الزيارة الثانية

قلما يرحب الكاتب بالنعمة التي تجيئه في ما يقطع عليه عمله، وقلما يدرك قيمتها. وإن أدركها، فهو لا يتوقف عن التأليف، إذا كان شراع الفكر منصوبًا للريح، وكانت الريح مواثبة. أما الآن فالأمر بالتوقيف هو شبه عسكري، فلا تحول دونه ريح أو شراع.

من طالع كتابي «ملوك العرب» يذكر — ولا شك — الشيخ قسطنطين يني، رفيقي الكريم في رحلتي اليمانية، فقد كان يومئذ الملازم يني، وكانت له في الحجاز مساعٍ وآمال عربية، ما أدرك قدرها الملك حسين — رحمه الله — لينتفع وينفع العرب بها. فأقلع الرفيق من الحجاز محوقلًا، وبعد الأسفار، في الهادئ والمضطرب من البحار، رسا في بيروت، واعتنق مذهبًا من المذاهب الاجتماعية القديمة، التي لا تزال محترمة، فأضحى زوجًا، وأضحى أبًا لابنتين، يحمل صورتهما وصورة أمهما في جيبه على الدوام. وهو ينظر إلى صديقه في الجبل، إلى أخيه الأمين، نظرة الحزين؛ لأنه لا يزال من المحرومين، الزوج والبنين. ولكنه محب لبنات أفكاره، معجب بها، وبنشاطه في التوليد، ويروح ناشرًا، على عادته في النشر والتبشير، خبر المولود الجديد قبل أن يتكون في بطن الأوراق.

وهاكم الآن قصة الشراع المطوي. بينما كنت أكتب الفصل السابق، اجتمع الملازم يني بالملازم راسم سردست، أحد رفقائه في الحجاز. والملازم سردست بدأ حياته العسكرية في المدفعية التركية. وكان من المستبسلين في الثورة العربية، ومن أخلص المخلصين للسدة الهاشمية، وكان أحد أربعة من ضباط العرب منحتهم الحكومة البريطانية رتبة DSO، لاستبسالهم في محاربة الأتراك في الحجاز وشرق الأردن. أما الآخرون فهم نوري السعيد وجعفر العسكري ومولود مخلص، ودخل الشام مع العرب الفاتحين، وهلل مع المهللين، وكان من المحزونين، وراح بعد ذلك يداوي جروحه في تجارة السيارات ببغداد.

وكان الملازم سردست قادمًا من العراق يوم اجتمع به الملازم يني، فأخبره بما يشغل قلم الأمين، فرفع يديه إلى السماء مستعيذًا بالله، وقال: يجب أن نزوره حالًا وننذره.

وفي اليوم التالي، شرَّف الفريكة الملازمان الكريمان، فرحبت — على المفاجأة — بهما. كنت لا أزال أذكر الملازم سردست، وقد اجتمعتُ به في جدة يوم كان ياورًا للأمير «زيد»، وأذكر ما هو أهم من ذلك. كان عرش «الحسين» في تلك الأيام قائمًا على صخر رملي، في بَحْرة من التزلف والمداجاة، وما كان بين الأصوات التي كنت أسمعها هناك غير بضعة أصوات للصدق والحرية، منها صوت سردست عندما كان يُستَدرج للحديث، وصوت يني المسموع العالي على الدوام. وما تغير الاثنان. لا التجارة أطلقت لسان الأول، ولا الزواج عقل لسان الثاني. ولكن الملازم سردست — وهو صاحب الرأي في المشروع الحاضر — باشر الحديث، فقال: يجب عليك، يا أستاذ، أن تزور بغداد مرة أخرى قبل أن تكتب كتاباتك. فإذا عولت على مذكراتك ومعلوماتك منذ عشر سنين تخطئ والله، ويجيء الكتاب ناقصًا؛ فقد تجددت أشياء، وتغيرت وتطورت أشياء كثيرة، لا يجوز أن تكون جاهلها. يجب عليك أن تقف في عملك إذن، وتسافر غدًا معي. سنعود في الطيارة، خمس ساعات في الجو، لا غير.

فقال الملازم يني بشيء من الحماسة: «سأسافر معك، وحياة سميرة. ماذا؟ أتسافر وحدك؟ مستحيل! فمن يا ترى يساعدك في عملك؟ ومن يعتني بشئونك، ومن يوقظك في الصباح؟ ومن ذا الذي يحافظ على صحتك وسلامتك — وكيسك؟ لا، وحياة سميرة، لا تسافر وحدك. رجلي ورجلك سواء. نعم، إني مستعد للسفر غدًا.»

اقتنعت وما تحمست. فللأسفار في هذه الأيام — إن كان في البلاد العربية أو الأوروبية — أنظمةٌ وآداب لا بد من مراعاتها والعمل بها. فكيف أهبط على بغداد فجأةً من الجو؟ وكيف أسافر إلى العراق دون أن أكتب إلى جلالة الملك مستأذنًا؟

كتبت إلى الملك فيصل — رحمه الله — فجاءني منه ذلك الجواب الجميل،١ وهو ينذرني فيه أنه سيأسرني في بلاده التي دعاها تلطفًا بلادي.

وكنت بعد أيام أُعد حقائبي للسفر، وكان الشيخ قسطنطين يسعى لإتمام الشكليات الرسمية التي تتعلق بالجوازات وغيرها من المزعجات. وقد فضلت أن أظل قريبًا من الأرض هذه المرة، فلا يفوتني شيء مما جدَّ أو تغير حتى في طريق الصحراء.

•••

رحلنا عن بيروت، في أصيل يوم مشرق مُدفئ من أيام شباط سنة ١٩٣٢، ورحنا نطوي طريق الجبل طيًّا، فمررنا بعد نصف ساعة بمدن الاصطياف التي كانت وقتئذ مستكنة متقشفة، مثل الحلزون في صدفه، والتي ستغدو بعد شهرين، قطب اللذات والطرب، مستجنَّةً للناس، مستعينة عليهم بالوسواس الخناس.

هدرت السيارة في جوار تلك المدن الهادئة، وفي أسواقها الساكنة المهجورة، فارتفعنا عند ظهر البيدر خمسة آلاف قدم فوق البحر؛ حيث كان الثلج والشمس يتعاونان في تعديل طبيعة الهواء.

وكان ذلك اليوم ثابتًا في كرمه وإشراقه، فما تقلَّب حتى في تقلب المناظر ودرجات العلو، بل ازداد جمالًا عندما أطللنا على سهل البقاع — ٢٥٠٠ قدم دوننا — وقد فُرش بالطنافس الخضراء والصفراء والبنية. وهناك بين صفوف معوجة من الصفصاف، تنقطع ثم تتصل، يظهر ويختفي الخط الفضي الرقيق، نهرُ الليطاني، فيبدو حينًا كالسهم، وحينًا كالهلال، في طريقه إلى البحر. وفي آخر السهل الجبل الشرقي، وقد قل فيه الثلج والاخضرار، فهو جاهم مانع، إلا في منعطفات أوديتهِ؛ حيث طريق الأسفلت تنساب بين البطاح.

وبعد ساعة من سهل البقاع، لقينا الجمال الحي الطروب في المياه الجارية والبساتين، إنما الأشجار كانت لا تزال في إغفاءة الشتاء، وكان نهر بردى لا يزال مكفهر الجبين مما تثقله به السيول.

ذلك مدخل دمشق الغربي، وفي صباح اليوم التالي، بعد أن بتنا في المدينة، كنا نسير في ظل الجمال الذي يزدان به مدخلها الشرقي. أما الجمال نفسه فإنما هو الغوطة السندسية، وقد كان على وجهها نقاب رقيق من أنفاس الشتاء الجامدة. مررنا بين بساتين من المشمش والجوز دكناء، وحقول للكرمة والقنب غبراء سمراء، وبعد أن اجتزنا النيف والعشرين ميلًا منها، دخلنا فجأةً في الأرض اليباب، فانكشف لنا فراغ البادية، بل تشبَّح أمامنا هول الشول.

وهناك من هذا الهول وذلك الفراغ خمسمائة ميل ويزيد، لا ينقطع حبلها إلا في وادي حوران، الذي يشق بادية الشام من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي — من الفرات إلى الجوف — وفيه الحيا؛ أي الماءُ والكلأ، لمن ينشدونه من البدو.

بعد أن نخرج من الغوطة، ونجتاز مسافةً لا تتجاوز عشرة أميال، نصل إلى مخفر حديث البناء يُدعى أبا الشامات؛ حيث تستوقفك الحكومة السورية الانتدابية لتنفذ فيك أوامر ثلاث من دوائرها، هي دوائر الجمرك والشرطة والاستخبارات. فهل تحمل شيئًا في حقائبك فُرض عليه رسم جمركي؟ وهل تحمل جواز سفر مقبولًا لدى الحكومة التي تحمل بعض أثقالها، أو لدى القنصل الذي تنتمي إليه، ولا ينتمي هو إليك؟ وهل أنت ممن تأذن لهم دوائر الشرطة والتحري والأمن العام بالخروج من البلاد أو بالدخول إليها؟ هذه المسائل تُصدَم بها عند بئر الماء، على حاشية البادية؛ حيث ابتُني مخفر أبي الشامات. تعسًا لحكومات هذا الزمان التي جعلت أكل النار أهون من الأسفار!

منذ عشر سنوات دخلنا دمشق سالمين، بعد أن اجتزنا البادية آمنين، وما كان على الباب شرطي أو دركي أو عبيدُ مستشارين. فالمخفر في أبي الشامات إذن هو شيء جديد غير سعيد.

وهناك جديد آخر لاحظناه، إلا أنه من حسنات الطريق. منذ عشر سنوات كانت السيارات تخرج من دمشق أو من بغداد لتجتاز البادية في أي يوم كان من الأسبوع، على شريطة أن تكون مصحوبةً بدليل. فما كان قد أُنشئ خفر البادية، وكان المسافرون عُرضة للعصابات أو للشاردين الناهبين من البدو.

أما الآن فلا تخرج السيارات إلا في يومين معينين كل أسبوع، فتسير كلها قوافل، يُضمَن فيها التعاون إذا تعطلت إحداها، وتضمن سلامة الركاب وأموالهم دوريات شرطة البادية.

ما بقي إذن من الأخطار غير اثنين! الواحد من الطبيعة، والثاني من الإنسان. أما الأول فهو جنون البادية، ذلك الجنون الذي يخشاه حتى أبناؤها. هو هول الشول بعينه. هو جنون الرياح العاصفة. هو «إعصار فيه نار» وفيه ما هو أشد بلاءً، إعصار يحمل من الرمل والتراب ركامًا، فيضيق على المسافرين الرحبات، ويسد مواطن النظر كلها. إعصار يعمي الأبصار. وما هذا كل شره. فهو إذا لقي قافلة في طريقه، وكان سائق إحدى السيارات ضعيف النظر أو العصب أو القلب، وغير ماهر في مهنته، فتهتز يداه القابضتان على الدولاب، فتدور السيارة بجنبها للمهب، بدلًا من أن تظل سائرةً وإياه في خط مستقيم، مُدبرةً أو مُقبلة — إذا كان الأمر — كذلك ينفخ الإعصار في جوف تلك السيارة، وتحت أنفها، فيرفع بها عن الأرض، ويقذفها قذفةً فيها الدمار والموت.

أخبرني من شاهد مرة إحدى السيارات في مثل هذه المحنة. فكان الإعصار يعصف فيها عندما جنَّبت، فرفعها فوق الأرض، وقذف بها بضعة أمتار من الطريق، فحطمها وقضى على كل مَن فيها.

أما الخطر الثاني: فهو من طمع الإنسان المتاجر بالأسفار، ومن جهل المسافرين، أو من رغبتهم في توفير دريهمات من المال. فإنك لتعجب وتحزن إذا رأيت سيارة من سيارات الشركات الوطنية، حاملة ستة من الركاب، راكمة حقائبهم وصناديقهم، ليس إلى الوراء وحول الخزان فقط، بل إلى الجنبين، على طول الدرجتين حتى مستوى سقفها، فتسد كل الأبواب، إلا واحدًا لا غير. فماذا يفعل الركاب إذا ما فاجأهم الخطر؟ إذا انقلبت السيارة، أو اشتعلت بها النار من عود ثقاب مشتعل يُرمى إهمالًا بين الحقائب، فكيف يخرج الركاب والسائق، كيف يخرجون مسرعين لينجوا كلهم بأنفسهم؟!

figure
طريق الصحراء (تصوير الدورادو).

كانت في موكب ذاك اليوم خمس سيارات مشحونة، مزدحمة، مسدودة الأبواب كما وصفتُ، وسيارتان كبيرتان تحمل الواحدة عشرين راكبًا، كراسيها معدودة، فلا سبيل للازدحام فيها، وسطحها مُعَد لأمتعة الركاب، ثم ثلاث سيارات شحن، منها واحدة تحمل البريد. والموكب يسير غالبًا في وقت واحد.

هذا النظام في السير هو من حسنات السفر بين سوريا والعراق. فهو يذهب بهول البادية، إلا في عواصفها، ويزيل وحشة الطريق وأخطارها. ولم يبق من حاجة إلى دليل. لقد أضحت الطريق معروفة من آثار الدواليب فيها، وكثيرًا ما تسير السيارتان والثلاث في صف واحد، مقابلة بعضها البعض، ويطلق للسبق البنزين.

وهناك غير هذا الجديدُ المفيدُ. هناك الأنصاب إلى جانب الطريق، وما هي بعيدة بعضها عن بعض، تنبئ المسافات، كيلومترًا في الناحية السورية، وميلًا في الناحية العراقية، وتزيد بالاطمئنان. إنما هي الدليل الصادق اليوم. أو هي وأثر الدواليب تهدي السائقين فلا يتيهون، ولا يضلون السبيل.

•••

لقد مُدنت البادية، وأهم ما تغير وأُنشئ فيها، إنما هو في الرطبة. هناك، شرقي وادي حوران، في قلب الشول، في منتصف الطريق، بين دمشق وبغداد، آبار الماء، التي لم يكن يعرفها منذ عشر سنوات غير البدو، بل الإدلاء من البدو.

تلك الآبار يكنها العراء، ويحيط بها الهول العاري، فلا شجرة ولا صخرة ولا شعيب ينبئ بها، أو يدل عليها. تلك الآبار هي إرث البدو، أيًّا كانوا، ومن أي قفر جاءوا، يسوقون أغنامهم وقوافلهم إليها. وكل مَن وردها كان يحمل دلوه وحبله. وإلا فلا سبيل إلى الماء، ولا حيلة.

فلو وردها جماعة من البدو، ولا حبل معهم ولا دلو، وكان على الماء من معهم الاثنان، وكانوا معادين مانعين، فلا بد من قتالهم وغلبتهم؛ ليصيروا من أبناء الرحمة والمعروف. وكم من معركة شبت نارها حول هذه الآبار بين أبناء البادية المتغازين الذين هم «قوم» بعضهم لبعض؟ كذلك كانت الرطبة، رحمة من الله مدفونة في الشول، تحف بها الأخطار، ويحميها الموت.

وما هي اليوم؟ إذا كان الثناء على الإنكليز في هذا الشرق يستوجب الشجاعة، فإني مجمع الآن ما عندي منها وبادئ باسم الله. يقول الوطني العربي: إن الإنكليز شيدوا هذا البناء — هو مخفر وحصن ونزل ومركز لاسلكي — لحماية طائرات الإنكليز، لمصلحة الإنكليز، لراحة الإنكليز لا غير. فيا أخي العربي الوطني، إنك لتغيظ، وإنك لتستنفد صبر الصابرين. فإن كانت العاطفة الوطنية شريفة، فذلك الشرف يزول إذا كانت العاطفة عمياء. وإن كان العداء للمستعمرين حقًّا وعدلًا، فإنهما يفسدان، إذا لم يكن لذلك العداء فكر وحكمة ووجدان. وإذا كانت المقاومة للحكم الأجنبي واجبة — وهي كذلك — فإنها تفقد القوة والروعة والتأثير إذا ظهرت في مظهر التحامل والحماقة.

إن الرطبة اليوم مرفق عراقي في إدارة وزارة الأشغال والمواصلات العراقية. وهو كنزل يستوجب التحسين. فالأثاث رثٌّ على جدته، والمرافق وسخة، والطعام معظمه مما يجيء بالعلب مما وراء البحار، والخدمة عراقية، والأسعار إنكليزية. قد يكون ذلك كله من سوء الإدارة — الحكومة تؤجر النزل — وقد يكون من نقص في الميزانية. فالركاب الوطنيون قلما يبيتون أو يأكلون في النزل، والأوروبيون قليلون. على أن النظافة مع ذلك ممكنة، وهي لا تستوجب غير إرادة المدير وحزمه، فيقوم الخدم بأعمالهم ويحسنونها.

أما من الوجهة الفنية، فإن المكان يشهد على علم من تولوا البناء، وعلى عزمهم ونشاطهم. وفي الشرق الشمالي من هذه البادية مدينة من الحجر ضخمة متهدمة، بنيت عهد الدولة البرثية، في الحروب بين البرثيين والرومان. إنها مدينة الخَضر، وهي أفخر وأعظم حتى في خرائبها من الرطبة. ولكننا لا نحتاج اليوم إلى أسباب الدفاع القديمة — أسوار ضمن أسوار تحيط بها الخنادق، وبروج فوق بروج تحميها الحصون — لا شيء من هذا في الرطبة.

ولكن فيها كل أسباب الدفاع الحديثة. فإذا جاء العدو من الجو، يصعب عليه هدم هذا الحصن المنخفض الوديع؛ لأن سطحه المزدوج المصفح يرد القنابل خائبة خاسرة. وإذا جاء العدو من البادية فالجدران الخارجية السميكة، الخالية من النوافذ، لا يخرقها رصاص البنادق، وقلما يصل إليها رصاص المدافع. هو ذا علم اليوم وهو ذا عمله. فهل يصغران يا ترى بالمقارنة بينهما وبين العلم والعمل في الماضي؟ من الجهة الشكلية، نعم. أما من الجهة العملية، فلا، تلك هي الحقيقة. فمثلما جلب الرومان إلى قلب البادية الحجارة الضخمة، والعمد الكبيرة، كذلك جلب الإنكليز قطع الفولاذ، وجسور الحديد، وأدوات العلم والدفاع. فمن وراء السور على السطح تنطق المدافع الرشاشة، ومن غرفة اللاسلكي يبرق نداء الاستغاثة إلى بغداد والقاهرة أو إلى لندن.

تلك هي الرطبة. قد كانت أمس بئرًا مختبئة في بطن الأرض، يتقاتل ويتذابح حولها البدو، وهي اليوم السقاية الكريمة — ولا دلو ولا حبل — والملجأ الأمين، للبدو وللطيارين، وللسائقين والمسافرين، من الإنكليز كانوا أو من العرب، أو من النوبيين. تلك هي الرطبة. قد كانت أمس الهول المجسم، الهول العاري الأعمى الأصم، فلا يُرى غير الدلو، ولا يلين لغير الحبال، وهي اليوم ذات عين تبصر، وصوت ينطق، وعقل يفكر، وقلب يعطف ويحنو. فهي تسمع صوت الإعصار يزمجر وراء الآفاق المشرقة، وترسل أصواتها المنذرة إلى ما دون الآفاق. هي تهدي الطيارين فلا يضلون، وتحذرهم من العواصف فتقيهم أخطارها. وهي للمسافرين نعيم ساعة على الأقل، وللواردين المستقين عونٌ على الدوام.

وإن في الرطبة ما يسلي ويطرب حتى أخي العربي الوطني. عندما دخلنا ردهة الاستراحة، الساعة العاشرة من الليل، كان الوقت بلندن وقت الشاي؛ أي الساعة الخامسة بعد الظهر، وهي ساعة الإذاعة اللاسلكية. وكانت في الردهة آلة الراديو مفتوحة ترحب بنا بقطعة من «عائدة» لفَردِي، كانت تُعزف في تلك الفينة بلندن، يعزفها جوق كبير على معازفه الخمسين. ورأينا بعض المسافرين يطالعون الجرائد، وبعضهم يشربون الويسكي أو الشاي، وهم يستمعون إلى لندن تغني! لندن في الرطبة، وكانت الرطبة بالأمس ثُقبةً في ظهر الشول.

•••

شئتُ أن نبيت في الرطبة، وشاء الرفيقان أن نصل إلى بغداد صباحًا، فقلت: ضعيفان يغلبان قويًّا، فكيف بقويين. في الساعة الحادية عشرة إذن نهضنا للإسراء.

وأين السيد يحيى؟ نعم، إن سائق السيارة وصاحبها لسيد من السادة، سيد كبير من بغداد، عريض المنكبين، عريض الصوت والدعوى، يعنجر ويزنجر، ويلف حول لبادة رأسه خمسة أذرع من الكشمير الهندي. ما كان في تلك الساعة على مرأى أو مسمع منا! فراح الشيخ قسطنطين ينشده ويناديه. ولقسطنطين صوت يعلو صوت السيد ويجعله بالمقارنة أنثويًّا. سمعته وهو واقف في بوابة الحصن يرسل ذاك الصوت في الليل — يسخِّر الليل — ليحمله إلى السائق السيد حيث كان، ويبرزه للوجود. يا سيد يحيى! يا سيد يحيى!

وكان لا يزال نور السراج يُبصر في المقهى خارج الحصن، وكان أحد الحراس عند البوابة، فقال لقسطنطين: «خفف عنك، وامشِ إلى حيث النور، فتسمع السيد يغط قبل أن تصل إلى المقهى.»

بعد دقائق رأينا السيد يجر نفسه وراء قسطنطين، وهو يلف أذرع الكشمير على رأسه وحول أذنيه، ثم لبس معطفه المبطن بصوف الغنم. ولا عجب. إن برد البادية في الليل لأشد من برد الجبال، والرطبة لا تفرق كثيرًا عن دمشق في علوها — ٦٥٠ مترًا — عن سطح البحر.

لذلك اقتدينا بالسيد، فلبسنا لليلة شباط وريحها أثقل ما عندنا، ونحن نردد متورعين الكلمة التي كان يرددها قبل أن يضع يديه على الدولاب: توكلنا على الله!

ولكننا بعد نصف ساعة من السير، أحسسنا بأن يد السيد تهتز، والسيارة تتذبذب في العراء المجهول. فصاح الشيخ قسطنطين به أن قف.

– قف يا سيد، وفتش عن الطريق.

ثم نزل هو بنفسه يتحقق ظنه، فعدنا نحو خمسمائة متر إلى الوراء ننشد أثر القوافل السيارة.

قبل أن خرجنا من دمشق أطنب قسطنطين بمدح السيد السائق. هو أحسن السائقين في الشام وفي العراق، وهو رجل صادق شريف — من سلالة النبي — هو سيد! وكأني بالرفيق قد نسي ما كان من حظنا وأولئك السادة في اليمن. وهم — على زعمهم — خلاصة الخلاصة، زبدة السلالة النبوية. وقد كان رفيقي في نجد سيدًا كذلك، وما كنت في رفقته من أسعد الناس، فقد كان خمرًا في أول أمره، وخلا في آخره.

في تلك الساعة، وفي قلب البادية وشدة الليل والبرد، وددت لو أن سائق سيارتنا من غير السادة، فقد عادت اليد القابضة تهتز على الدولاب، وصرنا للمرة الثانية خارج الطريق. نبَّهنا إلى ذلك قسطنطين على عادته. فهو في الأسفار، ساعة الخطر، أكثر مَن عرفت تيقظًا وحزمًا. ولكنه — خذ الحقيقة بكاملها — أكثرهم تشاؤمًا. صاح بالسيد وفي صوته رنة الأمر والتوبيخ، فتوقف فورًا، ثم قال يخاطبه: هل أنت نائم؟

– لا والله.

– هل أنت نعسان؟

– لا والله.

– والله أنت كذاب. والله ستنام — كلنا ننام.

أظن أن السيد سلك ذلك المسلك ليصل إلى هذه النتيجة. نمنا كلٌّ في مكانه من السيارة، نحو ساعتين، نومًا متقطعًا. وكان الواحد منا، كلما صحا، يلعن ريح شباط، وبرد ليله، ذلك البرد الذي يخرق المعاطف كلها ويتغلغل في الأمعاء، فيقلصها ويزيد في تعقدها.

لزمتني الرعدة بعد أن استأنفنا السير، وأحسست بوجع معوي شديد. وعندما رجا الشيخ قسطنطين السائقَ أن يقف، كما كنت قد فعلت، ضحكت، على أَلمي، وسمعته وهو عائد إلى السيارة يقول: «هذه مذلَّة، وأية مذلة، أن يكشف المرء قفاه لهذه الريح القبيحة … وبي صداع أيضًا … بودي لو بتنا في الرطبة.»

كان الفجر ساعتئذ يتثاءَب ويتمطى، ففاجأته الشمس، وهي مثله كليلة أو عليلة. رفعت رأسها من بطن الأرض — من حافة السهل المنبسط أمامنا — بدون مقدمات، وهي أشبه بالقمر المغيوم، فما شعرنا بحرارة وجودها، إلا بعد ساعة من تشريفها. وكان السيد أول من استنشط فينا، فحاول أن يعوض عما كان من إِبطاء، فزاد بالسرعة حيثما استطاع. على أن الجانب العراقي من هذه البادية هو وعر، والطريق كثيرة الأخاديد.

وبينما كنا سائرين بسرعة تنيف على الثمانين كيلومترًا في الساعة، رأينا أعرابيًّا يلوِّح من بعيد بردن قميصه، ورآه السيد وما اكترث به، فتململ قسطنطين غيظًا. قسطنطين، الآمر بالمعروف، الناهي عن المنكر، على الدوام، وإن كان مكروبًا متألمًا، قسطنطين، حاضر الفكر، بعيد التصور، لله دره، فقد ذكر في تلك الفينة أن قسمًا من القافلة تقدمنا، وظن أن إحدى السيارات أصيبت بأذى، فأمر السيد أن يقف. قد يكون هذا البدوي قادمًا من قِبَل القوم مستنجدًا. وقد يكون هو نفسه في حاجة إلى إسعاف.

– وقِّف يا سيد. أما سمعت؟ أقول لك وقِّف!

وكان الأعرابي لا يزال يعدو ويلوِّح بردنه، فبتنا ننتظر وصوله. ولبثنا ننتظر، بعد أن وصل، رجوع النفس إليه، ثم قال إنه عطشان، يكاد يموت من العطش.

فجبهه السيد يحيى بهذه الكلمات: «يا ملعون، يا ابن الملاعين!»

فكشف الأعرابي عن صف من الأسنان كاللؤلؤ المنظوم.

– وماذا يصير في الدنيا، يا ابن السعادين، لو فطست؟

فابتسم الأعرابي ثانية دون أن يفوه بكلمة.

– وتضحك يا لعين. تضحك يا أبله البله، يا كلب البدو. لعنة الله عليك وعلى جدودك. خذ اشرب.

فابتسم الأعرابي ابتسامته الكبرى، ابتسامةَ العيد، وقبض على القربة بكلتا يديه، فشرب واشتفَّ وحَمْدَل، ثم مال بوجهه إلينا وقال: بأمان الله.

أما قسطنطين فكان يصرف بأسنانه، فقال للسيد بعد أن استأنفنا السير: «أما كان أجدر بك أن تسبه ولا تسقيه، أو تسقيه ولا تسبه، أوَ لا تخشى أن تعطش أنت ذات يوم في البادية، فلا تجد لا من يسقيك ولا من يسبك؟»

فأجاب السيد: «ما شاء الله كان، وما يشاء يكون. الله سبحانه وتعالى، أعطى اللعين الماء، وأنا، سبحاني، أعطيته ما يستحق.»

فأفحم قسطنطين وغُلب. إن «سيده» لصاحب ذكاء ودعابة. وما كره أناسٌ البدوَ كرْهَ السادة. وما كرههم أحدُ السادة كرْهَ هذا السيد؛ فقد استمر يقول: «البدو – البدو» ثم يبصق ويقول: «بعر الجمال خير من البدو، بعر الجمال يصلح للنار، والبدو لا يصلحون لشيء.»

كظم الشيخ «قسطنطين» ما أصابه من وقاحة «سيد السيارة» ثم أعاد الكرة عليه، وكان الحديث هذه المرة في السياسة، فسأله قائلًا: «ومن هوَ في نظرك الوطني الأكبر في العراق؟»

فأجاب بصوته الجهوري الغلاب: «الوطني الأكبر؟ إِه نا (أنا). والبرهان أني الوطني الأكبر، إني لست مثل أحد من الوطنيين. لا المال أبغي، ولا الوظيفة، لا أريد شيئًا من الحكومة. إه نا أحب وطني مجانًا لوجه الله.»

سكتنا جميعًا، وجاء نسيم الصباح مع نور الشمس ينعش ما زعزعت ريح السيد من يقيننا، ويداوي ما أصابنا من رياح الليل. فعاد إلينا شيء من حسن الظن بالكون، وبالسادة.

•••

من الرطبة نبدأ بالهبوط هبوطًا محسوسًا، وعندما نصل إلى الرمادي ينبئ عدَّاد الارتفاع بأن هذه البلدة العراقية، على حاشية البادية الشمالية، هي ثلاثمائة متر فوق سطح البحر. وفي الرمادي شيء مما نلقاه في أبي الشامات، إلا أنه أخف، ولا يد أجنبية فيه. فالمأمورون في دائرتي الجمرك وجوازات السفر كلهم عراقيون، وقد ألفيناهم على جانب من اللطف جزيل.

استأنفنا السير ساعة الظهر، ونحن لا نزال آخذين بالنزول، فعبرنا الجسر في الفلُّوجة، ودخلتِ السيارة بعد ذلك نعيم الزفت. ذلك النعيم الذي لا يدوم طويلًا في طرق العراق. إنما هو قِطع، أو حِتت، بلغة أهل مصر، من الزفت، تصلها بعضها ببعض الطريق القديمة الحافلة بالغبار والأخاديد. ومتى يتم نعيم الزفت؟ سألت السيد يحيى هذا السؤال، فكان جوابه أن «الوطنيين» في الحكومة مثل المستشارين، وأن المستشارين من سلالة البدو. وقد شنف آذاننا ببعض ألفاظه المنتخبة التي رمى بها ذلك الأعرابي.

على أننا شاهدنا في الطريق بعض العمال وأدوات العمل، ثم أخذت تقل لعنات الوصل، ويطول نعيم الزفت، في دنونا من بغداد، ومن مستوى البحر، فإن المدينة لا تعلو عن سطحه أكثر من تسعين مترًا.

عبرنا جسر الحديد الصغير الذي بناه الترك في أواخر القرن الماضي، وعيدت بغداد يوم افتتاحه وبعده عيدًا طويلًا مهلهلًا، وبعَيد ذلك وقفنا أمام البناية التي كانت ولا تزال الجمرك.

أمر المدير — وهو شاب أشقر أعمش — بأن تُنقَل حقائبنا كلها إلى غرفة الفحص، ثم دخل إلى مكتبه يتبعه الشيخ قسطنطين حامل الجوازات والسيد يحيى، وبينا كان يفحصها ويسأل سؤالاته المعتادة، سمعت أولًا صوت قسطنطين، ثم صوت السيد يعلوه ويمحوه، وسمعته يصيح: «اتق الله يا رجل، نحن ثلاثة، وما معنا غير ثلاث زجاجات.» الأمر أمر خمر.

ولكن المدير أصرَّ على ما يظهر، وما أَسرَّ السيد العنجري، الثلاث لواحد من الركاب الثلاثة — هذا ما يفترضه حضرة المدير، وافتراضه هو وفق القانون، ولمصلحة الجمارك العراقية — فعلينا إذن أن ندفع رسم الجمرك على زجاجتين من العرق. مدير مدقق — مدير يهودي. وسمعت السيد يقول وهو خارج من مكتبه: «يهودي أبو شمعة! لولا كرامتكم والله، لمرَّغت أنفه بالتراب.»

وعلى جسر «مود» استوقفنا آخرُ من أولي الوجوه البيض، والعيون العمش. وكنا قد شاهدنا بين المارين ثلاثًا من الحسان، يلبسن العباءَة دون الحجاب، فقال السيد بعد أن دفع رسم المرور، ولعن الوكيل: «وهذا يهودي أبو شمعة، ينصبونهم لنا في كل مكان ليلتقطوا الفلوس. ولكن لهم «خويَّات» والحمد لله. أرأيت الثلاث اللواتي مررن سافرات؟ هن أخوات أبي شمعة هذا، ولولا إحداهن لما كان هو على الجسر في هذه الوظيفة يلتقط الفلوس.»

وكنا — والحمد لله — قد أدركنا النهاية من رحلتنا، بل وصلنا إلى حيث تبدأ الرحلة، فنباشر البحث عما جدَّ وأُنشئ في بغداد خلال السنين العشر الأخيرة.

•••

قد أشرتُ إلى ما كان من تجديد وتغيير في طريق الصحراء، وأول ما نشاهده في العراق هو جسر الفلوجة الذي كان من خشب، فأصبح من حديد، ثم الطريق من الرمادي إلى بغداد، التي باشرت وزارة الأشغال تزفيتها، وستتمم العمل، وهي طويلة العمر، بإذن الله، فيغدو مدخل العاصمة من الغرب ناعمًا للمسافرين، ومستحقًّا إعجابهم.

إن القسم الأخير منه لهو الآن كذلك. فمن الجمرك إلى جسر «مود» جادةٌ كانت ترابًا في الصيف، ووحلًا في الشتاء، وهي اليوم شارع واسع مزفَّت مشجَّر، أُطلق عليه اسم الملك فيصل، إلا أن في ساحته عند الجسر جنينة مدورة تشكو العطش والإهمال، وتشتاق الزهور!

وفي هذه الساحة، وسط الجنينة، تمثال الملك فيصل في القيافة العربية، على جواد شبه عربي، صنعه المثال الإيطالي المشهور بياترو كانونيكا. وقد صنع أيضًا تمثال عبد المحسن السعدون القائم في باب شرقي. أقف عند هذين التمثالين لأقول الكلمة الواجب قولها، لا تأسُفًا على خمسة آلاف الدنانير ثمنهما، ولا تنقصًا من شهرة صانعهما، بل تنبيهًا للحكومة العراقية التي تحتاج حقًّا إلى مستشار في الفنون الجميلة، فلا تُقدِم مرة أخرى على هذه مثل هذه الفعلة في تكريم رجالها الخالدين.

إن في هذين التمثالين البرهان الموجع على افتتاننا بما هو للغربيين من الآثار الفنية، وعلى ظننا أنها كلها ممتازة، وعلى جهلنا بما يكون من إسفاف الفنان الغربي، إذا انتُدب لعمل وطني فني في بلادنا. إني على يقين أن حاضر هذين التمثالين لخير من مستقبلهما. فإنهما قائمان اليوم فوق مرمر سدَّتيهما بسلام وأمان. أما غدًا، عندما تنشأ الفنون الجميلة في البلاد، وينبغ في الأمة الفنانون، ويصبح المثقف البغدادي في تذوقه جمال الفن، كما هو في تذوقه الشعر والأدب، فلا أمان على التمثالين ولا سلام.

غدًا تحمل صحافة بغداد عليهما؛ لأنهما من سقط المتاع، لا فن فيهما ولا حقيقة، لا الوجه وجه فيصل ولا الجواد جوادًا فيصليًّا، ولا الوجه وجه «عبد المحسن» ولا الوقفة وقفةً من وقفاته الوطنية الرائعة. غدًا — أقول — يحم القِدر، فيثور ثائر الشعب على التمثالين، فينزعهما من مكانيهما، ويرمي بهما في دجلة، غير آسف على تلك الدنانير التي قبضها ذلك الفنان الإيطالي، ثم تنتدب الحكومة العراقية، التي تكون قد استنارت بنور الفنون، مثَّالًا عراقيًّا أو سوريًّا أو مصريًّا ليصنع للرجلين الخالدين ما يليق بهما من التمثيل بالصُفر أو بالرخام. عندئذ يتم التكريم لهما، وخصوصًا للملك فيصل في ذكرَيه — شارعه وتمثاله.

هيا بنا، قد انفتح الجسر، وهو لا يزال ذلك الجسر الخشبي الذي يُفتح مرتين في النهار لعبور السفن. ولا يزال القسم الذي يُفتح منه كما كان. أما القسم الأكبر فقد فُرش مَمَرُّ السيارات منه بالزفت، فخفت الأصوات تحت الدواليب. والعلَمان — تبارك العلَمان الأبيض والأحمر — فهما مقيمان على عهد مخترعهما العبقري، فلا يزالان قيد أيد بشرية ترفعهما وتخفضهما لضبط سير بين الكرخ والرصافة، وهما على ما يظهر من الآثار الفنية الخالدة، تبارك العلمان.

•••

أما ونحن الآن في بغداد للمرة الثانية فإننا نتوكل، بعد الله، على الملازم سردست ليهدينا إلى ما أُصلح وأُنشئ وجُدد خلال السنين العشر الأخيرة. إن أولها النزُل ذات الأسماء الإنكليزية المضللة — نزل وندزور، نزل كارلتون، نزل كرزون، نزل مادجستك — وأحسنها، هو هذا النزل الذي نحن فيه، فقد كان اسمه نزل مود، فتغير بعد ذلك مرارًا، وصار يُدعى نيغريس بالاس؛ أي قصر دجلة.

إنه صادق في الشطر الأخير من اسمه، فهو على دجلة. أما الشطر الأول فهو مثل أسماء النزل الأخرى كذب وتضليل. ليس في بغداد اليوم قصور، إلا إذا قلنا قول القاموس: إن القصر كل بيت من حجر، وقد سُمي كذلك لاقتصاره على بقعة من الأرض بخلاف بيوت الشعر، فلا ينتقل مثلها. إذن كل بيوت بغداد قصور. إما إذا كان القصر قصرًا لقصور الناس عن الارتقاء إليه — لا نزال رهن القاموس — فليس في بغداد قصر واحد؛ لأن أعلى بيوتها لا تتجاوز الثلاث طبقات، ولا يقصر دون ارتقائها لا العُرْج ولا ذو الفتوق.

لنصرف النظر عن الاسم إذن، ونسرحه في هذه الغرف القائمة حول صحن كبير التي ينشد فيها المسافرون — وجلهم من الأوروبيين — الراحة والهناء — والأوروبي من مأكول ومشروب، وإنهم ليجدون كل ذلك. ويجدون فوق ذلك ما هو حقًّا جديد؛ أي الغرف المجهزة بالحمامات الخاصة.

لأول مرة نزلت في هذا «القصر» كان صحنه بستانًا، فيه أشجار النخيل والرمان، وأزاهر الفل والمرجان، وظلال بينها وشاذروان.

ولما زرته ثانية كان قد اضمحل البستان، واختفى ترابه تحت فراش من البلاط الأبيض، وما بقي من أشجاره غير نخلة واحدة، أقامت في قلبه وحيدة، وكان إلى جنبها قسطل من حديد، يرفع رأسه إلى ما فوق صدرها، ويحمل إليها — على ما أظن — روائحَ ما تحت أرض الصحن من مجارير. رثيت حقًّا لحال تلك النخلة، التي فُرض ذلك الرفيق عليها، فظللته كرمًا، فأفسد جوها لؤمًا. وأظنني لفت نظر المدير يومئذ إلى هذه الفجيعة في الاقتران، فقلت: «اقطع النخلة أو أجِرْها من هذا الفظيع قرينها.»

وإنه ليسرني أن أقول الآن إن مدير التيغرس بالاس عمل برأيي، ولكنه تحرى فيه المساواة فقضى على القسطل والنخلة معًا، وقد أمسى الصحن ساحة بيضاء، عارية، جامدة، عقيمة، يتسابق فيها ابن المدير ورفقاؤه على الدراجات، وتدخلها فتحط فيها السيارات. إنا لله …

على أنه قبيح بنا ذم «قصر دجلة» ما دام يوسف الكلداني التلكيفي مديره، وما دام المعاونون والخدم من إخوانه الكلدانيين التلكيفيين. فإن أبناء تلكيف متصفون معروفون؛ حيث كانوا بالنشاط والإقدام، والصدق والاستقامة، واللطف والتهذيب. تلك هي الحقيقة. وليس في «قصر دجلة» ما قد يكون شائنًا لسمعته ولفضائله غير ذلك اﻟ «بار» الأمريكي، الحافل بالكئوس والقناني، المغري بابنة الدالية، وابنة الشعير الغالية، وبكراسيه العالية. ذلك اﻟ «بار» الذي يديره ابن عم يوسف، الحذق اللبق، البسام على الدوام، فيمزج العقيق والذهب والمرجان — الوسكي والرُّمَّ والجِن والجان — ولا يبالي بما يكون من شأنها في رءوس الشبان، المسلمين والكلدان، الذين يتهافتون على «نعيمه»، تهافت الذباب على أديمه. فيا يوسف، ويا ابن عم يوسف، ارفقوا في الأقل بالشبان العراقيين، وفرِّغوا زجاجاتكم في بطون البريطانيين.

ولا تتشبهوا في مطبخكم بهؤلاء الإنكليز، الذين قد يحسنون كل شيء في الحياة، إلا الأكل وفن المطبخ، فيسلقون الخضر ويحسبونها مطبوخة، ويشوون اللحوم، ويقدمون معها الأبازير والسوائل المقبلة ليكمل طبخها الضيوف، كلٌّ على مائدته. والعجل والثور والخنزير، يا يوسف، إنك فيها عدو العرب، تجيء بالثور في التنك، وتجلب الخنزير بالصناديق، وتطبخ منها وتقدمها — باردة — لأبناء لندن ولا بأس — وتفسد بها — ولا رحمة في قلبك، ولا رحمة عليك — معد العرب وأذواقهم — ودينهم! وماذا يفعل خس بغداد بخنزير يور كشير؟ وما لذة الحبارى، يا ابن تلكيف، وهي تستحيل في مطبخك قطعةً من اﻟ «روس بيف»؟

أما الخدم فإنهم جديرون بالثناء لما يحسنونه من الخدمة، ولما فُطروا عليه من اللطف والمعروف. ولكننا نتقزز من الساكو البيضاء في النهار، ومن الثوب الأسود الرسمي في الليل، ونحن في بغداد، يا يوسف، لا في لندن، والثوب الرسمي للخدم، إن كان يفتقد الأجسام المعد لها، اللائق بها، وكان يفتقد النظافة والكي بالمكواة الحامية كل يوم، فهو شيء فظيع، ولا نظن أن الإنكليز أنفسهم يستأنسون به، ويرضون عن لابسه. فلو استُغني عنه في نُزُل بغداد، وأُلبس الخادم ثوبًا وطنيًّا، أو ثوبًا نوبيًّا؛ أي مصريًّا — قفطانًا أبيض ومنطقة حمراء — لكان ذلك أكثر ملائمة للمكان، وألطف في نظر الضيوف وأجمل. ما سوى هذا فإن نزل يوسف لخير النزل ببغداد.

أما الشارع الجديد — شارع الرشيد — فقد زال منه الغبار، دُفن تحت صفحة من الزفت، وهذا من حسناته الحديثة، لقد شط القلم في «حسناته» وليس هناك ما يجيز الجمع. ذلك أن البنايات الجديدة، وأكثرها في جهة باب شرقي بُنيت على الطريقة القديمة، التي لا تعرف النظم المدنية، فهي تحترم الرصيف مرةً، وتثلم عرضه — بضم العين وبكسرها — مرات. إن هذا الشارع لا يزال كالمنشار في نتوئه وفتوقه، وفي عماره وخروقه، أما المقاهي فيه، فقد ازداد عدد تلك التي لا يتقزز المرء منه.

وقد ازدادت كذلك الضوضاء في شارع الرشيد، فقد وصلت السينما الناطقة إلى بغداد، وشرعت الفونوغرافات والمكبرات ترسل في الشارع ألوانًا من مكربات الألحان والصيحات. تعالوا اسمعوا، يا أهل بغداد، صياح الأمريكيين في ساحات كرة القدم واللكام، تعالوا اسمعوا المدنية الغربية تعج وتثج — ليت شعري — بأصوات البغداديين ما تكون عندما تغزو بغداد كرة القدم والملاكمة، ويجن أهل بغداد جنون أولئك «البرابرة» عبر البحار، باللكام ولعب الأقدام! هي المدنية الغربية، ولا مهرب منها.

وهذه البصَّات منها، وهي تزيد بازدحام شارع الرشيد وبضوضائه وروائحه، أما السيارات ذات العداد فقلما تجدها، وأما الخصوصية فهي في بغداد، في كل العراق، لا تتجاوز الألفي سيارة، وأكثرها قديمة أو أنها لا تلبث أن تصير كذلك لقلة الاعتناء بها. وقلما يفطن السائق أو صاحب السيارة أن غسلها كل يوم هو ألزم ما يلزمها في بلاد مثل العراق غبارها كثير.

إن العربات من هذا القبيل خير منها، وقد تقول إذ تراها: إنها من عهد سحيق، ولكنك بعد أن تركب فيها — اللهم إذا كنت ممن لا يعدون الدقائق والساعات — ترضى عنها، وتقول: خسئتِ يا سيارة!

فالمجلس فيها أحسن مما يبدو لناظريك؛ لأنه نظيف وثير، والخيل تجري جري الأصايل، وإن لم تكن منها.

إلا أن حال الخيل يسوء عندما يرش الشارع بالماء، فيجر الجري البلاء عليها، أو بالحري يجرها إليه؛ ذلك أن هواء بغداد يحمل دائمًا من دقيق الغبار ما يفرشه في الشارع، فيستحيل إذ يمسه الماء وحلًا رقيقًا زلجًا، وعندما تكون الخيل جارية جريها المعتاد ربعةً — وقلما تراها ماشية — فترتفع فجأة أمامها يد الشرطي لتوقفها، فيقصر السائق العنان في الحال وبقدر ما تلبيه قواه، تزلق الخيل زلقة هي القرفصاء بعينها، فتكاد تدخل في العربة ولولا العريش تصير تحت دواليبها، لاحظت ذلك غير مرة، ولفتُّ نظر رفيقي إليه، فابتسم وما شاطرني في تلك الحال شعور الرفق بالحيوان، قلت: إن الملازم سردست قليل الكلام، وهو لا يؤخذ بالأوهام، ولا يروقه حتى الشعري من الخيال، دقيق النظر على قدر ما يمد نظره، صريح القول في ما يعلم ويرى، وقد قال يُصلح ما كان من خطئي في ما تقدم، وما كان من رثائي لحالة الخيل: ليس الحق على الأسفلت، ولا على الغبار والماء، ولا على الشرطي أو على السائق، هذه العربات من أيام الترك، وليس لواحدة منها ضابط (أداة للتوقيف في المفاجآت).

وبينا كنا نطوف بعض الأسواق الجديدة في السَّنك قال: ترى الرصيف في هذه الأسواق أيضًا غير متسق، ضيِّق هنا — واسع هناك — وفي بعض الأماكن يضيع، يختفي. وما ذلك إلا من أطماع الناس، وإهمال المجلس البلدي، فالمجلس رغبة بالتجديد — بالعمران — أعطى أجازته كل طالب، بدون حساب ولا قيد، وكل من احتاج إلى بضعة أقدام أو أمتار من الشارع أخذها ولا حرج عليه.

لكنَّ في بغداد الجديدة نواحي تبشر بالخير، الأولى في الباب الشرقي على طريق الكرادة، تشقها جادة عريضة ذات اتجاهين، للذاهبة من السيارات والعربات وللآتية، وبين الطريقين جنينة مستطيلة ستُغرس فيها الأشجار. فمتى كملت هذه الجادة ببيوت حديثة الهندسة وبستانها المقطع المستطيل، وكمل بناء الشوارع إلى جانبيها، تضحي الناحية مما يحق لبغداد أن تفاخر به.

وفي شمال الرصافة إلى جانب النهر ناحيةٌ أخرى جديدة هي الفيصلية، تزينها روضة عمومية، وهناك كذلك العيواضية التي ظهر من عمارها وتخطيطها حتى اليوم ما ينبئ بما سيكون من جمالها المدني. إن في هذه النواحي الدليل على أن أمانة العاصمة عازمة على إثبات وجودها، وتعزيز أسباب الصحة والراحة والجمال في المدينة.

بقي أن أشير إلى مظهر من التجديد أوحت به الوطنية العراقية العربية، فقد بدأت أمانة العاصمة تطلق أسماء عربية على الأسواق والجادات، وأن وطنيتها في هذا الأمر لتستوحي ربة الشهرة في جميع منازلها، العباسية والأموية، السنية والشيعية، الأدبية والدينية والسياسية. أجل، إن اختيار أمانة العاصمة يشف عن ذوق شامل دقيق، وعن حكمة بليغة، مثَلُ ذلك الجادةُ التي نشأت إلى جانب النهر، من باب شرقي إلى الكرادة، والتي ستصبح المتنزه الأول في بغداد، فقد أُطلق عليها اسم أبي النواس، وأحسن من هذا في لباقة الاختيار الاسم الذي أُطلق على سوق الصرافين، وهو اسم الشارع العربي اليهودي السموأل، فحبذا الشعر والشعور في حياة هذا الشارع، وحبذا الوفاء، على أن أمانة العاصمة أرادت من الاسم، على ما أظن، ما يرمز إليه عنصر صاحبه.

هي دعابة مستحبة، وإن كانت من الحكومة، بل هي في الحكومات شيء جديد، وإنك لتجد خارج السور مثالًا آخر منها. هناك، شمالي البلاط الملكي، إلى جانب طريق الأعظمية، في بستان كبير من النخيل، شُيدت كلية آل البيت، منذ عشر سنوات؛ لتدريس العلوم الإسلامية، ففتحت أبوابها للطلاب نحو سنتين، ثم أقفلت، وهي اليوم دار البرلمان العراقي. من العلوم الإسلامية علم الكلام — الذي يدعى عند المسيحيين اللاهوت — فمن علم الكلام الديني، إلى علم الكلام المدني لا يزال موضوعنا الكلام. إلا أن الانتقال من كلية آل البيت إلى البرلمان يُعد جديدًا، وقد يكون — وقد لا يكون — مفيدًا.

•••

تعالَ أريك مِن الجديد ما لا ريب في خيره، تعالَ أريك آية الجمال في الجادات. مِن بغداد إلى الهنَيدي — مركز الطيران الإنكليزي السابق، العراقي الآن — مسافة تنيف على خمسة أميال، طريقها مفروشة بالأسفلت، ومزدانة إلى الجانبين بصف متواصل من شجر الدفلى. إن هذه الطريق في الربيع، يوم يكون الدفلى الزاهر في مجده، لأجمل ما يبتغيه المرء من نزهة في ضواحي بغداد. وإن شئت إطالة السرور فالعربة خير من السيارة.

وقبل أن أختم هذا الفصل، ينبغي أن أقول كلمة في المثال الحي المنظم للجديد المفيد — وفي بغداد منه شيئان — الشرطة والسجن، إني محب لشرطي بغداد، معجب به، لا لأنه صورة مصغرة لشرطي لندن؛ بل لأنه وإن كان دون الإنكليزي في قامته، فهو صنوه في التيقظ والنشاط، وفي اللطف والمعروف، كما هو في حركاته ووقفاته، وفي ملابسه الأنيقة.

والغريب العجيب، أني ما سمعته مرة يرفع صوته مهما كان من المخالفة أو العراك، فأين الصوت البغدادي الجهوري، بل الصوت العربي العريض؟ إن في الشرطة كثيرين من الذين لم يألفوا النظام؛ أي من الأسر الطيبة ومن العشائر، وهم اليوم من أرباب النظام. لله ما يفعله التعليم والتدريب! ما رأيت شرطيًّا في ثوب مفتقر إلى التنظيف، أو بوجه يحتاج إلى الموسى، وما سمعت شرطيًّا يشتم المخالف أو يسبه ويتحكم فيه، وقد قال لي العارفون: إن شرطي بغداد نزيه عفيف، لا تمسه الرشوة، ولا تثنيه عن واجبه المغريات والتوسطات.

إني أهنئ بغداد بشرطتها، وأهنئ أولئك الذين جاءوا من وراء البحار معلمين، فانصرفوا إلى مهنتهم الشريفة، دون أن يتدخلوا في السياسة، فعلَّموا، ودربوا، ونظموا، فحببوا مهنة الشرطي حتى إلى أبناء العشائر.

أما المثال الآخر فهاكم في سجن بغداد، قد زرت السجن مترددًا، وخرجت منه حائرًا في ما عراني من دهشة يتخللها التَّسْآل، وإعجاب يبطنه الريب، فهل من الحكمة أن تحسَّن السجون فتغدو كالفنادق، بل أحسن منها في النظافة، وفي حظها من النور والهواء؟ وهل تقل في مثل هذا التحسين الجرائم؟ وبكلمة أخرى هل يُصلح المجرم حاله إذا أُحسن إليه في سجنه، فيخرج منه نادمًا على ما فعل، عازمًا أن يلزم، بقية حياته، الصراط المستقيم؟

سُئل هذا السؤال أحد مديري السجون فقال: إن التحسين واجب؛ لأن العقاب المقرون بالمعروف يُصلح قسمًا كبيرًا من المسجونين، أما الباقي منهم، وهم المدمنون الإجرامَ أو المطبوعون عليه — يخرجون من السجن اليوم ويعودون غدًا — فهؤلاء لا يصلحهم عقاب مهما كان من المعروف أو من القسوة في تنفيذه، فالإعدام خير لهم — خير لهم وللأمة.

سألت مدير سجون بغداد رأيه في المسألة فقال: إن المطبوعين على الإجرام قليلون، وإن العدد الأكبر من المجرمين يصلحهم العقاب المقرون بالحسنى، إذن، يجب أن نحسِّن بيئة السجن — يجب أن نحسِّنها حقيقةً ومعنى، فيخرج منها السجين سليمًا في صحته وفي أخلاقه. والسيد حسام الدين وجيب، المدير الحازم يحسن وضع الشيء في موضعه، وقلما يُفرِط في القسوة أو في اللين.

قال أحد الحضور معقبًا على كلام المدير: إن للدين أثرًا يذكر في التوبة، وإن المجرمين من سواد الناس شديدو التدين. لا ريب في الشطر الأول من هذه الكلمة، وقد يصح الشطر الثاني.

استقبلنا المدير في مكتبه إلى جانب السجن، الذي قد ينقل في المستقبل إلى خارج المدينة، فهو اليوم قبالة دار الكتب العامة، في ما كان أمس قريبًا من بوابة المعظم؛ أي من السور، وسيصبح غدًا في قلب المدينة المسرعة في نموها شمالًا وجنوبًا.

وكان أول ما قاله المدير بعد السلام — ولا عجب إذا ما افتخر — إن كل أثاث المكتب، من السجادة إلى المنضدة، هو صنع نزلاء السجن، فشاركناه في الافتخار أنا والرفيقان الكريمان، النائبان المحترمان فخر الدين آل جميل وعلي الإمام، ومشينا بعد ذلك جميعًا، يتقدمنا المدير الذي تفضل فكان الدليل.

في ظلال النخيل إصلاحية الأحداث، وفيها من الأولاد الذين تراوح سنهم بين الإحدى عشرة والثامنة عشرة سنة، نحو خمسين، منهم عشرة جرمهم القتل.

سُئل أحدهم عن ذنبه فأجاب فورًا: قتلت ابن جارنا في عركة، وآخر قتل دفاعًا عن عرض أخته، والثالث قتل بدون تعمد — بقضاء وقدر. أما أكثر الذنوب فهي التي تتعلق بالسرقات وبما ينجم في «العركات» من الخلل بالأمن العام، ولهؤلاء الأولاد معلم يعلمهم العلوم الأولية، والرياضة البدنية، فيضحي أكثرهم، بعد العقاب، أحسن صحةً، وأسلم خُلقًا، وأنبه عقلًا مما كانوا قبله.

ثم زرنا المستشفى، قسم الرجال منه، وهو وقسم النساء بإدارة الدكتور شريف عسيران، ذلك الرائد للشفاء والعافية في الكاظمين، والعامل في سبيل الصحة العامة والنظافة عشر سنوات. وكفى بمستشفى السجن أن يكون مديره الدكتور شريف ليكون في الأقل مثال النظام القائم بحسن الخدمة، وخير المعالجة، للجميع على السواء.

ولكني استنكرت في أسرَّة المرضى اللُّحُف الخشنة القاتمة اللون، كفى بهؤلاء المساكين ظلمات السجن والمرض والشقاوة، وخليق بمديرية السجون أن تجعل اللحف بيضاء أو زاهية الألوان، فترتاح إليها عيون المرضى ويسري من الارتياح إلى نفوسهم شيء من الانتعاش. وهب أن فيهم المجرم المدمن الإجرام أو الشرير المطبوع على الشر، فالقسوة في العقاب تعود، بعد عودته إلى الصحة والعافية.

أما السجناء في دور الصناعات فليس في حالهم ما يبعث على الشكوى إلا إذا كان الحديد — سلاسل منه ثقيلة — في أرجلهم، وها هنا مجال للحسنى، فإن السجناء في المصانع أكثرهم من أصحاب الذنوب الصغيرة، وهم منها في زَورة السجن الأولى. فهم إذن يستحقون الرحمة، ولا أظن أن القيد الخفيف أو عدم القيد يغريهم بالفرار، أو يَحرم مخزن السجن شيئًا من الإنتاج أو من جودة العمل.

رأينا هؤلاء السجناء في مصنع السجاد، وفي وجوه أكثرهم ملامح القناعة والوداعة، وفي أرجلهم أثقال الحديد، ينسجون أنواعًا من السجاد الإيراني، التبريزي والشيرازي والكاشاني، بمشارفة معلم عراقي تعلم صناعة النسج في إيران، ويجيدون عملهم إجادةً تدعو للإعجاب.

ورأيناهم في دار الأنوال التي تُدار بالكهرباء ينسجون أقمشة القطن والحرير، فيأتون بأنواع منها، للرجال والنساء، حسنة الديباجة، يبيعها مخزن السجن بأسعار بخسة. أما مصانع الأحذية والأجربة فهي تصنع في السنة ما يسد حاجة الجيش كلها.

وهناك مصانع للنجارة والحدادة والحصر وغيرها، تنبئك بها، إذا فاتتك في جولة الاستكشاف، ما تراه في المخزن الكبير الحافل بأنواع شتى من حاجات السجن.

كل هذا حسن محمود، بيد أنه عادي مألوف إذا قيس بمثله في سجون أميركا الحديثة، فهل في سجن بغداد ما يميزه عن سجون العالم المتمدن بشيء؟ أجيب: نعم، فقد لا تجد في غيره، في الشرق وفي الغرب، ما تجده فيه من الرحابة والنور والهواء الطلق. أجل إن من هذه البركات في سجن بغداد ما يكفي للتوزيع على عشرة سجون في مكان آخر، وإنك لتجد الرحبات للنور والهواء النقي حتى في السجن الداخلي المعد للمحكوم عليهم بالسجن طوال الحياة.

ليس من العجب إذن ألَّا يكون للمجرمين هنا تلك الوجوه التي تَسِمَها الجرائم بمَيسم التنكُّد والتأبُّد، ليس من العجب أن يكون أكثرهم على جانب يذكر من البِشر والوداعة.

إن ذنوبهم لتنحصر في الدفاع عن العرض، والثأر، والسرقات، و«العركات» التي تنجم عن تنازع في أرض أو ماء، وما أحد منهم إذا سئل عن ذنبه يكذب أو يجمجم الكلام.

سألنا عددًا من القتلة فكان جواب كل منهم: نعم قتلت، وزاد ثلاثة بقولهم: مقدَّر — هو ما قدَّره الله.

وقفنا عند زمرة من السجناء جالسين في الشمس أمام حجراتهم، وفيهم شاب مسيحي أسلم ثم أجرم، سألته فأنكر أنه قتل، وجمجم الكلام، وانتحل الأعذار، لا أقول إن هذا الرجل هو مثال صادق لكل من أذنب من المسيحيين، إنما حزنت؛ لأنه مجرم وفوق ذلك جبان، حزنت؛ لأنه على إسلامه، لم يكن كالمسلم صريحًا صادقًا شجاعًا.

قال فخري آل جميل يطيِّب خاطري: «ما خسرتموه، يا أمين، وما كسبناه، هو من مال إبليس.»

وأخبرني زميله المحترم علي الإمام أنه عرف بنفسه، قبل الاحتلال، حجرة من هذه الحجرات، وما أَلِفها، وأن المجرم اليوم يلقى من الحسنى والمعروف في السجن ما لم يلقه في عهد التركِ المذنبُ السياسيُّ.

والمجرمات يُعامَلن بمثل ما يُعامَل المجرمون، ما زرنا القسم الذي يختص بالنساء، ولكننا علمنا أن فيه أربعين سجينة، منهن القاتلة والسارقة والزانية.

والزانية! — ها هنا وقفت، وما كان الناصري ليحلِّي في نفسي مرارة التأمل … «من كان منكم بلا خطيئة فليرمها أولًا بحجر» … وها هنا أيضًا ينهزم المثل الأعلى … قال المعري:

الشر والخير ممتزجان ما اقترفا
وكل شهد عليه الصاب مذرورُ
١  راجع كتابي «فيصل الأول» المقدمة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤