أولًا: دفناتُ الثيرانِ والأبقار
سبق تقديسُ الثيران والأبقار في بلاد الشام مرحلةَ استئناسهما، حيث عُرفت بدايات
تقديسهما منذ العصر الحجري القديم الأوسط،
٢ بينما كان استئناسهما منذ العصر الحجري الحديث — الألف السابع ق.م.
٣
ففي مغارة السخول عُثر على دفنةٍ آدميةٍ،
كان قد عُثر معها على جمجمةِ ثورٍ، موضوعة بين ذراعي المتوفَّى، وتُؤرَّخ تلك
الدفنة بالعصر الحجري القديم الأوسط.
٤ وفي منطقة تل المريبط،
٥ ⋆
عُثر على دلائل تقديس الثور البري، وذلك في بعض بيوت المريبط التي كانت تتميَّز
ببنيةٍ معماريةٍ خاصةٍ، والتي عُثر فيها على مصاطبَ طينيةٍ عُرض في وسطها وبشكلٍ
مقصودٍ، عددٌ من جماجم الثيران البرية بهيئاتها الطبيعية
٦ تُؤرَّخ بالألف الثامن ق.م.
ففي الطبقةِ الثانيةِ المؤرَّخةِ بالربعِ الأخيرِ من الألفِ التاسعِ ق.م.، وُجِدت
رءوسُ ثيرانٍ مطمورةً في مصاطبَ طينيةٍ في بيوت السكن، الشكل رقم
٧-٩٥، أحد هذه الرءوس كانت جمجمةً كاملةً محاطةً بزوجٍ من عظام
كتفَي ثورٍ وحمارٍ، كانت الجمجمة قد وجِّهت نحو الغرب، هذا بخلاف جمجمةٍ أخرى، كان
قد عُثر عليها مفككةً إلى عدةِ أجزاءٍ، ولقد أصبحت هذه الطقوس الدينية أوضحَ في
المستوى الثالث في المريبط، والمؤرَّخ بالنصف الأول من الألف الثامن ق.م.، التي
تدلُّ على استمرار الأهمية العقائدية للثيران؛ ففي هذه السويةِ — أو المستوى — لم
تُدفن الرءوسُ كاملةً، وإنما دُفنت القرونُ فقط؛ إذ وُجِدت مغروسةً في عدةِ أجزاءٍ
من جدرانِ المنازلِ الهامةِ بالموقع.
٧
ولقد كانت قرونُ الثيرانِ من الرموزِ ذاتِ الدلالاتِ الدينيةِ، وكان لها قدسيتها،
سواء منفصلةً عن الجمجمةِ، أو غير منفصلةٍ عنها؛ إذ كانت قرون الثيران ترمز إلى
عادةِ التضحيةِ بها، وربما كان يُعتقد أنها تحلُّ محلَّ الثيران نفسِها في ممارسة
هذه الطقسة الجنائزية،
٨ فهي جزءٌ يعبِّر عن كلٍّ. ولربما كان لها أغراضٌ سحريةٌ أيضًا مرتبطةٌ
بازدياد الخصوبة ووفرة الصيد.
٩
هذا، ولقد كان الثور مقدَّسًا في المريبط جنبًا إلى جنبٍ مع تقديس الربةِ الكبرى،
إن لم يكن قبلها بعدة قرونٍ، متمثلًا فيما عُرف بالزواجِ الإلهيِّ المقدَّس الذي
ربما كانت المريبط أسبقَ من بلاد الأناضول في التعبير عنه، وذلك منذ العصرِ
الحجريِّ الحديث، وعبَّرت عنه تعبيرًا صادقًا من خلال التقديس الثنائي للثور
وللمرأة في وقتٍ واحدٍ،
١٠ الشكل رقم
٧-٩٥ -
٧-٩٦.
ولقد عُثر في المريبط بخلاف ذلك على بقايا
عظام حيوانية، ليس فقط لأبقارٍ ضخمةٍ، وإنما أيضًا لأنواعٍ حيوانيةٍ أخرى،
١١ ورغم كثرةِ ما عُثر عليه هناك من
بقايا عظميةٍ لمختلف الأنواع الحيوانية، إلا أنَّه كان هناك نوعٌ من التقديس الواضح
للثيران والأبقار.
١٢
وفي موقع عين غزال،
١٣ ⋆
عُثر على بقايا عظامٍ حيوانيةٍ في خمس دفنات رُتِّبت حول موقدٍ أسفلَ أرضيةِ مدخل
أحد الأبنية بالموقع، ومن دراسةِ تلك البقايا العظمية تبيَّن أنها لثيرانٍ، ولقد
جاء على بعض هذه العظام حروزٌ غامضةٌ،
١٤ ولربما كان لتلك الدفنات أغراضٌ سحريةٌ جنائزيةٌ، مرتبطةٌ بتقديس
الثيران، وقد يكون لها علاقةٌ بالصيد، وإصباغ القدرة السحرية على صيد المزيد من الثيران.
١٥
وفي تل أسود،
١٦ ⋆
عُثر على مثيلِ ما عُثر عليه في تل المريبط؛ إذ وُجدت جمجمةُ ثورٍ وعظامٌ لحيواناتٍ
أخرى كانت قد جاءت أعلى مصطبةٍ لتقديم الأضاحي — تشبه مائدةَ تقديم القرابين — في
بيتٍ صغيرٍ، خُطِّط على شكلِ صليبٍ بالموقع، مما يدلُّ على أنَّ هذا البيت ربما كان
بمثابةِ معبدٍ بدائيٍّ في سوريا؛ إذ يُؤرَّخ بالنصف الأول من الألف الخامس ق.م.
١٧
وفي البيضة،
١٨ ⋆
عُثر على كمياتٍ كثيرةٍ من عظامٍ وجماجمَ مكدسةٍ لثيرانٍ وبعضٍ من الحيوانات
الأخرى، وذلك في غرفةٍ صغيرة بأحد الأبنية الدينية بالموقع
١٩ مما يؤكِّد على رسوخ جذور العقيدة المرتبطة بالثور في هذا العصر.
٢٠
وفي منطقة كفر حاوريش
٢١ ⋆
عُثر على جبَّانة اشتملت على العديد من الدفنات الحيوانية التي تُؤرَّخ بالفترة
PPNB (ما قبل الفخَّار النيوليتي ب)؛ إذ عُثر
عند الحافةِ الشماليةِ من المنطقة على حفرةٍ دائريةِ الشكل
L
1005 بعمق حوالي ٤٠سم واتساع حوالي ٢٫٥م، اشتملت على دفنةٍ
آدميةٍ لرجلٍ بالغٍ، وعلى الكثير من البقايا العظمية التي بدراستها تبيَّن أنها
لسبعٍ من الأبقار، ستٌّ منها لإناث الأبقار، والسابعة لعجلٍ صغيرٍ، ويشير تواجدهم
معًا في دفنةٍ واحدةٍ إلى أنهم كانوا قد قُتلوا ووضعوا في الحفرة في نفس توقيت
الدفنة الآدمية بالمقبرة
٢٢ ولربما قُصد من هذه الدفنة الحيوانية، التعبيرُ عن مدى ثراء صاحب
المقبرة، بامتلاكه هذا العدد من الأبقار.
ولقد كان
Cauvin أولَ مَن أشار إلى أهمية الماشية
— لا سيما الأبقار والثيران — في الشرق الأدنى القديم بوجهٍ عامٍّ، وبلاد الشام
بوجهٍ خاصٍ في فترة العصرِ الحجريِّ الحديثِ.
٢٣
ولقد عُثر في منطقة البسطة بسوريا على دفنةٍ كاملةٍ لبقرةٍ، جاء هيكلها العظمي
وقد دُفن بالقرب من دفنةٍ آدميةٍ، تُؤرَّخ بالفترة.
PPNB، تتضح بالدفنة سِمة التقديس لذلك الحيوان،
مما يشير إلى عبادةٍ حيوانيةٍ تتعلَّق بالماشية آنذاك،
٢٤ وفي تل الحولة عُثر على جمجمةٍ لثورٍ — تُؤرَّخ بالعصر الحجري الحديث —
تحيط بها تماثيلُ فخاريةٌ لثيرانٍ وأبقارٍ
٢٥ وفي المنحطة،
٢٦ ⋆
عُثر على أجزاءٍ من جمجمةِ ثورٍ، ومعها بعضٌ من قرونِ الغزلانِ، وذلك أسفل أرضية
كوخٍ بالطبقة السادسة بالموقع.
٢٧
وأخيرًا … فقد عُثر في أحدِ مواقع شمال سوريا، والمؤرَّخة بالعصر البرونزي
المبكِّر الأول على حجرةٍ تتقدَّمها بعض القرابين، التي اشتملت على تمثال صغير
لهيئةٍ أنثويةٍ، وأمامها عظمةٌ ضخمةٌ لثورٍ— عظمة من عظام المفصل — ربما عبَّرت عن
كونها قربانًا حيوانيًّا،
٢٨ وربما كان ذلك إشارةً للجمع بين عنصري الذكورةِ — متمثلةً في الثور
رمزِ القوة — والأنوثةِ متمثلةً في الهيئةِ الأنثويةِ — التي قد يكون لها صلة
بالإلهة الأم كما جاء آنِفًا، أو الزواج الإلهي المقدَّس.
الغرض من دفنات الثيران والأبقار
يتضح مما سبق كيف كان للثيران أهميتها، ليست فقط الاقتصادية بل والعقائدية،
وكيف تجسَّدت تلك الأهمية العقائدية فيما جاء من دفناتٍ لها، وكيف كانت تلك
الأهميةُ قد انتقلت برمزيتها من الكلِّ إلى الجزءِ، من الجمجمةِ إلى القرونِ.
٢٩ فكأننا بذلك أمامَ صورةٍ للبدايات الأولى لعبادةِ الثيرانِ في
الشرق الأدنى القديم (نحو ٨٢٠٠ق.م.)، تلك العبادة التي كان لها مستقبلٌ عظيمٌ
في شتى مراحل العصور التاريخية القديمة.
٣٠
ولقد كان الثور رمزًا خاصًّا للقوة والذكورة. ولا شكَّ أنَّ العثورَ على
جماجمِ الثيرانِ الحقيقيةِ المغروسةِ في المصاطبِ الطينيةِ في المريبط — قبل
استئناسِ الثيرانِ — إنما يشير إلى ارتباطٍ طقسيٍّ وشعائريٍّ بالثور آنذاك.
٣١
هذا، ولقد كان الثورُ بمثابةِ سيد الحيواناتِ؛ فهو أكثرُ الحيواناتِ التي كان
يتم اصطيادها، وبالتالي فإنَّ الاهتمام به كان يساعد الإنسان على صيد المزيد
منه؛ فالمغزى السحريُّ كان أحدَ أغراضِ ما عُثر عليه من دفناتٍ للثيران، إذ كان
الاحتفاظ بجماجمها أو قرونها يخلق لأرواحها أجسادًا بديلةً.
٣٢
ويرى بعض الباحثين بشأن الاهتمام بقرونِ الثيران والأبقارِ، أنَّ هذا
الاهتمام إنما يرجع إلى مشابهةٍ شكليةٍ لاحظها الإنسان بين قرني الثورِ، وعضو
التأنيثِ، وبين القرنينِ والهيئةِ الهلاليةِ للقمرِ، وجميعها رموزٌ ارتبطت
بالخصوبةِ التي هي اللبنةُ الأولى التي قامت عليها عقيدة إنسان العصر الحجري الحديث.
٣٣
وأيًّا ما كانت الأغراض فإنَّ الدارسةَ تعتقد أنَّ دفن قرونِ أو جماجمِ
الثيران إنما هو نوعٌ من الاعتزاز بهذا الحيوان وقيمته الغالية الثمينة عند
الإنسان.
ثانيًا: دفناتُ المَعْز
كانت منطقةُ فلسطين ولبنان من أهمِّ مراكز استئناسِ الحيوانات — لا سيما الأغنام
والمَعْز — وذلك منذ الألفِ السابعِ قبلَ الميلاد.
٣٤ هذا، ويعتقد البعضُ بأنَّ استئناسَ المَعْز كان قد تم في مرحلةٍ زمنيةٍ
معاصرةٍ لاستئناس الكلبِ في بلادِ الشامِ، مستندين في ذلك إلى كثرةِ ما عُثر عليه
من بقايا عظميةٍ لمَعْزٍ وأغنامٍ وكلابٍ في العديدِ من مواقع جنوب بلاد الشام، كانت
قد أُرِّخت بالألفِ التاسعِ ق.م. تقريبًا.
٣٥
وربما كانت المَعْزُ من أولِ الحيواناتِ التي استُؤنست بغرض الاعتماد عليها في
الغذاء، وانتشرت عبْر صحراءِ النقبِ ومواقع شرق البحر المتوسط وسيناء، وكانت لها
أهميتها الكبرى في تلك الأراضي، لا سيما أهميتها الاقتصادية،
٣٦ إذ كان امتلاكُ عددٍ ضخمٍ من قطعانِ المَعْزِ والأغنامِ، يجعل من
صاحبها مالكًا للقوة وصاحبًا للثراء، هذا بخلاف قيمتها كمصدر هامٍّ للغذاء.
٣٧ ولا شكَّ أنَّ هيمنة المَعْز تدلُّ على اختيارٍ مقصودٍ لها؛ فالمَعْزُ
من الحيواناتِ السهلةِ المأخذِ أكثر من غيرها، استأنسها الإنسان ليؤمِّن بها غذاءه،
وكان استئناس المَعْز بمثابة الخطوة الأولى نحو إنتاج الطعام.
٣٨
ولقد عُثر في مغارة شقبة بوادي النطوف على بقايا حيوانيةٍ وتقدُماتٍ نذريةٍ
اشتملت على عظامٍ لمَعْزٍ، وتماثيل أو هيئاتٍ حيوانيةٍ من الطين تمثِّل أنواعًا من
الحيوانات المستأنسةِ كان المَعْز من بينها،
٣٩ ولعل ذلك يدلُّنا على ما كان لهذه الحيوانات من دورٍ طقسيٍّ عقائديٍّ،
قد يكون له مغزًى دينيٌّ أو سحريٌّ معينٌ.
٤٠
وفي الخيام
٤١ ⋆
عُثر على الكثيرِ من البقايا العظميةِ الحيوانيةِ لصغارِ المَعْزِ، بلغت نسبتها
حوالي ٨٣٪ من إجمالي ما عُثر عليه من عظامٍ حيوانيةٍ، وتبيَّن بالدراسة أنَّ حوالي
٢٪ من عظامِ تلك المَعْزِ، كانت قد ضُحِّي بها قبل أن تبلغ الشهر الأول من عمرها،
ولم يُعثر في تلك العظام على أيٍّ من آثار الطهي أو نزعِ اللحم. ويرى كوفان أنَّ
تلك البقايا العظميةَ التي عُثر عليها لصغار المَعْز، إنما هي نوعٌ من العاداتِ
الطقسيةِ التي تمثَّلت في التضحيةِ بالمَعْزِ الصغيرةِ، لاعتباراتٍ دينيةٍ أكثر
منها اقتصاديةً، وأنَّ مثل تلك العادةِ ليست من عاداتِ مجتمعاتِ الصيدِ، وأنَّ
الدليل على الدورِ الدينيِّ لمثل تلك الأضحياتِ الحيوانيةِ، هو إغفالُ المبررِ
الاقتصاديِّ والخسارةِ الاقتصاديةِ التي قد تترتَّب على القيامِ بذبح كل تلك
المَعْزِ الصغيرةِ.
٤٢
وأشار دوكو إلى أنَّ ذلك ربما يمثِّل أقدمَ دليلٍ على عادةِ التضحيةِ بالحيواناتِ
التي سادت في العصور التاريخية في فلسطين، وتمثَّلت خاصةً في ذبح وتقديم الحيواناتِ
الحديثةِ الولادةِ بشكلٍ شعائريٍّ،
٤٣ فكانت المَعْز بذلك من الحيواناتِ التي كان يُفضَّل التضحيةُ بها لا
سيما في فلسطين،
٤٤ ويلاحظ أنه قد عُثر في مصر على شبيهِ ذلك؛ إذ جاءت مثل هذه الظاهرة في
جبَّانة هيراكونبوليس وهليوبوليس.
وبالقرب من نحال بيسور،
٤٥ ⋆
عُثر على سلسلةٍ من الحُفرِ المتعددةِ، على مساحةٍ تقدَّر بحوالي ٥٠م، وبها عُثر
على العديدِ من العظامِ الحيوانيةِ، وذلك بأربعة مستوياتٍ من مستويات الموقع،
تُؤرَّخ بالعصرِ البرونزيِّ المبكرِ الأول، تنوَّعت تلك العظام الحيوانية ما بين
عظام خنازير، ومَعْزٍ، ووعولٍ، وماشيةٍ، إلا أنَّ الغلبةَ فيها كانت لعظامِ المَعْز.
٤٦
وفي منطقة عقير، عُثر على جبَّانةٍ تُؤرَّخ بنهايةِ الألفِ الثالثِ ق.م.، وبها
عُثر على حوالي ٤٦ دفنةً آدميةً كان بها الكثيرُ من العظامِ الحيوانيةِ، كان أغلبها
لمَعْزٍ، وفي واحدةٍ من تلك الدفناتِ الآدميةِ، عُثر على هيكلٍ حيوانيٍّ شبهِ كاملٍ
لماعزٍ، ربما كانت أضحيةً حيوانيةً، تُؤرَّخ الدفنة بالعصرِ البرونزيِّ المبكرِ.
٤٧
وتشير تلك الكمياتُ الضخمةُ من العظامِ الحيوانيةِ التي عُثر عليها، إلى نوعٍ من
الممارساتِ ذات الصبغةِ الطقسيةِ أو الشعائرية، والمتمثلة في ذبح بعض الحيوانات،
وتقديمها للمتوفَّى، لا سيما وأنَّه بالفعل كان قد عُثر على تلك البقايا العظمية
الحيوانية، في العديد من المقابر الآدمية وكانت الغلبةُ فيها للمَعْز، وهي من
الحيوانات التي كانت معتادةَ الذبح آنذاك.
٤٨
ولقد تكرَّر العثورُ على مثل تلك الأضاحي الحيوانية — لا سيما المَعْز — في
العديد من الدفناتِ الآدميةِ في أريحا، وفي العديد من المواقع الأخرى، مما يؤكِّد
على الأهمية الاقتصادية والاجتماعية والدينية لتلك الحيوانات كما سبق ذكره.
٤٩
وكان من الدلائل الأخرى المؤكدة على ارتباط المَعْز بالعقيدة الدينية، ما جاء في
تلِّ رماد من تمائمَ على هيئةِ رأس عنزة في العديد من المقابر الآدمية، التي ربما
ارتبطت بأغراضٍ سحريةٍ، ضمانًا للخصوبةِ والنجاحِ في صيد الأنواع البرية من المَعْز.
٥٠
الغرض من دفنات المَعْز
كان للمَعْزِ دورُها الطقسيُّ، الذي لا شكَّ كان له مغزاه الدينيُّ أو السحريُّ.
٥١ فمن خلالِ ما عُثر عليه من دفناتٍ حيوانيةٍ للمَعْزِ، في بعضِ
مواقعِ بلادِ الشام، ومن خلال دراسةِ مثل تلك الدفناتِ الحيوانيةِ، وما قد تشير
إليه من أبعادٍ دينيةٍ وعقائديةٍ، أمكن لنا الخروجُ بنتيجة فحواها أنَّ المَعْز
كانت من أكثر الحيوانات التي استُخدمت كأضحيةٍ حيوانيةٍ،
٥٢ ولربما كان يُضحَّى بها بغرضِ استمرارِ الانتفاعِ منها. ويشهد على
ذلك ما جاء بموقع الخيام.
٥٣
ويرى Cooper أنَّ تلك العادة تتعلَّق إلى
حدٍّ كبيرٍ بتقديسِ المَعْزِ؛ إذ رأى أنَّ المَعْز كانت قد ارتبطت في ذهن أهل
بلادِ الشامِ بالتغيُّرِ وعدم الثبات والتجدد، وذلك لأنها من الحيوانات التي لا
تستقرُّ في مكانٍ واحدٍ، وإنما تغيِّر أماكن تواجدها من وقتٍ لآخر، فاعتبروها
بناءً على ذلك رمزًا للحيويةِ والتجدُّد.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإنهم كانوا قد اعتبروا سكناها للأماكن العالية رمزًا
للسموِّ والارتفاعِ، واعتبروها أيضًا أحد رموز الخصوبة.
٥٤
وقد لعِبت المَعْز دورًا اقتصاديًّا هامًّا ببلادِ الشامِ؛ إذ كان امتلاكُ
عددٍ ضخمٍ من قطعان المَعْز والأغنام، يجعل من صاحبها مالكًا للقوةِ وصاحبًا
للثراء، هذا بخلاف قيمتها كمصدرٍ هامٍّ للغذاء
٥٥
ولقد تشابه الغرضُ من دفناتِ المَعْز في بلاد الشام مع الغرض من دفناتِ
المَعْزِ في مصر، لا سيما في اعتبارها أو النظرِ إليها كواحدةٍ من أهم حيوانات
الأضحية، وإن اختلفت طبيعةُ ما عُثر عليه من دفناتٍ للمَعْز في مصر، عنها في
بلادِ الشام.
ثالثًا: دفنات الكلاب
كان الكلب من أول الحيوانات التي تم استئناسها، وذلك فيما بين ١٢٠٠٠–١٠٠٠٠ق.م.؛
إذ كان الكلب مصاحبًا للإنسان، ومساعدًا له في أداء بعض الأعمال، لا سيما الصيد،
فاستؤنس قبل غيره من الحيوانات الأخرى، ومن ثمَّ بدأت وتوثَّقت الصلات التي تربطه
بالإنسان وبحياته الاجتماعية، ويُحتمل أن تكون تلك الروابط تطوَّرت بتطوُّرِ حياةِ
الإنسان، ومستواه الاجتماعي،
٥٦ ولقد عُثر على أقدمِ أدلةِ استئناس الكلب في فلسطين، بمواقع نطوفية
تُؤرَّخ بحوالي ١٠٠٠٠–٩٠٠٠ق.م.، ومن ثمَّ فإن معرفة استئناس الكلب كانت قد سبقت
معرفةَ الزراعةِ ببلاد الشام.
٥٧
وقد عُثر على دفناتٍ للكلاب في العديد من مواقع الكهوف،
٥٨ ⋆
ففي مغارة الواد، عُثر في الطبقةِ
B على جمجمةٍ
لكلبٍ، كانت قد دُفنت عن قصدٍ، وتُعتبر هذه الدفنةُ واحدةً من أهم الدفناتِ
الحيوانيةِ؛ لأنها دليلٌ يوضح مسيرةَ الإنسان نحو الحياة المتمدنة، نحو الاستئناس
وإدراكِ قيمةِ الحيوان.
٥٩
وفي عين الملاحة
٦٠ ⋆
عُثر على دفنةٍ أخرى لكلبٍ صغيرٍ — ورجلٍ عجوزٍ — وذلك في المقبرة رقم
H.104 التي تُؤرَّخ ببداية المرحلة النطوفية
٩٨٠٠–٩٤٠٠ق.م.، كان الكلب قد عُثر عليه أسفلَ اليد اليسرى للرجل، وبدراسته تبيَّن
أنَّ عمره كان يتراوح عند دفنه ما بين ٣–٥ شهور،
٦١ الشكل رقم
٧-٩٧ -
٧-٩٨.
ولقد عُثر في عين الملاحة أيضًا على دفنةٍ أخرى لجروٍ صغيرٍ، كان مصاحبًا لهيكلٍ
عظميٍّ لامرأةٍ، وضعت يدَها على صدرِ الجروِ الصغيرِ، كما عُثر في دفنةٍ أخرى
بالموقعِ نفسِه، على فكِّ كلبٍ، كان ملحقًا بهيكلٍ عظميٍّ آدميٍّ، ربما كنوعٍ من
الدفناتِ الجزئيةِ، ولا شكَّ أنَّ العثورَ على مثلِ تلك الدفناتِ الحيوانيةِ
الخاصةِ بالكلابِ، لهو دليلٌ على وجودِ نوعٍ من الإعزازِ للكلبِ.
٦٢
هذا، ولقد اكتُشف بالقربِ من منطقة كهف هايونيم،
٦٣ على مقبرةٍ نطوفيةٍ اشتملت على بقايا عظمية لثلاثة من الآدميين، واثنين
من الكلابِ كانا قد دُفنا أسفلَ الدفناتِ الآدميةِ.
٦٤ وبنفس الموقعِ عُثر على دفنةٍ أخرى اشتملت على بقايا من عظامِ فكٍّ،
وبعضِ أسنانِ كلبٍ صغيرٍ، تُؤرَّخ أيضًا بالعصر النطوفي.
٦٥
وتؤكد العديدُ من الدراساتِ على أنَّ الكلب
كان بالفعل الحيوانَ الوحيدَ الذي ثبَت استئناسه في ذلك العصر، ووضح ذلك من خلالِ
ما عُثر عليه من دفناتٍ له، أو بقايا عظميةٍ خاصةٍ به؛ إذ عُثر في كهف شقبة بوادي
النطوفِ على عظامٍ حيوانيةٍ لكلابٍ مستأنسةٍ، مما يؤكِّد على وجودِ علاقةٍ تربط
الإنسانَ بالكلبِ منذ ذلك العصر،
٦٦ بل ولربما من قبله أيضًا؛ إذ إنَّ الكلبَ كان أولَ الحيواناتِ التي
ألِفت الإنسانَ وصاحبته في صيده، ومن ثمَّ أصبح الكلبُ صديقَ الإنسانِ وحارسه
ورفيقه في حياته، بل وبعد مماته.
٦٧
ويرى سلطان محيسن أنَّ هذا الاهتمام بالكلب من قِبل النطوفيين، لا يعني تقديسه،
بل إنَّ هذا الحيوانَ الاجتماعيَّ المخلصَ كان قريبًا جدًّا إلى نفوسِ المجتمعاتِ
النطوفيةِ التي يعتقد أنها استأنسته قبل باقي الحيواناتِ الأخرى.
٦٨
ومن ثمَّ انتشرت بقاياه، وتأكَّد تواجده في أماكنَ عدة بفلسطين إبَّان تلك
المرحلة الحضارية.
٦٩
وفي شمال شرق سوريا، اكتشف فريقٌ من باحثي المتحف البريطاني سنة ١٩٨٧م هيكلًا
عظميًّا كاملًا لكلبٍ، بدراسته تبيَّن أنه لكلبِ صيدٍ، كان قد عُثر على شبيهه في
منطقةِ أم النار ولوحظ في كلتا الدفنتين وجودُ تشابه فيما بينهما وبين دفنات كلابِ
العصر النطوفي.
٧٠
وفي مجدو
٧١ ⋆
عُثر على أجزاءٍ من جماجم كلاب، وذلك في اثنتين من الدفناتِ الآدميةِ، إحداهما
تُؤرَّخ بالعصر الحجري النحاسي، والأخرى تُؤرَّخ بالعصر البرونزي المبكر.
٧٢
الغرض من دفنات الكلاب
ينفي سلطان محيسن أن يكون الغرضُ من دفناتِ الكلابِ هو تقديسها، وإنما يرى
أنَّ دفنها قد يكون فيه نوعٌ من الإعزازِ لها من قِبل أصحابها،
٧٣ ولعلَّ دفنها مع أصحابها دليلٌ مؤكدٌ على مدى العلاقةِ التي ربطتها بالإنسان.
٧٤
ويرى بعضُ الباحثين أنَّ دفناتِ الكلابِ قد تعبِّر عن نوعٍ من الوجباتِ
الجنائزيةِ الخاصةِ بالآلهةِ، وقد اعتمدوا في ذلك على ما عُثر عليه من دفناتٍ
لكلابٍ في مناطقَ عدةٍ بشمال شرق سوريا، كانت قد ظهرت بها علاماتُ الذبح، ووضحت
بعظامها علاماتُ القطع والكسر.
٧٥ وإن كانت الدارسةُ ترى أنَّ هذا الافتراضَ من الأمورِ غيرِ
المؤكدةِ لا سيما وأنَّه كان هناك حيواناتٌ أخرى يُفضَّل ذبحها وتقديمها
كأضحياتٍ حيوانيةٍ، وكانت المَعْز على رأس تلك الحيوانات، أمَّا الكلابُ فلم
يرِد عنها الكثيرُ في هذا الشأن.
هذا، وما زالت أغراض دفن الكلاب ببلاد الشام يكتنفها الغموضُ، ربما لقلَّتها
مقارنةً بمصر، وربما لعدمِ استمراريةِ تواجدها في شتى المراحل الحضارية ببلاد
الشام، إلا أنه يمكن القول بأنَّ بلادَ الشامِ كانت قد تشابهت مع مصر في
الاهتمام بدفن الكلاب مع أصحابها، إعزازًا وتقديرًا لها.
رابعًا: دفنات الغزلان
كان الغزال من أهم الحيواناتِ التي قام
الإنسانُ بصيدها منذ العصرِ الحجريِّ القديمِ،
٧٦ ويعدُّ «تل أبي هريرة»،
٧٧ ⋆
أحدَ أهمِّ مواقعِ بلادِ الشامِ التي أوضحت لنا كيف كان صيد الغزال يلعب دورًا
حاسمًا في حياةِ أهلِ هذا الموقع؛ إذ عُثر في هذا التل على آلافٍ من عظام الغزلان
التي أمكن تقسيمها إلى ثلاثِ مجموعات: «غزلان حديثة الولادة، غزلان عمرها عام واحد
وغزلان بالغة»، وبالدراسة تبيَّن أنَّ الصيدَ كان يتمُّ في هذا الموقع بصفة موسمية،
وأنَّ موعد الصيد كان يتم بمجردِ أن تلد الإناثُ، ولم يكن الصيد فرديًّا، بل غالبًا
ما كان يتم صيدُ القطيعِ كله — أي كان صيدًا جماعيًّا — وهذا هو ما يبرِّر العثور
على عظام غزلان من كل الأعمار، وقد عُرف هذا النوع من الصيد المكثف في كثير من
مجتمعات عصور ما قبل التاريخ
٧٨ منذ العصر الحجري القديم الأوسط؛ إذ أبدى أهلُ العصر الحجري القديم
الأوسط عنايةً خاصةً بصيد بعض الحيوانات، لا سيما الغزال،
٧٩ الشكل رقم
٧-٩٩.
ولم تكن فكرةُ الصيدِ تعني لدى إنسان ذلك العصر فَناءَ الحيوان، والقضاءَ على
نوعه؛ فالشواهدُ تؤكِّد حفاظ الصيادين على رأس الحيوان لفترة، وذلك بأن كانت تثبت
على قائمٍ في موضع سكناها، حتى تحلَّ روحه في جسد حيوان آخر، وبذلك يستمرُّ بقاءُ الحيوان.
٨٠
وكان من أدلة اهتمام إنسان النياندرتال بالغزال أيضًا، اهتمامه بدفنه؛ إذ عُثر
على العديد من دفنات الغزلان التي تُؤرَّخ بالعصر الحجري القديم الأوسط؛ ففي منطقة
نهر إبراهيم،
٨١ ⋆
عُثر على بعضٍ من هياكل الغزلان التي كانت قد دُفنت وطُليت بالمُغْرة الحمراء.
٨٢
وفي مغارة العصفورية
٨٣ ⋆
عُثر على دفنة لغزال، وعلى بعض من آثار المُغْرة الحمراء، وقد عُثر أيضًا في بعض
المواقع الأخرى على هياكلَ عظميةٍ لغزلانٍ، مطلية بالمُغْرة الحمراء، مما يؤكِّد
على وجود نوع من العناية الخاصة بالغزال آنذاك.
٨٤
ويُعتقد أنَّ هذه المُغْرة الحمراء التي عُثر عليها بتلك الدفنات، إنما هي رمزٌ
للدم وتجدُّد الحياة، وهو دليلٌ على أنَّ إنسانَ هذا العصر كان قد مارس السحر
٨٥ ومن الجدير بالذكر أنَّ ظاهرةَ ذرِّ الترابِ الأحمر كانت قد وُجِدت في
العديد من المقابر في بعض الحضارات؛ إذ ربما ارتبط الترابُ الأحمرُ بالخلود
واستمرار الحياة في العالم الآخر.
٨٦
وفي مغارة قفزة، عُثر أيضًا على العديد من الدفنات المهمة، التي كان من بينها
دفنةٌ لامرأةٍ شابةٍ وطفلها. كان الطفلُ نائمًا برأسه على صدر أمه، وبين ذراعيه،
عُثر على هيكلٍ عظميٍّ لغزالٍ صغيرٍ. ولعل في هذه الدفنةِ إشارةً إلى وجودِ رمزيةٍ
روحيةٍ، وقيمة وأهمية لهذا الحيوان لدى سكان بلاد الشام في العصر الحجري القديم الأوسط.
٨٧ ولا شكَّ أنَّ العثورَ على مثل تلك الدفنات يؤكِّد أيضًا وجودَ نوعٍ من
العبادة الحيوانية — لو صحَّ التعبيرُ — خلال هذا العصر.
٨٨
هذا، ولقد استمرَّت وتأكَّدت أهميةُ الغزال في العصر الحجري القديم الأعلى؛ إذ
عُثر على آثاره في العديد من مواقع الكهوف، مثل كهوف إنطلياس، ونهر الكلب وطبرية،
فقد عُثر في هذه الكهوف على بقايا عظمية للعديد من الغزلان.
٨٩
ففي كهف قفزة الذي كان له ثقله وأهميته، عُثر على عظامٍ حيوانيةٍ كثيرةٍ في جميع
مستويات الكهف، مختلطةً في أكثرها ببقايا عظام آدمية، ولا ندري أكان الخلط ناتجًا
عن العبث، أم تكرار السكن في الكهف، أم إنه كان مصادفة، أم هو دفناتٌ مقصودةٌ.
٩٠
ولقد أدَّى هذا الخلطُ بين البقايا العظمية الآدمية والحيوانية بالعديد من
الكهوف، إلى محاولةِ تفسير دور الكهف في حياة إنسان هذا العصر، وتفسير سبب وجود مثل
تلك البقايا العظمية الحيوانية به.
٩١ فرأى البعضُ أنه ربما كان الإنسانُ يعيش في الكهف، ثم يدفن موتاه فيه؛
أي إنَّ الكهفَ كان يجمع ما بين عالم الدنيا وعالم الآخرة، وإنَّ الكهف كان أيضًا
الملاذَ والملجأ للعديد من الحيوانات — لا سيما الغزال — ولا شكَّ أنَّ فلسطين
وسوريا كانتا مليئتين بالكهوف والمخابئ التي كانت تنتشر في أجزاءٍ مختلفةٍ، فهي
استُعلمت كمزارات وأيضًا كمحلات لسكنى الإنسان،
٩٢ بل والحيوان أيضًا الذي عُثر على بقاياه العظمية في الكثير منها.
٩٣
وهكذا فإنَّ دراسة دور الحيوان — لا سيما الغزال — في حياة إنسان هذا العصر، لا
يمكن أن تكون بمنأًى عن دراسة حياة الإنسان نفسِه، فما الحيوانُ إلا جزءٌ من حياة
الإنسان، شاركه سلوكياته، وكان جزءًا من متطلباته،
٩٤ الشكل رقم
٧-١٠٠.
وفي العصر الحجري الوسيط.
٩٥ ⋆
استمرَّ الاعتمادُ على صيد الغزال، تمهيدًا للانتقال نحو استئناسه، وإن لم يكن بعدُ
هناك دليلٌ مؤكدٌ على ذلك رغم ثبوت الاعتماد عليه اقتصاديًّا وارتباطه بالإنسان
بصلاتٍ روحيةٍ ودينيةٍ.
٩٦
ويرى البعض أنَّ معرفة استئناس الغزال كانت في العصر الحجري الوسيط — الحضارة
النطوفية — وذلك بناءً على كثرة بقاياه العظمية التي عُثر عليها في مواقع ذلك
العصر، بينما قوبلت بالرفض الشديد من قِبل أغلب الباحثين.
٩٧
وكان من بين أهم دفنات الغزلان التي عُثر عليها آنذاك، دفناتُ غزلان موقع عين الملاحة،
٩٨ ⋆
التي كان من بينها دفنةٌ لغزالٍ كان قد عُثر عليه مدفونًا أسفلَ هيكلٍ عظميٍّ
آدميٍّ يُزيَّن بمجموعةٍ من الأسنان «كخرز» بينما في دفنةٍ أخرى بنفس الموقع، عُثر
على ثلاثةٍ من قرون الغزلان، وذلك في واحدة من الدفنات الآدمية، مما يسبغ على
الدفنة شيئًا من الرمزية الدينية.
٩٩
وفي قبرٍ جماعيٍّ بعين الملاحة أيضًا، عُثر على ثلاثة عراقيبَ عظميةٍ لغزلانٍ،
ربما تشير إلى اهتمام إنسان هذا العصر بدفن أجزاء من الحيوان دون سواها — كدفنةٍ
جزئيةٍ — وإلى وجودِ نوعٍ من الرمزية الدينية المرتبطة بهذا الحيوان.
١٠٠
ومن الاكتشافات اللافتة للنظر، ما عُثر عليه في كهف هايونيم،
١٠١ ⋆
من بقايا عظام وأسنان حوالي خمسة عشر غزالًا، وذلك في المستوى
B منه، بينما عُثر على أسنانٍ لثمانية غزلان في
المستوى
C، وعُثر على أسنانٍ لثمانية غزلانٍ أخرى
في المستوى
D، ولربما كان الاحتفاظ بهذه الأسنان له
أغراضه الطقسية والرمزية،
١٠٢ لا سيما وأنَّ الغزالَ اعتُبر رمزًا للإلهة الأم في بلاد الشام،
واعتُبر أيضًا بمثابة — سيد الحيوانات — في الحضارة النطوفية، ورمزًا للخصوبة وطقوس
الصيد في غرب آسيا، بينما الوعلُ — إله ذكر – ارتبطت قرونُه بقدسيةٍ مهمةٍ، وقوةٍ
مقدسةٍ، دون تحديد إله معيَّن.
١٠٣
وهكذا، يتَّضح كيف كان هناك اهتمامٌ وتركيزٌ على اختيار دفن أجزاء من الحيوان دون
سواها من أجزاء الجسم الأخرى، ولا شك أنَّ في تفضيلها ما يشير إلى قيمتها وفائدتها
لدى أصحاب ذلك العصر.
١٠٤
ولقد عُثر على الكثير من البقايا العظمية للغزال في مواقع العصر الحجري الحديث،
بل عُثر على دفناتٍ له كان أهمها ما جاء في كفر حاوريش — أسفلَ الجليل — فقد عُثر
على دفنةٍ لغزالٍ، في الحفرة رقم
L1400، التي
اشتملت على جمجمةٍ آدميةٍ مغطَّاة بالجصِّ الملوَّن بالأحمر، وهيكلٍ عظميٍّ لغزالٍ
تنقصه الجمجمة.
١٠٥
وإلى اليمين من تلك الحفرة عُثر على دفنةٍ آدميةٍ أخرى ولا شك أنَّ تلك الدفنةَ
تشير إلى قدسية الغزال، ورمزيته العقائدية في تلك الفترة. هذا، ولقد كان للغزلان
أهميتها الاقتصادية التي استمرَّت خلال العصر الحجري النحاسي وعصر ما قبل وبداية
الأسرات (عصر البرونز المبكِّر الأول والثاني)، ففي جبَّانة باب الدهرة
١٠٦ ⋆
عُثر على الكثير من البقايا العظمية وعلى العديد من دفنات الغزلان التي كان من
بينها ما جاء في المقبرة رقم
A 101 5W والمقبرة رقم
A 785 W من بقايا عظميةٍ لكثيرٍ من الغزلان.
١٠٧ الشكل رقم
٧-١٠١.
ومن دراسة تلك البقايا العظمية، تبيَّن أنَّ الغزالَ الذي دُفن في المقبرة
الأولى، عُثر عليه عند مدخل حجرة الدفن، وأنه كان قد ضُحِّي به، وكانت هذه عادةً
جنائزيةً متبعةً في بلاد الشرق الأدنى بوجهٍ عامٍّ، وفي فلسطين بوجهٍ خاصٍّ، لا
سيما في الألف الثالث ق.م.
١٠٨
ولقد ربط
Smith ما بين عادة الأضحية بالغزال،
ودفنه في دفناتٍ خاصةٍ، وبين نوعٍ من الطوطمية المتصلة بهذا الحيوان لدى سكان سوريا
وفلسطين؛ فهو رمز للسرعة والجمال، وهو أيضًا حيوانٌ مفضلٌ ومحببٌ لديهم.
١٠٩
وكان للغزال أيضًا دوره الجنائزيُّ باعتباره إحدى الوجبات الجنائزية المقدَّسة في
منطقة الشرق الأدنى القديم؛ إذ كان ذبحُ الغزال وتقديمه كأضحيةٍ حيوانيةٍ، عادةً
جنائزيةً شائعةً في منطقة شرق إقليم حوض البحر المتوسط القديم، وتُعدُّ منطقة باب
الدهرة أولَ الأمثلة الدالَّة على ذلك.
١١٠
الغرض من دفنات الغزال
كان للغزال أهميةٌ عظمى في بلاد الشام، بدأت أولًا بالأهمية الاقتصادية،
وانتهت بالأهمية الدينية؛ إذ رمزَ الغزالُ عند أهل بلاد الشام إلى الحياة
والخصوبة، فكانت له قيمةٌ روحيةٌ وضحَت فيما عُثر عليه من دفناتٍ خاصةٍ له،
كانت مقترنةً في كثيرٍ من الأحيان بدفناتٍ آدميةٍ، وفي أحيانٍ أخرى كانت قد
طُليت بالمُغْرة الحمراء مثلها مثل الدفنات الآدمية، رمزًا للدم وتجدُّد الحياة.
١١١
ولقد وضحت تلك الأهمية منذ العصر الحجري القديم الأوسط فالأعلى، ثم بدأت تتخذ
منذ العصر النطوفي شكلًا آخرَ مصطبغًا بالصبغة الرمزية؛ إذ اكتُفي في هذا العصر
بدفن أجزاء من جسم الغزال دون غيرها، وكانت تُدفن إما منفصلةً، أو مع دفناتٍ
آدميةٍ، تأكيدًا على الدور الطقسي والرمزي الذي لعِبه الغزالُ آنذاك.
١١٢
ثم يأتي العصر البرونزي المبكر بعد حلقات مفقودة لم نستطِع فيها بعدُ وضْعَ
نقاطٍ واضحةٍ لدور الغزال، فنرى ارتباطَ الغزال في ذلك العصر بنوعٍ من
الطوطمية؛ إذ اعتبره أهلُ هذا العصر رمزًا للسرعة والجمال، وكان من الحيوانات
المفضَّلة والمحبَّبة لديهم.
١١٣
وخروجًا من كل ذلك، يمكن القولُ بأنَّ الغزالَ كان من الحيوانات الهامة التي
احتلت مكانةً دينيةً بصورةٍ أو أخرى لدى أهل بلاد الشام، فاهتمُّوا بدفنه إما
منفصلًا عن المقابر الآدمية أو ملحقًا بها، وإما بصورةٍ كاملةٍ — بأن يُدفن
الهيكل العظمي كاملًا — أو بصورةٍ جزئيةٍ … بأن يُكتفى بدفن أجزاء من جسم
الحيوان دون سواها، وهو في كل ذلك إنما يؤكِّد على أهمية هذا الحيوان
عقائديًّا.
خامسًا: دفنات الحمير
ثبَت استخدامُ الحمار كحيوانٍ للنقل والركوب في فلسطين منذ الألف الرابع ق.م.
تقريبًا. وترجع دلائل إثبات وجود ومعرفة الحمار في فلسطين إلى المرحلة الغاسولية،
أي حوالي الألف الخامس ق.م.، وذلك من خلالِ ما عُثر عليه من تماثيل من التراكوتا
وبقايا عظميةٍ لحميرٍ في العديد من مقابر جنوب فلسطين.
١١٤
وقد عُثر على دفناتٍ لحميرٍ في العديد من المقابر، منها ما جاء بتلِّ أم المرة
١١٥ ⋆
بسوريا؛ إذ عُثر على دفنةٍ اشتملت على جمجمتين لحمارين، وعلى بقايا طفلٍ رضيعٍ كان
قد دُفن بداخل قِدْرٍ فخارية، وكان كلٌّ من الجمجمتين والقِدْر الفخارية قد عُثر
عليهما في دفنةٍ ثانويةٍ قريبةٍ من دفنةٍ آدميةٍ كانت تقع إلى الجنوب الشرقي منها،
وكانت قد اشتملت على مجموعةٍ من الأواني الفخارية وعلى بقايا عظامٍ حيوانيةٍ، ربما
كانت قرابين جنائزيةً قُدِّمت للمتوفَّى، وعُثر بين هذه الأواني الفخارية، على
تمثالٍ لهيئةٍ حيوانيةٍ، مما يؤكِّد على وجودِ دورٍ طقسيٍّ معيَّن لعِبه الحيوان في
هذا الموقع، وتُؤرَّخ تلك الدفنةُ بالعصر البرونزي المبكر.
١١٦
ومن الأمور اللافتة للانتباه، أنه قد عُثر في الموقع السكني بهذا التلِّ أيضًا
على دفنةٍ لحمارٍ، جاءت إلى الشرق من مدخل أحد المنازل؛ إذ عُثر على هيكلٍ عظميٍّ
كاملٍ لحمارٍ، كان قد دُفن بكيفيةٍ تكاد أن تسدَّ المدخلَ.
١١٧
وفي كلتا الدفنتين نلاحظ الالتزامَ بالاتجاه الشرقي، أو الجنوبي الشرقي — كما في
الدفنة الأولى — وربما كان لذلك ارتباطه بالشمس كما كان عليه الحالُ في مصر.
ولا شك أنَّ كل ذلك إنما يُظهر نوعًا من الأهمية الطقسية والشعائرية التي ارتبطت
بالحمير، والتي ظهرت في الاهتمام بدفنها، سواء في دفناتٍ ثانويةٍ ملحقةٍ بالمقابر
الآدمية، أو في دفناتٍ مستقلةٍ كأضحيةٍ حيوانيةٍ، وسواء كان هذا أم ذاك، فكلاهما
يدلِّل على أهمية الحمار في تلك الفترة من العصر البرونزي المبكر.
١١٨
ولم تكن أهميةُ الحمار في موقع أم المرة ترتكز فقط على استخدامه كحيوانٍ للنقل
والركوب، وإنما كانت له أهميته الاقتصاديةُ أيضًا؛ إذ كان يُعتمد عليه كمصدرٍ
للطعام، بل وكان مفضَّلًا عن المَعْز والأغنام في هذا الغرض نظرًا لوفرة لحمه؛ ولذا
فلقد كان سكان هذا الموقع يعتمدون على صيد الحمير البرية — بجانب الحمير المستأنسة
في الغذاء.
١١٩
هذا، ولقد عُثر في منطقة نحال بيسور
١٢٠ على دفنةٍ لحمارٍ بالغٍ، كان قد وُضِع في حفرةٍ مستقلةٍ. وبدراسته
تبيَّن أنه كان قد دُفنَ وهو لا يزال على قيد الحياة؛ إذ جاء الهيكلُ العظميُّ
كاملًا وسليمًا بكل تفاصيله، رغم تأثير عوامل التلف على أجزائه.
١٢١
⋆
هذا، ويتراوح عمر هذا الحيوان عند دفنه من ثلاث سنوات ونصف إلى خمس سنوات
تقريبًا، وذلك اعتمادًا على شكل العظام ودراستها.
١٢٢
وتذكِّرنا هذه الدفنة بدفنة حمير أبو صير في مصر؛ إذ كانت حمير أبو صير الثلاثة
قد دُفنت أيضًا وهي لا تزال على قيد الحياة في حفرةٍ اتسعت لوقوفها، فالفكرة
واحدةٌ، والتنفيذ واحدٌ، ولربما كان ذلك دليلًا على تشابه الفكر العقائدي والديني
بين البلدين.
ولقد عُثر على بقايا حميرٍ في أكثرَ من موقعٍ آخر يُؤرَّخ أيضًا بالعصر البرونزي
المبكِّر الأول، من مثل ما جاء في منطقة آراد، وتل عريني وعين شادو، إلا أنَّ موقع
نحال بيسور كانت له الغلبة في ذلك، ليس فقط في العصر البرونزي المبكر، وإنما قبله
أيضًا؛ إذ عُثر على هيكل حمارٍ صغير الحجم، في دفنةٍ بالموقع تُؤرَّخ بالعصر الحجري
النحاسي، ومن ثَم يمكن القول بأنَّ الحمار كان معروفًا في العصر الحجري النحاسي،
وأصبح شائعًا ومستخدَمًا ويُعتمد عليه في العصر البرونزي المبكِّر، وكان له دوره
الاقتصادي، والديني والسحري الذي انعكس فيما جاء من دفناتٍ له، بل وفيما عكسته
أعمال الفنِّ أيضًا.
١٢٣
هذا، ولقد ذكر
Bodenheimer أنه قد عثر على دفنةٍ
حيوانيةٍ بالأردن — جنوب شرق البحر الميت — اشتملت على أربعةٍ من حميرٍ، كانت قد
ضُحِّي بها، ووُضعت بالقرب من دفنةٍ آدميةٍ، ولكنها على مستوًى أعلى منها، هذا
بخلاف العثور على ساقِ حمارٍ مع دفنةٍ آدميةٍ أخرى، وكذلك العثور على دفنةٍ رائعةٍ
لحصانٍ له ساقٌ واحدةٌ فقط، وفُصلت عنه الثلاثة الأخرى، ولا بدَّ أنَّ ذلك كان له
دلالته الطقسيةُ التي لم تتضح بعدُ.
١٢٤
ولا شك أنَّ كلَّ ذلك إنما هو انعكاسٌ لأهمية الحمار في حياة أناس هذا العصر، تلك
الأهمية التي وضحت أشدَّ الوضوح في العصور التاريخية بفلسطين؛
١٢٥ إذ كان امتلاك الحمار والاعتناء به دليلًا على رِفعة شأن صاحبه.
١٢٦
الغرض من دفنات الحمير
تشابهت عادةُ دفن الحمير في بلاد الشام، مع ما كان سائدًا في مصر من شيوع
عادة دفن الحمير في عصر بداية الأسرات، وقد تشير دفنات الحمير التي عُثر عليها
ببلاد الشام إلى نوعٍ من الطقوس الجنائزية المرتبطة بعبادة هذا الحيوان آنذاك،
١٢٧ وإلى أهميتها الاقتصادية، وأهمية وثراء صاحبها وارتفاع شأنه.
١٢٨ وربما يكون هناك أغراضٌ أخرى قد يكشفها مستقبل البحث
الآثاري.