الليلة الأولى

كانوا يُصلُّون على أَمير المؤمنِين الفاطمي كما يُصلَّى على النبي، فأبطَلَها الإمام أبو علي؛ أي الحاكم بأمر الله، وحَرَّمَ تقبيل الأرض بين يَدَيه ولَثْم يدِه ورِكابِه إذ لا يجوز الانحناء إلى الأرض لمخلوق. ومنَع ضَرْبَ الطبول والأبواق حول القَصر، ورَكِب يوم عيد الفطر إلى المصلَّى بلا زينة ولا مَوكبٍ فخم، ثم أخذ يرتدي ثيابًا بسيطة، أو درَّاعةَ صوفٍ بيضاء، ويتعمَّم بِفوطة، وينتعل حذاءً عربيًّا ساذجًا — مداسًا — وغدا يطوف في القاهرة دون موكبٍ ولا ضَجَّة.

وبعد مرضه، سنة ٤٠٧ هجرية، جنح إلى تصوُّفٍ غريب، فلم يُقلِّم أظافِره، وأَطلَق شَعَرَه حتى تدلَّى على كتفَيه، وبدَّل الثياب البيضاء الساذجة بثيابٍ سود، فكان يلبس جُبَّةً من الصوف الأسود العادي ربما لا يخلعها حتى يعلُوَها العرق والرَّثَاثة، وكثيرًا ما تكون مُرقَّعةً من سائر الألوان.

وفي الليلة الخامسة والعشرين من شهر شوال ٤١١ كان الحاكم مختليًا فخطرت على باله عبارة الزعيم الباطني: «وإذا ظَفِرتَ بالفلسفي فاحتفظ به … فعلى الفلاسفة مُعوَّلُنا» فطفِق يُكرِّرها.

وبينا هو نائم في جَوِّ تفكيره المُعكَّر، ينتظر ساعة الطواف لِيَرقُب النجم الذي يخشى ظهوره، إذا بالحاجب يستأذن للداعي إسماعيل التميمي، فدَخَل مُنكَّس الطرف، وابتدَر الحاكمُ الكلام بلهجة العاتب المؤنِّب: عدت يا إسماعيل! حال الحَولُ على غَيبتِك. وأين الرجل؟

فخَرَّ إسماعيل على ذَقَنه لِيُقبِّل الأرض، فانتهره الحاكم: اتقِ الله، أنسِيتَ أننا نَسخنَاها؟ قل، أين الشيخ؟

فرفع إسماعيل طَرْفه إلى مولانا، فرآه مُنسدِل الشعر طويل الأظافر، وعليه مُرقَّعة تتحدث كلُّ رقعةٍ منها بلسانٍ غريب عن أفكار الفيلسوف الهائم.

ارتاع الداعي وانحنى، وهو يقول بصوتٍ كأنه يَصدُر من خلف الزجاج: رَخِّص لي الكلام يا مولانا.

فأجاب الحاكم: تكلم، ومتى كنَّا نحظُر القول على دعاتنا؟

فقال الداعي: رأيتُني، يا مولاي، أمامك كالواقف أمام أسد الله، فتَذكَّرتُ قول الشاعر: لدى أسدٍ … فجرى لسان الحاكم غيرَ مختارٍ فأتم هو والداعي بَيتَ زُهير:

… شاكِ السلاحِ مُقذَّفٍ
له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقلَّمِ

ولم نَدرِ ما جال في خاطر مولانا حتى تبسَّم، وكأنه أدرك أنه زُهي وتَكبَّر، فوبَّخ نفسه أمام الداعي بقوله لها: «رويدكِ لا تَغترِّي، ما صَفَوتِ ولا نقيتِ بعدُ.» ثم تغيَّر وجهه فالتفتَ إلى إسماعيل التفاتةً أرعَبَته، وقال له: قل، أين الرجل؟

فحنى إسماعيل رأسه وقال: لم يجئ يا مولانا.

– عجيب؟ أَيؤثِر المعرة على القاهرة؟ وبيتَه على دار الحِكمة؟

– نعم يا مولانا، قال لي لن أبرح مِحبَسي، على هذا عاهدتُ القُرون.

فصاح الحاكم: القُرون؟ أهكذا عبَّر عن النفس؟

– نعم يا مولانا، إنه لَفاهِم، وقد أَوضَح هذا شعرًا فقال:

والجِسمُ كالثَّوبِ على رُوحِهِ
يُنزَعُ إن يَخلِق أو يَتَّسِخْ

فأطرق الحاكم وقال: كأنه يسمع كل ما يُقال في «دار الحكمة». ثم حدَّق إلى الداعي وقال: كيف لا يأتي إلينا والمجد ينتظره؟

إنه يزدري كل مجدٍ يا مولانا، يرى جلوسه على اللبد شتاءً وعلى الحصير صيفًا خيرًا من ألف عرش.

– عجيب! أدعوته باسم؟ أدرى أني أريده سميرًا ورفيقًا وجليسًا ومناظرًا؟

– نعم درى واحتَجَّ بيمينه، فما لنا وله؟

وهاج الحاكمَ تطاولُ إسماعيل فقال له: لولا حرمة الدعوة لَأَخمدتُ أنفاسَك.

فصاح إسماعيل مرعوبًا: عفوَكَ مولانا، وغُفرانَك.

– تكلَّم.

– قد أَطلَعني الرجل على جميع ما يكتب ويَنظِم ويملي على تلاميذه، قد تتلمذت له كل مدة غيبتي عن الحضرة. إنه يعمل «للدعوة» ما لا يعمله جميع الدعاة؛ فبيته يعُجُّ بالوفود، وفيه تُلقى دروس لا تلقيها «دار الحكمة». نحن ندعو سرًّا وهو يعلِّم جهرًا. وكتابه الذي يمليه على طُلَّابه مُرتَّب على نَسَق الدعَوات، إنه يُرقِّيهم فيها درجةً درجة.

فأطرق الحاكم قليلًا وسكت الداعي، وكان صمتٌ وجيزٌ قال الحاكم على أَثَره: وماذا قال حين ذَكَرتَني؟

– قال إنك سراجٌ مستنير، وهو يقتفي أثرك وآثار آبائك، صلوات الله عليهم، لِيُدرِك، عن طريق النُّسك والزهد، صفاء النفس ونقاءها …

فسَكتَ الحاكم هُنيهةً وأطرق، ثم رفع رأسه وقال: لا بُد من مجيئه.

– ماذا تُريد منه يا مولانا وهو القائل:

تَوحَّد فإن الله ربَّك واحدٌ
ولا تَرغَبَنْ في عِشرَة الرُّؤساءِ

فمَطَّ الحاكم شفتيه حتى برز شارباه بروزًا عنيفًا، فقال الداعي: وهو يُعلِّم اللاجئِين إليه:

أَفيقوا أفيقوا يا غواة، فإنما
دِيانتُكمْ مَكرٌ من القُدماءِ
أَرادُوا بها جَمْعَ الحُطامِ فأَدرَكوا
وبادُوا، وماتَت سنَّة اللُّؤَماءِ
يَقُولون هذا الدهرُ قد حانَ مَوتُه
ولم يَبقَ في الأيَّامِ غُيرُ ذَمَاءِ
وقد كَذَبوا ما يَعرِفون انقِضاءَه
فلا تَسمَعُوا من كاذبِ الزُّعماءِ

فكاد الحاكم لا يُصدِّق ما يسمع، فقال الداعي: واسمع، مولانا، غَيرَ مأمور، ما يقول أيضًا:

هَفَتِ الحَنيفةُ، والنَّصارَى ما اهتدَت
ويهودُ حارَت، والمَجُوسُ مُضلَّلَهْ
اثنانِ أَهلُ الأرض ذو «عقلٍ» بِلا
دينٍ، وآخرُ دَيِّنٌ لا عَقلَ لَهْ

ورأى إسماعيل الحاكم مُقبلًا عليه بوجهه فأفرغ ما جَعبتِه حول هذا الموضوع:

وإخوانُ الفطانةِ في اختيالٍ
كأنَّهمُ لِقومٍ أنبياءُ
فأمَّا هؤلاءِ فأهلُ مَكرٍ
وأمَّا الأَوَّلون فأغبياءُ
إذا كان التُّقى بلهًا وعِيًّا
فأَعيارُ المَذلَّة أتقياءُ

•••

لو كُنتَ يَعقوبَ طَيرٍ كنتَ أَرشَدَ في
مَسعَاك من أُممٍ تُنمى لِيَعقُوبَا
ضَلُّوا بِعجلٍ مَصوغٍ من شُنوفِهِمُ
فاستنكروا مِسمعًا للشنف مَثقُوبَا
ولن يقومَ مسيحٌ يجمعون له
وخِلتَ واعِدَهم مَ الخُلفِ عُرقوبَا

ويقول:

وموَّهَ الناس حتى ظَنَّ جاهلهمْ
أن النبوةَ تمويهٌ وتَدليسُ
جاءت من الفَلَكِ العلويِّ حادثةٌ
فيها استوى جبناءُ القومِ والليسُ

ويقول:

و«العقل» يُعجِب والشرائعُ كلُّها
خبرٌ يُقلَّدُ لم يَقِسهُ قائسُ
مُتمجِّسون ومُسلِمون ومعشرٌ
مُتنصِّرُون وهائدون رَسائسُ
وبيوتُ نيرانٍ تُزارُ تَعبُّدًا
ومساجدٌ معمورةٌ وكنائسُ
والصابئون يُنظِّمون كواكبًا
وطباعُ كلٍّ في الشرور حَبائسُ
أنَّى ينال أخو الدِّيانةِ سُؤددًا
ومآربُ الرَّجلِ الشَّريفِ خَسائسُ
وإذا الرئاسة لم تُصنْ بِسياسةٍ
«عقليةٍ» خَطِئ الصوابَ السائسُ

فهزَّ الحاكم رأسه استحسانًا للبيت الأخير فقال الداعي:

قالت معاشِرُ لم يَبعَثْ إلهُكمُ
إلى البرية عيساها ولا مُوسَى
وإنما جَعَلوا للقوم مَأكلةً
وصيَّروا لجميعِ الناسِ ناموسَا
ولو قَدَرتُ لَعَاقبتُ الذين طَغَوا
حتى يعودَ حَلِيفُ الغَيِّ مَرمُوسَا

فتَمتَم الحاكم: ونحن لم نَقدِر، فقال الداعي:

بَنَتِ النَّصَارى لِلمسيحِ كنَائسًا
كانت تَعِيبُ الفِعلَ من مُنتابِها
ومَتَى ذَكَرتَ محمدًا وكتَابَهُ
جاءت يهودُ بَجحدِها وكِتابِها
أفعِلَّةُ الإسلام يُنكَر مُنكرٌ
واللهُ ربُّكَ صاغَها وأَتَى بِها
أينَ الهُدى فنَرومهُ بِمَشقَّةٍ
في البِيدِ ساطيةٍ على مُنتابِها؟

فقال الحاكم: ما هذا اللسان يا إسماعيل؟! فقال الداعي: لم أَفرغْ بعدُ، وأنشد:

إنَّ الشَّرائع أَلقَت بَينَنا إِحَنًا
وأَورثَتنَا أفانِينَ العَدَاواتِ
وهل أُبِيحتْ نِساءُ الرومِ عن عَرضٍ
لِلعُربِ إلا بأحكامِ النُّبوَّاتِ

فقال الحاكم: ما أَضعفَنا غيرُهن.

فقال إسماعيل:

مَسيحيةٌ من قَبلِها مُوسَويةٌ
حَكَتْ لكَ أَخبارًا بَعيدًا ثبوتُها
وفارسُ قد شبَّت لها النارُ وادَّعَت
لِنِيرانِها أنْ لا يَجُوز خُبوتُها
فما هذه الأيامُ غيرَ نظائرٍ
تساوتْ بها آحادُها وسُبوتُها

وقال في التقليد:

ضلَتْ يهودُ وإنما تَوراتُها
كَذِبٌ من العُلماءِ والأَحبارِ
قد أَسنَدوا عن مِثلِهم ثم اعتلَوا
فنَمَوا بإسنادٍ إلى الجبَّار
وإذا غَلبتَ مُناضلًا عن دِينِه
أَلقَى مَقالِدَه إلى الأَخبارِ

ثم يقول:

وكم من فقيهٍ خابطٍ في ضَلالةٍ
وحُجَّته فيها الكِتابُ المُنَزَّلُ
وقَارِئكُم يَرجُو بِتطريبِه الغِنى
فآضَ كما غَنَّى ليكسبَ زلزلُ
فما لِعَذابٍ فَوقَكُم لا يَعمُّكمْ
وما بالُ أرضٍ تحتَكم لا تُزلزَلُ؟

وقال:

تَوافَقتِ اليَهودُ مع النَّصارَى
على قَتلِ المَسيحِ بلا خِلافِ
وما اصطَلَحُوا على تَركِ الدَّنَايَا
بل اصطَلَحُوا على شُربِ السُّلافِ

وقال:

أمورٌ تَستخِفُّ بها حُلومٌ
وما يدري الفتى لمن الثُّبورُ
كتابُ مُحمَّدٍ وكتاب موسى
وإنجيلُ ابنِ مريمَ والزَّبورُ
نهت أُممًا فما قَبِلَت وبارتْ
نَصيحَتُها فكلُّ القوم بُورُ

ويقول في هذا أخيرًا، وله أقوالٌ كثيرة في هذا الباب غير هذه لا مُتَّسَع لِذِكرِها:

ناديتُ حتى بَدَا في المنطقِ الصَّحَلُ
تخالَفَ الناسُ والأَغراضُ والمَلَلُ
رَجَوا إمامًا بِحقٍّ أن يَقُومَ لَهُمْ
هيهاتِ لا بلْ حُلولٌ ثم مُرتحَلُ

وأَجرُؤ، يا مولانا، وقد رأيتُ الرضا في وجهك الربَّاني، أن أُسمِعَك قولَه في الحكام:

مُلَّ المُقامُ فكَم أُعاشِرُ أُمَّةً
أَمَرَت بِغَيرِ صَلاحِها أُمراؤهَا
ظَلَموا الرعيَّة واستَباحُوا كَيدَهَا
وعَدَوا مَصالِحَها وهُم أُجَراؤهَا

فهتف الحاكم: لقد صدق؛ ولهذا نقتُل بعضَهم ونَحبِس بعضًا.

فقال الداعي: ويقول فينا، نحن الدعاة، ويزعم أنه لا يَخفَى عليكَ ذلك، وسجَد وقال: ومعاذَ الله أن يَخفَى على نُورِكُم شيء:

عَلِم «الإمامُ» ولا أَقولُ بِظِنَّةٍ
أنَّ «الدعاة» بِسَعيِها تَتكسَّبُ

فقال الحاكم: لا فُضَّ فوه.

فقال الداعي: وسوف تقول يا مولانا، هذا نفيرُنا في الشام يُؤلِّب الناس تحت لواء دعوتنا متى سمِعتَ قوله:

أرى عالَمًا يرجون عفوَ مَليكِهمْ
بتقبيل ركنٍ واتخاذِ صليبِ
فغُفرانَك اللهُمَّ، هل أنا طارحٌ
بمكةَ في وفدٍ ثيابَ سَليبي؟

ويقول:

ما الركنُ في قول ناسٍ لَستُ أَذكُرهُم
إلا بَقيةُ أوثانٍ وأنصابِ

أمَّا الصلاة فاسمع قوله فيها:

يقولون هلَّا تَشهَدُ «الجُمع» التي
رَجَونا بها عَفوًا من الله أو قُربَا
وهل ليَ خيرٌ في الحُضورِ وإنما
أُزاحِمُ من أخيارهِم إِبِلًا جُربَا

فاضطَرَب الحاكم إذ تَذكَّر أنه ألغى الصلاة ومنَع الحج.

ونُفِخ في البوق إيذانًا بالطَّواف، فخرج الحاكم وهو يقول للداعي إسماعيل: تَعودُ إليَّ في مثل هذه الساعة غدًا، وأمَّا شيخك فيزور القاهرة إما راغبًا وإما راهبًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤