مدرسة أبي العلاء

تَكاثَرتِ الظباءُ على خِراشٍ
فلَا يَدري خِراشٌ ما يَصِيدُ

ولكنك ستعلم أن شيخنا، حيَّاه الله، صيادٌ جبَّار متى سمِعتَه يُملي على تلاميذه الذين ضاق بهم المكان، فتخالُك في أثينا لا في قريةٍ من قرى «العواصم». وكان بين طلاب الشيخ واحدٌ تجاوز سِنَّ الشباب ما عرف شيخنا من أَمْره إلا أنه من القاهرة واسمه إسماعيل التميمي. راب الشيخَ أمرُ هذا الطالب؛ فكيف يضرب إليه أكباد الإبل وهو من مصر، وفي مصر «دار الحكمة»؟ نَظَمه الشيخ في إحدى حَلقَاته بعدما اعتذَر له بضيق المُقام وما نفَع الاعتذار. احتج التميمي بِبُعد الشُّقَّة وأنه قَصَد لِيَغرِف من بَحر علمه ويقتبس من حكمته، فتأفَّف أبو العلاء لأنه ضاق ذرعًا بِمُريدِيه؛ فبيوت المعرَّة تغُصُّ بهم وبيته لا يسعهم، فاضطُر إلى جَعلِهم حلقاتٍ مختلفة، فريق يجيء، وفريق ينصرف، والشيخ مُتربِّع لا تُحَلُّ له حَبوَة، ولا يَتزَحزح إلا حين تدعوه حاجةٌ كالأكل والشرب وما يليهما.

وإذا ما انصَرفَ طُلَّابه وخلَت الدار قعَد يُعِد أمالي الغد، أمالي ممزوجة بكل ما يُلابِس الحياة ويُلامِسها من قريبٍ وبعيد، وشأنه مع المسائل الخطيرة والخطِرة شأن العصفور الدوري ينقد ويطير، ثم يَكِر ثانية، وهكذا دواليك حتى يَشبع ويُشبِع تلاميذه … يعالج جميع الموضوعات التي تنشئ رجالًا وتمتِّن أخلاقهم؛ فهو ينشد الكمال الإنساني دائمًا، كما ينشد الكمال الإنشائي فيما يَنظِم لِيُملي معنيًّا باللغة التي كانت رُكنَ العلوم في ذلك الزمان، بل كانت كل شيء؛ فيُكثر من الغريب، ويرمز ويُلمِّح، ويطابق ويجانس، ويطوي وينشر ويُورِّي، ثم يعود إلى إيضاح ما أملى وشرحه، ويُفَذلِك أخيرًا آراءه لِتَرسُخ في الأذهان، أذهانِ مُريدِيه الذين اعتقدوا أن عند الشيخ علم كل شيء لأنه ذاع عنه:

غَدَوتَ مَرِيضَ العَقلِ والدِّينِ فالقَني
لِتَعلمَ أَنباءَ العُلومِ الصَّحائحِ

وقوله:

مَا كَانَ في الدُّنيَا بنُو زَمَنٍ
إلا وعِنديَ من أَخبارِهِم طَرَفُ

ولذلك تَعُج أَمالِيه بالتلميح، وتَضطرِم فيها نيران الثورة على الأديان جَميعِها؛ فكأنه جامعةٌ دولية لا تُخوم لها ولا حُدود.

كان الإقبال عليه عظيمًا فاستحالت وَحدَته إلى مُجتمعٍ حيٍّ نابضٍ بقوة الشباب وتفكيره الصاخب. وقد أشار أبو العلاء إلى مدرسته هذه بقوله:

يَزورُني الناسُ هذا أرضُهُ يمنٌ
من البلادِ وهذا أرضُه الطَّبَسُ
قالوا سَمِعنا حديثًا عنك، قُلتُ لهم
لا يُبعِدُ الله إلا مَعشرًا لَبَسُوا
يَبغُون مِنِّيَ مَعنًى لَستُ أُحسِنُهُ
فإن صَدَقتُ عَرتْهم أَوجُهٌ عُبسُ
أعانَنا الله، كلٌّ في مَعيشَتِهِ
يَلقَى العَناء، فدُرِّي فوقَنا دبسُ

وحانت ساعة الإملاء فتَحرَّكَت شفتا الشيخ فقال العرِّيف: أقلامَكُم وأوراقَكُم. فأملى الشيخ:

ملائكٌ تحتَها إِنسٌ وسَائمةٌ
فالأَغبياءُ سَوامٌ، والتقيُّ ملَكْ
فلا تعُلِّم صغير القومِ معصيةً
فذاك وِزرٌ إلى أمثاله عدَلَكٍ
فالسِّلكُ ما اسطاعَ يومًا ثَقبَ لُؤلؤةٍ
لكنْ أصاب طريقًا نافذًا فسَلَكْ

فكتب التميمي، وهو يصرُّ شفتَيه، مُتعجِّبًا لهذه العِظة الضخمة كيف بَرزَت في هذا الثو الدقيق، وراح يُفكِّر فيما كتَب وإذا برفاقه قد سبقوه ولم يلتقط هو إلا هذا البيت:

يا رَضوَ لا أَرجُو لِقَا
ءَكَ، بَلْ أَخافُ لِقاءَ مَالِكْ

فضَحِك التميمي إذ درى ما عَنَى شيخُه وعَلِم أنهما على صعيدٍ واحد، وانتقل الشيخ إلى موضوعٍ آخرَ بعد تفكيرٍ قليل، وقال اكتبوا:

تقَضَّى الناس جيلًا بعد جيلٍ
وخُلِّفتِ النجومُ كما تراها
إذا رجع الحصيفُ إلى حِجاهُ
تهاوَنَ بالمَذاهبِ وازدَرَاها
وَهَتْ أديانُهم من كلِّ وَجهٍ
فهل «عَقلٌ» يُشَدُّ به عُراها
تقدَّم صاحبُ التوراةِ موسى
وأوقعَ في الخَسارِ من اقتَراها
وقال رِجالُهُ وحيٌ أتاه
وقال الظَّالمون بلِ افتَراها
أرى أمَّ القرى خُصَّتْ بِهجرٍ
وسَارت نمُل مكةَ عن قِراها
وكم سَرتِ الرفاقُ إلى صلاحٍ
فمارستِ الشدائدَ في سُراها
يُوافون البنيَّةَ كلَّ عامٍ
ليُلقوا المُخزِياتِ على قُراها
ضيوفٌ ما قَراها الله عَفوًا
ولكن من نَوائبهِ قَرَاهَا
وما سَيْري إلى أحجارِ بيتٍ
كُئوسُ الخَمر تُشربُ في ذُراهَا
فإن الله غيرُ ملومِ فعلٍ
إذا أَورَى الوَقُود على وَرَاهَا

فازداد التميمي تَعجُّبًا؛ إذ سمع المُعلِّم يَتحدَّث عن الله، في البيت الأخير، كأنه يَتحدَّث عن زميلٍ له أو نظيرٍ فيُحاوِل تبرئته إن فعل ما تمناه عليه.

وشَرَح الشيخ بعضَ كلماتٍ مما أملاه، ودَلَّ على أنواع البديع، ثم عاد يملي فكتبوا:

أتتْ خَنساءُ مَكةَ كالثُّريَّا
وخَلَّت في المواطِنِ فَرْقدَيها

وتوقَّف هُنيهَةً لِيَشرحَ ما يَعني بقوله خنساء، وكيف ورَّى، ثم أتمَّ:

ولو حَلَّت بمنزلها وصامتْ
لَأَلْفَتْ ما تُحاوِلهُ لدَيها
ولكن جاءتِ الجمَراتِ تَرمِي
وأَبصارُ الغُواة إلى يدَيها
وليس محمدٌ فيما أتَتهُ
ولا اللهُ القديرُ بمُحمِدَيها

وكان الطلاب يكتبون ويتغامزون مُتعجِّبِين، أمَّا التميمي فما صدَّق أنه يكتب ما كتب حتى نقلَهم الشيخ إلى قضيةٍ من قضاياه الكبرى فقال:

اكتبوا يا أولادي:

لو كان جِسمُك مطروحًا بِهيئتِهِ
بعد التِّلافِ طمِعنَا في تَلافيهِ
كالدَّنِّ عُطِّل من راحٍ تكونُ به
ولم يُحطَّمْ فعَادَت مرةً فيهِ
لِكنَّه صار أجزاءً مُقَسَّمةً
ثم استمرَّ هباءً في سوافِيهِ

وانتقل إلى موضوع آخر أقلَّ خطرًا فأملى:

ألا تُفكِّر قبل النَّسلِ في زَمنٍ
بهِ حلَلتَ فتَدرِي أَينَ تُلقِيهِ
تَرجُو له من نَعيمِ الدَّهرِ مُمتنِعًا
ومَا عَلِمتَ بأنَّ العَيشَ يُشقِيهِ
شَكَا الأَذَى فسَهِرتَ اللَّيلَ وابْتَكَرتْ
بِهِ الْفَتَاةُ إِلَى شَمطَاءَ تَرقِيهِ
وأُمُّهُ تَسأَلُ العَرَّافَ قَاضِيةً
عَنْهُ النُّذورَ لَعَلَّ اللهَ يُبقِيهِ
وأَنتَ أَرشَدُ مِنهَا حِينَ تَحمِلُهُ
إِلَى الطَّبيبِ يُدَاوِيِهِ ويَشفِيهِ
وَلَو رَقَى الطِّفلَ عيسى أَوْ أُعِيدَ لَهُ
بُقرَاطُ مَا كَانَ مِن مَوتٍ يُوقِّيهِ
دَنَّستَ عِرضَكَ حَتَّى مَا تَرَى دنَسًا
لكِنْ قَمِيصُكَ لِلأَبصَارِ تُنقِيهِ

ثم أملى أيضا:

ويَنشَأُ ناشِئُ الفِتيَانِ مِنَّا
عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَه أَبُوهُ
ومَا دَانَ الفَتَى بِحِجًى ولَكِنْ
يُعلِّمُهُ التدَيُّنَ أَقرَبُوهُ
وَجَاءتنَا شَرائِعُ كلِّ قَومٍ
علَى آثارِ شَيءٍ رتَّبُوهُ
وغيَّر بعضُهم أَقوَالَ بَعضٍ
وأَبطَلَتِ النُّهَى ما أَوجَبُوهُ

وأراد التميمي أن يطرح سؤالًا، فقال المعري: اكتبوا، ثم اسألوا ما شئتم:

أَسْهَبَ الناسُ في المَقالِ وما يَظْـ
ـفَرُ إلا بِزلَّةٍ مُسهِبُوهُ
عَجبًا لِلمَسيحِ عِندَ النَّصَارَى
وإلى اللهِ وَالِدٍ نَسَبُوهُ
أَسْلَمَتْهُ إِلَى الْيَهُودِ النَّصَارَى
وأَقَرُّوا بِأنَّهُم صَلَبُوهُ
يُشفِقُ الحَازِمُ اللبيبُ على الطفْـ
ـلِ إذا ما لِداتُهُ ضَرَبُوهُ
وإذا كانَ ما يقُولُون في عِيـ
ـسَى صَحيحًا فأين كانَ أَبُوهُ؟
كَيفَ خَلَّى وليدَه للأعادِي
أَمْ يظُنُّون أنهم غَلَبُوهُ؟
وإذا ما سألتَ أصحابَ دينٍ
غَيَّروا بالقياسِ ما رتَّبوهُ
لا يَدِينونَ «بِالعُقولِ» ولكنْ
بِأباطيلِ زُخرُفٍ كذَّبوهُ

ووَجَّه الشيخ وجهه شطر صوت التميمي وقال: سلِ الآن ما بدا لك، فأجاب التميمي: أَدركتُ يا شَيخَنا ما عَنَيتَ.

فقال أبو العلاء: اكتبوا إذن. وطَفِق يُفسِّر كلماتِ الدَّرسِ ويَشرَح الأبياتِ ويُعرِب لتلاميذه ما أَشكَل عليهم، ويحُلُّ الرموز، وأَذَّن العصر فانصَرفوا.

وكان للشيخ تِلميذٌ يُؤثِرُه، وكان هذا الشاب يُعين شيخه، يُقدِّم له حذاءه ويأخذ بيده لِيقوم إلى حاجته. ومن عمله أيضًا أن يَكتُب ما يُمليه عليه ويَحفَظه في صُندوقةٍ موضوعة دائمًا بقرب الشيخ. وسأل الشيخ تِلميذَه عن الطالب الجديد؛ أي التميمي، ما سنُه؟ وماذا أبدى في أثناء الدرس، استحسانًا أم استهجانًا؟ وهل استغرب شيئًا مما أُملي عليه، وأين يقيم، وهل اكترى بيتًا؟ إلخ …

فأجاب الطالب: فوق الثلاثين، فقال الشيخ: أُف! وأَتَمَّ الفتى: أمَّا الدرس فقد دَهشَه. وظل الشيخ ساكتًا فقال الشاب: ما عوَّدتَني مثل هذه السؤالات، أتخشى منه بأسًا؟ فأومأ الشيخ أنْ لا، ثم قال: إنه آتٍ من مصر، وسوء الظن من حُسن الفِطَن. وتَنهَّد أبو العلاء تنهُّدةً يعرفها تلميذه أنها علامة الانصراف، فقبَّل يده وخرج.

وشرع أبو العلاء، على عادته، يُعِدُّ الأمالي للدرس الآتي. ومع الشمس جاء تلاميذه فجلسُوا حوله في السِّماطَين حتى إذا وفَد المتأخِّرون صاروا حَلقة. وكان التميمي قد بكَّر وقَعَد من الشيخ مَقعَد الطالبِ المُدلَّل لا يفصل بينهما أحد. وتَحرَّكَت شَفَتا الشيخ للإملاء حركاتٍ بطيئةً فسريعة، وقد رفع رَأسَه كأنه ينظر إلى أعلى الجدار، فتهيَّأ الطلاب لِاقتِبال البُذور التي يلقيها الزارع الخالد، فأملى ولكن من «سِقْط الزَّند»:

أرى العَنقاءَ تكبرُ أن تُصادَا
فعانِدْ من تطيقُ له عِنادَا
وظُنَّ بسائرِ الإخوان شَرًّا
ولَا تَأمَن علَى سِرٍّ فُؤادَا

وعَضَّ على كلمة سِر كأنما هو يعني شيئًا، ثم قال:

ولو خَبرَتهمُ الجوزاء خبرِي
لمَا طَلعَتْ مَخافةَ أن تُكادَا
فأيُّ الناس أَجعَله صَديقًا
وأيُّ الأرضِ أسلكُه ارتيادَا
ولو أن النجومَ لديَّ مالٌ
نفَتْ كفَّايَ أكثرَها اتِّقادَا
كأنِّي في لسانِ الدَّهرِ لفظٌ
تضمَّن منه أَغرَاضًا بِعادَا
يُكرِّرني لِيَفهَمني رِجالٌ
كما كَرَّرتَ معنًى مُستعادَا
ولَو أَنِّي حُبِيتُ الخُلدَ فَردًا
لمَا أَحْبَبتُ بِالدُّنيا انفرادَا
فلا هَطلَت عَليَّ ولَا بِأَرضِي
سَحَائِبُ لَيسَ تَنتظِمُ البِلادَا

وكان التميمي يكتُب وعليه أَمَارات التعجُّب، مُنكبٌّ على دَفترِه وقَلمُه بيده، راصدٌ كأنه الهِرُّ على باب الجُحْر. أمَّا الطالب الأثير فكان له بِالمِرصادِ يُحصي عليه أنفاسه. وهَمَّ الشيخ بالكلام فسُمِعَت تَكتَكةُ الأقلامِ في البَواقيلِ وحَفيفُ الدفاتر فقال:

أصبَحتُ مَنحُوسًا كأني ابنُ مسْـ
ـعُودٍ وما أَطغَى بأن أَهزِلَا
لي أملٌ فُرقانُه مُحكَمٌ
أقراهُ غضًّا كما أُنزِلَا
شيخًا أراني كطُفَيلٍ غَدَا
يرَكُضُ في غاراته قُرْزُلَا
لا يَكذِبُ الناسُ على ربِّهم
ما حُرِّكَ العَرشُ ولا زُلزِلَا
فلَيتَ مَن يَفرِي أحادِيثَهُ
ماتَ فصيلًا قبل أن يَبزُلَا
يا جَدَثِي حَسبُكَ مِن رُتبةٍ
أَنَّكَ مِن أَجداثِهِم معزلَا
أمَّلَني الدَّهرُ بأَحداثِهِ
فاشتَقتُ في بَطنِ الثَّرى مَنزِلَا
إن نَشَأتْ بنتُك في نعمةٍ
فألزِمَنْها البَيتَ والمِغزَلَا
ذلك خَيرٌ من شَوارٍ لها
ومن عَطايا وَالِدٍ أَجزَلَا

وتوقَّف الشيخ هنيهةً عن الإملاء كَعادتِه عند كل نهاية، فأخذ التميمي يُفكِّر في العلاقة بين الأبيات الأُولى والأخيرة، ولكنه أَلِف أسلوب الشيخ فيما بعدُ، فأَدركَ أنها طريقته الخاصة، وخطَّته أن يَكِرَّ ويَفِرَّ إلى حِصنٍ آخر بعد كل حَجرٍ يرميه من منجنيقه. يفعل ذلك تقيةً لِيَشغل قارئه بالجديدِ عما سبق. وتَنحنَح الشيخ، فاستَعَدُّوا، فأملى:

دعاكم إلى خيرِ الأُمورِ محمدٌ
وليس العَوالي في القَنا كالسَّوافلِ
حَدَاكُم إلى تعظيمِ من خَلَق الضُّحى
وشُهْبَ الدُّجى من طالعاتٍ وآفلِ
وألزَمَكُم ما ليس يُعجزُ حَملُهُ
أخا الضَّعفِ من فَرضٍ له ونوافلِ
وحَثَّ على تطهيرِ جِسمٍ وملبسٍ
وعاقَبَ في قذفِ النساءِ القوافلِ
وحَرَّم خَمرًا خِلْتُ ألبابَ شَرْبِها
من الطَّيشِ ألبابَ النَّعامِ الجَوافلِ
يَجرُّون ذيلَ المُلكِ جرَّ أَوانسٍ
لَدَى البَدوِ أذيالَ الغَوانِي الرَّوافِلِ
فصَلَّى عليه اللهُ مَا ذَرَّ شارقٌ
ومَا فَتَّ مسكًا ذِكرُهُ في المَحافِلِ

فصَلَّوا جميعًا وسلموا، وزَفَر الشيخ زَفرةً حَرَّى وأملى:

لَعَلَّ أُناسًا في المَحاريبِ خوَّفُوا
بِآيٍ، كَنَاسٍ في المَشارِبِ أَطرَبُوا
إذا رامَ كيدًا بالصلاةِ مُقيمُها
فتارِكُها عَمدًا إلى الله أقربُ
فلا يُمسِ فَخَّارًا إلى الفخر عائدٌ
إلى عُنصُر الفَخَّارِ لِلنفعِ يضربُ
لعَلَّ إناءً منه يُصنعُ مَرةً
فيأكُل فيه من أرادَ ويَشرَبُ
ويُحمَل من أرضٍ لأخرى وما دَرَى
فوَاهًا له بعد البِلَى يَتغرَّبُ
وما الأرضُ إلا مِثلنَا الرِّزقَ تَبتغِي
فتأكُل من هذا الأَنامِ وتَشربُ
لقَد كذَبوا حتَّى على الشمس أَنَّها
تُهانُ إذا حان الشروقُ وتُضرَبُ

فكان استحسانٌ من سَواد الطلبة، فمضى الشيخ في الإملاء:

ألا فانعَموا واحذَروا في الحياة
مُلِمًّا يُسمَّى مُزِيلَ النِّعَمْ
أرى قَدَرًا بثَّ أحداثَه
فخَصَّ بهِنَّ أُناسًا وعَمْ
وأن القَنَا حَملَتها الأَكُفُّ
لِطعنِ الكُماةِ وشَلِّ النَّعَمْ
فلا تأمَنُوا الشرَّ من صاحبٍ
وإن كان خالًا لكم وابنَ عَمْ
أتَوكمْ بأَقيالِهِم والحُسا
مِ فشَدَّ بهم زاعمٌ ما زَعَمْ
تَلَوْا بَاطلًا وجَلَوْا صَارمًا
وقالُوا صَدقْنا فقلتُم نَعَمْ
أَفِيقُوا فَإنَّ أَحادِيثَهُمْ
ضِعافُ القَواعِدِ والمُدَّعَمْ
زَخَارِفُ ما ثَبَتَتْ في العُقُو
لِ عمَّى عليكم بِهنَّ المُعَمْ
يَدُول الزمانُ لِغَيرِ الكِرامِ
وتُضحِي مَمالِكُ قومٍ طُعَمْ
وما تَشْعُرُ الإِبْلُ أنَّ الرِّكابَ
أُعِمَّتْ إلى الرَّملِ أَمْ لَمْ تُعَمْ

وأدرك التميمي الآن كيف يَطمُر الشيخ أغراضه، ويَنصبُ فِخاخَه ويُسوِّيها بالأرض ويَذرِي عليها ما يُغطِّيها، فلا يُدرى أين هي. وانتقل الشيخ دونما استراحة إلى لزوميةٍ أخرى فأملى:

إذا مَدَحوا آدميًّا مَدَحتُ
مُولِّي المَوالِي ورَبَّ الأُمَمْ
وذاك الغَنيُّ عن المادِحِينَ
ولكنْ لِنَفسي عقَدتُ الذِّمَمْ
ومَغفِرةُ الله مَرجُوَّةٌ
إذا حُبِسَت أَعظُمِي في الرِّمَمْ
فيا ليتَني هامِدًا لا أَقُوم
إذا نهضوا يَنفُضونَ اللِّمَمْ
ونادَى المُنادِي على غَفلةٍ
فلم يَبقَ في أُذُنٍ من صَمَمْ
وجاءت صَحائفُ قد ضُمِّنَتْ
كَبائرَ آثامِهِم واللَّمَمْ
رأيتُ بني الدَّهرِ في غَفلةٍ
ولَيسَتْ جَهالَتُهُم بالأَمَمْ
فنُسْكُ أُناسٍ لِضَعفِ العُقولِ
ونُسْكُ أُناسٍ لِبُعدِ الهِمَمْ

وكان شَرحٌ فاستراحةٌ قليلة، ثم عاد الشيخ إلى الإملاء:

قد ندِمنا عَلى القَبيحِ فأمسيْـ
ـنَا عَلى غيرِ قهوةٍ نَتنادمْ
خالقٌ، لا يُشكُّ فيه، قديمٌ
وزَمانٌ على الأنامِ تَقَادَمْ
جائزٌ أن يكونَ آدمُ هذا
قَبلَه آدمٌ على إِثرِ آدمْ
خَدمَ اللهَ غَيرُنا وأُرانَا
أَهلُ غَيٍّ لِربِّنا نتخادمْ
لَست أَنفِي عن قُدْرةِ الله أَشْبَا
حَ ضياءٍ بغير لَحمٍ ولا دَمْ
وبَصيرُ الأَقوامِ مثليَ أَعمَى
فهَلُمُّوا في حِندِسٍ نَتصَادَمْ

وأبدى التميمي حركةً أَشعَرَت الشيخَ أن تلميذه أعرفُ من رفاقه، ولم يَعزُ ذلك إلى سِنِّه، بل ظن أنه من «المُستجيبِين» فابتَسَم وأملى:

أَصحابُ لَيكةِ أُهلِكُوا بِظَهيرةٍ
حَمِيَت، وعادٌ أُهلِكَت بِالصَّرصَرِ
كِسرَى أصابَ الكَسرُ جابرَ مُلكِهِ
والقَصرُ كَرَّ على تَطاوُل قَيصرِ

فأبدى التلاميذ استحسانًا عظيمًا لهذا الجناس البارع ولكن الشيخ لم يُبالِ وأتم:

لا تَحمَدنَّ ولا تذُمَّنَ امرءًا
فينا؛ فغيرُ مُقصِّرٍ كمُقصِّرِ
آليتُ لا ينفكُّ جسمِي في أذًى
حتى يعُود إلى كريمِ العُنصُرِ
وإذا رجَعتُ إليه صارَت أَعظُمي
تُربًا تهافَتُ في طِوال الأَعصُرِ
واللهُ خالِقنا اللطيفُ مُكوِّنٌ
ما لا يَبينُ لسامعٍ أو مُبصرِ
أيامَ لم تكُ في المواطنِ كوفةٌ
لِمُكوِّفٍ أو بَصرةٌ لِمُبصِّر

وبدَت حركةُ استحسانٍ فلم يُعِرها الشيخ اهتِمامًا وظَلَّ يملي:

والعَقلُ يَعجَبُ للشروعِ تَمجُّسٍ
وتحنُّفٍ وتهوُّدٍ وتنصُّرِ
فاحذرْ ولا تدَعِ الأمورَ مُضاعةً
وانظرْ بقلبِ مُفكِّرٍ مُتبصِّر
فالنفس إن هي أُطلِقَتْ من سِجنِها
فكأنها في شَخصِها لم تُحصَرِ
والطُّولُ في وسط البنانِ لِعلَّةٍ
كالنَّقصِ في إِبهامها والخِنصرِ

فضحِك التميمي ضحكةً بلغ رنينُها أذنَ الشيخ، واستغرب الآخرون ما بدا منه. أمَّا الشيخ فعَرفَ صاحبه كُلَّ المعرفة وأملى قصيدةً أخرى من وَزنِها وقافيتها ختمها بهذا البيت:

وإذا أردتمْ لِلبنينَ كرامةً
فالحزمُ أَجمَعُ تَركُهُمْ في الأَظهُرِ

وسُئل الشيخ لماذا، فقال اكتبوا:

جَنَى ابنُ سِتِّينَ على نفسِهِ
بِالولَد الحادثِ ما لا يُحِبْ
تُقولُ عرسُ الشيخِ في نَفسِها
لا كُنتَ يا شرَّ خليلٍ صُحِبْ
أَنفَعُ منه عِندَها بُرجُدٌ
أذهَبَ قَرًّا أو سِقاءٌ سُحِبْ

وقال:

تفرَّقوا كي يقِلَّ شرُّكُمُ
فإنَّما الناسُ كلُّهم وَسَخُ
قد نُسِخَ الشَّرعُ في عُصورِهِمِ
فليتَهُم مِثلَ شَرعِهمْ نُسِخُوا

ثم قال:

مِن وَسَخٍ صَاغَ الفَتَى رَبَّهُ
فَلَا يَقُولَنَّ توسَّخْتُ

وقال:

لو أن كل نفوسِ القومِ رائيةٌ
كرَأيِ نفسي تناءت عن خَزايَاها
وعَطَّلوا هذه الدنيا فما وَلَدُوا
ولا اقتَنَوْا واستَراحُوا من رَزَايَاهَا

ثم وقف والتفَتَ نحوهم وقال: اسألوا الآن لماذا؟ لِنستأنِفَ حياةً جديدة خيرًا من هذه الحياة، وكأنه أدرك أنه تورَّط فقال اكتُبوا:

مَا أَقدرَ اللهَ أن يَدعُو بريَّته
من ترُبهِم فيعُودوا كالذي كانُوا!
إن كان رَضْوى وقدسٌ غيرَ دائمةٍ
فهل تدومُ لهذا الشخصِ أركانُ؟
ما أَحسنَ الأرضَ لو كانت بِغيرِ أذًى
ونَحنُ فيها لِذِكرِ الله سُكَّانُ!

فتهلَّل التميمي حتى أبدى نواجِذَه وقال بصوت مسموع: القضية ثابتة. وعَبَس الشيخ فقَطَّ التميمي ضحكته قطًّا، وأملى الشيخ:

ولو طارَ جِبريلٌ بقيةَ عُمرِهِ
من الدهرِ ما اسطَاعَ الخروجَ من الدَّهرِ
وقد زعَموا الأفلاكَ يُدركُها البِلى
فإن كان حَقًّا فالنَّجاسةُ كالطُّهرِ
وأمَّا الذي لا ريبَ فيه لِعاقلٍ
فغَدرُ الليالي بالظَّلامِيَةِ الزُّهرِ
وإن صَحَّ أن النيِّراتِ مُحَسَّةٌ
فماذا نَكِرتُم من وِدادٍ ومن صِهرِ؟
لَعلَّ سُهَيلًا وهو فَحلُ كواكبٍ
تزوَّجَ بِنتًا للسِّماكِ على مَهرِ

وعمَّ الضحك حلقة الشيخ، وارتاح هو إلى ارتياح تلاميذه وفَهمِهم مَنطِقَه وما يُريد وما يعني، وصَرفَهم لاستراحةٍ قليلة، واستدنى التميمي قائلًا له: اكشف لي عن صفحتك؛ فما خطبك؟ عرفت أنك منا، فماذا تَبتغِي في حَلقتي؟

فصَرَّح له التميمي بأنه مُوفَد من لدُنِ الحاكم بأَمْر الله، ومُهمَّته أن يتلقى بعض الدروس، ثم يتوجه بالشيخ إلى القاهرة لِيُلقي الدروس على «الدعاة» في «دار الحكمة».

فابتسم أبو العلاء وقال له: كان ذلك قبل النَّذْر، خُذ عني ما تشاء، واكتُب ما تشاء، وخبِّر «الإمام» بما رأيتَ وسمِعت، أمَّا ذَهابي إلى القاهرة فهَيهَات. هيهاتَ أن يَحمِل عني مولانا الحاكم وِزرَ يميني. نحن قوم، وأنت من العارفِين، نَدينُ بالصدق، ومن يَكذِبْ على نفسه يكذب على الإمام والإخوان، والعياذ بالله.

وكان أخذٌ وردٌّ، وتمادَى التميمي حتى استولَى على أَمَد الحديث. ودخل التلاميذ وقَعدُوا فأملى الشيخ:

عَمى العَينِ يتلُوه عمَى الدِّين والهُدَى
فلَيْلَتيَ القُصوى ثلاثُ ليالِ
لَحَى الله غاراتِ السنينَ فإنها
مُبدِّلةٌ ظلماتِها بِزِيالِ
وهوَّنَ أرزاءَ الحوادثِ أنني
وحيدًا أُعانيها بِغيرِ عِيالِ
فدَعْني وأَهوالًا أُمارِسُ ضَنكَها
وإيَّاك عَنِّي لا تقِفْ بِحِيالِي

فظن التميمي أنه يَعنِيه ولكنه كتب ما أملى:

جاء القِرانُ وأمرُ الله أَرسَلَه
وكان سِترٌ على الأديان فانخَرقَا
ما أُبرِمَ المُلْكُ إلا عاد مُنتقَضًا
ولا تآلَفَ إلا شَتَّ وافتَرقَا
مَذَاهبٌ جعَلُوها من معايِشِهِم
من أَعمَلَ الفِكر فيها تُعطِهِ الأَرَقَا
احذَر سَليلَكَ فالنارُ التي خَرجَتْ
مِن زَندِها إن أصابَت عُودَه احتَرقَا

فردد تلميذ مرح بيتًا آخر أخذوه عن الشيخ منذ مدة:

عَروسُك أَفعَى فهَبْ قُربَها
وخَفْ من سَليلِك فَهْوَ الحَنَشْ

فضَحِك بعضٌ وتضاحَك بعضٌ، أمَّا الشيخ فأتم:

وكلُّنا قَومِ سوءٍ لا أَخُصُّ بهِ
بَعضَ الأنامِ ولكن أجمعَ الفِرَقَا
إذا كَشَفتَ عن الرُّهبانِ حالَهُمُ
فكُلُّهمْ يَتوخَّى التبرَ والوَرِقَا

واستراح قليلًا لِيُوضح ما خَفِي على تلاميذه، ويَنشُر ما طُوي، ثم أنشد:

مَسَاجِدُكُم ومَواخِيرُكُم
سواءٌ فبُعدًا لكُم من بَشَرْ
وما أنتمُ بِالنباتِ الحِميدِ
ولا بالنَّخيلِ ولا بالعُشَرْ
ولكن قَتادٌ عديمُ الجَنَاةِ
كثيرُ الأَذاةِ أَبَى غَيرَ شرْ
فيا ليتَني في الثَّرى لا أَقومُ
إنِ اللهُ ناداكُمُ أو حَشَرْ
وما سَرَّني أنني في الحياةِ
وإن بانَ لي شَرَفٌ وانتَشَرْ
أَرَى أَربعًا آزرَتْ سبعةً
وتلكَ نوازلُ في اثنَي عشرْ

وخَتمَ درس ذلك اليوم بما يلي:

يقولُ لكَ العقلُ الذي بَيَّنَ الهُدى
إذا أنتَ لم تَدْرَأْ عدُوًّا فدَارِهِ
وقبِّلْ يدَ الجاني التي لَستَ واصِلًا
إلى قَطعِها، وارقُبْ سُقوطَ جِدارِهِ

وهكذا انقَضَت شهور والتميمي يدور حول الشيخ ويُداوِره ويأخذ عنه، ويُزيِّن له الإقامة في القَصر ودار الحكمة، والشيخ ثابت لا يتحول ولا يتزعزع. وأدرك التميمي أن ما يأخذه من علم الشيخ وما ينقله عنه إلى مولاه خَيرٌ وأبقى، فكتب دفاترَ كثيرةً أملاها عليه الشيخ. وأكبَّ على الدفاتر التي لم تُملَ فأخَذ منها ما شاء ولسانُ حاله يقول: أنا على سَفَرٍ فلا بُد من زاد …

واتَّصَلَت حلقة الشيخ في غرة رمضان سنة ٤١١ هجرية فأملى على تلاميذه:

أنا صَائمٌ طُول الحياة وإنما
فِطرِي الحِمامُ ويومَ ذاكَ أُعيِّدُ
لونانِ من ليلٍ وصبحٍ لَوِّنا
شِعرِي وأَضعَفَني الزمانُ الأَيِّدُ
والناسُ كالأشعارِ يَنطِق دَهرُهُم
بِهِم فمُطلِق مَعشرٍ ومقيِّدُ
قالوا فلانٌ جيِّدٌ لِصديقِهِ
لا يكذبوا. ما في البرية جيِّدُ
فأَميرُهُم نال الإمارة بالخَنَا
وتَقِيُّهم بصلاته مُتصيِّدُ
كُنْ ما تَشاءُ مُهَجَّنًا أو خَالِصًا
وإذا رُزِقتَ غِنًى فأنتَ السيِّدُ
واصمُتْ فما كَثُرَ الكلامُ على امرئٍ
إلا وظُنَّ بأنه مُتزيِّدُ

ثم رجَع إلى موضوعه الذي لا يَبرَح من فِكرِه فكأنه الفكرة الثابتة:

دينٌ وكُفرٌ وأنباءٌ تُقصُّ، وقُرْ
آنٌ يَنُصُّ، وتوراةٌ وإنجيلُ
في كُلِّ جيلٍ أباطيلٌ يُدانُ بها
فهل تفرَّدَ يومًا بالنُّهَى جيلُ؟
ومن أتاه سِجِلُّ السَّعدِ عن قدَرٍ
عالٍ فليس له بالخُلدِ تسجيلُ
وما تزالُ لأهلِ الفضلِ مَنقَصةٌ
ولِلأصاغرِ تعظيمٌ وتبجيلُ

وانتقل إلى الكلام عن قدرة الله فأملى:

إنِّي ونَفسِي أَبدًا في جِذَابِ
أَكذِبُها وهْيَ تُحبُّ الكِذَابِ
إنْ أَدخُلِ النارَ فلِي خَالقٌ
يَحمِلُ عَنِّي مُثقَلاتِ العَذابِ
يَقدِرُ أن يُسكِنَني رَوضَةً
فيها تَرامِي بِالمياهِ العِذابِ
لا أُطعَمُ الغِسلِينَ في قَعرِها
ولا أُغادَى بِالحَميمِ المُذَابِ

وقال:

بإذنِ الله يَنفُذُ كلُّ أمرٍ
فنَهنِهْ فَيضَ أَدمُعِكَ السُّجُومِ
يَجوزُ بِحُكمِهِ مَوتُ البَرايَا
وأَن تَبقَى السَّماءُ بِلا نُجومِ

وجاء حديث الخير، فأحكم الشيخ قعدتَه وأملى:

إنَّ إناءَ الخَيرِ من عَسجدٍ
لو خَرَّ هَضْبٌ فوقَه ما انثَلَمْ
إن زَجَرَ اللهُ حديدًا نَبَا
أَو أَمَر اللهُ حريرًا كَلَمْ

وأملى أيضًا:

أَأَخشَى عَذَابَ اللهِ واللهُ عادِلٌ
وقَد عِشتُ عَيشَ المُستَضامِ المُعَذَّبِ

وانتقل إلى عَروضٍ أخرى فأملى:

لَكَ المُلكُ إنْ تُنعِمْ فذَاكَ تَفَضُّلٌ
عَلَيَّ وإنْ عاقَبتَني فبِواجِبِ
يَقُومُ الفتى من قَبرِهِ إن دَعَوتَهُ
وما جَرَّ مَخطوطٌ له في الرَّواجِبِ
عَصَا النَّسْكِ أَحمَى، ثَمَّ، مِن رَمْحِ عَامِرٍ
وأَشْرَفَ عِندَ الفَجرِ مِن قَوسِ حَاجِبِ

ومد يده نحو السماء وأنشد:

ومَا عُذرِي وعندَ الله عِلْمِي
إذا كَذَبَتْ قَوائلُ مُسنِداتُ
فهل عَلِمَتْ بِغَيبٍ من أمورٍ
نُجومٌ لِلمَغيبِ مُعرِّداتُ
ولَيسَتْ بالقَدائمِ في ضَميري
لَعَمرُكَ بل حَوادثُ مُوجَداتُ
ولو أَمَرَ الذي خَلَق البَرايَا
تهَاوَتْ للدُّجَى مُتسرِّداتُ
وقد زعَموا بأن لها عُقولًا
وأقضيةُ المَليكِ مُؤكَّدَاتُ
وأن لِبَعضِها لَفظًا، وفيها
حَواسِدُ مِثلَنا ومُحسَّداتُ

ثم أملى هذَين البيتَين:

يِكِرُّ مَوتَانا إلى الحَشرِ إِنْ
قَالَ لهمْ بارِئُهمْ كُرُّوا
يَخلُفُ مِنَّا آخِرٌ أَوَّلًا
كَأنَّنَا السُّنبُلُ والبُرُّ

وشاء شيخنا أن يرمي آخِر سهم في جَعبتِه ويُعظِّم الله أعظَمَ تعظيمٍ فقال اكتبوا نثرًا: «يَقدِر ربنا أن يجعل الإنسان ينظُر بِقَدَمه، ويَسمَع الأصوات بِيَده، وتكون بَنانُه مجاري دَمعِه، ويَجِد الطَّعم بِأُذنِه، ويَشُم الروائح بمَنكِبه، ويمشي إلى الغَرَض على هامَته، وأن يَقرِن النِّير وسنير حتى يُريا كفَرسَي رهان، وينزل الوعل من النيق، ومجاوره السودنيق، حتى يشد فيه الغرض، وتكرب عليه الأرض، وذلك من القُدرة يَسير، سبحانك ملك الملوك وعظيم العُظَماء.»

واعتقد الشيخ أنه أدَّى أكبر تسبحة لله فدَمعَت عينه ورَجفَ صوته.

من يدري ماذا كان يجول في خاطر الشيخ في تلك الساعة الخطيرة من عمره؟

قد يكون هذا — ولست أَجزِم فيما أَزعُم — وما زالت هذه قدرة الله فلماذا لا ينظر إلى عبده الناسك فيقول له أبصر، فيبصر؟

وتجلَّد الشيخ وأملى:

دموعي لا تُجيب على الرَّزَايَا
ولولا ذاكَ ما فَتِئَتْ سُجُومَا
رِضًا بِقَضاءِ رَبِّكَ فهو حَتمٌ
ولا تُظهِر لِحادثةٍ وُجُومَا
ولُمْ زُحَلًا أو المَرِّيخَ فيها
ولا تَلُمِ الذي خَلَقَ النُّجُومَا
ولَستُ أقولُ إنَّ الشُّهبَ يومًا
لِبَعثِ مُحمَّدٍ جُعِلَت رُجُومَا
فأَمسِكْ غَرْبَ فِيكَ ولا تَعوَّدْ
على القَولِ الجَراءةَ والهُجُومَا

وشاء أن يأتي على آخرِ الفكرة ويَجلُوها فقال:

زَعِمَ النَّاسُ أن قومًا من الأَبْـ
ـرَارِ عَوَّلُوا بِالجَوِّ في الطَّيَرانِ
وَمَشَوا فوق صفَحَة الماءِ، هذا
الإفكُ ما جَرَى العصرانِ

وقال الشيخ: رمضانُ ضيِّقٌ يا أولادي، فلنختم درس هذا النهار، اكتبوا:

قلَّدتَني الفُتْيَا فتوِّجْني غدًا
تاجًا بإِعفائِي من التَّقلِيدِ
ومن الرَّزِيَّةِ أن يَكُونَ فؤادُكَ الْـ
ـوَقَّادُ في جَسَدٍ عَلَيهِ بَلِيدِ
وحَوادِثُ الأَيَّامِ تُولَدُ جِلَّةً
وتَعُودُ تَصْغُرُ ضِدَّ كُلِّ وَلِيدِ

امضوا، سلَّمَكُم الله.

وبعد إفطار غُرَّة رمضان سنة ٤١١، دخل الداعي إسماعيل التميمي على أبي العلاء فقال: قد تكون بَلغَتْ سيدي وشيخي أخبارُ مصر. إنها سَوداءُ تَستوكِف العَبَرات، تحريق وقتل، ونهب وسلب، واضطراب وفَزَع، ثار العوامُّ «بالدُّعاة» فقتلوا بَعضَهم وعقب ذلك حَرقُ مصر. وقد يكون مولانا الحاكم استطال بقائي في المعَرَّة ولكن عذري معي؛ فما أَحمِله إلى الحضرة من علم الشيخ يشفع بي عنده، ويُعزِّيه في كُربته. لَستُ أشُكُّ في أنه سيُعنِّفني أَشَد التعنيف، وإن أَدرَكتُه في ساعة شؤمٍ فالوَيلُ لي.

– علام يُعنِّفك؟

– لأني لم أقم بمهمتي. استَسفَرني إليك، وها أنا أعود وحدي. والله، يا سيدي، أحلف لك أنني أَخشَى لقاءه.

– تخاف مُقابلَته؟

– لست وحدي أخاف ذلك. صوتٌ قوي مُرعِب كصوتِ الرَّعد القاصف يحمل الرَّوعَ إلى سَامعِيه، بِنيةٌ قوية متينة كأنه من الجبابرة والعمالقة، مبسوط الجسم، مَهيب الطلعة، عينان كبيرتان سوداوان تُمازِجُهما زُرقة، نظراتٌ حادَّة مُروِّعة كنظرات الأسد، لا يستطيع الإنسان صبرًا عليها. كثيرون سقَطوا على الأرض وَجَلًا منه وأَخرسَهم خِطابه.

كان أبو العلاء يسمع كلام إسماعيل وكأنه في غيبوبة.

وسكت التميمي هُنيهةً فقال أبو العلاء: خَلقٌ عجيب.

– نعم يا مولاي، وخُلقُه أعجب من خَلقِه، يشمئز من الدنايا، عفيفٌ طاهر، صادقٌ جَوَاد، تارةً يتسع صدره فيحمل الأهرام والمقطَّم، وأحيانًا يخِفُّ حِلمُه فيُقبِل عزرائيل بِخَيلِه ورَجلِه، وهو في الحالَين لا يحيد قيدَ أُنمُلةٍ عن طريق الصدق والخير.

– رغَّبتَني فيه يا إسماعيل، وزيَّنتَ لي لقاءه، لولا أني في قَيدَين، وقيدٌ واحدٌ منهما كافٍ: العمى واليمين. العمى يا تميمي مصيبةٌ إذا رافقه طبعٌ سوداوي كطبعي. ما أنا أَوَّل أعمى، ولكني أوَّل رجلٍ من العُميان في هذه الغريزة. آنَف أن أُقاد كالكَبش، ولا أَغتفِر لنفسي زلةً أو تقصيرًا، ولا أَحمِل مِنَّة. اللهَ اللهَ فيَّ. العِلم يريد أن يظهر، ولكنَّ العمى يُهيب بي: الزم مكانك فخَيرُ دواءٍ لِدائِكَ هذه الخلوة فلا تَبرَحْها.

لَيتَه يستوي لي جناحان فأطير بهما إلى القاهرة، ولكن الله لا يريد، ولتكن إرادته يا أخي.

العَمى مِحنةٌ، ولستُ أَحمَد الله عليه، كما ادَّعى بشار؛ فمَن لي أن أُبصِر ساعةً واحدة لأرى عَجائبَ خَالقِي التي أَتخيَّلها ولا أُدرِكها تمام الإدراك.

تتوهَّم أني أدرك الأشياء، ولكني أقول لك إنني أُدرِك المرئيات إدراكًا ناقصًا. أتخيَّلها من كلامِ العارفِين بها، ولكن الكلمة، يا إسماعيل، لا تُؤدِّي المعنى تامًّا غَيرَ منقوص.

أعانَني الله على مِحنَتي، وجَعَل خاتمة طريقي خيرًا؛ فهل بعد الشقاء بقاء؟ الله أعلم، ولكنني مؤمن بالخير، ولا يكون المصير إلا خيرًا، إن شاء الله.

وبعدُ يا تميمي، أفما تقول لي ما حاجة مولانا الإمام، حَرسَه الله، بهذا الجسد النحيل؟ إن هواي معه وفكري عنده، والهدف واحد … أمَّا علمي فما حَجَبتُه عنك؛ فأنت حامله إليه وهذا كل ما في جَعبَة الشيخ، ما لي ولِلحواضرِ يا إسماعيل، سيَّان عندي الليل والنهار، والقصر والكُوخ. أتظُنَّ أن رحلتي إلى الحاكم تزيدني معرفة به؟ لقد وَصَفتَه لي فتخيَّلته جُسمانيًّا، وما يَبلُغني عنه من النزاهة والزهد ومقاومة الشر يَربطني به.

أنا معجبٌ بأبيه من قبله وبه أيضًا، وكلنا نسعى لِنُطهِّر أنفسنا ونُنقِّيها، نَاهِيكَ بأنني أُعلِّم ما عَلِمتَ، فاروِ له خَبرَ ما رأيتَ وسمعتَ. اقرأ عليه ما نَسَختَ من دفاتري.

لقد سَئِمتُ الأسفار التي يعجز عنها المستطيع بنفسه، فكيف المستطيع بغيره مثلي؟ أمَا قال الشاعر:

ومَاذا تَبتَغِي الشُّعراءُ مِنِّي
وقَد جَاوَزتُ حَدَّ الأَربعِينِ

فأنا، يا أخي، أحبو إلى الخمسين، فالأجدر بي أن أَتأهَّب للرحلة الكبرى.

وأَطرَق أبو العلاء وسكَت.

وكان التميمي ينظر إلى شيخه والحُزنُ يكسو وجهه ذُبولًا وفتورًا، ثم نهض إسماعيل وأخذ يد الشيخ وصافحه مودِّعًا، فأمسك المعري بيده طويلًا وقال: وفقكَ الله يا إسماعيل، ولا رأيتَ مشقَّة رِحلتِك. حقًّا إن السفر قطعةٌ من العذاب. وإذا ما بَلَغتَ الحضرة فسَلِّمْ على المولى الإمام وقل له: إن خادمه شيَّخَ وشاب، وكبِر على السفر، وإذ كان العُذر من شِيَمِ الكرام، فأَجدر به أن يكون إحدى خِصال الإمام؛ فبصلاح الأَيِمَّة صلاح الأمة، لا زال مولانا مَنارَ الملَّة ومُستودَع علوم الأَيمَّة.

وانحنى إسماعيل لِيُقبِّل يد الشيخ، فانتفض أبو العلاء وهو يُردِّد: مَعاذَ الله.

وخرج إسماعيل مُتعثِّرًا بأذيال الخيبة، وعاد أبو العلاء يُدمدِم ويُهمهِم …

ودَخَل الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم وشَرَع يَكتُب، والشيخ يُملي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤