شاعر العقل الفاطمي

طَلَّق أبو العلاء الدنيا الثلاث فكان عملُه بِدعةً في الإسلام، مَسحَ يدَه من جميع مَلذَّاتها فعاش عِيشَة الحُبَساء المُنفردِين في الصوامِع، مُعدِّيًا عمَّا استثناه منها حين أطراها بقوله:

ويُعجِبُني عَيشُ الذين تَرهَّبوا
سِوَى أكلِهِم كَدَّ النُّفوسِ الشَّحائِحِ

وعلى هذا نُسَّاك الفاطميِّين اليوم؛ فمال الوَقف لا يأكله فاطميٌّ زمِّيت؛ فهو في نظرهم مثل مال الحُكَّام، وعندهم: حلالك تعبك، بِعَرَق جبينك تأكل خُبزك. هم يحصرون الحلال في ثلاثة: أجر الفاعل والزارع والفلَّاح؛ فأحد مشايخهم الأتقياء — الشيخ محمد صالح، من جرمانا، غوطة الشام — كان يُوزِّع غَلَّة أَراضِيه على فُقراء الملة، ويعيش من ثمَن السِّلال والخُوص التي كان يَصنَعُها هو ويبيعُها في دمشق، فلم يمُدَّ يدَه إلى حاصِلاتِه لأنه لم يَتعَب في استثمارها.

وقد رأيتَ في الفصل المعقود تحت عنوان: «مذهب أبي العلاء»، أن الشيخ ينصح «الأخ» أن يَتقيَّأ ما أكل إذا عرف أنه مالُ ظالم. وهذا ما يفعلونه اليوم، فيتجنَّبون الحُكَّام ويبتعدون عنهم، ويرفضون عطاياهم — كما فعل أبو العلاء قبلهم. إن «الأجاويد» منهم يستنكرون استئجار أوقاف الحكومات، ولا يأكلون عند حاكم، أو مَن اعتقدوا أنه مُغتصِبُ مال الآخرِين، وامتناعهم عن أكل حاصلات الأراضي المُغتصَبة يَعرِفه أَقلُّ الناس اختبارًا لهم؛ فهم لا يأكلون من غَلَّة تلك الأراضي ولو بالثَّمَن.

وما لنا نَبعُد إلى الغوطة لِنُحدِّثك عن الشيخ محمد صالح، ولِنَدعَ ذِكْر «المتنزهة» إخوان المعري في خَلَوات البياضة، فضَالَّتُنا التي نَنشُدها قريبة من عاليه في ضيعة «معصريته» رجال يلقبونهم في الشوف بالجويِّدين الزُّرق؛ فهؤلاء الرجال لا يأخذون إعاشةً من الحكومة في وقتنا الحاضر١ ولا يشربون ماءً من إحدى القرى المُجاوِرة لهم لأن أهلها لا جويِّدين منهم.

وفي عاصمة الشوف — بعقلين — سيدةٌ فاضلة لم تكن تَستحِلُّ الأكل من مال ولدها لأنه موظف؛ فكانت تستبدل المال بمالٍ آخر من عند رجلٍ تثق بدينه لِتَستحِل الأكل. ولم تأكل من ثمارِ أرضٍ شَراها وَلدُها، بل تختار ذلك من ثِمارِ العقارات المَوروثَةِ لأنها حلال. وكانت تعيش مع بنيها وأحفادها وهي منقطعةٌ عنهم فيما يمس المذهب.

وهذا أبو العلاء يقول لابن القارح في رسالة الغفران عن دنانيره التي سُرِقَت: «وهذه، ولا رَيبَ، من دنانيرِ مصر، لم تجئ من عندِ السُّوقة، ولكن من عند الملوك.»

لسنا نقول هذا لِنَزعُم لك أن أبا العلاء دُرزي، أو لنقول إنه كالطبقة السامية من عقلاء هذه الطائفة الذين بلَغوا ما يُسمُّونه ختام الدين؛ فمن قال إن أبا العلاء مثل هؤلاء هو كالقائل مثلًا: نابليون بونابرت والبابا لاون الثالث كانا يَستعِطَان مثل مارون عبود.

إن طلائع هذا الزهد العلائي قد بدَت مع المُعز جَدِّ الحاكم فتَخلَّى عن الكرسي مُدةَ سنةٍ لابنه العزيز بالله، ثم نمَا هذا الزُّهد واستَفحَلَ أمره مع الحاكم قبل «الغَيبة» بقليل. أمَّا أبو العلاء فتنسَّك وسأل الإخوان أن يكونوا له شيعةً في طريقة، فوضع لهم في اللُّزوميَّات الأصول والمبادئ الزهدية، ولمَّا قَرُبَت ساعته خاطبهم بقوله:

أزولُ وليسَ في الخلَّاقِ شَكٌّ
فلا تَبكُوا عليَّ ولا تُبكُّوا
خُذوا سِيَري فهنَّ لكم صلاحٌ
وصَلُّوا في حياتِكُمُ وزكُّوا

إذا قابلنا بين قول أبي العلاء هذا وبين ما يفعله أجاويد الدروز اليوم رأينا أنهم يجملون جزعًا ولا ينتحبون على فقيدٍ مهما عَزَّ وغلا، كما فعل الأمير السيد حين فقد ابنه، وسيأتيك خبر هذا.

ومن كلام الدروز في هذا الصدد «إذا أُصِبتم بعزيزٍ فعليكم أن تَصبِروا لِئلَّا تفقدوا الأجر؛ فمن جَزعَ من قَضاءِ الله عبَر به القضاء ولَزِم الإثم. ومن صَبَر على القَضاءِ فالأَوْلى أن نصبر، ابتغاءً للثواب وحَذَر غَضبِ الله».

ومن كلماتهم المأثورة: «من يبكِ على رأس ميتٍ فكأنه يحارب الله.»

وإني لأرى أبا العلاء يُلمِّح بقوله: «فلا تبكوا عليَّ ولا تبكُّوا»، إلى النبي الكريم لأنه بكى واستبكى، ومن قرأ رسالتي المعري إلى داعي الدعاة يَرى ترجيحًا لِظننا هذا.

إن أبا العلاء يحُثُّ على الزهد ويَحرِص على كتمان «السر» وعلى كل ما أراه بارزًا في المذهب الفاطمي اليوم. وأراه يتكلم كمن له سلطان، فلا يَستنِد إلى تقليد ولا إلى إسناد لأنه لا يتجاوز تُخومَ منطقة العقل. والعقل في المذهب هو «الإمام» المعصوم. والعقل الفاطمي هو العلة الأُولى وضابط الكون. ولئن كان لا بُد للعقل من شيخٍ فأبو العلاء هو شيخ مشايخ العقل، وأَوَّل من جهر مُعلنًا إمامته المُطلَقة وأَمَر باتِّباعِ وَحيِه وهُداه.

من عادة المؤمنِين أن يكونوا عَمَلَ فبركة؛ أي نمطًا واحدًا. وأبو العلاء مؤمن ولكنه ليس من نمط إخوانه تمامًا؛ ففي كتبه زادٌ للإخوان والذريَّة، ووَصِيَّته لهم تنحصر باتقاء الله وعَمَلِ الخير، وتَطهيرِ النفس من المعاصي، والابتعادِ عن اللذَّات التي ينبذُها طُلَّاب الكمال.

ليست الفضيلة عند أرسطو طبيعة؛ فالطبيعة قُوى واستعدادات، والفضيلة تُكتسَب بمعاونة الطبيعة؛ أي أن تَطبَع النفس على حالاتٍ مُعيَّنة. الفضيلة عنده تُتعلَّم كما يُتعلَّم كل فن، بإتيان أفعالٍ مطابقة لكمال ذلك الفن. ومن تَوهَّم أن المُثابَرة غيرُ لازمةٍ للحصول على الكمال فمَثَلُه كمَثَل المريض الذي يُريد الشفاء ولا يستعمل وسائله. وهذا ما قَصدَه أبو العلاء من سِيرتهِ ونُسكِه.

لا استغراب أن يُظهِر الجزع والخوف إذا تصوَّر نَفسَه ذاهبةً بِذَهاب جَسدِه. وحَقُّه أن يهتف «وا شَجبَا» وأن يُحزِنه قولُ ذلك الزائر له: وعَلامَ حَسَدوكَ وقد تَركتَ لهم الدنيا والآخرة؟

كان أبو العلاء خائفًا على نفسه، حريصًا على تَنقِيتِها، ويُحزِنه وُجودُها في الجسم الذي هو أَلدُّ أعدائها. كان يظن دائمًا أنه مُقصِّر فيذُم نفسه ويقول إنه أبو النزول لا أبو العلاء. وفاطميُّو اليوم يقولون: من يظُنَّ بنفسه الخَيرَ فهو مَعدومُ الخير. ويحكون عن «الشيخ الفاضل» أحد كبار عُقَّال وادي التيم، وهو من ذوي العمامة المُكوَّرة، أنه ظل خائفًا على نفسه، ولم يَثِق بِخلاصها ونَجاتها من أحابيلِ الجسَد، إلا قبل موته ببضعِ دقائقَ فقال يُخاطبها: «روحي يا مباركة، الآن أَمِنتُ عليكِ.»

ويقول الفاطميون بضرورة التوبة قبل العَجز، ويسمون تَوبة الشيخ تَوبةَ فَزَع، وكذلك قال أبو العلاء: «فلَيتَنِي أَبَهتُ لِشَأني قَبلِ شَيبِ المَسائِحِ.»

طَرقَ أبو العلاء هذا الموضوع كثيرًا وحثَّ على طاعة الله وترك المعاصي والانصراف عن الدنيا قبل أن تنصرف هي عَنَّا. أمَّا «الرحمةُ» عندهم فلا تُعطى إلا مُستحِقِّيها، وليست دينونة كما يتوهم بعضنا ولكنها شهادةٌ تُؤدَّى ومعاذ الله أن تكون زورًا. والقَصدُ منها حث الأحياء على طلب الكَمال والتجمُّل بمكارمِ الأخلاق. والسكوت عنها رَفضٌ لها. وقد لا يَرحَم الأخ أخاه إن شَكَّ بِفَضلِه.

إنهم لا يؤمنون بالاستِسقاء وغير ذلك من طلبات البشر، وعندهم كلمةٌ مأثورة: «لا تَنقُص من مُلكه تعالى مَعصيةُ عاصٍ، ولا تَزيد في مُلكه طاعة مطيع، وإنما هي أعمالكم تُردُّ إليكم.» وأبو العلاء، كما مَرَّ بنا، يهزأ ممن يَتصوَّرون أن المطر لم ينزل لأنهم عَصَوا الله فيَستَسقونه بِتضرُّعاتهم وصَلواتِهم.

يقول أبو العلاء، كما مَرَّ بك: «لا طوعًا أبثُّ ولا جبرًا.» والإنسان عند الفاطميِّين مُسيَّر ومخيَّر: مُخيَّر فيما يحدُّه العقل، ومُسيَّرٌ في الأمور التي لا قِبلَ له بها. وهذا كله مَحصورٌ بكلمتهم المأثورة: «َأمرٌ تبيَّن رُشدُه فاتَّبِعوه، وأَمرٌ تَبيَّن غَيُّه فاجتَنِبوه، وأَمرٌ أَشكَل عليكم قال الله رُدُّوه.»

ومُرتكِب الكبائر عندهم، كالقاتل والزاني، لا يُسلَّم «الحكمة»، وإن تاب توبةً نصوحًا يُسلَّم شَرْحَها فقَط.

إذا رأيتَ عند أبي العلاء تناقضًا فاعلم أن ذلك تقيَّةٌ واستتار؛ فهو لا يريد، كما قال، أن يُسخِط جيلَه كل الإسخاط، فترك لهم ما يَتلهَّون به عنه، ولكنه في كل حالٍ لا يجحد مَذهبَه ولا يَعترِف بغيره صراحة. ومن الجُنون المُطبِق أن نَخال أبا العلاء مُعتقِدًا بالفَناء، ثم يَتنَسَّك هذا النُّسكَ الصارم.

أجهل أن عقله لا يُسلِّم بما صارت إليه حمدونة ورفيقتها توفيق السوداء ولكنه يعتقد بخلودٍ غير خلودنا؛ ولهذا روى لنا ما خَلقَته مُخيِّلتُه من خبر هاتَين المرأتَين، وإليكَه كما ورد في رسالة الغفران:

ويَخلُو — أي ابن القارح — بحوريتَين من الحُورِ العِين، فإذا بهَرَه ما يراه من الجَمَال قال: اعززْ عليَّ بهلاك الكِندي، إني لأَذكُر بكما قوله:

كدَأبِكَ من أمِّ الحُويرِثَ نبلَها
وجارَتِها أمِّ الرَّبابِ بِمأسَلِ
إذا قامَتا تَضَوَّعَ المِسكُ مِنهُما
نَسِيمَ الصَّبَا جاءتْ بِرَيَّا القَرَنفُلِ

وأين صاحبتاه منكما؟ لا كرامة لهما ولا نعمة، لَجلسةٌ معكما بِمقدارِ دقيقة من دقائق الدنيا خيرٌ من مُلك بني آكل المرار وبني النضر بالحيرة وآل جفنة ملوك الشام.

ويُقبِل على كل واحدةٍ منهما يترشَّف رُضَابها، ويقول: إن امرأ القيس لَمِسكينٌ مِسكِين، تَحترِقُ عظامه في السعير، وأنا أتمثَّل بقوله:

كأن المُدامَ وصَوبَ الغَمَامِ
ورِيحَ الخُزامَى ونَشرَ القُطُرْ
يُعَلُّ به بَرْدُ أَنيابِها
إذا غرَدَ الطائر المُستَحِرْ

فتستغرب إحداهما ضحكًا فيقول: مِمَّ تضحكين؟ فتقول: فرحًا بتفضُّل الله. أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ فيقول: أنت من حُورِ الجنان اللواتي خلقَهُنَّ الله جزاءً لِلمُتقِين، وقال فيكن كأنهن اليَاقوت والمَرجَان، فتقول: أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أنِّي كنت في الدار العاجلة أُعرَفُ بحمدونة، وأسكن في باب العراق بحلب، وأبي صاحبُ رحًى، وتزوَّجَني رجلٌ يبيع السقط فطلَّقَني لرائحة كرِهَهَا من فِيَّ. وكُنتُ من أقبحِ نِساءِ حلب، فلمَّا عَرفتُ ذلك زَهِدتُ في الدنيا، وتَوفَّرتُ على العبادة، وأكلتُ من مِغزَلي ومَردَني فصَيَّرني ذلك إلى ما ترى.

وتقول الأخرى: أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ أنا توفيق السوداء التي كانت تَخدمُ في دار العلم ببغداد، على زمان أبي منصور محمد بن عليٍّ الخازن، وكنت أُخرِج الكتب إلى النُّسَّاخ، فيقول: لا إله إلا الله! لقد كنتِ سوداءَ فصرتِ أنصَعَ من الكافور، فتقول: أَتَعجَبُ من هذا، والشاعر يقول لبعض المَخلوقِين:

لو أنَّ من نُورهِ مِثقالَ خَردَلَةٍ
في السُّودِ كلِّهِمُ لَابيَضَّتِ السُّودُ!

أيتوحد ويتنسَّك هذا النُّسك الصارم من لا يرجو حسن العقبى؟

يقول أرسطو: «المُنفرِد إمَّا بهيمةٌ وإمَّا إله.» ويأبى أدبنا وأدب كل ذي عقلٍ حتى من ألدِّ أعداء أبي العلاء أن نَعُدَّه بهيمة. ويأبى توحيد المعري المُنزَّه أن نُسمِّيه إلهًا ولو بالمعنى اليوناني؛ فشيخُنا يرى تَطهير النفس بالنسك ويَعتقِد بخلودها.

كان الشيخ مُهتاجًا قبل أن يبلُغ ذروة الحِلم و«الجَودة» فعنَّف الناس فظَنَّ دارسوه أنه متشائم، لا تشاؤم لا تفاؤل، ما هناك إلا توبيخٌ وتبكيتٌ التماسًا للصلاح، أراد الإصلاح فصَكَّ الإنسانية صَكَّة أعمى …

تعرَّض أبو العلاء لجميع الشئون الاجتماعية حتى تقسيم الثروة فسَخِط على أهل عصره. وقد كان توزيع الثروة ولا يزال، حيث عاش أبو العلاء، غَيرَ عادل. أمَّا الخمرة، مشكلة المشاكل، فهو أَبغَضُ الناس لها، والفاطميون اليوم من مذهبه هذا. إنهم يتحوَّبون من عَصرها وبَيعها وقَبض أثمانها، وقد ذهبوا إلى أَبعدَ من ذلك فحَرَّموا التدخين والتسعُّط، ولكنهم أباحوا القَهوة ويُؤثِرون التعفُّف عنها.

أمَّا العقل الفاطمي فهو: «الله هو مُعِلُّ العلَّة الأولى التي هي العقل، والعقل هو مُبدِع الكون ومُدبِّره، فالخالق مُنزَّه مُسترِيح.»

والعقل الإنساني عندهم نوعان: جُسماني وروحاني؛ فالجُسماني هو العقل المعلوم، والروحاني هو عقل أرسطو. الجسماني فعَّال ومُنفعِل، يتأثَّر ويُؤثِّر، وهو يُمثِّل العَقلَ الروحاني في فضائله وأعماله الحُسنَى.

و«الصدق» رأس الإيمان، وهو يمثل العَقل، أمَّا الشيطان فيُمثِّل الكذِب.

ويغلو الفاطميون في الصِّدق غُلوًّا كبيرًا، فإذا قال «جويِّد» منهم كلمةً فعليه أن يقوم بها، وإذا نوى فلا بُد من التنفيذ، وكلمة «طلع قول» مشهورة عنهم.

حُكِي أن أَحدَهم قال لِأهلِه إنه ذاهبٌ لزيارة أَحدِ الإخوان في إِحدَى القُرى المُجاوِرة — بيصور — فما خرج من باب بيته حتى رآه أخاه الذي يَقصِد زيارته قُدَّامَ الباب. دعاه إلى بيته وذهب هو إلى زيارته كما زعم، ثم رجع إليه وقصَّ عليه الخبر. ومِثلُ هذه حكاياتٌ كثيرة تُروَى يُنفِّذ بها «القول» تنفيذًا لا هَوادةَ فيه ولا رِفق.

أمَّا الصَّوم عندهم فصَومان: جسدي، ويكون في التعفُّف عن المآكل والمشارب، ونفسي، وهو تَركُ المَعاصِي والمآثِم، والصوم الأخير أَجلُّ وأسمى عند أبي العلاء وعِندَهم.

إن الجسَدَ قميصٌ يَبلَى. يُنزَع ثم يُؤخَذ غَيرُه. والنفوس هي هي لا تزيد ولا تنقص. أمَّا «الحساب» فيُدان الشخص باعتباره كائنًا خالدًا، ويُحاسَب على جميع ما مَرَّ به من أطوار. أمَّا الثوابُ فيكون بالملذَّات الروحية لا الجسدية؛ ففي الملكوت الفاطمي تَتنَقَّى النفوس وتَتطهَّر بدورانها. وفي تنقُّلها من قميص — أي من جسدٍ إلى جسد — قد تُلاقي عَناءً وجهدًا، وفي هذا يقول أبو العلاء، ولا بأس من إعادته هنا:

يَقولون إن الجِسمَ تُنقلُ روحُه
إلى غَيرِه حتى يُهذِّبها النَّقلُ
فعِشْ وادعًا وارفُق بِنفسِكَ طالبًا
فإنَّ حُسامَ الهندِ يُنهِكهُ الصَّقلُ

وتَمُر النفسُ في دَوَرانها بحالاتٍ مختلفة، وتظَل كذلك حتى تَتطهَّر — إن كانت صالحة — وبعدَ هذا التطهير يكون «الدهر» وهو عالم لا قوي فيه ولا ضعيف، يسود فيه العدل، ونُظُمه كلها واحدة وحكومته كذلك، ولا عَذاب ولا شَقاء. وقد أشار أبو العلاء إلى هذا بقوله:

ما أَحسَنَ الأرضَ لو كانَت بِغَيرِ أذًى
ونَحنُ فيها لِذِكرِ اللهِ سُكَّانُ

أما النفوس الشِّرِّيرة فتظَلُّ مُعذَّبةً بجميع أنواع العذابات المعروفة، والعذاب الأَكبرُ هو عذابُ الضمير، وعذابُ النَّدَم على ما فات؛ لأنها لم تَنتفِع من أدوارها الماضية. أمَّا النفوس الصالحة فتَكتسِب الجَمَال، والعُمرَ التامَّ وراحة الضمير، والِابتعادَ عن الأمراض والمصائب؛ فما هنالك إلا غِبطةٌ روحية في «دَهرٍ» لا نهاية له، يتغيَّر النظام الأرضي ويحلُّ محلَّه نظامٌ إلهي ويحكمه «الإمام» المُمثَّل بالعقل.

فمن أقوالهم: «الفكرة الإلهية ابتدأت مع إبراهيم كالحبَّة، وفي عَهد المسيحِ أَزهرَت، وفي عهدِ محمدِ نضِجَت، ونحن قَطفنَاها.»

ليس للخلود عندهم محلٌّ مُعيَّن، البقاء هنا كما قلنا، وما الجسَدُ إلا وسيلةٌ لإظهار القوى الروحية. الخَير يُمثِّل العقل، وبِعمَل الخير تنفُذ إرادة العقل الذي هو «الإمام» وبهذا يكتسب الأجر. وقد قال في هذا أبو العلاء قولًا لا التباس فيه:

سأَتبَعُ من يَدعُو إلى «الخير» جَاهِدًا
وأَرحَلُ عنها ما «إِمَامي» سِوَى عَقلِي

والشَّجاعة عندهم رأس الفضائل؛ فالعاقل يكون شُجاعًا صادقًا مُتعفِّفًا لا يهاب أحدًا ولا يخاف غَيرَ الخالق. وليس بعاقلٍ من لم يتَّصِف بالحِلم وسَعَة الصَّدْر والترفُّع عن بذيء الكلام. وهم يَتَحوَّبون من ذكر القِرْد ولا يعتقدون بالجن والشياطين، وقد أشار إلى هذا شاعِر العقل كما رأَيتَ. أمَّا الزواج فهم في سنته كما وصَّى أبو العلاء. ليس للفقير أن يتزوَّج، وإن تزوَّجَ فليُقلِّل من المحروسِين ما استطاع، والزواج لِلنَّسلِ فقَط. ولا يجمع الفاطمي بين ثنتَين، وإذا طلَّقها فلا تعود. والطلاق من حقوق الاثنَين، ولا يكون إلا لِعِلَّةٍ عظيمة، وإن طلقها ظالمًا فلَها نصف ما يَملِك حتى الذي على جِلْدِه. ومن يتعفَّف يكُنْ من الملائكة المُقرَّبِين. أمَّا ملائكتهم فغير مُجنحَة، وثَالوثُهم مُؤلَّف من العقل والنفس والكلمة.

إن لِلعُقَّال الفاطميين خطةً ضَيِّقة جدًّا، وما خطة هؤلاء إلا خطة المعري نفسها: انزِواءٌ وانفرادٌ وترويضٌ للنفس، وتَذليلٌ لها بالتقشُّف والحِرمان من الملذَّات، حتى روى لي منهم شَيخٌ مُوقَّر أن أحدهم عاش مع زَوجتِه أربعين سنةً كان يعاملها في أثنائها كأخت، ولا يكون هذا إلا بعد التراضي؛ فالنساء في المذهب الفاطمي كالرجال سَواءً بسواء، وتعفُّفهم ونُسكُهم وزُهدُهم عملًا بالآية: «ادخُلوا من البابِ الضَّيِّق.»

إن المَذهَب يُجيز هذا الزهد للإخوان؛ فلِلعاقل أن يختار أسلوبًا مُعيَّنًا لحياته، بشرط ألا يَتَنافَى مع المبدأ العام، وهو ألا يُقاطِع حيث يقتضي أن يُواصِل؛ فحِفظُ الإخوان واجب، ولِلأخِ على أخيه حقٌّ بكل ما هو حلال. وتَنحصِر صفات العاقل عِندَهم في عِفَّة اليد والقلب واللسان.

ولِلعِلم عندهم أَجلُّ شأن؛ فهم يَتبرَّءون من الجُهَّال؛ فكأنهم يعملون بالكلمة اليونانية: «اطلُبِ المعرفة لأَجلِ المعرفة وهي تَجلِب لكَ السَّعادة.»

إن كل «أسرار» أبي العلاء التي قال إنه «يَستُر دونَها ويُجمجِم» هي هنا. و«السر» مَحتومٌ به على الإخوان الفاطميِّين المُوحِّدِين؛ فهم كما قال الشاعر في العُشَّاق، وأظنه السَّهرَوَرْدِي:

«بِالسِّر» إن بَاحُوا تُباحَ دِماؤهُم
وكذا دِماءُ البائحِين تُباحُ

ما شبَّهتُ بعضَ دارسِي أبي العلاء إلا بالجُرْذان التي في قَبْو الخَمر عندي. يَقرِطون الفلِّين والشمع الأحمر، ومتى هَرَقتُ الخَمرةَ المُعتَّقة هربوا مُولِّين الأدبار …

١  كان ذلك في أيام الحرب وتوزيع الإعاشة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤