببعض لنعرف أين نضع أصحابها؟ هل كان يسهل أن نقارن مثلًا موظف الدواوين الصغير بفلاح الأرض الصغير، حتى يتاح لنا أن نضع الموظف في الطبقة الوسطى — كما كان يوضع — وأن نضع الفلاح الصغير في الطبقة الدنيا؟

لا، لم تكن المهن المختلفة هي «الفوارق» التي أردنا لها أن تذوب بين الطبقات، إذن فهل كان مقدار الدخل المالي هو الفاصل؟ كلا، ولا هذا أيضًا؛ لأن تاجر الخردة أو الجزار أو غيرهما قد يكسب مئات الألوف، ومع ذلك لم يكن أبدًا يسمح له بالدخول في الطبقة العليا، في الوقت الذي كان فيه بعض أفراد الطبقة العليا أو الوسطى لا يملكون شيئًا، بل ولا يقوون على حسن الظهور، ومع ذلك كانوا يوضعون في طبقاتهم تلك لاعتبارات أخرى، هي التي نبحث الآن عنها.

لقد كانت فكرة الفواصل الطبقية شاغلًا يلح على عقلي منذ زمن بعيد، فأذكر سنوات كنت أبحث خلالها عما يقنعني بأنه هو حقًّا الصفة الفاصلة بين طبقة وطبقة، وكانت أسرتي مما كان يسمى بالطبقة الوسطى، دون أن أعلم على وجه التحديد وسطى بين مَن ومَن، نعم إنها لم تكن أسرة تملك الضياع من جهة، ولا كانت أسرة يبيع أفرادها الفجل والكراث على جانب الطريق من جهة أخرى، ولكن الطريق بين الطرفين طويل عريض، فيه ألوف الأشكال والألوان من أعمال مختلفة ودخول متفاوتة، بحيث كان يصعب عليَّ النظرة غير الفاحصة أن تدرك الطابع المشترك العام الذي يحدد لتلك الطبقة أن تكون «وسطى».

وأذكر أني وقعت ذات يوم من عام ١٩٤٥م على علامة تعرف بها حدود الطبقات، وكان ذلك في كتاب صغير يشتمل على موضوعات من علم الاجتماع، واسم مؤلفه «جنز برج»، إذ يجعل هذا المؤلف قبول التزاوج أقوى علامة تدل على أن الزوجين من طبقة واحدة، مهما يكن بينهما بعد ذلك من فارق المهنة أو المال، وإذا شاءت المصادفة لزوجين ألا يجيئا من طبقة واحدة كان زواجًا قلقًا يغلب أن ينتهي إلى الفشل.

هذه علامة سهلة ومريحة، ولكنها ليست حلًّا للمشكلة المطروحة؛ لأننا إنما نبحث عن «الفوارق» التي تفصل طبقة عن طبقة، ما طبيعتها؟ وقد استبعدنا أن تكون المهنة أو أن يكون مقدار الدخل هو ما يفصل.

وانتهيت آخر الأمر إلى الفاصل الذي أطمئن إلى صوابه، وهو: «أسلوب الحياة»، أو إن شئت فقل أنها «الأيديولوجية» الخاصة، المسيرة للإنسان في حياته، والواضعة له معايير السلوك ومقاييس الذوق، هي التي تجعل — أو كانت تجعل — من الناس طبقات، فأصحاب الطبقة التي كانت عليا لهم أسلوبهم، بغض النظر عن العمل ونوعه، وبغض النظر أيضًا عن الدخل أكثر هو أم قليل، وكذلك قل في كلٍّ من الطبقتين الوسطى والدنيا.

وكان من أهم ما يميز الطبقة الوسطى — التي كانت أسرتي تنتسب إليها — شيء من المحافظة في معايير الأخلاق التقليدية، ولذلك لم يكن فيها ما كنا نسمع عنه من انحلال في الطبقة العليا، كما لم يكن فيها ما كنَّا نلحظه من اللامبالاة في الطبقة الدنيا، ولا غرابة أن أوشك حجاب المرأة أن يكون مقصورًا على تلك الطبقة الوسطى، وكذلك كان مما يميز هذه الطبقة عنايتها بأبنائها وبناتها إلى حد الإسراف، فلم نكن ونحن أطفال يسمح لنا باللعب في الشوارع كما يسمح لأطفال الطبقة الدنيا، ولقد تفرَّع عن العناية بالأبناء حرص شديد على أن تنتهي الأسرة آخر الشوط إلى شيء من الادخار يغلب أن يوضع في شراء بيت خاص، فضلًا عن نفقات تزويج البنات، إلى آخر ما يمكن ذكره من خصائص الطبقة الوسطى، التي أرفض أن توصف بالبورجوازية؛ لأن هذه كلمة قد تحولت إلى وعاء تتجمع فيه الصفات الكريهة كلها، كأنها صندوق للقمامة نقذف فيه بكل منبوذ.

خلاصة ما أردت أن أقوله هي أن «الفوارق» بين الطبقات كانت فوارق في طريقة السلوك وفي معايير الذوق، فهل ذابت هذه الفوارق، بحيث أصبحنا جميعًا نسلك بطريقة واحدة، ونعيش بأسلوب واحد، ونقيس الأشياء في دنيا الأخلاق وفي دنيا الفنون بمعايير واحدة؟ الجواب عندي هو بالنفي.

لقد زاد كسب العامل اليدوي زيادة ملحوظة، بمقدار ما هبط كسب العامل الذهني، فكسب العامل الذي يصلح السيارة المعطوبة أو الكهرباء المعطلة، أكثر جدًّا من كسب الباحث الذي يحاضر في كليات الهندسة عن السيارة والكهرباء، ومع ذلك فلم ينتج هذا التغيير في الدخل تغييرًا شبيهًا به في أسلوب العيش، فما تزال للعامل طريقته ولأستاذ الجامعة طريقته دون أن «تذوب» الفوارق بين الطريقتين، فأسهل جدًّا على العامل منه على الأستاذ أن يتمتع بحقوقه الشرعية في الزواج مثنى وثلاث ورباع، وأسهل جدًّا على العامل أن ينفق على الطعام بكل السخاء المفرط، وألا تنفتح كفه بمليم ينفقه على القراءة أو على شيء من الفنون.

كانت لكل طبقة فيما مضى «أيديولوجية» خاصةً بها، كما كان لها متوسط من الدخل يتناسب مع تلك الأيديولوجية، ثم تغيرت موازين الداخل، ولم تتغير الأيديولوجيات، فنشأ ما هو حادث بيننا اليوم من مفارقات، فمن لم يعد في يده مال لا يزال راغبًا في العيش كما كان أبوه يعيش من حيث العناية بأبنائه والادخار للمستقبل ومستويات الصحة والنظافة، وتمضية أوقات الفراغ، ومن أصبح في يده المال هو بدوره أيضًا ما زال راغبًا في العيش على غرار ما كان أبوه يفعل من حيث نظرته المستهينة بتبعيات الأسرة حاضرًا ومستقبلًا، ومن حيث اهتماماته التي يشغل بها أوقات فراغه.

وها هنا الموضع المناسب لإثبات الملاحظة الآتية على وسائل الإعلام، فما من مرة شهدت فيها تمثيلية أو مسرحية، وما من مرة استمعت فيها إلى تعليق، كلما ظهر خلاف بين أسلوبين من أساليب العيش، إلا رأيت التعاطف والتأييد لأسلوب ما كان يسمى فيما مضى بالطبقة الدنيا، والسخرية من أساليب الآخرين، فافرض — مثلًا — أن التمثيلية قائمة على أن عاملًا تزوج من أسرة كانت توصف فيما مضى بالطبقة الوسطى، ثم أراد هذا العامل أن يأكل بيديه، وأن يتجشأ بصوت مسموع، وأن يعبث بأصابعه في قدميه، ثم أرادت له الزوجة أن يتغير، فيكاد القائمون بالإعلام، ممن كتبوا نص التمثيلية أو من صوروها وأخرجوها، أن يجعلوه واجبًا قوميًّا عليهم أن يُعلوا من شأن سلوك الزوج بقدر ما يضعون الزوجة في موضع المتخلف المهزوم، وهم بذلك يظنون أنهم إنما يعملون على «تذويب الفوارق بين الطبقات».

ولو فعل القائمون بالإعلام ذلك عن عقيدة منهم بأن سلوك الطبقة التي كانت توصف بأنها الدنيا هو السلوك الذي يجب تأييده ونشره لتجتمع عليه سائر الطبقات، لأكبرنا فيهم التدعيم لما يعتقدون في صوابه، لكنهم إذ يفعلون ذلك لأكل العيش يحاولون من وراء ظهورنا البحث لأبنائهم عن المدارس الممتازة التي يتعلمون فيها لغات أوروبية، ومعها يتعلمون كذلك السلوك الأوروبي والذوق الأوروبي؛ لأنهما الذوق والسلوك اللذان يرضيان الحياة المتحضرة.

نعم نريد للفوارق الطبقية أن تذوب، على أن يكون ذوبانها خطوة إلى الأمام لا رجعة إلى الوراء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤