الصولجان والرمح والعصا

مهما كان من ارتقاء الأمة، وطنيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، فهي تظل في حاجة إلى ما يضمن كيانها العالي، في حاجة إلى القوة المعنوية المخزونة، التي تبعث في أبنائها النشاط والعزم والإقدام. هي القوة التي تنشأ عن الصحة والمرونة في الأجساد وفي الأخلاق، وفي الأرواح والعقول. تلكم هي القوة الكامنة في الألعاب الرياضية. فالأمة التي لا تحسن اللعب — اللعب في الفلاة لا في المقاهي المخبلة — لا تحسن العمل، ولا تأمن، في رقيها وعمرانها، غوائل الزمان.

عندما زار بغداد في سنة ١٩٢٢، اللورد إِبْسلِي، مدير جريدة المورننغ بوست في لندن، قابل الملك فيصلًا بشأن المعاهد الإنكليزية العراقية في تلك الأيام. وبعد المحادثة السياسية قال: «وهناك مسألة هي أهم من المعاهدات أحب أن أعرضها على جلالتكم.» فاشرأب الملك فيصل إليه، وأرهف من كان حاضرًا أذنه، فقال اللورد: «نعم، هي مسألة مهمة جدًّا. متى يصير عندكم بالعراق فرقة للعب البولو؟» فضحك الملك، وما ظن أن سيكون لهذه المسألة شأن في المستقبل القريب.

•••

إن لعبة البولو فارسية الأصل. وقد ساحت شرقًا من فارس إلى الهند والصين، ثم غربًا بطريق الأستانة إلى أوروبا، ثم رأسًا من الهند إلى إنكلترا، في سنة ١٨٦٩، على يد ضباط إنكليز. وهي الآن، والحمد لله ولصاحب جريدة المورننغ بوست الشريف الظريف اللورد إِبسلي، تعود بعد نصف قرن من لندن إلى الشرق. فما أعجب سياحات الألعاب!

لو كان العرب، بل لو كان الشرقيون يعنون بتواريخ ألعابهم عُنيَّهم بتواريخ الملوك والحروب، أو عُنيهم بالشعر والأساطير، لجاء في كتبهم عن هذه اللعبة الشيء الكثير من الطُّرف والأخبار، ولعلمنا ما كان من شأنها ببغداد. بيد أن العرب يزدرون — على ما يظهر — الكرة كيفما لُعب بها، على الأرض أو من صهوة الخيل، بالرجل أو باليد أو المحجن، ولا يحسبونها تليق بغير الأولاد. وما جاء ذكر البولو؛ أي لعب الكرة بالمحجن من على صهوة الخيل، غير مرة، على ما نعلم، وذلك في بيت من الشعر لبشار بن برد.

على أن اللعبة هذه كانت معروفة عندهم، وإن لم تكن مألوفة، وقد أسموها بالصولجان؛ أي باسم العصا التي تطارد بها الكرة، فقد نظم بشار في هجاء الخليفة المهدي بيتين من الشعر البذيء، ورد في أولهما الشاهد على ما أقول:

خليفة … … عمَّاته
ويلعب الدبُّوق والصولجان

وقيل إن هذين البيتين كانا السبب في غضب المهدي فأمر بضرب ذلك الشاعر المقذع بالسياط، فضُرِب حتى زهقت نفسه. إذا صحَّت هذه الرواية كان للصولجان ببغداد ذكرُ مفجع.

وهناك شاهد آخر على أن لعبة البولو كانت معروفة عند العرب، وأنها أُسميت بالصولجان. ذلك أن الصولجان وهو المحجن؛ أي العصا المنعطفة الرأس، شبيه بالعصا التي تُلعب بها هذه اللعبة الشرقية القديمة.

إنما العرب اتخذوا اسمها من الصولجان؛ أي المحجن، لا من الكرة.

أما أنهم فضلوا غيرها عليها من الألعاب فذلك معقول، ولا سيما وهم ينشدون الفائدة حتى في ألعابهم. إن لعب الجريد مثلًا يعلمهم الفروسية، والفروسية لازمة في الغزو؛ كذلك الرماية، وهم ولعون بالصيد. بهاتين اللعبتين إذن — الفروسية والرماية — يتعلم العرب الإصابة، والمطاردة، والإغارة، وهي من الصفات اللازمة في لعبة الصولجان، وقد أضحت من تراث العرب مثل الكرم والشجاعة. فعندما بدأ الضباط الإنكليز يعلِّمون العراقيين الصولجان ما خطر في بالهم ما تكمن لهم الفروسية العربية. ولا خطر في بال اللورد إِبسلي عندما عرض على الملك فيصل «مسألة هي أهم من المعاهدات» أن سيضطر في المستقبل القريب أن ينشر في جريدته أخبار فوز الفِرَق العراقية على الفِرَق الإنكليزية في مباريات الصولجان. على أن إقبال العراقيين هذه الأيام على سباق الخيل وكرة القدم يكاد يفوق إقبالهم على لعبة الصولجان.

ويعتز جميل الراوي، وهو من غواة لعبة الصولجان، بابن عمه الملازم الأول إبراهيم الراوي، بطل الميدان في الفوز على الإنكليز. دعانا جميل ذات يوم لمشاهدة فرقتين من الجيش العراقي تتباريان في الصولجان، فيممنا الميدان خارج السور الشمالي، وقد كانت أرض الميدان من التراب الناعم، فتثيره حوافر الخيل، وكثيرًا ما يخفي الكرة عن أنظار اللاعبين، فيخطئونها، ولا حرج.

ومع ذلك فقد امتاز لعبهم بالخفة والنشاط، وكانوا في الفروسية على الأقل مبدعين، يقصرون في جولاتهم ويفرسخون، يجرون ويغيرون، وهم يتجاحفون الكرة بصواليجهم. قال جاري الإنكليزي — وهو من غواة هذه اللعبة — إن في جولاتهم خفة ومرونة، وإن ضرباتهم بقفا الصولجان لضربات محكمة، هي ضربات الحذقين اللبقين. على أني كنت معجبًا بفروسيتهم أكثر مني بمهارتهم الصولجانية. فما كبا في ذلك الميدان جواد، ولا كان الفرسان أولو الصولجان أقلَّ براعة ولمعانًا من جيادهم العربية. أما ما كان من ضربات صاردة فهم كما قلت لا يُلامون عليها، فقد طالما غلَّف الغبار الكرة، فأخفاها عن الأبصار.

إن الصولجانيين ليستحقون ميدانًا ببغداد أرضه لينة متماسكة تحت فراش من العشب المجزوز. وإن حكومة العراق لتحِسن صنعًا، إذا ما عُنيت بتربية الخيول العربية خصوصًا للعبة الصولجان، فالحصان العربي لا يُبز في المرونة والقيادة. إنه في الجولات وفي الدورات السريع المطواع، وفي الكر والفر اللامع المجيد. فإذا ما عنيت الحكومة بهذا الأمر تمكنت من تصدير الخيل إلى أوروبا للعبة الصولجان، فتجاري في هذا بل تسبق أوستراليا والأرجنتين. عندئذ نقول مفاخرين: دونكم والصولجان وخيوله العربية! فاللعبة التي عادت من الغرب إلى الشرق، بعد ألف سنة، تعود بخيلها هذه المرة من الشرق إلى الغرب.

•••

ولا نهاية لسياحة الألعاب، ولا مشاحة أن أكثرها، مثل الأديان، من الشرق. فالنرد والشطرنج من بلد الصولجان. والفروسية عربية الأصل. وهناك لعبة كان لها ازدهار في الغرب منذ ثلاث سنوات، وهي اليويو، وقد عادت منتصرة إلى مسقط رأسها، إلى هذه البلاد.

أجل، إن اليويو لعبة عربية المولد، وهل تعرف كيف ولدت وتطورت؟ لقد ولدت في منتجع الإبل. فالعرب، عندما يسوقون الإبل إلى الماء، يصيحون بها: جو، جو! وبعض العرب في نجد وفي البصرة مثلًا يقلبون الجيم ياءً فيقولون: يو، يو، ثم استخدموها في صيدهم بالصقور والبزاة.

يو، يو! طار الصقر لينقض على فريسته. يو يو! عاد الصقر إلى صاحبه. هل بان لك وجه الشبه بينه وبين اللعبة؟ يويو! أُفلت الدولاب المربوط بالخيط. يو يو! عاد على خيطه إلى يدك.

•••

وفي نادي الضباط لفرقة الهاشمي دارَ الحديثُ ذات ليلة على الألعاب وعلى الصيد. كان جميل الراوي مضيفنا للعشاء، فعرفنا إلى عشرين ونيف من الضباط العراقيين، وكل واحد منهم، في بزته ورونقه وحديثه مثال الأناقة والتهذيب. هي التربية الإنكليزية، وما أحسنها إذا ما نُزهت عن السياسة.

وما الضباط العراقيون ممن يغمضون فضل معلميهم، فقد قال الملازم الأول صبحي العمري: «ما رأيت في الناس ألطف من بعض أولئك الضباط أساتذتنا، ولا مَن هم أرحب منهم صدرًا، وأجمل صبرًا. كنا نأتمر بأوامرهم في ساعات التعليم والعمل، وكنا نلعب وإياهم بعد ذلك كالإخوان الأكفاء، فنغلبهم في البولو، وفي الصيد. وما من مرة، في الصيد أو في اللعب، جعلونا نشعر بأنهم أرفع منا شأنًا ومقامًا، ثم إنهم يستقبلون الغلبة بصدر رحب، وصبر جميل، شأن من تعودوا الألعاب الرياضية، وعززوا آدابها القائمة على النبل والإنصاف والصبر.»

ولكن للقاعدة شواذها، فقد عرفوا كذلك الإنكليزي المتكبر المتحذلق الشرس الأخلاق. وعندما يكون مثل هذا الرجل ضابطًا في الجيش، وأستاذًا لضباط أجانب، فالعياذ بالله. ذكر أحد الضباط عسكريًّا من أساتذتهم تعددت صفاته المنكرة، فقال الملازم الراوي: هي الشخصية في كل حال، وعليها المعول حتى في صيد الخنازير.

ثم دار الحديث على الخنزير البري، الذي لا يزال يُصطاد في العراق على الطريقة القديمة بالرماح والنبال، فروى أحدهم قصة مطاردة كان ذلك الضابط الإنكليزي بطلها قال: خرجنا وإياه ذات يوم للصيد، فَضلَّ الطريق وهو يطارد خنزيرًا حول هور من الأهوار، فغرق حصانه في الوحل، وعلق به. وكان الخنزير قد فر هاربًا، شكرنا عندما أنقذناه وحصانه من الوحل، ثم طاردنا ذلك الخنزير، وأدركناه، ورميناه فقتلناه، وعدنا به وسهم الأستاذ لا يزال غارزًا في فخذه، أو تعرف كيف نظر إلينا؟ شكرنا، نعم. ولكني قرأت في عينه أن يود لو كان ذلك السهم في قلب واحد منا.

لا ريب في أن العراقي أمهر من الإنكليزي في مطاردة الخنازير البرية وصيدها، ولا سيما وهو أعلم منه بأرض العراق. فالخنزير يكثر في الأهوار والمستنقعات، والصياد الذي لا يعرف مداخلها ومخارجها، وموحلاتها ومزالقها، يخفق في صيده، وقد يقع هو وفرسه في نهر تخفيه الأعشاب، أو في موحلة بين القصب. أما العالم بتلك الأماكن، فهو يعرف متى ينبغي أن يثبت، ومتى ينبغي أن يدور أو يتقهقر؟ وهو يدرك، حتى مِن وقع حوافر فرسه، إذا كان على حاشية بركة من الوحل والماء، أو في أرض تدنو من الهور. بيد أن الإنكليزي هو الرابح في كل حال، إن كان هو صاحب الصيد أو العراقي؛ ذلك لأن العراقي المسلم يكتفي بلذة صيد الخنازير البرية، والإنكليزي يأكل تلك الخنازير.

•••

لقد حدثتك عن لعبة لصولجان، وعن صيد الخنازير البرية بالرماح والنبال، وسأحدثك الآن عما ترمز إليه العصا؛ أي الكشافة، وهي ركن وطيد من أركان النهضة الوطنية.

لقد تشكلت الفرقة الكشفية الأولى في بغداد، سنة ١٩١٥، في عهد الأتراك، لأغراض عسكرية، اقتداءً بالألمان، وكان منوطًا أمرها بضابط تركي، بمشارفة الكولونيل الألماني فون هوف. ولكنها أُهملت خلال الحرب الكبرى وما أثمرت.

ثم احتل الإنكليز العراق، وفي سنة ١٩١٨ عني المستر كاربت ناظر المالية يومئذ بأمر الكشافة، فاستدعى إلى بغداد بعض أفرادها من الجنود البريطانيين، فشكلوا بمساعدة بعض المعلمين الوطنيين سبع فرق في العاصمة، وربطوا كشافة العراق بمقر الكشاف البريطاني.

هذه هي بداية تلك الحركة المباركة. وقد نمت نموًّا سريعًا، وكان احتفالها الأول، الذي أُقيم في السنة التالية، بمساعدة ناظر المعارف، باهرًا، أدهش الناس، وعندما تأسست الحكومة الوطنية في سنة ١٩٢٠ كانت الفرق السبع، قد أصبحت سبع عشرة، وأكثر الوظائف فيها بيد الوطنيين، فاستُغني عن المعلمين الإنكليز.

وبعد ذلك بدأت الكشافة تنتشر خارج العاصمة، فقد انتدبت وزارة المعارف جميل الراوي ليبث الدعوة في الأولوية، فأسس ست فرق في الموصل، ثم أُقيم الاحتفال الثالث، في سنة ١٩٢١، بإدارة المعلمين الوطنيين تحت رعاية الملك فيصل الأول، الذي كان من أكبر المشجعين للكشافة، وصار بعدئذ حاميها الأعظم، فتجلت في ذلك الاحتفال مقدرة أبناء العراق ومهارتهم في إتقان الأصول الكشافية.

عندما انتقلت الإدارة إلى الوطنيين، وخصوصًا بعد الاحتفال الثالث، تأسست الفرق في أكثر الألوية، واستمرت في ازدياد، فتجاوز عددها في بضع سنوات الستين فرقة، وهي تضم اليوم في مجموعها أكثر من اثني عشر ألف كشاف من مختلف الأصناف. إن الفضل في نجاح النهضة، وانتشار أعلامها هذا الانتشار، هو لفريق من العراقيين الغيورين، وفي مقدمتهم جميل الراوي وساطع الحصري وطه الهاشمي ورشيد الخوجة وسامي شوكت.

figure
المنظر الداخلي للمنزل الأثري لآل السيد عيسى عندما زاره المؤلف. وقد أُزيل المنزل نهائيًّا ولم يبق له أثر.
figure
المنظر الخارجي للمنزل. وفي أول الكتاب وصف المؤلف زيارته له وكيف وجد النساء على بابه يعالجن عفص المدخل.

أما اليوم فإن القائم بأعمال الكشافة، العامل بنشاط وعلم وإخلاص في ارتقائها الدائم، إنما هو شاب سوري شيعي، درس وزوجته المسيحية المهذبة في أوروبا، وعاد وإياها ليخدما وطنهما، فكان ذلك الوطن العراق. وما العراق؟ وما سوريا وفلسطين؟ إن كل قطر من الأقطار العربية وطن للعربي الصادق، المخلص في حبه لأبناء قومه، وإن كانوا في صيدا أو في بغداد، في القدس أو في الرياض.

ساعد بأرض تكون فيها
ولا تقل إنني غريبُ

ذكرت في فصل سابق أن الدكتور شريف عسيران هو رائد الصحة الأكبر في الكاظمية. وها أخوه وزوجة أخيه البيروتية — بركات الله عليهما — من مصابيح الرياضة والتهذيب في النشء العراقي الجديد.

أجل، إن الفضل الأكبر في المهرجان الكشفي، الذي أقيم في بغداد في ٢١ آذار سنة ١٩٣٤ واستمر أسبوعًا، للاحتفال بذكرى مولد جلالة الملك غازي، والمناداة به كشافًا أعظم، إن الفضل الأكبر في تنظيم ذلك المهرجان يعود إلى قائد الكشافة ومدير التربية البدنية عبد الكريم عسيران.

وما كان أجمله من مهرجان، وما كان أمجده! لا أظن أن أحدًا من الألوف الذين حضروا العرض في اليوم الأول ينسى روعة ذلك المشهد الوطني الذي تمجدت فيه عصا الكشافة، وتجلت في الخمسة الآلاف كشافًا من سائر الألوية روح النهضة العراقية.

ومما أثار إعجاب الناس في ذلك اليوم المشهود تلك الألعاب التي قامت بها، على الألحان الموسيقية، بنات المدارس، ترئسهن معلمة لبنانية. هي ذي طلائع الوطن الجديد، وقد تجلت روحه في الجنسين من النشء العراقي. هي ذي البوتقة التي ستُصهَر فيها كل الفوارق العنصرية والدينية؛ لتتكون منها القومية العراقية الواحدة. هي ذي الكشافة التي يحق للعراق أن يفاخر بها جميع الأقطار العربية.

وخير ما أختم به هذا الفصل، وهذا الكتاب، كلمة في المثل الوطني الإنساني الأعلى أوصي الكشاف بها.

الكشاف هو من رعى نفسه ليحسن رعاية غيره، وقيدها بنظام ليدرك قيمة النظام، وعودها عمل الخير دون ذكره، وحرية الفكر والقلب مع الشجاعة والصدق فيهما، وكان إلى ذلك ممن يعملون لإقامة العدل في الحكومات، ولتعزيز الحق الإنساني في القوميات، فيرى في وطنه صورة محبوبة لجميع الأوطان، ويرى في قوميته ما يربط الإنسان بالإنسان، فهو الطليعة في نظري، بل هو ركن من أركان الحياة الجديدة المنشودة التي ستشع خيرًا وجمالًا، وحبًّا وسلامًا في كل مكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤