الناظرون إلى السحاب

إي والله قالوها! ثم لم يقفوا عند حد القول الذي كان ربما ذهبت به الريح فلم يترك بعده أثرًا، بل هم والله جاوزوا حد القول إلى الكتابة فالطباعة فالنشر في الناس!

لقد أخذت الموجة اللاعلمية اللاعقلية تتصاعد، حتى بلغت ذروتها، أو قل إنها بلغت إحدى ذراها — إذ هي متعددة الذرى كسلاسل الجبال العالية — بلغت إحدى ذراها في كتيب صغير وقعت عليه عيني منذ يومين عنوانه «الأرض لا تدور» أرسله إليَّ صاحبه هو كتاب في اتساع الكف، ولم تبلغ صفحاته المائة، ومع ذلك فصورة المؤلف على الغلاف، وعلى الغلاف إلى جانب صورته كتب أنه يتقدم إلى العالم بنظرية هي نظرية القرن العشرين، استمدها — كما كتب — من العلم المصري القديم وآيات القرآن الكونية، ثم ندير الغلاف فيقع منك البصر على إهداء من المؤلف «إلى الرئيس المؤمن محمد أنور السادات، راعي العلماء، ورافع شعار دولة العلم والإيمان، أهدي نظريتي العلمية هذه».

ولم أكن لأسمح لعيني أن تقرأ ما كتب على الغلاف، ولا لأصابعي أن تدير هذا الغلاف، لولا أن العنوان «الأرض لا تدور»، أقول لولا أن العنوان البشع المخيف قد بدا لي على نحو ما تبدو البثور على وجه المريض، يراها الطبيب فلا يقول إنها بثور لا تستحق النظر، بل يراها فيقول إنها علامة تدل على بشاعة كمنت وراءها، ومن أجل هذا الكامن وراء العلامة الظاهرة يهتم الطبيب.

لو كانت هذه الكارثة العقلية خاصة بفرد، أو حتى بعدد قليل من الأفراد، لما عنينا بأمره أو أمرهم، لكنها — كما قلت — علامة على مرض يستفحل في أجزاء كثيرة من الوطن العربي الكبير، فلقد حدثني أستاذ صديق، كان معارًا في قُطر شقيق لتدريس الجغرافيا في جامعة هناك، فوجد من الممنوعات الرسمية أن يذكر دوران الأرض للطلاب؛ لأن هذا الدوران — في رأيهم — منافٍ للدين، فسألت صديقي ذاك: وماذا صنعت في المواقف التي كانت تستدعي منك أن تشير إلى هذه الحقيقة العلمية؟ فقال بفكاهته المعروفة عنه: كنت أجعل عبارتي هكذا: «يقول الكفار إن الأرض كروية، وإنها تدور حول نفسها وحول الشمس.»

وليست الأرض ودورانها هي وحدها محور المشكلة؛ لأن مسارحنا الهزلية — بحمد الله — قد تولت هذه المسألة بما يكفيها، لكنها الموجة اللاعلمية اللاعقلية بصفة عامة، هي التي تستحق العناية، ولو كان القائمون بها يعلمون بينهم وبين أنفسهم، أو يعترفون بينهم وبين الناس، إنهم إنما يقاومون العلم، ويقاومون العقل عن مبدأ عندهم صريح، لهان الأمر بعض الشيء؛ لأن قوة العلم وسلطان العقل آخر الأمر لا بد لهما أن يسودا، لكن القائمين بدفع الموجة اللاعلمية واللاعقلية ليسوا — فيما يظهر — على وعي بما هم صانعون، وها هو ذا مؤلف هذا الكتيب الصغير الذي عنوانه «الأرض لا تدور» يهدي عمله هذا إلى السيد الرئيس «رافع شعار دولة العلم والإيمان»! فمن ذا ينبئه أن عمله أبعد ما يكون العمل عن العلم وعن الإيمان معًا؟ وليس مثل هذا العلم وهذا الإيمان هما اللذان رفع شعارهما السيد الرئيس؛ لأنه بغير شكٍّ حين رفع لنا هذا الشعار الهادي، أراد للعلم أن يكون علمًا كما يعرفه العلماء، وللإيمان أن يكون إيمانًا كما هو عند المؤمنين.

إن حقائق العلم لا يجوز أن تترك لعبة في أيدي العابثين، وإذا كنا نطالب أحيانًا بأن تراقب الكتب قبل نشرها خشية أن يكون على صفحاتها ما يتنافى مع العقيدة الدينية، أفلا يكون من الواجب كذلك أن تراقب الكتب خشية أن تتناول حقائق العلم بهذا اللهو السخيف؟ أليس المسئول عن العقيدة الصحيحة مسئولًا في الوقت نفسه عن العلم الصحيح؟ إن رجلًا كهذا الذي أصدر كتابًا كهذا لا يخاطب به نفسه، بل هو يخاطب الذين سيقرءُون كتابه، فمن الذي يضمن لنا أن يكون قراؤه ممن يستطيعون أن يفرقوا بين ما هو علم وما ليس إلا خرافة كثيفة ثقيلة؟ من الذي يضمن ألا يكون القارئ شبيهًا ﺑ «بولونيوس» (مع أن بولونيوس كان مستشارًا للملك) في مسرحية هاملت، حين أخذ يعابثه هاملت، إذ هما ينظران إلى سحابة تتشكل مع الريح، فدار بينهما حديث كهذا:

هاملت : أترى تلك السحابة التي أخذت شكل الجمل؟
بولونيوس : نعم أراها، وأقسم بأنها حقًّا في صورة الجمل.
هاملت : لكنني أحسبها أقرب إلى ابن عِرس (بكسر العين، وهو «العرسة»).
بولونيوس : الحق أن لها ظهرًا يجعلها كابن عِرس.
هاملت : أو هي تشبه الحوت.
بولونيوس : إنها أقرب جدًّا إلى صورة الحوت.

وهذا الذي دار بين هاملت وبولونيوس يدور أمثاله بين الناس كل يوم، فيتوهم أحدهم وهمًا، وينقله إلى آخر، فيتأثر به، وإن أوهام الناس لسريعة الحركة سريعة التشكل كتلك السحابة التي شخص إليها المتحدثان السابقان، وإن أوهام الناس كذلك لسريعة العدوى، فمن الذي يضمن لنا أن تخريف صاحب الكتيب الذي ذكرناه لا يجد القبول في وهم قارئه، فتخسر دولة العلم والإيمان علمها وإيمانها معًا؟

وما هكذا كان المؤمنون الصالحون من أسلافنا من حيث العبث بالحقائق العلمية، وهذا هو الإمام الغزالي يؤكد لنا أن الحقيقة المعينة إذا بنيت على اليقين العلمي، استحال علينا بعد ذلك أن نصدق أحدًا يزعم لنا خلافها مهما كانت منزلته ومهما كان مصدره، فيقول — القائل هنا هو الإمام أبو حامد الغزالي وليس كاتب هذا المقال — يقول عن الحقيقة التي أثبتها العلم: «… لو نقل عن نبي نقيضه، فينبغي أن يقطع بكذب الناقل، أو بتأويل اللفظ المسموع عنه»، أي إننا — بعبارة أخرى من عندنا — لو جاءنا قائل يقول إنه روى عن نبي أنه قال كذا وكذا مما نراه مناقضًا لما أثبته العلم، لوجب علينا إما أن نحكم بكذب هذا القائل، وإما أن نحاول تأويل روايته تأويلًا يجعلها مسايرة لما قد ثبت صوابه بالعلم الصحيح، ويكمل الإمام الغزالي عبارته السالفة بقوله أن أي قول مناقض للبرهان العلمي يزعم لك قائله أنه يرويه عن نبي، إذا لم يمكنك تأويل قوله بما يتفق مع نتائج العلم «فشك في نبوة من حكى عنه بخلاف ما عقلت، إن كان ما عقلته يقينًا» ومعنى ذلك — بعبارة من عندنا أيضًا — أن واجبك إزاء ما يروى لك مزعومًا عنه بأنه قول نبي، إذا ما وجدته يناقض العلم، أقول إن واجبك هو أن تشك في نبوة النبي الذي قال عنه القائل إنه صاحب الفكرة المناقضة لحقائق العلم، ما دامت فكرته لا هي متفقة مع العقل، ولا هي مما يمكن تأويله، بحيث يتفق مع العقل، أي مع العلم.

إلى هذا الحد كان الإيمان بالعلم وحقائقه عند المؤمنين الصادقين، وحتى إذا كانت عقيدة المؤمن تلزمه بأن يضع حقيقة كبرى فوق العلم وغير العلم، يكون الإيمان بها عن غير طريق العلم وحقائقه (كما كانت الحال عند الغزالي نفسه حين جعل الحدس الصوفي فوق الحقائق العلمية ومناهج تحصيلها) أقول إنه حتى في هذه الحالة، فلن يمس العلم بسوء؛ لأننا إنما نضيف طابقًا أعلى إلى البناء الإدراكي عند الإنسان، دون أن يلغي هذا الطابق الأعلى وإيماناته حقائق الطوابق التي هي دونه، ما دامت «حقائق» ثبت يقينها على أسس منهجية سليمة.

ولماذا نقول هذا كله وهو من البداءة التي لا تحتاج إلى تكرار؟ نقوله لأن من الناس من يكاد يطالبك بأن تقسم له بحق السماء والأرض أن اثنين إذا أضيفت إلى اثنين كان الناتج أربعة، ولو لم يكن بين الناس أمثال هؤلاء لما دارت المطبعة في مصر اليوم بكتاب يقول إن «الأرض لا تدور»، وينثر على صفحاته أسماء لأعلام من أمثال كوبرنيق وجاليليو وبطليموس وأرسطو … إلخ، حتى ليوهمك بأن صاحب الكتاب ممن أوتوا العلم من أعلى مصادره، ومن لطيف ما يرويه الرجل على صفحات كتابه كلام معناه أنهم ضحكوا على ذقوننا ونحن صبية في المدارس، وقالوا لنا أن من أدلة كروية الأرض أن أعالي السفن الذاهبة عن الشاطئ تختفي بعد أسافلها، وأنها — أي أعالي السفن — تظهر قبل أسافلها في السفن الآتية نحو الشاطئ، مع أنه — صاحب الكتاب — قد وقف على شاطئ النيل وراقب السفن الذاهبة والآيبة، فكان يرى السفينة دفعةً واحدة، أعلاها وأسفلها معًا، وكذلك غرروا بنا في المدارس ونحن شباب حين قالوا إن الأرض مغناطيس كبير، مع أننا نمشي عليها فلا نجد لهذه المغنطة أثرًا علينا.

هذا هو الرجل الذي يأتمن نفسه في فهم آيات القرآن ليثبت بها أن الأرض لا هي كروية ولا هي تدور.

ولكن ما حيلتنا إذا كان بين «علمائنا» من يزل زلات إن لم تكن بهذه الفداحة، فشيء منها؟ لقد شهدت ذات مساء ندوة تليفزيونية اشترك فيها نفر من أعلى مستوياتنا العلمية، وحضرها جمهور ضخم من طلاب الجامعة، وكان موضوع الندوة هو أن يبين كل عضو من أعضائها، في حدود تخصصه العلمي الصرف، كيف أن آيات الله الكريمة قد جاءت بما جاء به ميدان تخصصه من حقائق، ولست أريد هنا الدخول في تفصيلات الأخطاء التي وردت على ألسنتهم مما لم يكن يليق وروده من أمثالهم، لكن السؤال الأهم في هذه الحالة هو هذا: أي الجانبين أراد المتحدثون بأحاديث كهذه أن يزيدوه رسوخًا ويقينًا: أهو كتاب الله أم هو علومهم؟ هبنا قد بينا في جلاء ناصع بأن آيات الكتاب قد اشتملت على المبادئ الأساسية للعلوم كما نعرفها اليوم، فماذا يعني ذلك عندهم أهو يعني أن كتاب الله يزداد يقينًا؟ أم هو يعني أن العلوم تزداد صدقًا؟ ونضع السؤال في صورة أخرى فنقول: ما هو الجانب الذي يريدون تأييده بالآخر؟ إنني في الحق لا أدري فيم هذه الجهود المبذولة في غير طائل، ولو كانت تلك الجهود يبذلها رجال ليس على أعناقهم هموم، لقلنا دعهم، فالمشغلة على كل حال خير من الفراغ، إما أن نرى الصف الأول من رجال الجامعة ينشغلون بمثل هذا وأمام جمهور من طلابهم، فهنا يحق لنا أن نقول إن الكارثة اللاعلمية اللاعقلية التي برزت في كتاب «الأرض لا تدور» ليست بعيدة كل البعد عن كارثة مثلها أصابت نفرًا من رجال العلم على أرفع مستوى تعرفه بلادنا.

ولعلي لا أقول شيئًا يجهله علماؤنا هؤلاء، إذا قلت إنه حدث في العصور الوسطى أن كانت السيادة في دنيا الثقافة للفلسفة لا للعلم، فحاول رجال الدين يومئذٍ أن يبرهنوا بجهود مضنية على أن ما جاءت به الفلسفة هو نفسه ما جاءت به الكتب المنزلة، وكان ذلك بالطبع شعورًا بالنقص فيهم، إذ لو كانوا من رجال الإيمان حين كانت العقيدة الدينية في عزها وقوتها، لما شعروا بضرورة أن يساير دينهم كلام الفلاسفة أو لا يسايره، فلما أن ذهبت السيادة عن الفلسفة وأصبحت للعلم، منذ عصر النهضة الأوروبية في القرن السادس عشر وما حوله، انتقل الشعور بالنقص عند رجال الدين في مراحل ضعفهم، ليتخذ لنفسه محورًا آخر، وهو أن تحول جهدهم المبذول من ميدان إلى ميدان آخر، فبعد أن كان أملهم بيان التطابق بين الدين والفلسفة حتى لا يتعالى عليهم الفلاسفة، أصبح الأمل هذه المرة هو بيان التطابق بين الدين والعلم، حتى لا يتعالى عليهم العلماء، وهو ما نحن غارقون فيه اليوم إلى الأذقان، بل إلى ما فوق الأذقان مما تحتويه الجماجم، مع أن الدين في حالة قوته وعزته كيان قائم بذاته، لا يزيد وينقص بأن يجيء مسايرًا للفلسفة، أو مسايرًا للعلم في عصر معين من عصور الفكر البشري، لكن العجب هو أن مثل هذا الجهد الذي لا ينفع أحدًا ولا يشفع لأحد، إن كان مفهومًا من رجال في حالة الضعف، فيتمحكون في أصحاب القوة، سواءٌ أكانت هذه القوة في أيدي الفلاسفة كما كانت في العصور الوسطى، أم في أيدي العلماء كما هي اليوم، فما الذي يبرر لأصحاب القوة أن يشاركوا في جهد كهذا ليس من ورائه طائل؟

ولنتذكر في مثل هذه الحالات، أن أقوالنا موجهة إلى شباب يريد أن يعرف طريق الهدى، والخوف هو من أن نلعب بأوهامهم، كما فعل هاملت بأوهام بولونيوس وهما ناظران إلى السحاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤