الصوفي الأكبر

ها نحن في ظلال — العفو، يا قارئي. ليس في هذه المقبرة غير الشمس في النهار، والظلمة في الليل، لا شجر ولا ظل بين هذه القبور. إنما نحن واقفون وراء ظلنا الضئيل الذي يقبِّل الآن عتبة مقام حسين بن منصور بن أبي بكر الأنصاري، المعروف بالحلاج، المشهور في الشرق والغرب.

قال عبد القادر الكيلاني في الحلاج: «كان بازيًا من بزاة الملك … فلم يجد في السماء ما يحاول من الصيد … فطلب في الأرض ما هو أعز من وجود النار في قعور البحار. تلفت بعين عقله فما شاهد سوى الآثار. فكَّر فلم يجد في الدارين مطلوبًا سوى محبوبه، فطرب فقال بلسان سكر نفسه: أنا الحق ترنم بلحن غير معهود من البشر. صفَّر في روضة الوجود صفيرًا لا يليق ببني آدم. لحَّن بصوته لحنًا عرَّضه لحتفه.»

كان الحلاج مثل عبد القادر فارسي الأصل، ولِد في تل بيضا القريبة من شيراز، وجاء إلى العراق فقضى معظم سكرته الإلهية ببغداد. وهو حقًّا من أعظم السالكين، وأصدق المتصوفين، بل هو أشهر من ابتلوا بالعشق، وتلذذوا بالبلايا، هو «صاحب الخرقة، شطَّاح العراق، رئيس السكارى والعشاق.»

ولكن جُنَيد أنكر ذلك، فقد قال مرة للحلاج: «فتحت ثغرة في الإسلام لا يسدها إلا رأسك.» ما لنا والثلمة. أما الرأس فقد طاح، وبالتوحيد صاح. وما تبقى من صاحبه هو مدفون تحت قبة في جوار خصمه الأكبر. وما جُنيد وبهلول ومعروف الكرخي إذا ما ذُكر الحلاج؟ فهو للسالكين في الشرق وفي الغرب النور الأنور، والعلم الأشهر.

تفكَّرتُ في الأديان جدَّ تحققٍ
فألفيتها أصلًا له شُعبًا جَمًّا
فلا تطلبن للمرء دينًا فإنه
يُصدُّ عن الأصل الوثيق وإنما
يطالبه أصل يعبر عنده
جميعُ المعالي والمعاني فَيَفْهما

وله في ديوانه غيرها من الحكم الإلهية التي تبدو كفرًا في ظاهرها، أو هي من الكفر المبطن بالإيمان. غير أن الذي أوجب الحكم عليه بالإعدام هو قوله: «أنا الحق.» وقد أطلعتك على ما قاله عبد القادر الكيلاني في شرح الحال التي أدت بالحلاج إلى أن ينطق بهذه الكلمة.

أما جُنيد مُنكِرها ومُخزي قائلها، فقد جلس في كرسي القضاء وحكم حكمه، بعد أن جمع أربعة وثمانين من العلماء والقراء ليشهدوا «بأن في قتله صلاح المسلمين.»

… وجاء حامد بن العباس وزير الخليفة المقتدر بالله (٩٠٨–٩٣٣م) ومعه موكبه وصاحب الشرطة محمد بن عبد الصمد، فتقدم حامد إلى الخشبة وأخرج من كمه الدرج الذي فيه شهادة الفقهاء والعلماء، فقال: «أريد الشهود.»

فإذا بالشهود يهرعون إليه من كل مكان.

فقال لهم: «هذه شهادتكم وخطوطكم؟» فقالوا له: «نعم، اقتله ففي قتله صلاح المسلمين ودمه في رقابنا.»

أُنزل الحلاج من الخشبة وتقدم السياف إليه ليضرب عنقه، فقال الوزير (بيلاطوس بغداد!) للشهود: «أمير المؤمنين بريء من دمه.»

فقالوا: «نعم.» فقال: «وأنا بريء من دمه.» فقالوا: «نعم.» فقال: «وصاحب الشرطة بريء من دمه.» فقالوا: «نعم.» لله أنتم يا بيلاطوس البنطي، ويا أخوان بيلاطوس ببغداد!

«وبلغنا أن الحسين بن منصور دخل على المقتدر بالله فقال: من أطاع الله أطاعه في كل شيء. فقال المقتدر: إذنْ لا تبالي بما سيُفعل بك. فقال له: ثَمَّ حاكم ومحكوم عليه وواسطة على السبب في إيصال الحكم من الحاكم بالمحكوم عليه … أنت الواسطة وأنا عبد من عبيد الله صابر لحكم الله، راضٍ بقضاء الله، فافعل ما حُرِّكت له، واعمل ما استُعملت فيه، وكن بعد ذلك شديد الحذر، فيما تأتي به وتذر. وانظر في عواقب أمرك … وإني لا أعترض عليك، وألومك في فعلك، ولكني أقول كما قال الخليل: «وجهتُ وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا، وما أنا من المشركين.» فأمر الخليفة بحبسه، وجمع الفقهاء والصوفية في مجلسه فاستشارهم فكفَّره الفقهاء، وتوقف عن تكفيره الصوفية — إلا جُنيد.»

هذه هي صفحة من التاريخ، وهناك صفحة أخرى من كتاب الأساطير … عندما ضُرب عنق الحلاج، بقي جسده ساعتين من النهار قائمًا، ورأسه بين رجليه، وهو يتكلم بكلام لا يُفهم، إلا أن آخر ما قال: أحدٌ أحدٌ. وكان الدم يخرج منه، ويكتب به على الأرض: الله الله، في خمسة وثلاثين موضعًا … وبعد أن ضُرب عنقه أُحرق بالنار، فانتثر رماده في نهر دجلة وهو ينطق قائلًا: أنا الحق!

•••

قال الشاذلي: اضطجعتُ في المسجد الأقصى، في وسط الحرم، فدخل خلق كثير أفواجًا، فقلت: ما هذا الجمع؟ قالوا: جمع الأنبياء والرسل. قد حضروا ليشفعوا في حسين الحلاج عند محمد في إساءة أدب وقعت منه …

•••

وقيل إنه قبل ذلك وضِع بالسجن فصَّور في حائط المحبس صورة مركب وقال للمحبوسين: قوموا بذكر الله تعالى، ثم إنهم فعلوا ذلك حتى غابوا عن الحبس، فإذا هم دخلوا المركب المصَّور ونجوا جميعًا.

•••

وقيل إنه حفر حفرة، وأوقد فيها النار، ووضع فيها هاونًا، ثم إنه صُلِي كالجمر، وقال لأهل المدينة والأولياء: كل من كان صادقًا بالله فليتقدم ويقف على الهاون داخل النار. فلم يقدر أحد، ثم إنه تقدم ووقف عليه، فذاب تحت قدميه حتى صار كالماء …

•••

«قال القاضي أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسن محمد بن عمر القاضي قال: حملني خالي معه إلى الحسين بن منصور الحلاج وهو إذَّاك في جامع البصرة يتعبد ويتصوف … فأخذ يحادثه وأنا جالس معه أسمع، فقال لخالي: قد عملتُ على الخروج من البصرة. فقال له خالي: لِمَ؟ قال: قد صيَّر لي أهل هذا البلد حديثًا، فقد ضاق صدري وأريد أن أبعد منهم. فقال له: مثل ماذا؟ قال: يرونني أفعل أشياء فلا يسألون عنها ولا يكشفونها، فيعلمون أنها ليست كما وقع. ويخرجون فيقولون الحلاج مجاب الدعوة، وله مغوثات. قد تمت على يده ألطاف. ومن أنا حتى يكون لي هذا؟ بحسبك أن رجلًا حمل إليَّ منذ أيام دراهم وقال لي: اصرفها إلى الفقراء. فلم يكن يحضرني في الحال أحد، فجعلتها تحت بارية (حصير) من بواري الجامع، إلى جنب أسطوانة عرفتها، وبت ليلتي. فلما كان من غد جئت إلى الأسطوانة أُصلي، فاحتفَّ بي قومٌ من الفقراء، فقطعت الصلاة وشلتُ البارية فأعطيتهم الدراهم، فشنعوا عليَّ بأن قالوا: إني إذا ضربت بيدي إلى التراب صار في يدي دراهم.»

figure
قبة زمرد خاتون المعروفة بضريح الست زبيدة (تصوير الدورادو).

وقفتُ في حضرة الحلاج عند مائدة عليها ورقة مكتوبة فيها الأشعار التي قالها قبل أن ضرب السياف عنقه. وقد نظم الأبيات، على ما يظهر، بعد أن علم بالحكم الذي أصدره جُنيد. ولكنه سأل مَن جاءه بالخبر: أين صدرَ الحكم؟ أَفي التكية أم في المدرسة؟ فقيل له: في المدرسة. وفي المسألة نقطة قانونية شغلت باله. فلو أن الحكم صدر في التكية لكان باطلًا؛ لأن الحلاج وجُنيد فيها إخوان. أما في خارج التكية فجُنيد القاضي يحكم بما يشاء … وجاء الشهود، وتبرأ مَن تبرأ من دم هذا الصديق، فأنشد الأبيات المعروضة اليوم على المائدة عند ضريحه:

نديمي غير منسوب
إلى شيء من الحيفِ
سقاني مثلما يشرب
كفعل الضيف للضيف
فلما بان لي سكر
دعا بالنطع والسيف
كذا مَن يشرب الراح
مع التنين بالصيف

… وبعدها نامت أخته فرأت في المنام أخاها حسينًا وهو يقول لها: يا أختي، إلى كم تبكين عليَّ؟

فقالت له: كيف لا أبكي وقد جرى عليك الذي جرى؟

فقال لها: يا أختي، لما قطعوا يدي كان قلبي مشغولًا بالمحبة، فلم أدرِ إلا وهي طيبة. فلما صلبوني كنتُ مشاهدًا ربي، فلم أدرِ ما فعلوا بي. فلما أحرقوني نزلتْ عليَّ ملائكُ ربي من السماء صباح الوجوه، فاختطفوني إلى تحت العرش، وإذا بالنداء من العَلي الأعلى: يا حسين، رحم الله مَن عرف قدره، وكتم سرَّه، وحفظ أمره. فقلت: أردتُ التعجيل إلى رؤيتك. فقال: تملا بالنظر فإني لا أحتجب عنك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤