بعد أربعمائة سنة

وما أَعودُ إلى الدنيا وقد زَعمُوا
أن الزَّمانَ بِمِثلِي سوفَ يَحكِيني
وا رَحمَتَا لِشَبيهِي في حَوادثِهِ
يُنكِيه ما كانَ في الأيَّامِ يُنكِينِي
المعري

إذا شبَّهنا المذهب الفاطمي بِالكُرة كان المعري قطبها الشمالي والسيد عبد الله قطبها الجنوبي. وإذا تكلَّمنا بلغة الباطنيِّين كان المعري جناحها الأيمن والسيد عبد الله جناحها الأيسر. والأمير السيد صاحب المقام الشهير — في عبيه، لبنان — هو ابن عم المعري الحكيم الخالد.

جاء التنوخيُّون لبنان من مَعرَّة النعمان، والدُّروز يُسمُّونها معرة الإخوان، جاءوا الشوف يحملون معهم المَذهَب فحلُّوا بين إخوانٍ لهم، وساهموا في محاربة الحملة الصليبية وصَدِّها عن الثغور، فنالوا حظوةً عند السلاطِين وحكموا إقليمًا خطيرًا من لبنان. كانوا باطنيِّين نحلة فصاروا فاطميِّين مَذهبًا. وقد عزَّزوا هذا المَذهَب في الشوف حيث لا تزال لهم آثارٌ خالدة وذِكرياتٌ طيبة.

والأمير السيد عبد الله هو أكبر أَيِمَّة الطائفة الدرزية، ومُصلِح «المَذهَب»، ومُنظِّم أصوله وقواعده.

أنجَبَت الأسرة التنوخية رجالًا عظامًا في عصرهم، وكان لها في كل ميدانٍ أبطال؛ فكان هذا البيتُ العريق بيتَ علمٍ وأدب وشِعر وسياسة وفضيلة وزهد وتقوى وإحسان وحِلم ورحمة وفروسية. واشتُهر منه رجالٌ في الفنون كالموسيقى والصياغة والخَط وعلم النُّجوم والطب والشرع والفقه والحديث والفرائض. أمَّا واسِطة هذا العِقد الثمين فالأمير السيد عبد الله الدالَّة عليه آثارُه القائمةُ في عبيه؛ فهي مَزارٌ للناس من فاطميِّين مُؤمنِين بفضل السيد، ومن مُعجَبِين بتلك الشخصية التي لَعِبَت أسمى الأدوار في العصور الاستبدادية المُظلِمة، كما يتضح من ترجمته هذه المكتوبة بقلم فاطميٍّ أديب، من «مُستلِمِي الحِكمة»:

الأمير جمال الدين عبد الله بن سليمان … بن تنوخ بن قحطان بن عوف بن النعمان بن المنذر المعروف بابن ماء السماء. وُلِد في عبيه لبنان، ونشأ كما نشأ أترابه الأمراء في ذلك الزمن محبًّا للفروسية والصيد والقنص. ولمَّا بلَغ أشُدَّه مال إلى الدين، ولم يتصل بأسراره حتى هَجَر سُلوكَه السابقَ وتحلَّى بِحِليةِ المُتَّقِين واتَّسَم بسمة أهلِ الدين، من تمسُّكٍ بالتقوى والصدق والوفاء وترفُّعٍ عن الشهوات والشبهات وهَجرِ الخمرة وسائرِ المُنكَرَات.

وعَكَف على عُلومه فدَرسَها وتَبحَّر في عِلمَي الشرع واللسان وتضلَّع من مذهب «التوحيد» تَضلُّعًا بذَّ فيه السابق واللاحق، وشَرحَه شرحًا وافيًا مُحلِّلًا مشكلاته وغوامضه، ثم عَنَّ له إصلاح النظام الاجتماعي الإقطاعي المُخالِف للمذهب فنادى بالمساواة المُطلَقة بين الناس وأنْ لا مَيزَة إلا بالعلم والعمل، فثار به العامَّة ونقِم عليه الخاصة، فهاجر إلى دمشق كَعبةِ العلم ومَحَجِّ العلماء في عصره. وهُنالِك تَفرَّغ بِكُلِّيته لِلعِلم والتعليم، وناظر الأيمة والعلماء فغلبَهم وبهرَهم بِسَعة علمه وتقواه وفضله حتى لُقِّب بالسيد وعُرِف بذلك. مكث في دمشق بِضعَ سنواتٍ نَبَه فيها ذِكرُه، وأصبَحَت داره مَحَجَّة للعلماء والكبراء، وتجاوَزَت شُهرتُه دمشق إلى لبنان، فعقد أمراء البلاد وكبراؤها وشيوخها اجتماعًا أقرُّوا فيه إيفاد نُخبةٍ منهم إلى دمشق لِيتَوسَّلوا إلى أميرهم المصلح بالعودة إليهم خاضِعِين لِمَا يفرضه عليهم من إصلاح، فعاد الأمير السيد إلى بلاده المحتاجة إلى علمه وفضله فاحتفل بمَقدِمه السُّكان أَيَّما احتفال، وتَقاطَرتِ الوفود من سائر الطبَقَات إلى داره في عبيه، ولازَمَه الكثيرون طلبًا للعلم، فزهِد في الدنيا على بَسطةِ عيشه وسَعَة يده وتقشَّف تقشُّفًا عظيمًا. كان يقضي نهاره صائمًا مُعلِّمًا وليله مُصلِّيًا مُجتهِدًا. كان جوادًا كريمًا على زائرِيه ومُريدِيه، تَحفِلُ موائده بِطيِّبات المآكل ولكنه حرَّمَها على نفسه الطاهرة.

وأوجب على أتباعه مُعامَلةَ الناس حسَب أعمالهم الخيرية؛ فأهل التقوى والعلم مُقدَّمون على سواهم، ضاربًا عُرضَ الحائطِ بالأنساب والمَيزَات الاجتماعية.

فَرضَ العلم على الجِنسَين الذكور والإناث، وحدَّد النسل، وأباح الزَّواج للنسل المُحدَّد فقط. وما خرج عنه يُحسَب ضربًا من الزنى. وحَرَّم على الفقير المُعدِم الزواج رحمة بالأولاد ورفعًا للمستوى. وأوجب على الآباء حين يُوصُون بِتُراثهم لأبنائهم أن يُفضِّلوا الخيِّرين من الأبناء على سواهم وأن يَحرِموا الأَشرارَ منها. وأجاز للأب الوصية لمن شاء من إخوانه الأتقياء إذا لم يَسعَد بأبناءٍ خيِّرين، ثم فَرضَ الصَّدقاتِ وكان كلَّ عام يملأ خَرجًا من المال يطوف به القُرى مُوزِّعًا على المحتاجِين والمُعدِمِين آخذًا من الأغنياء مَبالغَ مُعيَّنة لأجل الصَّدقَة فيعود إلى عبيه وخَرجُه مملوءٌ كما كان.

كان يقول للناس: «من كان مُحتاجًا فليأخذ، ومن كان مُستطيعًا فليَضَع.» ويُدير ظهره لكيلا يرى من أخذ ومن أعطى. ومن كلامه المأثور في هذا الصدد: «لو أن الغني بَذَل، والفقير قَنَع، لم يكن في البلاد فقير.»

فُجع الأمير السيد بولده الوحيد الأمير عبد الخالق ليلةَ عرسه؛ رفَسَته فَرسُه فقَضت عليه. ولمَّا استبطأ الوالد عودة وَلَده نَزَل إلى الإسطبل فرأى وحيده ميتًا فعاد وأَمَر بنصب الموائدِ لِلمَدعوِّين، فبُسِطَت وأكلوا وقاموا بواجب التهنئة والتبريك بالزفاف، فأجابهم السيد قائلًا: «آجَركُم الله بالعريس.» وحظر عليهم النَّدبَ والبُكاء والنُّواح لأنه مخالف للدين؛ فما الأبناءُ إلا ودائعُ عند الآباء وكمُستودَعٍ أمين؛ فمتى شاء الله استَردَّ وديعته، وعلينا تسليمها بِطِيبة نفس وسرور. إن أرواحنا مُودَعة في هذه الأجساد المُنحلَّة، يأخذها الله متى شاء.

أيها الناس، لا فوت من الموت فلكم عند الله من الخير ما تَكسِبون ومن الشر ما تفعلون، ونحن وإياكم في قَبضة ملك الممالك، فطوبى لمن قبِل أوامر الله وأطاعه، وجعل مُدَّتَه من الدهر ساعة.

أيها الناظرون إليَّ، أتظنُّون أن صبري على فَقدِ ولدي جهالة، أو تَركَ تعرُّضي للقضاء ضَلالة، أو أنِّي نسيت عِلمه وفضله، وطاعته وصبره؟،١ ودَفَن وحيده ولم يَذرِف عليه عَبرةً واحدة.

كان الأمير السيد غنيًّا واسع الإقطاعات يملك قُرًى عديدة وَقفَها جميعها على أعمال البِر. وعمَّ إحسانُه جميعَ مُواطنِيه من سائر الطوائف فجعل لعائلة سركيس المسيحية في عبيه غِلالًا مُعيَّنة كل عام، لهم ولِذُرِّيتهم من بعدهم ما دامت أوقافه. ووصيته المشهورة تنص على ذلك نصًّا صريحًا.

ولهذا قال فيه المُؤرِّخ ابن سباط: إنه كان محبوبًا من جميع الأسباط، كما ورد في تاريخ أعيان لبنان للشدياق.

أوجب السيد على إخوانه الترفُّع عن أكل الحرام والشبهات والرياء ومال الظلَمة وأوقافهم وغِلالهِم، وحرَّم أكل غِلال الأراضي المُغتصَبة ونَهَى عن قَبولِ أموال الحكام ومن يَتصِل بهم.

تآليفه: شرح الأمير المذهبي، وكتابٌ لُغوِي مُسمًّى سفينة اللغة العربية. انتهى.

أمَّا وفاة الأمير السيد فكانت — كما روى الأمير حيدر في تاريخه المشهور — في اليوم السابع عشر من شهر جمادى الآخرة سنة ٨٨٤ هجرية، فأقام تلاميذه رئيسًا يُرشِدهم بعده ويُشير عليهِم ابن عمه الأمير سيف الدين زنكي. وكان لفقد الأمير رَجَّةٌ عظيمةٌ في البلاد، واجتمع يوم مأتمه أُممٌ لا تُحصى من جميع البلدان.

١  ارجع إلى خطبته هذه في تاريخ الأمير حيدر، ص٦٠٤، طبعة مصر، لمغبغب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤