السلطة الخامسة

كنت في لندن خلال شهر أغسطس من الصيف الماضي ١٩٧٦م، وكانت ندوة «القلم» الدولية قد انعقدت هناك في أواخر ذلك الشهر، لم أحضرها؛ لأنني لا أنا عضو فيها بشخصي، ولا أنا مفوض من أصحاب القلم في بلدي، لكنني تابعت نبأها في الصحف، وأذكر أني قرأت لأحد المعلقين خبرًا عن العضو المصري — أو الأعضاء المصريين لا أدري — رجحت لنفسي عندئذٍ أنه خبر كاذب، إذ زعم ذلك المعلق أن المصري قد أرسل إلى المجتمعين برقية يطالب فيها بطرد الأعضاء الإسرائيليين من الندوة، لكنه لم يحضر.

على أنني لا أرانا قد خسرنا كثيرًا بعدم حضور جلسات الندوة، وإن كان الخبر صادقًا؛ لأنني ما زلت أعجب لرجال القلم الذين اجتمعوا من أرجاء العلم كله — وكان عدد الحاضرين خمسمائة كاتب، جاءوا من خمس وخمسين دولة (فيما أذكر أنه قيل) — ما زلت أعجب لهذه الصفوة الممتازة تجتمع معًا لتتحدث في موضوع اختير لها من بيت من الشعر قاله الشاعر «كيتس»، معناه أن ما يلقطه الخيال من ناحية «الجمال» لا بد أن يكون كذلك هو «الحق»، أي إن الموضوع الذي أريد لتلك الصفوة الممتازة أن تناقشه هو الهوية الواحدة التي هي الجمال والحق معًا، فلا يكون الفن جميلًا — مثلًا — إلا إذا جاء منطويًا على ما هو صادق، أو بعبارة أخرى نألفها نحن العرب، أن أعذب الشعر أصدقه، وليس أعذب الشعر أكذبه كما ذهب بيننا القول.

أقول إنني ما زلت أعجب لهذه الصفوة الممتازة من رجال القلم يجتمعون للتحدث في مثل هذا الموضوع الهام، فإذا هم يكشفون بأحاديثهم وسلوكهم عن جماعة من المهرجين في دنيا السياسة (واعتمادي هو على ما قرأته لا على شيء رأيته أو سمعته)، ولعلي لم أكن لأقول ذلك لو أني أحسست مما قرأته عنهم أنهم إنما كانوا يصدرون عن أصالة وصدق فيما قالوه، أو فعلوه، لكنني أحسست أنهم ملقنون سلفًا بما يقولونه وبما يفعلونه، وكأنهم لم يكونوا هم الصفوة التي كان ينبغي أن يُستمع (بضم الياء) إليها، لا التي تستمع إلى الآخرين فتطيع، لا سيما وندوة «القلم» تجعله شعارًا لها ألا تكون جماعة سياسية، حتى لا تتحول الاختلافات السياسية بين الدول مجالًا للصراع بين الأدباء والمفكرين، وإلا انتفى الغرض منها، وهذا الغرض هو أن تجيء قوة الأدب والفكر عاملًا من عوامل السلام للإنسان، لا سببًا من أسباب توسيع الفجوات، ولو جاز لي أن أصوغ لندوة القلم الدولية شعارًا يحمل أهدافها، لقلت: إنها هي في هذا العالم «سلطة خامسة»، أو كان ينبغي لها أن تكون.

على أن شعار «السلطة الخامسة» الذي أقترحه لها، يجب قبل ذلك أن يكون هو الشعار الذي تهتدي به جماعة الأدباء والمفكرين في كل بلد على حدة، فماذا أعني بهذه التسمية؟ إنه يحسن — من أجل الإجابة الواضحة — الرجوع قليلًا إلى ما جرى العرف على تسميته بالسلطة الرابعة، فلقد كان تومس كارلايل (١٧٩٥–١٨٥١م) هو الذي استخدم عبارة «السلطة الرابعة» على رجال الصحافة، وكان ذلك في كتابين معروفين من كتبه، هما كتابه عن «الثورة الفرنسية» وكتابه عن «الأبطال وعبادة البطولة»، لكن مهلًا! أحقًّا كان الاسم الذي أطلقه كارلايل على رجال الصحافة يعني بالدقة «السلطة» الرابعة كما أشعنا عنه في الترجمة العربية؟

كثيرة جدًّا هي الألفاظ العربية التي نقلنا بها معانٍ من الثقافة الأوروبية، فإذا هي لا تنقل المعاني كما كانت في أصولها، فتنحرف عن مقاصدها، وينحرف تفكيرنا نحن مع انحرافها، فاللفظة التي استعملها كارلايل حين قال عن رجال الصحافة أنهم بمثابة «جماعة» رابعة، لا تتضمن معنى «السلطة» من قريب ولا من بعيد، فقد كان البرلمان البريطاني — وأظنه لا يزال — يشتمل على جماعات ثلاث، هي: جماعة النبلاء أو «اللوردات» العلمانيين، وجماعة النبلاء من رجال الدين، وجماعة العامة من أبناء الشعب، فأراد كارلايل أن يقول إنه إذا كانت هذه الجماعات الثلاث مقرها دار البرلمان، فهنالك جماعة رابعة مقرها في دور الصحف، وأعني بها رجال الصحافة، وهي في قوة تأثيرها — هكذا قال عنها — تساوي الجماعات البرلمانية الثلاث مجتمعة، فالأمر كما ترى ليس أمر «سلطة»، وإنما هو تأثير يسري فعله في الناس سريعًا أو بطيئًا، حتى تتحول وجهات أنظارهم إلى حيث أريد لها أن تتجه، فإذا جئت اليوم لأقترح أن تكون جماعة الكتاب جماعة خامسة، فلست أعني أن يكون الكتاب ذوي «سلطة» بل إن يكونوا ذوي تأثير في عمليات التحول الفكري والتطور الاجتماعي.

ولا بأس في أن نستخدم عبارة «السلطة الرابعة»، وعبارة «السلطة الخامسة» جريًا مع عرف ألفناه (لاحظ أنه عرف مألوف في العربية وحدها؛ لأن الإنجليزية أو الفرنسية تستخدم اللفظة الأصلية في لغاتهم) أقول: لا بأس في أن نستخدم لفظة «السلطة» في هذا السياق — برغم خطئها — على شرط ألا ننحرف بمفهومها المقصود، لكننا سرعان ما ننحرف بسبب معنى أخطأنا في نقله إلى لغتنا، وإلا فلماذا — بادئ ذي بدء — نطلق على رجال الصحافة عندنا اسم «السلطة الرابعة» مع أن مجالسنا النيابية لم تكن تحتوي على ثلاث جماعات كما كانت الحال بالنسبة إلى البرلمان الإنجليزي، حين أطلق كارلايل هذا الاسم، فكُتب له الدوام من بعده؟

ومع هذا فليس ذلك الاستطراد هو الذي قصدت إليه، وإنما قصدت أساسًا إلى تبيين مكانة الأدباء والمفكرين في مجتمعهم، وهي مكانة يوضحها أن نطلق عليهم اسم «السلطة الخامسة» بالقياس إلى رجال الصحافة الذين هم سلطة رابعة، فلكل من الجماعتين طريق، مما لا يبرر لنا ألا ندمجهما تحت شعار واحد، حتى لا تختلف طبائع الأمور وحقائق الأهداف أمام أبصارنا، فما كان كارلايل ليخص رجال الصحافة بإشارته، إلا على اعتبار أنهم مستقلون في الرأي عن الجماعات الثلاث التي كان يتألف منها البرلمان البريطاني، ولكن لو كانت الصحافة في يومه تتخذ لنفسها مثلًا أعلى، هو أن تجيء متجانسة الرأي مع المجلس النيابي، لما كان هنالك ما يدعوه إلى جعل رجال الصحافة جماعة مستقلة بذاتها، لها من الأثر ما يساوي أثر الجماعات البرلمانية الثلاث مجتمعة، وليكن مفهومًا هنا بأن الصحافة التي هي «سلطة رابعة» عند كارلايل، وعند كل من أراد أن يستخدم هذه الصفة استخدامًا ذا دلالة، هي صحافة الرأي الناضج المستنير، لا صحافة التسلية، والمعروف حتى في عصرنا هذا أن النوع الأول أضيق انتشارًا من النوع الثاني، ومع ذلك فالنوع الأول وحده — دون الثاني — هو السلطة الرابعة أو القوة الرابعة، في السياق الذي تحدث به كارلايل ومن جاءوا بعده.

لكن هذه المرحلة التي يجتازها العالم كله من مراحل التاريخ، لها من الخصائص ما يجعل الصحافة في كل بلاد الدنيا — ولو بدرجات متفاوتة — تساند حكوماتها ومجالسها النيابية في القضايا السياسية الكبرى؛ لأن عالمنا اليوم إن لم يكن في حالة حرب مستترة، فهو عالم منقسم إلى تكتلات يقاتل بعضها بعضًا على مستوى الأفكار، وعلى مستوى الاقتصاد، وعلى مستوى السياسة، وعلى كل مستوى يتصوره الخيال، ولو لم يكن أمره كذلك لما رأينا ندوة القلم في جلستها الحادية بعد الأربعين، التي انعقدت في لندن خلال شهر أغسطس الماضي، تترك موضوعها الرئيسي ليأخذ من اهتمامها المنزلة الثانية، وأما المنزلة الأولى فهي عندهم للمناوشات السياسية يقول فيها كلٌّ لكل: إننا نحن وحدنا الأحرار، وإنكم أنتم العبيد!

ولو رسخ في أنفس الأدباء والمفكرين بأنهم سلطة خامسة، أو قوة خامسة، لا تستوحي جماعة أخرى أو قوة أخرى، وإنما تستوحي القيم الإنسانية العليا وحدها، من حقٍّ وخير وجمال، لأمكن بالفعل أن تئول إليها القيادة الحقيقية في مثل هذا العالم الأهوج المضطرب الذي نعيش فيه، لكن هذا المعنى لن يرسخ في أنفس الأدباء والمفكرين على مستوى العالم، إلا إذا رسخ أولًا على مستوى الأمة الواحدة، وأول خطوة في هذا الطريق، هي — فيما أرى — استقلال اتحادات الكتاب عن سائر سلطات الدولة؛ لأن هذه السلطات الأخرى إذا كانت أربعًا (وهي ليست أربعًا عندنا)، فاتحادات الكتاب لها سلطة خامسة.

لا، بل إن هذه التفرقة العددية وحدها لا تكفي؛ لأن الجماعات المختلفة ذات القوة والتأثير في بناء الأمة ليست كلها من درجة واحدة، بمعنى أنها ليست مما يمكن وضعه جنبًا إلى جنب في خط أفقي مستقيم، بل هي درجات من ناحية اشتمال بعضها على بعض، فالعضو من أعضاء مجلس الشعب، أو الوزير من الوزراء، يمكن أن يكون في الوقت نفسه عضوًا في جماعة الأدباء والمفكرين، فلو اجتمعت فيه الصفتان معًا، كان لنا أن نسأل: أي الصفتين فيه لها الأسبقية على الأخرى؟ أعني أي الجانبين فيه عليه أن يتشكل بتأثير الجانب الآخر؟ هل هو تفكيره الذي يجب أن يتلون بما تقتضيه عضوية مجلس الشعب أو عضوية الوزارة، أو نشاطه في تلك العضوية هو الذي يجب أن يهتدي بتفكيره؟ إن الإجابة واضحةٌ أمام عيني، مما يحملني على القول بأن جماعة الأدباء والمفكرين ليست قوة قائمة بذاتها مع سائر القوى في صفٍّ واحد، بل إن لها — مع استقلالها هذا — شيئًا من الأولوية على سواها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤