غزوات الأثريين

للنزل الذي كنت مقيمًا فيه صحنٌ فسيحٌ مفروشٌ بالبلاط الأبيض، يرحِّب حتى بالسيارات. وفي ذات يوم، ساعة الفجر، سمعت صوت بوق صخاب، فإذا بسيارتين في ذلك الصحن، وقد كساهما غبار الصحراء، الواحدة عادية، تظهر في مؤخرها لوحة بلدية دمشق، والثانية كبيرة فخمة، تحمل لوحةً حمراءَ مطبوعًا عليها اسم مدينة من المدن الكبرى في الولايات المتحدة. فسارع إلى استقبال الركب مدير النزل الكلداني، يحييهم بالإنكليزية، وتبعه الخدم لنقل ما أُثقلت به السيارتان.

ثلاثة رجال في معاطف من الجلد، وهم حليقون، بيض البشرة زرق العيون، وسيدتان شقراوان جميلتان، كل واحدة منهما في معطف من الفرو يندر مثله — ويندر مثلها — في بغداد. قلت: سياح من أغنياء الأميركيين. وقلت: سفير من السفراء. فكنا قد سمعنا أن السفير الأميركي المعين لطهران سيمر في ذلك الأسبوع ببغداد في طريقه إلى مركزه الجديد.

بادر الخدم إلى السيارتين ينقلون ما حملتاه من حاجات الأسفار ونوافلها. وما أكثرها عدًّا وشكلًا! حقائب وصناديق كبيرة وصغيرة، وأكياس من الجلد ومن القماش، وأحزمة ومعاطف وشالات، وعلب لبرانيط النساء والرجال. المسافرُ — ولا غرو — سفيرٌ أو ثريٌّ.

ثم جاء ما ينبئ بغير ذلك. وما أكثر ما استُخرج من داخل السيارتين! كأنما الخدم من السحَّار وكأنما السيارة قبعة سحر يخرجون لك منها حتى بالة من القطن. وهذه قِرَب من القماش وجزم طويلة من المطاط، ومعاطف من جلد الغنم، وصناديق من الصودا والمياه المعدنية، والآلات الكاتبة، وآلات للتصوير، وللمساحة، وصندوق من اللحم المقدد، وعلبة كبيرة فيها علب صغيرة، فيها سحيق لقتل البرغش!

ليس القادم سفيرًا أميركيًّا، ولا هؤلاء بسياح أغنياء. إنما هم الطليعة لبعثة أثرية أميركية. أجل فقد تغيرت الأشكال بعد الحرب العظمى، كما تغيرت الأخلاق. فصرنا نرى العالِم فنظنه سفيرًا، والسفير فنظنه تاجرًا أو متجولًا، والمتجول السائح فنظنه من أهل الورع والتقشف.

أما ذلك العالِم محدودب الظهر، كث اللحية، اللابس ثوبًا باليًا ونظارات مصدأَة، المتأبط كتابه، الحامل حقيبته بيده، فقد أمسى أثرًا من الآثار، وجاء عالِم اليوم رجلًا بهي الطلعة، حليقًا نشيطًا، ورديَّ الخد، متقد الباصرة، أنيقًا كيِّسًا، تظنه في حركاته سفيرًا. وإن ما يتقاضاه ثمن علمه وعمله لأكثر مما يتقاضاه السفير، فيغدو وبإمكانه أن يصطحب امرأته أو حبيبته أو رفيقته إلى مكان عمله. وقد تكون السيدة المرافقة عضوًا من البعثة، قد تكون من الغزاة؛ ذلك لأن علم الآثار، بعد الحرب، أضحى من العلوم المثمرة — ماديًّا — فتهافت عليه من أهل العلم الرجال والنساء.

فلا تعجبن إذا كانت تلك الحسناء الملتفة بمعطف من الفرو الغالي، المخبِّئة سهام لحظها وراء نظارات زرق، الحاملة حقيبة تحتوي على أسباب التبرج كلها — من المكحلة إلى الأصبع القرمزية — لا تعجبن إذا كانت أخصائية في العلوم والآثار الآشورية.

إنها لأهلٌ في كل حال لمشاركة زوجها، مسرات الأسفار، وحفر الآثار. أجل، هي أهل لأنْ تتمتع وإياه بملذات الحياة في حفر قبور الأقدمين، وخصوصًا في البلاد الشرقية، الغنية في روحها، وفي ما تحت أرضها.

وإذا كانت القبور لا تستهوي هذه المرأة الغازية، فهناك في موضع التنقيب دار فسيحة جميلة تقيم فيها، وهي السيدة الآمرة الناهية، كأنها ملكة أور، أو أميرة من أميرات آشور.

وبكلمة أخرى هي ربة بيت البعثة، المفروش بأحدث أنواع الأثاث وأفخرها، المجهز بالأنوار الكهربائية وبالحمامات، الحافل بالكتب والصور والرسوم. قلت بيت البعثة فأخطأتُ. إن لكل بعثة من البعثات الكبيرة بيوتًا عديدة، فهذا بيت الإدارة، وذاك للرسم والتصوير، والثالث للأعمال الكيماوية والميكانيكية، وهذا مخزن البعثة، وذاك بيت خدامها، والآخر بيت لسياراتها، فضلًا عن بيوت الحيوانات الداجنة.

والجامعات الأميركية الكبرى تعين هذه البعثات أو تنفق في سبيلها النفقات الطائلة من أموال يهبها المحسنون، أو من وقفيات يقفها المتمولون على العلم والثقافة. فهل تستحق الأعمال الأثرية — والأثريون والأثريات — كل ما ينفق منها في هذا السبيل؟ إن لهذا السؤال جوابين: جوابًا يتعلق بما يُحرَز من العلم، والآخر بما يُحرز من نفائس الآثار ونوادرها. وللقارئ أن يجيب على السؤال من ناحيتيه، بعد أن يقرأ بياننا عن الغزوات الأثرية في العراق.

•••

لا أظن أن في العالم بلادًا تعددت فيها البعثات الأثرية تعددها اليوم في العراق. ولكن العلم بتاريخ البلاد القديم كان يُقصر، منذ سنوات، على المملكتين البابلية والآشورية، وعاصمتيهما بابل ونينوى. أما بعد ذلك؛ أي منذ سنة ١٩٢٢، عندما باشرت البعثة الإنكليزية الأميركية التنقيب في أور، فقد فُتح كنز من كنوز العلم جديد، وكنز آخر من الآثار العجيبة، والتحف الثمينة، التي زادت بغنى المتاحف الإنكليزية والأميركية، وكانت الباكورة في تأسيس متحف صغير ببغداد.

إذن لقد عُمِّق علمنا بتاريخ بلاد الرافدين. وما بابل ونينوى في القدم إلى جانب ما تَقدَّمهما من المدن والدول؟ إني لأتخيل علماء آشور يحدثون في زمانهم، كما نحدث نحن في زماننا، عن ثقافة الحوريين، وفتوحات العيلاميين، ومجد السومريين الأقدمين.

وفي وصولنا إلى أعماق أور ونوزي قد لا نكون أدركنا الأوليات، فقد يجوز لنا أن نسأل: وبعد أور ماذا؟ أو من هم أجداد السومريين؟ ومن أين استمد أهل أور نورهم — من أين استقوا معارفهم؟ إن الأثريين مستمرون في الحفر والتنقيب، في أعماق الأرض، وفي القبور، طالبين العلم والنور. فهم يخترقون طبقة بعد طبقة من الأرض، ويعثرون في كل مكان من بلاد الرافدين الصغيرة، على مدن مدفونة تحت المقابر، وعلى تلال متهدمة تحت أساس الهياكل والقصور. لقد كسفت أور الكلدانيين بابل ونينوى. وهناك غير أور من المدن القديمة المكتشفة، التي كانت مدفونة بعضها تحت بعض، منها أروك (الوركاء) ولرسا ولاكاش وإشنونا وكيش ونوزي وسلوقية. فلا عجب إذا اجتذب العراق الأثريين.

إن في البلاد اليوم ثلاث عشرة بعثة أثرية أجنبية. ففي الشمال ينقب الإنكليزي في نينوى، والأميركيون في خورسباد، وفي تل بِلا وتبه غورا، وفي نوزي وكركوك. وفي وسط العراق، في إشنونا وخفاجي وسلوقية، بعثات أميركية أخرى. وهناك بعثة مشتركة أميركية ألمانية، في تيسفون، وأخرى أميركية إنكليزية، في كيش. أما في الجنوب فالألمان ينقبون في أروك، والفرنسيون في كيش، والأميركيون والبريطانيون في أور، ثم جاء أخيرًا الأثريون الطليان، فأُعطوا امتيازًا للتنقيب في مكان يُدعى ككسو على ضفة نهر الزاب الكبير. وقد اكتشفت هذه البعثة الطليانية مقبرة من عهد البرثيين المعروفين في التاريخ العربي باسم إشكان، ومدينة أقدم منها من عهد سنحاريب.

ولكن أهم البعثات التي تنقب في الشمال هي البعثة الأميركية في دور شروقين التي تُدعى اليوم خورسباد، فقد حفروا إلى قلب التل الذي بُنيت عليه بيوت البعثة، وهم من إيوان بيتهم الجديد المُنار بالكهرباء يطلون على غرفة العرش في قصر سرجون الثاني تحتهم. وقد اهتدوا إلى سور المدينة — مدينة خورسباد — التي بناها، على ما يُظن، الأسرى الإسرائيليون الذين كانوا قد أُجلوا في ذلك العهد عن فلسطين. واكتشفوا شيئًا كثيرًا من التماثيل الآشورية الضخمة السليمة والمحطمة، المصنوعة من أنواع الرخام التي نشاهدها اليوم في أبنية الموصل.

ولكن قيمة الآثار لدى ناشد العلم ليست بحجمها ولا بزخرفها. وقد تكون ظاهرًا قطعة صغيرة من الفخار أو المعدن، نبشها مِعول أحد العمال، أو برزت من تحت محراث أحد الفلاحين. مثال ذلك صفحة من الآجر بقدر حجم اليد، عُثر عليها في المكتبة بقصر سرجون، وعلى وجهيها كتابة مسمارية. هذه هي إذن أهميتها. فإن في تلك الكتابة وجد عالِم أخصائي جدولًا بأسماء خمسة وتسعين ملِكًا من ملوك آشور، وما كان يُعلم من قبل غير نصف هذا العدد منهم. إذن، سنصحح تاريخ آشور. فإن أول ملوكها هو غير الذي حكم في القرن التاسع قبل المسيح. أول ملوكها، حسب السجل المسماري الصغير، جلس على العرش قبل ذلك الزمان بألف وخمسمائة سنة؛ أي في منتصف الألفِ الثالثة قبل المسيح.

figure
أطلال طيسون (تصوير الدورادو).

ويظهر أن البعثة الأميركية الأخرى التي تقوم بأعمالها في نوزي — المكان الذي يُدعى اليوم ترقلان — تثبت ما تقدم، فقد اكتشفت عددًا من المخطوطات التي تبعث النور في تاريخ شعب كان مجهولًا، هو الشعب الحوري. قرأ الأخصائيون تلك المخطوطات فإذا فيها عن شئون الحوريين، وصلاتهم بالشعوب الأخرى المعاصرة لهم، ما هو ذو قيمة اقتصادية وتاريخية وجغرافية. والقيمة الجغرافية أعظمها؛ لأنها أول أثر لهذا العلم عند أولئك الأقدمين.

أجل، قد اكتشف الأثريون في نوزي أقدم خارطة عرفها العالم. وقد رُسمت على طابوقة من الطابوق المشوي، وظهر فيها نهرا العراق الكبيران، وقسم من جباله، وعدد من مواقع المدن الشمالية القديمة.

وقد استنتجوا من بعض تلك المخطوطات، ومن شكل الهياكل، أن الحوريين كانوا يدينون بدين الآشوريين، وزعموا أن آثارهم تساعد في درس تطور المدنية الآشورية.

وقد تدحض هذا الزعم، وتفسد ذاك الاستنتاج، بعثة أخرى أميركية، هي التي تنقب في أطلال بعشيقة والفاضلية في تل بلا وتبه غورا، فقد أدركوا في الحفر طبقة ما قبل التاريخ، واكتشفوا دفائن يرجع عهدها إلى ٥٠٠٠ سنة قبل المسيح، وزعموا أن الإنسان سكن هناك في العصر الحجري. وقد قال مدير البعثة في خطبة ألقاها في بغداد، إن الأهمية في ما اكتشفه هي أن مدنية السومريين في دولة أور الأولى (٣١٠٠ق.م) كانت منتشرة في بلاد الآشوريين. ولكن آشور، بحسب الجدول المسماري الذي تقدم ذكره، لم تكن موجودة في ذلك الزمان! أثري يبلبل أثريًّا، وطالب العلم يلجأ متورعًا إلى — الله أعلم.

وهناك في بقعة واحدة تزاحمت البعثات وتباينت الأغراض. فبينما كانت البعثة الألمانية كادَّة في إصلاح غلطها، وفي المدائن، وفي نقل سلوقية من ضفة النهر اليمنى إلى ضفته اليسرى، كانت بعثة جامعة ميشيغان الأميركية تحفر الطبقة بعد الطبقة من الأرض لتكشف مدينةً سومريةً اسمها أكشاك.

وقد ظفرت كل بعثة بمبتغاها، وبالأدلة على إثبات افتراضها. فتلك التلال الصغيرة المتعددة، في ذلك السهل الفسيح، هي ما تبقى من المدينة الإغريقية الشرقية سلوقية. وتحت تلك التلال المدينة السومرية أكشاك.

والدليل على كون تلك الكوم من التراب والحجارة هي ما تبقى من سلوقية، هو في ما وجدوه من الحفريات. ومنها تماثيل من الخزف صغيرة، إغريقية الصنع والمغزى، وأختام مختومة في الحمَّر، ومكتوب عليها «الدائرة السلوقية لضريبة الملح»، ونقود تحمل أسماء بعض ملوك سلوقية. إذن هذه سلوقية ولا ريب فيها.

أما أكشاك فقد وجدوها في الطبقة الرابعة مدفونة تحت سلوقية. والدليل على ذلك بلاطتان من الحجر لِصوص الباب منقوش في إحديهما كلمات سومرية واسم ملك أكشاك.

أكشاك وسلوقية — سومر والإغريق! أجل، قد وجدوا في بعض ما تبقى من حياط البيوت آثار هندسة مختلطة تجمع بين أساليب شرقية ويونانية. وبعضها انتقل بعدئذ إلى الفرس الساسانيين والعرب المسلمين. ولا تزال أمثلة منها قائمة في إيوان القصر في تيسفون وفي خرائب الحضَر. إنه لعلم جليل.

على أن البعثات الأثرية لا تعمل للعلم فقط. فهناك المتاحف والجامعات التي انتدبتها، وهناك تزاحم بينها وتفاخر، وهناك نفقات لا بد مما يقابلها في الأقل من التحف والآثار. لذلك لا تكتفي البعثة بكشف قبر واحد أو عشرة قبور، لا سيما إذا كان فيها آثار نفيسة، وإن تشابهت، فقد كشفوا في سلوقية مائتي قبر، وعثروا فيها على مائتين وخمسة وسبعين شكلًا من الأواني الخزفية، وعلى خمسين شكلًا من القناديل البرثية (الأشكانية)، فضلًا عن التحف والحلي.

figure
خناجر وأسلحة مزخرفة وجِدت في أور (تصوير الدورادو).

وما هذا بشيء إذا قوبل بما اكتُشف في الجهة الجنوبية من المقبرة العراقية العظمى؛ أي في بلاد السومريين. هنالك البعثة الكبرى، وهناك الكنوز الأثرية. العفو. ينبغي أن أقول كانت هنالك، وهي اليوم في المتحف البريطاني في لندن، وفي متحف جامعة بنسلفانيا بفيلادلفيا في الولايات المتحدة. أما ما تراه — أيها القارئ العزيز — في المتحف العراقي، فهو جزء صغير، صغير منها.

وما أعجب ما تراه حتى في قسمة بلادك الضئزى، إن كان من الحلي والجواهر، أو من الأواني الخزفية والتماثيل، أو من الأختام والتحف والمواعين! فهناك مكحلة سيدتي السومرية ودبابيس شعرها. وهاك إكليل الملكة شَباد، وأوراقه الشبيهة بورقة الورد مصنوعة من الذهب، وهاك قلادتها، وفيها مائة حجر كبير وصغير من الياقوت واللازورد. وقد وُجد في قبر هذه الملكة السومرية، مع حلاها وجواهرها، قارب من الفضة، هو ذكرى نزهاتها — ولا ريب — في نهر دجلة.

وماذا كان مدفونًا مع صاحب الجلالة العظمى ملك الأرض وبطلها الأكبر، هوس كلام دوغ؟ فإن الخوذة التي كان يلبسها للحرب لمن الذهب الإبريز، وكذلك سنان الرماح والفئوس سلاحه. وهاك خنجرًا من الذهب نصابه من اللازورد، وقرابه من الذهب المسلسل الدقيق الصنع. وهاكم، يا غواة الموسيقى، قيثارة الملك المرصع صندوقها بالذهب وحجارة اللازورد والياقوت. وإن أنفس وأثمن ما اكتُشف في مقابر الملوك بأور الكلدانيين كبش من الذهب الخالص، صوفه من المعدن والحجارة الكريمة، وهو واقف عند جذع شجرة، ذات أغصان مثمرة صيغت كلها من الذهب. الذهب! لقد كان في ذلك الزمان، على ما يظهر، أبخس من الحديد، فصنعوا منه حتى الخناجر وسنان الرماح!

أما الحلي المتنوعة — صيغة وشكلًا — فإن في المتحف العراقي جزءًا صغيرًا منها؛ لتمتع به سيدتي البغدادية نظرها. ولتعلم سيدتي أن أختها السومرية، التي كانت تسرِّح شعرها، أو تجلس للماشطة، في هذه الشمس (شمسنا) وعلى ضفة هذا الفرات (فراتنا)، منذ خمسة آلاف سنة، كانت تنام على سرير، وتجلس على كرسي، وتمد خوانها على مائدة، وتفرش بيتها بالطنافس.

وذلك الذي بنى بيتها، ذلك المعماري السومري، هو الذي اخترع القنطرة والعقد في البناء. وهو أول من استوحى شجرة النخل، فأوحت بالعمود إليه، فظهر العمود لأول مرة في قصور أور وهياكلها.

ومما هو جدير بالذكر، أن شرائع السومريين وصناعاتهم كانت مصابيح علم وهدى لمن جاءوا بعدهم. فعندما اكتشف الأثريون نينوى، منذ نحو خمسين سنة، قالوا إن شرائع موسى مأخوذة من شرائع حمورابي. واليوم يقول لنا الأستاذ لِنرد وولي مدير بعثة أور إن شرائع حمورابي مستمدة من شرائع سومِر، ولم يكن في موضع مدينة نينوى أثر للبناء يوم كان السومريون قد وصلوا (٣١٠٠ق.م) إلى درجة عالية من العمران.

ولك أن تسأل: إلى أي عمق حفر الأثريون ليدركوا هذا العلم كله؟ عندما وصلوا إلى مدافن دولة أور الثالثة؛ أي الأخيرة، استمروا في الحفر فاخترقوا خمس طبقات من الأرض، كل طبقة منها تمثل دورًا من أدوار التمدن، بما اكتُشف فيها من الآثار التي تختلف عما اكتُشف في الطبقة دونها. وقد حفروا حتى تحت الطبقة الخامسة فوصلوا إلى التراب البكر؛ أي الطين الراسب على ضفتي النهر.

أما اكتشافهم ها هنا فهو أهم من كل ما تقدم ذكره. إن لسكة الحديد اليوم محطة في أور، بين البصرة وبغداد، هي على مائة وعشرين ميلًا من البصرة. والبصرة هي على ثلاثين ميلًا من خليج فارس. ولكن أمواج هذا الخليج كانت تتلاطم في ذلك الزمان تحت أسوار أور الكلدانيين، فتكون مياه الخليج قد عادت القهقرى مائة وخمسين ميلًا في خلال خمسة آلاف سنة ويزيد؛ أي ثلاثة أميال كل مائة سنة. ولكن الحلزونة تجتاز الثلاثة الأميال — إذا تركها الإنسان وشأنها — بشهر واحد في الأكثر. إن حركة البحار، وهي تتقدم في البر أو تتراجع عنه، لأبطأ حركة في العالم.

قلت: إن أور كانت على البحر. والأصح أن يقال: إن البحر كان عند أور. فكيف عرف الأثريون ذلك وتحققوه؟ عرفوه بالمطالعة، وتحققوه بالمِعول والمِسحاة. فلو لم يقرءوا في كتب اختصاصهم أن في عهد الاحتلال البابلي لأور «كان في المدينة هيكلان لنبوخذ نصر ونابونيدوس يُدعيان بهيكلي الميناء» لما عدوا حدودهم الأثرية إلى ما دونها — إلى ما يختص بعلماء الجيولوجيا — واستمروا يحفرون حتى أدركوا طبقة سمكها ثلاثة أمتار من رمال شاطئ الخليج!

وها هنا اكتشفوا الاكتشاف العجيب الذي جاء ذكره في ملحمة كلكميش. وما ملحمة كلكميش بذاتها أعجب من رمال شاطئ الخليج. إنما هي أعجب في النبوءة التي تحتويها.

جاء في تلك الملحمة:

إن الآلهة لغاضبون غضبة شديدة. وسيمحقون الجنس الإنساني، سيغرقونه إغراقًا في البحر.

ولكن إنكي — أحد الإلهة — حمل السرَّ إلى أُوتا نابشتيم، ذلك الرجل الصالح، الساكن في قرية شوروباك على الفرات، وأوصى إليه بطريقة للنجاة، فبادر نابشتيم إلى بناء سفينة مثل فلك نوح.

ثم يقول نابشتيم في ملحمة كلكميش:

وحملتُ في السفينة كلَّ مالي
كل حصاد الحياة جمعت في السفينة
أسرتي وأقاربي،
والحيوانات في الدور والمواشي في الحقول، والصناع والخدم.
أدخلتهم السفينة جميعًا وأقفلت الباب.

•••

وعصفت الرياح، وهاجت البحار،
ستة أيام وست ليالٍ،
طغت الأعاصير والمياه، فغلبت الأرض وغمرتها
ولما انبلج فجر اليوم السابع خفتَ صوت العاصفة،
وتقهقر البحر الذي كان يحارب كالجيش الفاتح،
وسكن وجه أليم، وسكتت الرياح، فتوقف الطوفان.
ونظرت إلى البحر فإذا هو هادئ كالنور،
ونظرت إلى البشر فإذا هم كلهم كالوحل.

وبعد ذلك أطلق نابشتيم طيرًا من الحمام، وترك سفينته على رأس الجبل، وقدَّم ذبيحة للآلهة.

هذه هي قصة الطوفان السومرية. وإن رمال الخليج دليل على ما جاء في ملحمة كلكميش، كما يقول الأستاذ وولي. وهناك دليل آخر في الخزف المدهون الذي وجدوه تحت أكوام الرمال وفوقها.

ومن كلكميش إلى كاتب سفر التكوين — مَن يعرف الصلة والسبيل؟ من ذا الذي يستطيع أن يقول: إن أوتا نابشتيم هو نوح أو غير نوح؟ أو إن موسى قرأ ترجمةً كلدانية لملحمة كلكميش؟

أما أن لنوح آثارًا في هذه الديار فأهل الكوفة والنجف اليوم يعرفون. أن في الصحن الفسيح لمسجد الإمام علي بالكوفة حوضًا جافًّا، أو مكانًا مجوفًا، إذا ما سأل الزائر عنه أحد الكوفيين قال له: هو المكان الذي بنى فيه سيدنا نوح فلكه قبل الطوفان. وإذا ما زرتَ النجف — أيها القارئ — وكنت من المؤمنين الجعفريين، ودخلت الحضرة، فعليك أن تلقي هذا السلام: السلام عليك يا علي وعلى ضجيعيك آدم ونوح.

إذن لقد صنع نوح فلكه ها هنا في الكوفة، ولقد دُفن بعد ذلك مع علي في جواره المبارك. والكوفة هي على شاطئ النهر مثل أور، وقد كانت في الماضي بين سومر وبابل. فمن أين جاءت هذه الأساطير — أساطير نوح والفلك؟ — وما علاقتها بملحمة كلكميش وسفينة نابشتيم؟ إن موضوعنا — لسوء الحظ — لا يتسع لهذا البحث.

لنعد إذن إلى أور، فقد اكتشف الأثريون في كيش، وفي خفاجي ما يثبت بعض اكتشافات البعثة الكبرى. ومهما تنوعت آثار الطبقات المختلفة فإن هناك، في كل مكان وزمان، الرمز الأكبر، الرمز السومري المجسم في الهيكل، وفي ما هو أجمل بناء من الهيكل؛ أي ذلك البناء الشامل الهرمي الذي يُدعى زِقُّرَة، وهو مدرج مؤلف من سبع طبقات، كل طبقة أوسع مما فوقها، كما هو اﻟ «باغودا» عند البوذيين. وقد بنى أحد ملوك سومر زقرة عصماء، طُليت طبقاتها العليا بالفضة والذهب.

كانت الزقرة معروفة في كل دولة من الدول السومرية الثلاث، وأمست كلها تحت الأرض، سليمة ومتهدمة، الواحدة فوق الأخرى. فعندما وصل الأثريون إلى زقرات الدولة الثالثة، واستمروا في الحفر عثروا على بقايا زقرات الدولة الثانية، وتحتها في الطبقة الثالثة بدت لهم أسس زقرات الدولة الأولى وقصورها وهياكلها. تلول تحت تلول، وقصور تحت قصور، ومدن مدفونة تحت المدن، وفوقها مدن اختلطت عظامها بعظام مَن دُفنوا تحتها.

ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
خفِّف الوطأ ما أظن أديم الـ
أرض إلا من هذه الأجساد

قيل: إن في السومريين يجتمع العنصران الآري والسامي. وقيل: إنهم آريون أصلًا، جاءوا من الشرق وتوطنوا جنوبي العراق في سنيِّ الألف الرابعة قبل المسيح، ثم جاء الأكاديون (العقاديون) فتغلبوا على السومريين في عهد الدولة الثالثة، فأسسوا الدولة الأكادية، وجعلوا حاضرتها مدينة لاغاس القريبة من أور.

وبعد ذلك جاء شعب من الجبال، شعب متغلب فاتح، هو الشعب العيلامي الآري، فأسس مملكة في قلب العراق، عاصمتها إشنونا أو إشنوناك على مسافة عشرين ميلًا شرقي بغداد، في المكان الذي يُدعى اليوم تل عمر.

وفي تل عمر بعثة أميركية موفقة في حفرياتها وغنائها. أما الحفريات فقد أضاءت شيئًا من تاريخ تلك الناحية، منذ سقوط الدولة الثالثة الأورية إلى سقوط إشنونا.

ليس في هذه الدولة غير ملك واحد من الملوك الفاتحين على ما يظهر، هو كيريكي ملك عيلام الذي أسسَّ إشنونا واستولى على أور. أما ابنه الذي تولى الملك بعده، فقد حاول أن يبسط سيادة عيلام على البلاد السومرية كلها، فصده عن ذلك العموريون الساميون الذين زحفوا على بابل من لبنان الشرقي، وكانوا في ذلك العهد من الغزاة الصائلين المتغلبين. فحمل عليهم ملك عيلام وما كان موفقًا في حملته، فعقد وإياهم صلحًا غريبًا فريدًا في بابه.

figure
آثار أور (تصوير الدورادو).

قال بيلالاما ابن الملك كيريكي إلى أولئك الغزاة العموريين: لا بأس بأن تغزوا في البلاد على شرط واحد — لكم الغنائم ولنا الأرض.

فلا عجب إذا كان عهد عيلام قصيرًا في العراق، فقد دخلوا مثل غيرهم من الشعوب في حوزة الملك الآشوري السامي، الملك الأكبر حمورابي (٢٠٦٧–٢٠٢٥ق.م).

وفي هذا العهد من التاريخ؛ أي منذ سقوط الدولة الأورية الثالثة (٢١٧٠ق.م) إلى أن دخلت إشنونا في الدولة البابلية الكبرى، تطورت عيلام تطورًا جديدًا في حياتها الاجتماعية، فقد اكتشف الأثريون الأميركيون مخطوطات في القصر تدل على أن إشنونا كانت على اتصال في تجارتها بآسيا الوسطى، وأن في حضارتها أثرًا لمدنية الهند، فالنفوذ الهندي في العراق يرجع إذن إلى القرن الواحد والعشرين قبل المسيح.

ولكنه ضئيل بالنسبة إلى النفوذ السومري. فإن الشعوب السامية كلها — العقاديين والعموريين والآشوريين — أخذوا عن السومريين دينهم، أو في الأقل معظم طقوسهم، كما أسلفت البيان، وكانوا على الإجمال مقلدين لهم مقتبسين من أنوارهم.

وإنه ليدهشك ما تعدد وتنوع من الأشياء التي كان يستعملها الناس في ذلك العهد القديم، السابق للعهدين البابلي والآشوري. فمنها القناديل المصنوعة من الحجر والصفر والفضة والذهب، على شكل الأصداف البحرية، وسنان الرماح والفئوس من الذهب والفضة، ومخطوطات من الآجر مغلفة بالخزف ومكتوب على الغلاف اسم صاحبها أو موضوع ما تحتويه، والمواعين من النحاس الأبيض المطرق الشبيه بما نراه اليوم في سوق النحاسين ببغداد، ومسامير من الجص مدهونة بالدهان الأسود (٣٥٠٠ق.م) وجدت في كيش، ومناجل وأسياخ وأوتاد، وأوانٍ خزفية ومرمرية مزينة بالرسوم، وجفان من الحجر والصوان، وأكواب من اللازورد، ولوحات للألعاب مطعَّمة بالصدف. وأعجب من ذلك كله قطع من العظم مكعبة، ومنقطة بالدهان الأسود، هي حجارة النرد. فاذكروا ذلك يا من تريدون أن تقضوا على القمار في العالم! إن عُمر «الزهر» خمسة آلاف سنة.

•••

من حق أهل العراق أن يعلموا بمصير آثار بلادهم، ولعل حكومة العراق تُقدم على العمل الذي فيه صيانة هذه الآثار، وحفظ حقوق البلاد في البعثات الأثرية.

إن أول ما ينبغي عمله هو تحرير المادة ٢٢ من قانون الآثار، لإزالة ما فيها من التعميم والإبهام، فتفرغ في قالب محكم لا يمكِّن البعثات من الإخلال بواجباتها، والعبث بحقوق البلاد.

فقد جاء في هذه المادة أنه «ينبغي للمدير أن يختار من بين الأشياء المكتشفة ما يراه لازمًا لإكمال المتحف العراقي من الوجهة العلمية»، وأن يخصص بعد ذلك «للذي أُعطي رخصة التنقيب عددًا كافيًا من العاديات مكافأة له على أتعابه» … «وأن يتوخى — بحسب الإمكان — جعل حصة ذلك الشخص مماثلة لجميع النتائج التي حصلت من تنقيبه.»

إن في هذه المادة ثلاثة أبواب للنزاع، هي: «الوجهة العلمية»، و«العدد الكافي» و«المماثلة لجميع النتائج». قلت: إنها أبواب للنزاع، فيجب أن أقول: إنها أبواب مفتوحة للتفسير والتأويل. وكثيرًا ما تفسرها البعثات وتقولها كما تشاء؛ ليكون لها ما تشاء من العاديات.

فلو اتفق أن في متحف العراق عددًا كافيًا من الحلي السومرية مثلًا «لا كماله علميًّا» واكتُشف بعدئذ شيء كثير من هذه الحلي، فإن مدير الآثار مطلق التصرف بها، وقد يقدمها كلها هبة إلى البعثات التي اكتشفتها.

فإذا اكتُشف خمسون خوذة ذهبية مثلًا، وكان فيها ثمانٍ وأربعون خوذة متماثلة بكونها خوذات، ومختلفة بكونها من عصور وصناعات متعددة ولو في جزئياتها، وخوذتان متماثلتان كل التماثل، فلا يُعطى المتحف العراقي غير خوذة واحدة من الاثنتين المتماثلتين تمامًا، وتُعطى البعثات الخوذات الأخرى كلها.

هذا ما يحدث في قسمة العاديات النادرة وفي غيرها على الإجمال ما دامت المادة ٢٢ مبهمة وقابلة لكل تفسير.

وهناك أساليب أخرى تمكِّن البعثات من السلوك المريب، بل من الإساءة في ما تتمتع به من الحقوق والامتيازات. ومن هذه الأساليب ما يتعلق بشحن الآثار. فالبعثة ترسل قسمتها في صناديق إلى البصرة، فتخزن هناك في مخازن شركة البواخر التي تنقلها إلى خارج العراق، بدل أن تبقى في مخازن الجمرك إلى يوم سفر الباخرة، وفي أثناء وجودها في مخازن الشركة يستطيع أحد أعضاء البعثة أن يفتحها ويضيف ما يريد إليها.

إنه لأمر شاذ اضطربت له مديرية الجمارك، وقد كتب مدير جمارك البصرة إلى مديرية الآثار ينبهها إلى أن نقل صناديق الآثار من الجمرك إلى مخازن الشركات خلال انتظار الباخرة لما يثير الريبة وسوء الظن، وهو يلح في وجوب فتحها وفحصها قبل أن تُشحن.

سمعتْ مديرية الآثار ومضتْ في أمرها. أما الأثريون فهم يقولون إنهم يستعيرون كل نادر نفيس من العاديات ليصلحوه، إذا كان مكسورًا، ويصوروه ويدرسوه، ويكتبوا عنه في المجلات الأثرية. وعليهم بعد ذلك أن يعيدوه، إذا كان من قسمة العراق، إلى المتحف العراقي.

فهل يعيدون ما يستعيرون؟ قد تصفح أمين المتحف لوائح القسمة لمجموع ما استخرجته بعثة أور الإنكليزية الأميركية، منذ سنة ١٩٢٢حتى سنة ١٩٣٣، فوجد أن ثلاثة آلاف أثر ويزيد، من الآثار التي تضمنتها تلك اللوائح، لا تزال مجهولة المصير.

أضف إلى ذلك ما يحدث من الحيف في القسمات، وليس لمدير المتحف العراقي ما يقول. وإن اعترض فليس لوزارة المعارف، ما دامت المفوضيات الأجنبية تهتم بالبعثات الأثرية اهتمامها بمصالح بلادها التجارية والاقتصادية في العراق، ليس لوزارة المعارف ما تقول.

ما العمل إذن؟ ألا تستطيع الحكومة العراقية أن توقف الأعمال الأثرية كلها إلى أن يصير في البلاد أثريون وطنيون؟ أوليس ذلك أفضل من أن تذهب أكثر الآثار إلى المتاحف الأجنبية؟

إنها لحالة محزنة. فإن كانت تنقصنا العلوم الاختصاصية، ونحن اليوم في حاجة إليها، فعلينا أن ندفع ثمنها مهما كان. وترانا ندفع — إن كان في العراق، أو في سوريا، أو في فلسطين — أثمانًا باهظة …

إن العراق، في كل حال، لا يخسر شيئًا إذا توقفت أعمال البعثات الأثرية ريثما ترسل الحكومة بعض الطلبة لدرس علم الآثار في الخارج.

لا، بل أقول إنه خير للعراق أن تبقى آثاره مدفونة في أرضه من أن «تطير» إلى ما وراء البحار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤