حياة ثقافية ممزقة

لطالما خُيِّل إليَّ كلما استعرضت بفكري حياتنا الثقافية الراهنة أنني إنما أنظر إلى جماعات متفرقة، لكل جماعة منها لغتها الخاصة التي تفهمها هي، ولا يفهمها أحد سواها، ولكل جماعة منها تصوراتها التي تعتقلها اعتقالًا داخل أسوارها، حتى لكأنها تحيا في جزيرة معزولة، ليس بينها وبين سائر الجزر وسيلة للتفاهم وتبادل الرأي، إنها «بابل» في تعدد لغاتها، إنها مجموعات صوتية لا ترتبط في معزوفة واحدة، إنها البحيرات المتفرقة التي لا تصنع بحرًا، والروافد الكثيرة التي لا تتجمع في نهر واحد، إنها إحدى مسرحيات العبث الحديثة التي لا يفهم فيها أشخاصها بعضهم عن بعض.

والجماعات التي يخيل إليَّ أني أراها، يمكن تلخيصها في أربع:
  • الأولى: تنظر نظرة سلفية إلى موضوعات سلفية.
  • والثانية: تنظر نظرة سلفية إلى موضوعات عصرية.
  • والثالثة: تنظر نظرة عصرية إلى مشكلات عصرية، لكنها تستعين بروح سلفية.
  • والرابعة: تنظر نظرة عصرية إلى مشكلات عصرية، لكنها مبتورة الصلة بالسلف. وإذا شئت أن أضع لك هذه الأقسام الأربعة في عبارة يسهل حفظها، قلت: إن القسم الأول منها هو «القديم القديم»، والثاني هو «القديم الجديد»، والثالث هو «الجديد القديم»، والرابع هو «الجديد الجديد».

هي جماعات أربع في دنيانا الثقافية، لا يقتصر الاختلاف بينها على اختلاف الرأي بإزاء المشكلات المعروضة، بل يعمق بينها الاختلاف، حتى يتناول جذور التكوين كما يتناول موازين الحكم، فكأنك من هذه الجماعات أمام أربع شجرات، إحداها تعطيك القطن، والثانية تقدم القمح، والثالثة تطرح البرتقال، والرابعة ثمارها جميز، ليست هي شجرات كلها للبرتقال — مثلًا — ولا تتفاوت إلا في نوع البرتقال ومدى جودته، بل هي «أنواع» مختلفة، لكل منها جذورها وفروعها وأوراقها وثمارها، التي تختلف بها عن زميلاتها، وأن جودة إحداها أو سوءها، لا يؤثر في جودة الشجرات الأخرى أو سوئها.

إنها جماعات مختلفة المعايير؛ لأنها مختلفة البناء والتكوين، كأن إحداها تزن أمورها بالرطل؛ لأنها أثقال، والثانية تكيل أمورها باللتر؛ لأنها سوائل، والثالثة تقيسها بالمتر؛ لأنها أطوال، والرابعة تقدر مسائلها بالدقائق؛ لأن طبيعتها من طبيعة الزمن … نظرات متنافرة، وموازين متنوعة، والالتقاء في مثل هذه الحالة ضرب من المحال.

ماذا يحدث عندما تكون الحياة الثقافية في أمة من الأمم، أو في عصر من العصور، صحيحة سوية؟ الجواب عندي (وقد أكون مخطئًا) هو هذا: إنها تكون صحيحة سوية إذا كانت قائمة على أساس واحد، وتقيس بميزان واحد، ثم تختلف بعد ذلك المشكلات المطروحة والأفكار المعروضة لحلولها، ولولا هذا التجانس النسبي بين أفراد الأمة الواحدة، وأبناء العصر الواحد، لما استطعنا أن نكتب تاريخًا للفكر، نبين به مراحل الطريق، قائلين — مثلًا — أن الحياة الفكرية التي سادت الأمة الفلانية في العصر الفلاني، كانت تتميز بكذا وكذا من الصفات، كيف يمكن للمؤرخ أن يقول كلامًا كهذا عن أمة معينة، أو عن عصر معين، ما لم يكن في مستطاعه أن يستقطب تلك الأمة أو ذلك العصر في صفة أو صفات رئيسية تسودها أو تسوده؟

فماذا يقول مؤرخ الفكر عنا، إذا ما انطوى بنا الزمان، وأصحبنا ماضيًا يروي عنه المؤرخون؟ ما هي الصفة أو الصفات الرئيسية التي تتميز بها حياتنا الثقافية الراهنة، والتي يمكن لمؤرخ المستقبل أن يميزنا بها؟ إنه سينظر إلى ساحتنا الفكرية، فإذا هي جماعات متفرقة هدفًا ومنهجًا، لكل جماعة منها نجواها، لكنها لا تتناجى كلها معًا، إلا في الظاهر الذي لا يضرب إلى الأعماق.

لقد اختلف المسلمون الأولون في الرأي حول موضوع طرح أمامهم، اختلفوا في الفقه مذاهب، واختلفوا في حرية الإرادة وجبرها، واختلفوا في عقوبة المذنب، أتكون هنا والآن؟ أم نرجئ الحساب إلى يوم الحساب؟ واختلفوا في السياسة بين شيعة وخوارج، بل اختلفوا في تصورهم لحقيقة الله عز وجل، فكان منهم المشبهة وغير المشبهة، وكان منهم الصفاتية والمعطلة (وأترك الشرح لضيق المقام)، والمهم هو أن أسلافنا قد اختلفوا في مسائلهم الفكرية، لكننا نحس أنهم — برغم اختلافهم ذاك — كانوا كالذين يتبارون على ملعب واحد، يلتزمون روحًا واحدة، وقواعد متفقًا عليها، ومن هنا أمكن أن تكون لهم ثقافة موحدة الروح، وإن تباينت جوانبها وظواهرها.

التجانس في الجذور وفي الأصول — برغم التمايز في الفروع — هو الذي يجعل للأمم ثقافاتها المتميزة، وإلا فكيف جاز أن يقال عن الفكر الإنجليزي — مثلًا — إنه تجريبي في طابعه السائد، وعن الفكر الفرنسي إنه رياضي الطابع، وعن الألماني إنه ميتافيزيقي بمعنى أنه يتعقب الظواهر إلى أصولها العميقة، وعن الفكر الأمريكي إنه براجماتي، وهكذا؟

وفي ظل الوحدة الفكرية التي تسود أمة من الأمم، أو عصرًا من العصور، يتفاهم الناس، لكن ما هكذا نحن اليوم (فيما أرى)، وأقل ما نقوله في ذلك، أننا نعيش في عصرين مختلفين، فبعضنا يعيش في الماضي وفي مشكلات الماضي وحلولها الماضية. وبعضنا الآخر يعيش في الحاضر، مع انقسام كل فريق من هذين الفريقين إلى شعبتين، كما رأينا في الأقسام الأربعة التي أسلفنا ذكرها، ولذلك لم يكن عجيبًا أن نتبادل فيما بيننا صفات يطلقها بعضنا على بعض، فنصف فريقًا منا بأنه «قديم»، وفريقًا آخر بأنه «جديد»، وهي قسمة لبثت محور العراك الفكري منذ أول هذا القرن وإلى يومنا هذا، مع اختلاف يسير في التسمية، فقد كنا فيما سبق نتحدث عن المعركة بين القديم والجديد، وأصبحنا نتحدث اليوم عن المعركة بين الرجعية والتقدمية، ولكن المضمون واحد في كلتا الحالتين.

إنها قسمة لم تكن واردة عند أسلافنا إذ لم يكن بينهم قديم ولا جديد؛ لأنهم جميعًا في كل فترة زمنية يشتركون في أصول واحدة، ولا يكون الاختلاف إلا في الرأي والمذهب، كلا، ولا هي قسمة واردة — فيما أعلم — في ثقافات البلاد المتقدمة، فلم أسمع في غضون الحياة الفكرية في إنجلترا — مثلًا — أو في فرنسا أو غيرهما، أن هنالك بينهم فريقًا «قديمًا» وآخر «جديدًا» برغم اختلافاتهم الشديدة في معترك الأفكار.

إنني إذ أتتبع أنواع المشكلات التي تعرضها علينا كل جماعة من الجماعات الأربع التي نقول إنها تقسم حياتنا الفكرية وتفتت وحدتها، يأخذني العجب من بُعد المسافة بين جماعة وجماعة، فما تظنه أحدها أنه أمر جلل خطير يتطلب الحل السريع، لا تجد فيه جماعة أخرى ما يستوجب مجرد الذكر؛ لانعدام الصلة بينه وبين حياة الناس الجارية، وما تراه إحدى الجماعات جادًّا كل الجد، لا يرى فيه الآخرون إلا هزلًا كل الهزل! وليسمح لي القارئ أن أضرب مثلًا بما ينشره فينا أولئك الذين قد اختاروا لأنفسهم أن ينحازوا إلى النظرة السلفية، بعد أن يطلوها بطلاء عصري، بما ينثرونه فيها من حقائق العلم الجديد، فمن هؤلاء تجد الطبيب، وعالم الفلك، وعالم الكيمياء والفيزياء، وتراهم يقحمون في أحاديثهم عن المشكلات القديمة، نتفًا من هذه العلوم التي تعلموها، توهمك بأن المشكلات المعروضة قد لبست بذلك رداءً عصريًّا، كما توهمك بأنهم ما داموا — وهم العلماء المتخصصون — قد قالوا ما قالوه، فكأنهم «حزام» التي قال عنها الشاعر القديم: إذا قالت حزام فصدقوها! مع أن هذا الذي يقولونه بلغة العلم الجديد عن المسائل القديمة، هو أقرب إلى البهلوانية الثقافية، التي إذا خدعت لاهيًا، فلن تخدع واعيًا وهو ضرب من القول لا يشيع في قوم إلا إذا أصاب حياة الفكر عندهم مرض وفقر.

أما أعظم الجماعات قدرًا، وأقواهم أثرًا في دفعنا إلى الأمام عن طريق التطور، فهم الجماعة الثالثة، التي تنظر نظرة عصرية إلى مشكلاتنا الحية، مستعينة بما تصلح الاستعانة به من تراثنا المجيد، هؤلاء هم الأعلام الذي تلمع أسماؤهم في سمائنا، من أمثال محمد عبده، ولطفي السيد، والعقاد، وطه حسين، وفي هذا سر عظمتهم، وإذا أردت فقارن هؤلاء الرجال في تاريخنا الفكري المعاصر، بمن شئت من أفراد الجماعات الثلاث الأخرى، نجد أنهم بينما هم يخلدون فينا جيلًا بعد جيل، فإن الآخرين سرعان ما يطويهم النسيان.

لكن الجماعات الأربع ما زالت كلها قائمة في حياتنا الثقافية، تمزقها تمزيقًا، وإنه ليتعذر علينا أن نجد الجواب لمن يسألنا، ما طبيعة التيار الفكري المعاصر في أرضكم اليوم، وإلى أي اتجاه يتجه؟ يتعذر علينا الجواب؛ لأنه ليس ثمة في أرضنا «تيار واحد» تصب فيه جميع الروافد ماءها، وفي ظني أن هذه هي النقطة الرئيسية الأولى، التي منها يبدأ إصلاح التعليم الجامعي في بلادنا، إذ لو عرفت جامعاتنا كيف تصوغ حياتنا الفكرية على غرار الجماعة الثالثة التي ذكرناها، والتي هي جماعة تنظر نظرة عصرية إلى مشكلات عصرية، بشرط أن تظل الرابطة الحيوية واصلة قديمنا بحديثنا، استقامت لنا الحياة الثقافية السوية التي نريد.

ولست أود أن أفرغ من هذا الحديث، قبل أن أشير إلى فكرة قد ترد في الأذهان، وهي أن هذا التمزق الثقافي الذي نعانيه نحن، إنما تعانيه كذلك كل أقطار الأرض في عصرنا الراهن، وما نشأ الأدب الذي يصفونه باللامعقول أو بالعبث، إلا ليصور استحالة التفاهم بين الأطراف المختلفة في عالم تقطعت أجزاؤه، أقول إن فكرة كهذه قد ترد في الأذهان لتجعل سوانا شركاء لنا في البلاء، وهي على كل حال فكرة صحيحة، ففي مسرحية أمريكية حديثة، أراد الكاتب أن يصور الحياة في الولايات المتحدة إبان الستينيات، فجاء بخمس شخصيات في حانة، وجعلهم يتحدثون، فإذا الحديث عند كل منهم لا يخاطب الأشخاص الآخرين، بل إن كلًّا منهم قد أوشك ألا يشعر بوجود أحد في الحانة سواه، كان لكل منهم نجواه الخاصة التي يتحدث بها إلى نفسه، فهنالك من يرثي لزوال الخير عن وجه الحياة، ونضوب الأمل وخيبة الرجاء، وهنالك الممثل القديم الذي يأسف على كل أدواره المسرحية فيما مضى؛ لأنها غثة وتافهة. وهنالك الجندي العائد من حرب فيتنام، يناقش في لذع من ضميره ما قد شهده خلال الحرب من أوجه الحق وأوجه الباطل، وهنالك الطالب الشاب الذي ينفض هموم الشباب في غيبوبة السكران وهكذا، والذي يهمنا نحن من هذا كله، إنها صورة لحياة فكرية لا يشارك فيها أحد أحدًا.

إذن فالبلوى عامة وشاملة، لكنها أولًا مرض يجب علاجه عندنا وعند غيرنا، وثانيًا هي عندنا أفدح منها عند غيرنا؛ لأن التمزق إذا اقتصر عند غيرنا على أساليب العيش وطرائق النظر، ولم يجاوز ذلك عندهم إلى حد أن يقسمهم صنفين، يعيش أحدهما في الماضي، ويعيش الآخر في الحاضر، فإن التمزق الفكري عندنا قد تجاوز الاختلاف في الأسلوب والطريقة، إلى حيث يجعلنا بمثابة أمتين لا أمة واحدة، تعيش في عصرين لا في عصر واحد.

تلك هي بلوانا، والدواء مرهون بإصلاح التعليم بصفة عامة، والتعليم الجامعي بصفة خاصة ومباشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤