الزيارة الأولى

يقول المؤرخون الثقات: إن بغداد بابلية الأصل، فقد أسسها نبوخذ نصر في المكان الذي دارت فيه رحى الحرب بينه وبين أعدائه؛ تذكارًا لانتصاره عليهم، وأسماها بعل داد؛ أي مدينة البعل. ومما يثبت ذلك، ما اكتشفه العالم الإنكليزي السر هنري رولنسون سنة ١٨٤٨ في الجانب الغربي، فقد اكتشف في الكوخ بقية حصن مبني بالآجر المحفور عليه اسم «نبوخذ نصر» وفتوحاته. وكانت بعل داد لا تزال قائمة، إلا أنها مشرفة على الخراب يوم فتح العرب العراق وجعلوا الكوفة عاصمة البلاد. وظلت الكوفة العاصمة إلى بداءَة العهد العباسي، فعقد النية الخليفة المنصور، الذي كان يكره تلك المدينة وأهلها، على بناء عاصمة جديدة، فساح في وادي دجلة شمالًا يبحث عن مكان يسره، فآثر السهل المجاور لبعل داد، المقابل لما هو اليوم البلاط الملكي في الجانب الشرقي، فبُنيت فيه المدينة المدورة. وقد دُعيت بالزوراء؛ «لأن أبوابها الداخلة جعلت مزوَّرة «مائلة» عن الخارجة»، ولكن لمادة زور من المعاني غير المأنوسة، ما تلاعب به أعداء المنصور غمزًا ولمزًا عليه، فحمله ذلك على إسمائها باسم آخر؛ ولكي يبرهن لهم مروءته وحلمه، وأنه مسالم على الدوام، أطلق على العاصمة الجديدة الاسم الذي كان يُعرف به وادي دجلة وهو دار السلام.

•••

في الربع الأخير من القرن السادس للهجرة، رحل الأديب الأندلسي ابن جُبير رحلته في البلاد العربية، فوصل بغداد سنة تسع وسبعين وخمسمائة (١١٨٤م) وكان لما شاهد من المدينة المشهورة من المحزونين. فُجع في ما حمله إليها من الشوق والحب والأمل. ولا عجب. فكان قد ولى مجدُ العباسيين، وذهبت صولة آل بُويه، وأشرف عهد السلاجقة في فساده على الزوال، وأمست دار السلام مهدًا للفتن، ونهبًا للتتر الفاتحين.

بغداد دار الأنس والسرور «قد ذهب أكثر رسمها»، كما جاء في كتاب ابن جبير:

ولم يبق منها غير شهير اسمها.

وهي بالإضافة لما كانت عليه كالطلل الدارس، والأثر الطامس. «وما رأى ذلك الرحالة الأندلسي من حسن فيها يستوقف البصر غير دجلتها التي هي بين شرقيها وغربيها كالمرآة الصقيلة.»

تالله، كيف تتشابه المرئيات في القرنين الثاني عشر والعشرين؟ وكيف تتماثل التأثيرات؟ تأثيرات السائح العربي الأندلسي، والسائح العربي اللبناني. أفما تغير شيء ببغداد منذ أيام ابن جُبير؟!

بلى، قد تغيرت أشياء، بل تغيرت المدينة جميعها. وذلك في سنة ١٢٥٨م؛ أي بعد أربع وسبعين سنة من رحلة ابن جبير، يوم جاء هولاكو حفيد جنكيزخان يغزو بغداد، فاكتسحها وبعد ذلك دمَّرها.

وعندما أُعيد بناؤها كان الناس لا يزالون في ظل النكبة، فما همهم في البناء الأصولُ الهندسية أو المحاسن العمرانية، ولا كانوا يحفلون بغير اللازم للمأوى والسلامة. بُعثتْ بغداد وما حسنتْ حالها، إلا بعد ثمانين سنة أخرى؛ أي في أول عهد الدولة التترية الثانية، التي أسسها (١٣٣٩م) حسن الجلائري.

ثم نُكبت بغداد نكبة أخرى في أواخر القرن الرابع عشر، لما زحف تيمورلنك بجيشه عليها، ففتحها وأعمل فيها بعد اكتساحها السيف والنار. فأُعيد بعد ذلك للمرة الثالثة بناءُ ما هُدم وتهدم منها.

ومنذ ذاك الحين إلى يوم احتل العثمانيون العراق (١٥٣٥م)، دالت في هذه البلاد دولتان من التركمان، دولة الخروف الأسود، ودولة الخروف الأبيض. وقد أخذت كل منهما اسمها من الصورة المنقوشة على عَلَمها، لكن ما كان من الخروف الوديع في ذلك الملك التركماني غير الاسم والرسم، وكان للاثنتين في التاريخ آثار بربرية دموية، ثم جاء من بلاد فارس (١٥٠٩م) الصفوي الكبير إسماعيل، فقضى على «الخروف الأبيض» الذي كان قد ابتلع «الخروف الأسود»، وجدد لفارس عهدًا في العراق قصيرًا، استمر سبعًا وعشرين سنة لا غير، فجاء الترك العثمانيون (١٥٣٥م) يُخرجون الصفويين من العراق وكان لهم ذلك. فما استطاع أولئك الفرس المتحضرون المثقفون أن يعيدوا إلى بغداد خلال عشرين سنة، شيئًا من ذلك العمران وذلك الرونق الذي كان لها في الزمن العباسي الأول. فغدت، وقد توالت عليها الفتوحات، وتعددت النكبات، كما كانت يوم رآها ابن جُبير «كالطلل الدارس والأثر الطامس.»

وهل دامت كذلك في عهد العثمانيين؟ ألم تُهدم مرةً أخرى خلال الأربعمائة سنة وتشيَّدْ في فترة من الخير والهناء تشييدًا حسنًا شائقًا، كما لو كان سيدها المنصور أو الرشيد؟ يقول العارفون من العراقيين اليوم: إن بغداد كانت على جانب عظيم من العمران، لما حسَّن الترك في عمرانها الخارجي والداخلي. ولكن الوباء — الطاعون — فتك بأهلها منذ مائة ونيف من السنين، فحالفه دجلة في طغيانه، وكان الاثنان أشد عليها، وأفعل بها، من غزوات هولاكو وتيمورلنك، فقد كان الوباء يذهب بخمسة عشر ألف نفس كل أسبوع، والذين نجوا منه ذهبوا ضحية دجلة، الذي طغى على المدينة فغدا القسم الأكبر منها تحت المياه الجارفة.

•••

بعد النكبة الرابعة — وهي الأخيرة إن شاء الله — تهافتت الشعوب على الأرض التي أمست يبابًا، وكادت تكون مشاعًا، فملكوا ما ملكوه منها، وشرعوا يبنون كما بنى سكان المدينة الغابرون بعد النكبة الأولى. جاء المهاجرون جماعات من كل حدب وصوب، من الجوار ومن بلاد الأكراد، ومن بلاد الأناضول، ومن إيران، ومن البوادي العربية. وما كان بين هذه الشعوب معرفة ما، ولا كان بينهم صلة وطنية، أو حسُّ قومي أو مدني. بل كانوا كلهم غرباء، بعيدين بعضهم عن بعض، ومعادين غالبًا لبعضهم لبعض. الرائد يصدق أهله كما يقال. وقد كان لكل جماعة رواد يصدقونها، ولا يصدقون غيرها. فتعيش لنفسها متحفظة متحفزة.

ومع أنهم كلهم كانوا مسلمين، فما جمعت رابطة الدين شملهم، ولا لطفت شعورهم، وما أزالت غير القليل من التنافر والتنابذ فيما بينهم. هؤلاء المهاجرون المتوطنون بغداد، بعد كارثتها الأخيرة، هم أجداد سكانها اليوم. وما كان فيهم من العَرِيقين في النسب العربي غيرُ القليل، منهم آل سويدي وآل سعدون وآل شاري وآل جميل وبيت الألوسي.

أما السواد من الناس، وقل الأخلاط، فلا يزالون اليوم، على الإجمال، كما كانوا في الماضي بعيدين من بوتقة الإدغام والامتزاج. وما غيَّرَ التزاوجُ المختلط بينهم — وإن قَلَّ — شيئًا جوهريًّا في أحوالهم القومية، ونزعاتهم الجنسية. فالإيرانيون والأتراك والأكراد، وإن تزاوجوا بعضهم ببعض، لا يزالون كما كان أجدادهم منذ مائة سنة أكرادًا وأتراكًا وإيرانيين. أو إنهم على الإجمال مثل اليزيديين والآشوريين والصابئين، يعيشون عقليًّا في الأقل بعيدين بعضهم عن بعض، كل جماعة منفردة في شئونها. وما هم سكان بغداد، بل هم سكان الأحياء التي يقيمون فيها، كل جماعة وكل طائفة في حيها.

وقد تتجاور الأحياء وتتلاصق بعضها ببعض، ولا تتجاور القلوب، ولا تتلاصق الإحساسات القومية. فالعقلية في كل جماعة لا تزال في الغالب عقلية بدوية، مفتوحة لإخوانهم، ومقفلة دون الآخرين. والعرب في هذا مثل سائر الجماعات، خصوصًا العشائر التي لا تزال في ما كانت عليه. فهي تحافظ على عاداتها، وتقاليدها، وأحكامها الخاصة، ولا تنسى، وشرف العرب، ما بينها من دم، ومن عداء قديم. هي ذي المعضلة الكبرى الاجتماعية والوطنية في العراق.

أما بغداد فقد بناها أجداد هذا المزيج من الشعوب، بعد نكبة سنة ١٨٣١، كما بنى تقدمهم بعد كل نكبة من نكباتها. بنوها كما يبني من لا يأمن حتى يومه ولا يأمل بطول الإقامة. بنوها كلٌّ على ذوقه، وحسب اقتداره، وعملًا بالأحوال القاهرة، بدون تصميم، وبدون اتساق، وبدون نظام مدني يرعونه، أو أوامر مجلس بلدي يلتزمونها. بنوها على عجل كأنهم كلهم مسيرون بحاجة يومهم، أو مهددون بكارثة أخرى، ووكلوا أمرهم إلى رب الصدف والتقارير. فنشأت من الجدران المستقيمة جدران معوجة، وعلت السطوح سطوح، ودرجت الأدراج من النوافذ، ولاذت الأواوين بغرف النوم، واشرأبت الشرفات إلى الشرفات، بل امتدت بعضها إلى بعض، فتوسعت البيوت، وتضيقت الجادات، فصارت تدعى بلغة البغداديين «دربونات». ولهذه الدربونات، من الشرفات المتعانقة فوقها، سقوف ظليلة! إنها لهندسة عجيبة أوحت بها الفوضى، وأيدتها التقادير. وما كان الأتراك ليكترثون بهذه أو تلك، ما دام أبناءُ التقادير والفوضى يدفعون الضرائب.

figure
«دربونة» في بغداد القديمة (تصوير الدورادو).

إن في بغداد شارعًا واحدًا طويلًا عامرًا يمتد من الجنوب إلى الشمال، من باب شرقي إلى بوابة الأعظمية، في خط مستقيم، إنما لا كالرمح، فيقسم الصوب الشرقي قسمين، كما يفعل الإسفين في الكتلة. فينبسط القسم الأول شرقًا في سهل رحب، ويتكون القسم الثاني إلى جانب دجلة في شكل «هرمي» قاعدته العيواضية، ورأسه دار شركات النفط بباب شرقي. وفي هذه المظاهر من نشوء بغداد تبدو بوضوح قبيح تلك الآفات التي ذُكرت: الفوضى في البناء، والصدف في التخطيط، والقدر في أهواء السكان.

وفيها كذلك المتناقضات المدهشات المكربات. فهي قديمة وهي جديدة، وهي متراصة وهي متبعثرة. وهي مدنية وهي بدوية. فالشارع الطويل الذي دعاه الإنكليز بالجديد، ثم غيرت أمانة العاصمة اسمه فدعته شارع الرشيد، هذا الشارع بما فيه من مخازن حديثة، ودكاكين قديمة، ومقاهٍ ودور سينما، وأنوار كهربائية وأسلاك برقية، وعربات وسيارات و«بصات» ومنافذ في جانبيه إلى «الدربونات»، إنه لشبيه بشارع في قرية أوروبية. والبلدة أو المحلات شرقًا منه. وإن كانت بمجملها لا تتجاوز المائة سنة، هي جد قديمة بما في ظاهرها، ولا يخلو بعض داخلها من ضيق الجادات واعوجاجها، والتهدم فيها، والقتام، والروائح العجيبة! أما القسم المحاذي للنهر، وفيه الأندية والمقاهي والسراي، وبعض بيوت للسكن جميلة، وبعض البساتين التي تزينها أشجار النبق والنخيل، فما هو بشرقي ولا بغربي! إنما هو جدير بحسن الذكر والتقدير. ولكنَّ في الجهة اليمنى من دجلة — أي الصوب الغربي الذي لا يزال يدعى الكرخ، وخصوصًا في الناحية التي تمتد من جسر مود إلى كرادة مريم — دورًا على شاطئ النهر، جميلةً بوداعتها، وفسحاتها، ونخيلها، وبشرفاتها التي تجري من تحتها المياه.

•••

وبين شعراء العرب شاعر من الطبقة الوسطى، ظفر بالشهرة في قصيدة واحدة نظمها، بل في بيت واحد من تلك القصيدة. وقد تكون الشهرة للبيت لا للشاعر، فقد تغنى ابن جهم بمجازفة له غرامية في الجهة اليسرى من النهر قرب الجسر. ومن لا يذكر مطلع تلك القصيدة التي خُلد فيها اسم الصوب الشرقي من بغداد:

عيون المها بين الرُّصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

يذكرني ابن جهم بالشاعر الإنكليزي طوماس هود الذي وثب إليه قلب الشهرة وثبةً عجيبةً في قصيدة واحدة أو قصيدتين. ويندر بين الإنكليز من لا يعرف المقطع الأول في الأقل من قصيدته «جسر الزفرات» الذي كان مجلبة للعيون، التي هي مجلبة للهوى. وموضوع القصيدة حسناء قضت نحبها هناك عند الجسر.

كأن الجسور في كل المدن مغناطيس القلوب، أو كأنها شباك للغرام. وقد يكون فضلها أو إثمها في المياه الجارية تحتها، في رائحة الأنهار القَرقفية أو رائحة البحار الزنجبيلية، فتبعث في النفس نشوة يعقبها سكرة — سكرات! وقد يكون فضلها أو إثمها في دنوها من الأجل المحتوم المقدر؛ أي من المكان الذي يصلح للانتحار … «وأوله سقمٌ وآخرة قتلُ.»

إن كثيرًا من الأنهار عند الجسور بأوروبا تشهد بصحة قول ابن الفارض. أما دجلة فلست أدري إذا كان قد شهد مرةً هذا النوع من نهاية الحب. ولست أدري إذا كان أهل الغرام في أيام ابن جهم كانوا يؤثرون الجسور للمواعد على المنتزهات والبساتين. إنما كانت هناك مواعد، ولا ريب، واجتماعات. وما فقدت بغداد هذه المزية الاجتماعية، الغزلية في الأقل، حتى في عهدها الأخير يوم أمَّها ابن جُبير. ولا عجب — وهو الأديب الأندلسي — إذا أشار إلى ما للماء من الفعل بالقلوب في قوله: «والحسن الحريمي بين هوائها — هواء بغداد — ومائها ينشأ. هي من ذلك على شهرة في البلاد معروفة موصوفة.» ولكنه، على غير عادة الأندلسي، يتخوف من فتنة الهوى «إلا أن يعصم الله منها.»

وفي بيت ابن جهم؛ إذ يقول: «من حيث أدري ولا أدري» شيء من هذا التخوف. بيد أن أمره الآن لا يجلب همًّا، أو يستوجب اهتمامًا. إنما هناك سؤال لا بد في هذا الموقف منه. ما الذي أكسب بيت ابن جهم الشهرة وضمن له الخلود؟ المكان بين الرصافة والجسر أم عيون المها؟ وهل كانت حِسان بغداد يسفِرن عند الجسر يا ترى؟ وهل كانت مجازفة ابن جهم شعرية خيالية أم واقعية؟ هذه المسائل جديرة بالنظر، وقد تدعو للمستحَب من البحث. وقد تثير الجدل.

ولكن هناك حقيقة لا تقبل الجدل والبحث، وهي أن الصوب الشرقي من بغداد لا يزال يُدعى باسمه القديم — الرُّصافة — المخلَّد في بيت ابن جهم، كما يُدعى الصوب الغربي بالكرخ. إن هاتين الناحيتين قديمتان اسمًا ورسمًا. أما النواحي الأخرى فهي حديثة في هندستها وفي أسمائها.

•••

كان عدد سكان بغداد في زمن العباسيين يبلغ ألفي ألف نفس؛ أي مليونين. وكانت المدينة مقسمة إلى سبع عشرة ناحية. إنما بغداد اليوم تختلف في تقسيمها، كما تختلف في إدارتها، وعدد سكانها لا يتجاوز الثلاثمائة ألف نفس.

أما المحلات التي أشار إليها ابن جبير وذكر أسماء بعضها، فقد كانت كلها في الصوب الشرقي «مع أن الخراب كان مستوليًا عليه.» وكان الصوب الغربي؛ أي الكرخ قد تقدمه في الخراب، فما شاهد ابن جبير فيه غير «الأثر الطامس.»

وقد ذكر شكل المحلات في الرصافة فقال: إن كل محلة منها مدينة مستقلة. يُفهم من ذلك، أنه كان بين المحلة والمحلة أرض خالية من السكان، أو أن بعض المحلات كانت مسورَّة. وقد امتدت الرصافة يومذاك إلى مكان الأعظمية اليوم. وكانت بوابة البصرة مكان باب شرقي أو دونه جنوبًا. ومع أن هذه المساحة هي نحو سبعة كيلومترات طولًا، ولا أظن أن الرصافة تجاوزت الكيلومترين عرضًا، فقد كانت — ولا شك — مزدحمة بالسكان؛ إذ كان عددهم ينيف على المليونين.

والمدينتان — مدينة اليوم ومدينة الأمس — تتشابهان من هذا القبيل. فإذا استثنينا الشارع الجديد، شارع الرشيد، وبعض الأحياء الجديدة، يجوز أن نقول إن كل الجادَّات و«الدربونات» في الرصافة وفي الكرخ تفتقر إلى النور، والهواء النقي، والنظافة، والتفريج. بيوت متراصَّة متعرِّجة، في جادات ضيقة متعوجة، ما رأيت مثلها في المدن العربية الأخرى التي زرتها. وهي تتعجج من القتام والأنام.

إنما أهل بغداد يختلفون في طبائعهم عن أهل الكويت مثلًا أو أهل البحرين. والظاهر أنهم لم يتغيروا كثيرًا منذ أيام ابن جُبير، الذي خصَّهم بصفحة من كتابه تسْوَد منها وجوه، ولا تضمن للأندلسي الأديب — لو عاد اليوم حيًّا إلى بغداد — السلامةَ والأمان. وأقل ما يقال في البغدادي العريق ببغداديته، أن صوته يهز الأرض، ويلقي الرعب في القلوب — أنا بغدادي مو عجمي. فك عينك زين!

والبغدادية العاملة السافرة هي في عنجَرتها مثل البغدادي. رأيتها في «دربونة» جالسة على الأرض، وأمامها بعض الخضر تبيعها، ورأيت أحد المارين يتعثر بطرف منديلها المفروش. وسمعتها تصيح به، وتصب عليه جام غضبها، بلغة ممتازة في علم المسبات. كأنها أُخذت من إحدى رسائل الخوارزمي إلى بديع الزمان الهمذاني. أين عينك، يا ملعون الوالدين؟ حرمك الله الرجلين! يا ابن الطريق، يا ابن البطريق، الله يضيق طريقك! لا أظن أن بين نساء العرب من هن أذرب لسانًا، وأمضى بيانًا من البغدادية. ولا أظن أن ببغداد من يفوقها في بلاغتها الذابحة، إلا أن يكون الشحاذ البغدادي.

سمعت أحد أولئك الشحاذين يردد آيات من الكتاب، وهو جالس على مزبلة في الجادة، ثم يسأل قائلًا: أين أهل الصلاح؟ أين الكرام وُلد الصباح؟ أين بحر الجود؟ نقطة منه يا معوِّد، نقطة ولا تزوِّد.

وما كان ثمة، في ذاك الصباح، أحد من المعوِّدين، فقد رأيت شحاذًا آخر، في جادة أخرى، جالسًا عند الحائط، وسمعته، وقد رفع يديه، و«وفكَّ» عينيه، يصيح: اللعنة عليك، يا بغداد، وعلى ذكرك، وعلى أهلك! الدود يأكل عظامك، يا بغداد، وعظام أبنائك! النار والشط والوبا عليك وعلى بنيكِ، فلا يبقى منك ومنهم غير الرماد والتراب!

وما استوقف مع ذلك أحد المارين، ولا استرعى نظر أحد السامعين.

إنما هناك صنف آخر من المستجدين، ولهم في المهنة لغة غير اللغة التي أسمعتك أمثلة منها. ومع أن التقوى تتمشى بين أضلعهم، والورع يتساقط شِعرًا من أفواههم، فالناس قلما يقفون، وقلما يسمعون.

هاكم درويشًا يرفع صوتًا كصوت ربابة في خابية، ويشدو الشعر شدوًا محزنًا، وفيه الغزل والحنين، وفيه أن كل شيء يزول، ولا يبقى غير وجه ربك القيوم.

خيالك في قلبي وذكرك في فمي
وصوتك في أذني وحبك في دمي

هو صوت سمعته ذات يوم في محلة الشيخ، فاستوقفني وأنا أكتب في غرفتي، فوقفت في الشرفة، فإذا بدرويش في قارعة الطريق يحمل عصًا طويلة، وصحنًا من التنك. ورأيت العربات تسير إلى يمينه وإلى يساره، دون أن تدنو منه، كأنه شرطي. وكان إذا سمع صوت بوق السيارة يرفع عصاه — هو درويش ضرير — فتميل السيارة عنه، ويستمر هو في طريقه وشدوه!

أين فؤادي؟ أذابه الوجدُ
وأين قلبي؟ فما صحا بعدُ
يا سعد زدني جوًى بذكرهم
بالله قل لي فُديت يا سعدُ

وها قطعة من النقود ترن في الصحن بيده، فيقف عند القرار شاكرًا، ثم يرفع صوته فوق ما كان منه.

يا أهل ودِّي أنتم أملي ومن
ناداكم يا أهل وِدِّي قد كُفي
عودوا لما كنتم عليه من الوفا
كرمًا فإني ذلك الخل الوفي

إنه ليشجي هذا الصوت، وإنه ليُبهِج. هو يبهج أهل الحب؛ لأنه يردد من أصوات الماضي ذلك الصدى الخالد، صدى ما صفا من الروحيات والذكريات. وهو يشجي؛ لأنه يمثل طيفًا من الأطياف التي يرسلها الماضي شاديةً في شوارع بغداد المسيرة اليوم بأصوات — وقل بسياط — العمل المرهقة، بتكاليف الحياة المدنية المادية.

إنما هناك، في قلب المدينة، الذي لا يمسُّه الشارع الجديد بعامل من عوامل المدنية الغربية، أصوات من الماضي يظهر أنها أبدية. هي الأصوات التي تُسمِعك إيَّاها المطارق تطرِّق النحاس، والمنافخ تنفخ في نار الصاغة والحدادين. وهناك في قلب بغداد، يمشي العمل الهوينا مشية الورع القَنوع، ولا يماشيه الهم، ولا يزاحمه التكالب. هناك يجري في عروق العامل والتاجر والصائغ والصانع؛ ذلك الدم الذي يجري في عروق الدرويش. وإن كان الشعر لا يجري على ألسنتهم كما يجري على لسانه، فإن لغة قلوبهم هي كلغة قلبه من قاموس واحد، هو قاموس القناعة والوداعة.

وهناك أيضًا تتجسم تلك الظاهرة العربية — الشرقية — التي تناقض العبارة الذهبية، وهي أن النظافة من الإيمان. ولعمري إن بين الإيمان والنظافة — إن كان في الدراويش أو في الصاغة — وهدة سحيقة. وهاكم في السوق المثال الحي النابض لما في العامل العربي من الصبر والمثابرة، ومن التجويد والجمود، ومن الذوق والإهمال، ومن الورع والوداعة والقناعة والقذارة.

تعال فأريك أجمل الأشياء من ذهب وفضة تُصنع أمام عينيك، تصاغ وتصقل في أماكن فُرشت بالغبار، وطُليت بالدخان، وازدانت بالعنكبوت. ليس الولد صاحب المنفخ من العبيد المناكيد. هو أسود الوجه واليدين، ولكنه عربي من الفتيان البيض، تراه مقرفصًا أمام النار ينفخ بها، ويمسح عينيه بطرف قميصه الدكناء، وترى سيده في ثياب الزيات يمسح العرق من جبينه بالمنديل الذي يستعمله لمسح جواهره، وهو ينقش سوارًا، أو يدق قطعة من الذهب على السندان.

وهذه امرأة في عباءة وحجاب تجلس على حافة الدكة، إلى جانب رُكمة من الفحم والرماد، ثم ترفع طرفًا من حجابها وتلقي السلام وتلوم، فيعتذر الصائغ إليها، ويقسم بالله إنه ما نسيها، ثم يفتح خزانة صغيرة، ويخرج منها صندوقًا جميلًا من النحاس المطعَّم، ثم يُخرج من الصندوق منديلًا أدكن كان في قديم الزمان أبيض أو أحمر، فيفكه ويأخذ مما فيه قرطين من الذهب المنقوش مرصَّعين بالماس، فيرفعهما بالإبهام والبنصر أمام السيدة، ثم يمسحهما بطرف المنديل، ويقدمهما قائلًا: حلَّت البركة. فتتناولهما باسمة شاكرة، وتربطهما بطرف منديلها، ثم تفك الطرف الآخر وتدفع ثمنهما ذهبًا وفضة، ثم تنهض وتمشي، ولا تبالي بما قد يكون لصق بثوبها من وسخ المكان.

قال رفيقي الأديب البغدادي، ونحن نمشي في تلك السوق المسقوفة ذات الدكاكين الدُّكن والجواهر الثمينة: إن المياه في الشتاء تجري فيها كالساقية، فتستمر الأشغال مع ذلك ولا أحد يبالي. وقد يكون هناك يومئذ الرجل الذي يحمل دكانه في عبِّه، وهو جالس — كما رأيته — على الأرض وظهره إلى الحائط، وأمامه منديل مفروش وميزان صغير. قد يكون هذا التاجر بالحي هناك في اليوم الماطر، إلى جانب الساقية، وهو ينتظر الرزق من كرم ربه.

figure
في سوق الصفارين (تصوير الدورادو).

أتقول، أيها القارئ: إن ما شاهدناه في سوق الصاغة أو سوق الصفارين، لا يُستغرب في مدينة شرقية قديمة كبغداد، تعال إذن! ليس في أحياء الفقراء بلندن أو نيويورك أو بمباي، على ازدحامها، وقذارتها، وظلماتها، وفساد الهواء، وفظاعة الحياة فيها، ما يفوق ما ستشاهده في الخان الذي نسير إليه.

هو خان تلْكَيف وهو من أوقاف بغداد. بناء مربع، ذو طابقين وصحن كبير مكشوف، حوله صفوف من الحجرات الصغيرة المظلمة، الشبيهة بالأكواخ. وفي كل كوخ عائلة لا تقل عن ثلاثة أنفس وقد تتجاوز الستة. وفي الصحن مرابط للدواب، فيلعب الأولاد بين حوافرها وبين الحمالين والمُكارِين، ويتلقنون منهم اللغة التي أسمعتُك نموذجات منها، من فم البائعة والشحاذ.

كان مستشار الأوقاف يومئذ الرفيق الدليل، فسارعت النساء إليه شاكيات متظلمات. وما شكون الازدحام والمقاذر، وما شكون صياح المكارين وروائح المرابط، ولا شكون دخان الجيران والأوساخ التي تُلقى في الإيوان؛ إنما لفتن نظر المستشار إلى جدار يتداعى أو إلى باب لا قفل له ولا مزلاج، أو إلى قسطل ماء مسدود أو مكسور، أو إلى سقف تتساقط أخشابه. وجاءت إحدى النساء تحمل ثلاث آجُرَّات، وتقول: إنها سقطت على أولادها وهم نيام، ثم كشفت رأس أحدهم تُرينا الجُرح فيه.

وكنا، ونحن نمشي في الإيوان، نرى النساء أمام أكواخهن يقمن بأشغالهن البيتية: يغسلن الثياب، يشببن النار، يخبزن، يطبخن، يرضعن أطفالهن. ومنهن من كن يمشطن صغارهن فيقع القمل في أحضانهن، وعلى الأرض حولهن. وهناك في وسط الصحن «مُزيِّن» يحلق رأس أحد الرجال، وينثر الشعر وما فيه من «المتحركات» بين أرجل الصبيان، وهم يلعبون، ويغنون، ويصيِّحون، ويفحشون في ألفاظهم.

إن مدخل الخان كمدخل القلاع عميق مظلم، وإلى جانبيه بضعة خروق لا يتجاوز الواحد عشر أقدام عرضًا، ومثلها طولًا، ومثلها علوًّا. هي كذلك للسكن. وقد استوقفتنا امرأة هناك، جاءت تحمل طفلًا على صدرها وتقول للمستشار، وهي تومئ إلى أحد تلك المآوي، إن أُجرته ثماني روبيات كل شهر، وهي لا تستطيع أن تدفع أكثر من خمس، وترجوه أن يأمر بالتخفيض. فوعدها خيرًا.

•••

قلت: خان تلكيف من الأوقاف. والوقف في التعريفات هو «حبس العين على ملك الواقف والتصدق بمنفعته». ومَن أجدرُ بالصدقة يا ترى من هؤلاء البؤساء. ولكن للأوقاف إدارة هي على ما يظهر مثل إدارة الشركات المالية. لا روح لها، ولا قلب، ولا عين غير تلك التي ترى الأرقام، وتعد الأموال. ومن هذه الأموال ما هو مخصص بالمساجد فلا يُصرف في غير سبيلها. وفي المساجد من فضل ربك ما لا يجده البائس الفقير في بيته، أو في حيه، أو مدينته. المساجد هي الملجأ اليقين، والميناء الأمين، ملجأ الأتقياء والأغنياء والأشقياء والمتشردين. وميناء كل ذي وزر ثقيل وأمل دفين. فالحمد لله أن في بغداد أوقافًا يُحبس بعض ريعها، وإن كان من دم الفقراء، على هذه الأماكن المقدسة التي هي لجميع المؤمنين.

وكان المؤذن في مأذنة جامع الحيدر خانة يؤذن الظُّهر، وكانت قباب الجامع في شمس الظهيرة تشع وتتلألأ، فيبدو الأصفر خلال زرقتها كالذهب على طبق من اللازورد. وكانت مياه الشاذروان في صحن الجامع تتناثر كالفضة. وكانت الرحبات الهادئة والظلال الناعمة تبدو من الباب كأنها من لدن الرحمن، وهي تلوح للمارين أن ادخلوا آمنين.

دخلنا فإذا نحن في الصحن المبارك، والهواء فيه نقي كالنور وكل ما فيه منعش كالهواء. مكان رحب نظيف شريف هو للغني والفقير على السواء. وهناك ما هو فوق ذلك في المكرمات. هناك داخل الصحن، في الجامع تحت القبة اللازوردية، عين السكينة وروح السلام. هناك البحر الإلهي الذي تغرق فيه — ولو إلى حين — دنيا الهموم والأحزان البشرية.

ما رأيت في جمال بغداد — وما أقله بعد نهر دجلة وضفتيه! — مثل ذاك الجمال الفني في قباب جوامعها، ومثل هذا الجمال الروحي تحت القباب. وليس الذهب في حاجة إلى التذهيب. سأمسك اليراع في الإفاضة إذن، وأكشف لك ناحية مجهولة من نواحي الفن في صناعة كادت تضمحل. أنت تسمع — وقد تكون عالمًا — بما يسمونه خزف الرقة. وقد لا تحتاج إلى من يزيدك علمًا بما كان للعرب في الأندلس من المهارة والذوق في صناعة الآجر الملون المصقول، الذي كان يدعى الزُّلاج (زلج: زلق). إنما المدهش أن لا يبقى في بغداد لهذه الصناعة أثر يُذكر.

تعالَ ندخل المعمل في جامع الحيدر خانة، وذلك الجمال في القباب والمآذن إنما هو منه. ها هنا المدهشات، وخصوصًا لمن كان منذ ساعة في سوق النحاسين، وأول المدهشات النظافة التي لا نتوقعها في مَن يلعب بالتراب والأصباغ. النظافة ثم الترتيب ثم الإتقان. وربُّ المكان هو ربُّ هذه الفضائل كلها، التي ورثها، كما ورث الصناعة، عن أبيه، عن جده، إنما لا يذكر إلى كم جيل من آله تعود، وما يدريك! قد يكون الأستاذ من سلالة أحد أرباب هذه الصناعة في الرقة أو في الأندلس.

هو شيخ في العقد السادس، ومعه ابنه يتعلم ويساعده ليحسن استخدام الإرث الثمين، وإنه على سنه يعمل مجدًّا فيشرف على كل فرع من فروع هذه الصناعة التي تبدأ بخلط التراب والرمل، وتنتهي بالاستواء. وهو نفسه يصنع الأصباغ، وجلها من الأزرق اللازوردي والأصفر العصفري، وليس فيها شيء مجلوب. ليس فيها أصباغ كيماوية غير التي يصنعها من التنك والزجاج، إذا صح أن يُدعى هذا المزيج مزيجًا كيماويًّا.

أذِن لنا بالدخول إلى غرفة الأصباغ، وفيها ركام من صناديق التنك، والقناني المكسرة، والرصاص. وفيها آلة هي كالجاروش من حجر، وأخرى من حديد، فبعد أن تُجرش المواد وتُطحَن، تُذاب بالماء، وتوضَع في مواعين فوق النار لتغلي، ثم تنقل إلى الشمس لتجف، فتُفَتت بعد ذلك وتُمزج بالزيت فتغدو صِباغًا.

ومن مدهشات هذا المصنع أن رجلًا واحدًا يقوم فيه بالأعمال الأساسية كلها. فهو الطيان، وهو الصباغ، وهو الرسام الفنان. ولا بأس برسومه التي تشتمل على أشكال هندسية، وأخرى نباتية. وهاك السلَّم في عمله. فبعد أن تُصنع الآجُر وتُشوى، يصبغها، ويرسم عليها الرسوم، ثم يعيدها إلى النار، فيعمل اللهب بالألوان عمل الشمس بالغيوم المذهبة والمفضضة. فيُذيب اللون الواحد فتبدو في حواشيه ألوان منه فرعية ناعمة ناعسة. وبكلمة أخرى تتشبح الألوان فترق، فتظن، وأنت تعجب بها، أنها دُهنت بريشة فنان ماهر.

أما لون الرسوم في بناء القباب والمآذن بهذا الآجر فهو غالبًا مركب من الأخضر أو الأزرق على صفحة من الأصفر الذهبي. أو أن الخطوط والأهِلَّة من هذا الأصفر تتخلل أحد اللونين الأولين.

بقي أن أقول إن هذه الآثار الفنية في قباب الجوامع ومآذنها هي، على ما يظهر، ثابتة طويلة الأجل، فلا الشمس ولا العوامل الطبيعية الأخرى تضر بألوانها. ولا عجب، فقد دخلت النارَ مرتين. وإذا ما صال الزمان على تلك القباب في المستقبل فهدَّمها، فإن الأثريين ليجدون الآجرَّ في الردم وتحت التراب، كما يجدونه اليوم في حفائر سلوقية وأور، فيغسلونه، فتبدو الألوان فيه وقد أكسبها الزمان مسحةً عجيبة. كذلك فعل الزمان في البلاط الذي كان يزين قصر الزهراء بقرطبة، ذلك البلاط الجميل، الفريد بتشبح ألوانه المعروضة أمثلة منه في المتحف البريطاني بلندن، وفي قصر اللوفر بباريس.

•••

ومن الصناعات التي اشتُهر بها العرب في الماضي، ولا يزال منها أمثلة في بغداد، صناعة الحفر في الخشب، وهي عربية بحت، وصناعة الزجاج المركب في إطارات مذهبة، وقد أخذوها عن الفرس. وفي بغداد اليوم بيت قديم، يقال إنه سَلِم من النكبة الأخيرة؛ أي إنه يتجاوز المائة سنة، فيه من الصناعتين أثر حسن سليم. وفيه أيضًا ما يعيد إلى الذهن، في هندسته وفي زينته، صورًا وذكريات لتلك الدُّور التي خُلدت في كتاب ألف ليلة وليلة.

على أن مدخل البيت أو صحنه الصغير، يزيل ما في النفس من بهجة الشوق والخيال، فقد صُدمنا لما دخلنا بتجارة من التجارات الحديثة، يتمثل دورٌ منها في حلقة من النساء جالسات على الأرض حول ركام من جوز العفص. وهذا الجوز يجيء من الغابات في جبال الموصل، فتنقيه النسوة العاملات، ويهيئنه للشحن إلى لندن وبرلين؛ لتصنع منه هناك الأصباغ. التجارة في الباب.

ولكنا صعدنا إلى الطابق الثاني مسرعين، فإذا نحن في غير بغداد اليوم. أجل، قد انتقلنا انتقالًا عجيبًا إلى دار من دور بغداد القديمة، التي نجت من النكبات كلها.

وما هذه الردهة التي يعلو جدرانها الخشب المحفور المدهون أشكالًا نباتية، وهندسية، المزين سقفها بالإطارات الذهبية المرصعة بالمرايا، القائم في نوافذها الزجاج الملون تقيه الشعريات الدقيقة الصنع، ما هذه بردهة تركية أو سلجوقية أو بوَيهية.

وما هذا الإيوان، وقد تكاثفت فيه، وتداعت لقدمها، الصناعات الثلاث — صناعة الخشب، وصناعة الزجاج، وصناعة النقش، الرسم والتلوين — ما هذا بإيوان أحد الولاة العثمانيين، ولا هو بإيوان كبير من آل بوَيه.

عفوًا أيها القارئ! ما نقلني إلى عهد العباسيين أثر قديم في بغداد مثل هذا الأثر الجميل البهيج. وما هو كذلك بنقشه وزخرفه فقط، بل بشوارد هندسته، التي يظهر أنها بنت الصدف والحاجات. كأن الحجرات والأيونات قد نمت في هذه الدار، كما تنمو غصون الأشجار، أو صخرات المرجان في البحار.

هي حقًّا دار الخبايا والخفايا، دار الأسرار والأحلام، وعجائب الليالي والأيام. كنت وأنا أنتقل من حجرة إلى حجرة، ومن رواق إلى رواق، ومن مَمَر مظلم يطل على فراغ أظلم، أحس أني في شباك من السحر والاستغواء.

ها أنا ذا في بغداد هرون الرشيد، في بيت من تلك البيوت المسحورة، المقيدة بمشيئة الغرام العليا، المخلد ذكرُها في ذلك الكتاب الأوحد، كتابنا العربي الخالد، الذي قال فيه أحد المتنطعين المتحذلقين من الأدباء الأقدمين، إنه كتاب قصص بليدة. وهو اليوم من آداب العالم الخالدة، يقرأه الإنكليزي والألماني والفرنسي والياباني كما يقرأه — أو كما ينبغي أن يقرأه — العربي، مكبرًا فيه العبقرية المبتدعة الساحرة.

إن الغريب ليضيع في تلك الدار. لا يستطيع، وهو يتغلغل فيها، أن ينبذ من ذهنه ذكر الكتاب الشهير، وأماكن القصص البغدادية فيه. ولا عجب، في مثل هذه الدار جُن أخو الحلاق وهو يطارد عاريًا تلك اللعوب الحسناء، التي قادته من باب إلى باب وهي تعدو أمامه، حتى أمسى وهو في تلك الحال في السوق. وإلى مثل هذه الدار دخل الحمال بحمله، فإذا هو بين ثلاث حور ضجرات، يشتهين من يلاعبْنه ويلاعبهن. ومن الباب الخفي، في مثل هذه الدار، كان يجيء الجني ليحمل المبنَّج والمبنَّجة إلى الظلمات الأبدية، أو إلى أحد فراديس الشوق والهُيام …

وخرجنا بعد التطواف من الإيوان، ونزلنا الدرج إلى صحن الدار، فإذا نحن في بغداد اليوم؛ حيث النسوة العاملات ينقِّين جوز العفص لمعامل الأصباغ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤