بغير انفعال

كانت هذه أول مرة في عمري الطويل، يتاح لي فيها أن أقيم بضعة أيام أوشكت على أسبوع كامل، فوق قمة جبل بهذا الارتفاع، إنني أسكن بالقاهرة في ركن من عمارة تعد من أعلى عماراتها، ولكن هذا الجبل الذي أقمت على قمته بضعة أيام، يعلو على سطح الأرض المألوف بمقدار ما تعلو تلك العمارة أربعين مرة على الأقل، فبينما كان الناس على المستوى المألوف يخلعون عن أجسادهم بعض ثيابهم من شدة الحر، ويمسكون مناديلهم بأيديهم بلا انقطاع ليمسحوا عن وجوههم العرق المنسال، كنت في برودة يسجل المقياس المعلق على حائط المدخل — مدخل الفندق الذي أقمت فيه — صفرًا أو فوق الصفر بدرجة أو درجتين.

وفي ساعة من عزلة تامة، في ذلك المأوى البعيد البعيد، أحسست ما أحس به النوتي الذي روى عنه «إدجار ألن بو» في قصته «سقطة في دوامة»، إذ روى أن النوتي وقد هوى رغم أنفه ذات يوم في دوامة الماء، وجد نفسه يدور حتى الدوار مع الماء الدائر، لا يستطيع أن يثبت بجسده لحظة، فليس إلى جواره شيء يمسك به ليثبت، ثم لا يستطيع أن يقاوم حركة الماء الدافعة ليوقفها عن الحركة، أو ليحدَّ من سرعتها، فذلك كله فوق طاقته، إن لم يكن فوق طاقة البشر، وهنا هبطت إليه فجأة حكمة السماء، وهي أن يهدئ من نفسه الفازعة اليائسة بأن يرسل بصره ليجاوز به حدود الدوامة نفسها، وليلحظ في انتباه مركز ينسيه أو يلهيه عما هو فيه يلحظ الأشياء الصغيرة الطافية فوق سطح الماء بعيدًا عن الدوامة والماء هناك فيما يشبه السكون التام، فهنالك على الماء الساكن قطعة صغيرة من خشب، ومجموعة ضئيلة من القش أو ما يشبهه، فليركز بصره في تلك الأشياء؛ لأنه بعد حين قصير ستدفع به الدوامة إلى هناك، فلما أفلح النوتي في صرف نظره عما هو فيه، هدأت نفسه، بل وأمكنه أن يفكر وكأنه لم يكن في خطر يدهمه ويحيط به.

أحسست بما أحسه النوتي في قصة «إدجار ألن بو» وهو إحساس الذي أخرج نفسه من دوامة كثيرة المخاطر والمزالق، وهو نفسه الإحساس — فيما أتصور — الذي يشعر به الصوفي عندما ينتشل نفسه انتشالًا من زحمة الحياة وصخبها؛ ليأوي إلى صومعة معزولة في عرض الفلاة، فلا يكون بينه وبين ربه عندئذٍ حجاب.

في مثل تلك العزلة التي تبعدك عن الدوامة، يمكنك التأمل في هدوء وبغير انفعال، وهي حالة شبيهة بما أوصى به «وردزورث» — الشاعر الإنساني العظيم — جميع الشعراء من كل بلد وفي كل عصر، إذ أوصاهم ألا يقولوا الشعر إلا بعد أن يتخلصوا من انفعالهم بعد أن تكون اللحظة التي سيقولون عنها شعرهم قد زالت، ولم يبقَ منها عندهم إلا ذكراها الهادئة، على خلاف ما يظنه كثيرون عندنا من الشعراء والأدباء والمفكرين، حين يظنون أن أنسب الظروف للكتابة هي تلك التي تتم لحظة الانفعال … لا، إنك في دوامة الانفعال وحرارته، يستحيل عليك استحالة قاطعة أن تنتج أدبًا أو فكرًا له جودته، هل تستطيع الأم الثكلى وهي في اضطراب ثكلها وارتعاشته — إذا كانت أديبة — أن تكتب أدبًا في رثاء فقيدها، إلا أن تزول عنها الغمة، وتبقى الذكرى الهادئة في حزنها؟

وهكذا كنت على تلك القمة العالية البعيدة، أستعيد شيئًا مما يشغلنا على أرض الوطن، فأعيد فيه النظر، لا يحدوني إلا الإخلاص للفكرة وحدها، وبعد ذلك فليكن ما يكون من نقد الناقدين، فليس على المخلص إلا إعلان الرأي، لكنه بالطبع لا يضمن صوابه؛ لأنه بشر، والبشر غير معصوم.

وبغير إرادة مني ولا تدبير كانت الفكرة التي عرضت في ذلك المكان البعيد المنعزل، وفي تلك الهدأة الساكنة، إلا من رنين الأجراس المعلقة في أعناق البقر الذي يرعى على سفوح الجبل القريبة مني، كانت الفكرة التي عرضت لي أول ما عرض، هي المبادئ الثلاثة التي أردنا لها أن تكون الأسس الثابتة للعمل السياسي في مصر، وهي: وحدة الأمة، وحتمية الحل الاشتراكي، والسلام الاجتماعي، فكان السؤال الذي ألقيته على نفسي بادئ ذي بدء هو هذا: هل هذه الأسس الثلاثة على مستوى نظري واحد؟ أو أن بعضها يمكن أن يشتق من بعضها الآخر؟

وإني لأطلب المغفرة من القارئ إذا رأى أنني بمثل هذا السؤال النظري أشتت النظر بغير طائل، فما أردت إلا أن أقيم الفكر السليم على أساس سليم، وإلا اهتز البنيان ذات يوم، ومن الأسس العلمية المعروفة في كل تفكير منهجي، أن تكون «المبادئ» الموضوعة لتكون هي القاعدة التي يقام عليها البناء (ولاحظ هنا أن كلمة «مبادئ» نفسها تعني الأفكار التي نضعها لنبدأ التفكير منها) أقول إنه من الأسس العلمية المعروفة في كل تفكير منهجي، أن تكون «المبادئ» مستقلًّا بعضها عن بعض، بمعنى ألا يكون أحدها مما يمكن اشتقاقه من الآخر؛ لأنه لو كان بين المبادئ مبدأ هو في حقيقته نتيجة تلزم عن مبدأ آخر، وجب حذفه من قائمة المبادئ، لماذا؟ لأننا إذا جعلنا النتيجة مبدأ مسلمًا به منذ البداية ورطنا أنفسنا في التسليم بفكرة ربما يتبين لنا بعد فحصها أنها ليست مستدلة من أصلها استدلالًا سليمًا.

وأعود فأطلب من القارئ مغفرته لمثل هذا الكلام النظري المجرد؛ لأنني مضطر لذكره الآن، ما دمت قد سألت نفسي: هل هذه «المبادئ» الثلاثة مبادئ بالمعنى العلمي المنهجي السليم؟ أو أن أحدها نتيجة يمكن اشتقاقها من الآخر، فلو ثبت أنه نتيجة، أرجأناه حتى نستوثق من أنه مشتق اشتقاقًا صحيحًا، وبعد أن أطلت النظر، وجدت — وقد أكون مخطئًا — أن تلك الأفكار الثلاثة التي وضعناها لتكون نقطة انطلاق (أي لتكون «مبادئ») ليست على مستوى واحد، ولا هي مستقل بعضها عن بعض، بل هي مسلسلة تجيء على ثلاث خطوات، كل خطوة تعتمد على سابقتها، فالمبدأ الحقيقي الواحد، الذي لا مناص من البدء به والتسليم بقوله، هو فكرة «الوحدة» بين أبناء الأمة، فإذا تمت الوحدة بالصورة الصحيحة، تولدت عنها نتيجة، هي أن يسالم هؤلاء الأبناء بعضهم بعضًا، فإذا ما تحققت المسالمة الاجتماعية بين الأفراد، أدى ذلك إلى شبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية هي التي نسميها في مجموعها بكلمة «اشتراكية».

وحدة الأمة هي المبدأ، وذلك بديهي؛ لأنه بغير وحدة فلا أمة، ولقد يحدث — بل إنه حدث بالفعل في بلاد أخرى — أن تتفكك الوحدة بمعنى أن تطلب جماعة من الأمة أن تستقل بذاتها دون سائر الأفراد، فلو تحقق لها ما تطلبه وأنشأت «أمة» جديدة مستقلة بنفسها، عادت الوحدة مرة أخرى لتكون شرطًا لبقاء هذا الفرع المنشق في صورة أمة مستقلة بذاتها، وإذن ففكرة الوحدة بين المواطنين في الوطن الواحد، شرط أساسي لا غناء عنه، وبالتالي فهي «مبدأ» ضروري لا يكون التفكير سليمًا إلا إذا انطلق منه.

وكجسم الكائن الحي حين نقول عنه إنه وحدة موحدة الأجزاء، فإنما نعني نتيجة تلزم حتمًا عن ذلك، وهي ألا تعاند الأعضاء بعضها بعضًا، فيستهدف الكبد — مثلًا — هدفًا غير الذي يستهدفه القلب أو الرئتان، فما نسميه بالسلام الاجتماعي ليس في الحقيقة «مبدأ»، وإنما هو الحالة التي تتبع قيام الوحدة، كما نقول إن أكل الطعام يستتبع حالة الشبع، فنحن هنا لا نزعم أن هنالك مبدأين: مبدأ الأكل ومبدأ الشبع، بل البداية واحدة هي الأكل، وأما الشبع فحالة تتبعه بالضرورة.

وأخيرًا تأتي النقطة المهمة، وهي «حتمية الحل الاشتراكي»، فما الذي حتَّم هذا الحل أولًا، وثانيًا هل دلت خبرتنا نحن الخاصة على أن الحل الاشتراكي محدد المعنى، بحيث لا يتغير معناه بتغير الظروف؟ إن هذا الحل يكون محتومًا علينا إذا وجدنا أنه مترتب على الفكرتين الأساسيتين اللتين هما: وحدة الأمة، والسلام بين أبنائها، بصورة قاطعة، لكن الأمر ليس كذلك في حقيقته، بدليل أن فكرة وحدة الأمة، ومعها فكرة السلام الاجتماعي قد تسايرهما في بلاد أخرى حلول أخرى ليس هي الحل الاشتراكي، أقول ذلك وليس عندي ذرة من رغبة في التردد إزاء «الاشتراكية» بصفة عامة؛ لأنني مؤمن بها منذ كنت فتًى يهتز القلم بين أصابعه، ومن شاء فليراجع مقالات تعد بالعشرات كتبتها في صورة الأدب الرمزي منذ أواخر الثلاثينيات، وعلى طول الأربعينيات، وإنما أقوله ابتغاء الفكر الواضح أولًا، ورغبةً في أن يقوم البناء السياسي على أساس فكري سليم ثانيًا.

إن الذي يهمنا بالدرجة الأولى هو وحدة الأمة وقيام السلام بين أبنائها، وعلينا بعد ذلك أن نسأل هذا السؤال الآتي في هدوء وبغير انفعال: ما هي مجموعة العلاقات التي نريدها بين الناس في مجال الاجتماع ومجال السياسة بصفة خاصة، بحيث تتسق تلك العلاقات اتساقًا تامًّا مع وحدة الأمة والسلام بين المواطنين؟ حتى إذا ما حددنا العلاقات المطلوبة، كان لنا بعد ذلك أن نطلق عليها أي اسم نشاء، وليكن الاسم الذي نختاره لها هو كلمة «الاشتراكية»، لكننا في هذه الحالة سنكون على وعي بأن الأمر هو من اختيارنا وليس محتومًا علينا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى سيكون المضمون الفعلي لكلمة الاشتراكية خاصًّا بنا؛ لأننا نحن الذين فكَّرنا لأنفسنا وحدَّدنا ما نريده، بعبارة أخرى أريد للاشتراكية ألا تكون نقطة بدء، بل أن تجيء نقطة انتهاء، خشية أن نتورط في مضمون للكلمة ليس هو الذي نريده، إذا ما جعلنا لهذه الكلمة مكان الصدارة، إنها مجرد اسم نطلقه على ما نحدده لأنفسنا بأنفسنا من علاقات اجتماعية واقتصادية، والاسم يجيء عادةً بعد أن يكون المسمى به قد تشكَّل واستقام كيانه.

فالترتيب الجديد لتسلسل الأفكار هو هكذا: أمامنا مبدأ واحد هو وحدة الأمة، ويستتبع هذا المبدأ حالة هي حالة المسالمة بين أبناء هذه الأمة، ثم تقتضي الوحدة والمسالمة بين الأفراد شبكة معينة من علاقات تربط الأفراد في إطار المجتمع، قد لا تشبه أي شيء من جنسها في البلاد الأخرى، هي التي سأطلق عليها آخر الأمر اسم الاشتراكية، ليكون لهذا الاسم عندنا معنًى محدد خاص.

وماذا نكسب من هذا الترتيب الجديد؟ نكسب حرية التغيير في مجموعة العلاقات التي نريد إقامتها بين الناس، فكلما اقتضت وحدة الأمة والسلام الاجتماعي تغييرًا في النظم، أجرينا هذا التغيير بلا تردد ولا حساسية؛ لأنني لم أجعل الأمر «مبدأً» ألتزمه مهما كانت الظروف، والحق أن هذا هو ما صنعناه بالفعل منذ قامت الثورة وحتى الآن، فقد ظللنا نغيِّر ونغيِّر، وما زلنا نغيِّر، حتى تعريف الفلاح والعامل نغيِّر فيه، والحدود القصوى للملكية نغيِّر فيها، وحدود القطاعين الخاص والعام تتغير سعةً وانكماشًا.

وهذا كله صواب، لكنه لا بد أن يلفت أنظارنا إلى أنه ليس للاشتراكية عندنا مضمون مفروض علينا، وبالتالي فليست هي بالأمر المحتوم، وإنما هي مبادئ عامة نبدل المضمون في إطارها كلما اقتضت الظروف ذلك.

أكتب هذا فوق تلك القمة الباردة، وفي ساعة من العزلة الشاملة، أكتبه في هدوء لا تهتز مني فيه خلية واحدة بانفعال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤