مقدمة

وسط أراضي المد المسطَّحة جنوبَ شرق هيوستن، في مركز جونسون للفضاء التابع للإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا)، يرى المرء مشهدًا مؤثرًا وحزينًا؛ صاروخًا قمريًّا كاملًا، موضوعًا على جانبه للعرض. إنه ليس نموذجًا مبسطًا أو نسخةً طبقَ الأصل من صاروخ حقيقي. كان فيما مضى قادرًا على الطيران، بخمسة محركات مرحلة أولى يبلغ طول كلٍّ منها تسع عشرة قدمًا، ومرحلة ثانية ممتدة قد تصل إلى مدار فضائي، ومرحلة ثالثة جاهزة لحمل بعثة إلى القمر. وفي الوقت الحالي، هو مأوًى للبُوم.

في متحف الطيران والفضاء الوطني بمدينة واشنطن العاصمة، يرى المرء مَعْلمًا مشابهًا؛ إنه «سكاي لاب ٢»، وهو نموذج طبق الأصل من محطة فضائية كاملة كانت قد بلغت مدارًا فضائيًّا بينما كانت تحمل على متنها تسعة من روَّاد الفضاء خلال عامَيْ ١٩٧٣ و١٩٧٤. علاوةً على ذلك، لم تكن هذه المحطة الفضائية نموذجًا مبسطًا للتدريس، لكن ناسا لم تجد سببًا لتبرير إطلاقها. وكان من الممكن أن تحلِّق من أعلى الصاروخ نفسه الرابض في هيوستن كقطعة من ديكور الحدائق؛ لكنْ، بدلًا من ذلك، تبرَّعَتْ بها ناسا لمتحف سميثونيان، وحاليًّا يتجوَّل الأطفال داخلها.

لماذا آلت الأمور إلى ما آلت إليه؟ لماذا أولًا سافرنا إلى القمر؟ لماذا أنشأت ناسا تلك المعدات الرائعة، ثم تركتها فريسةَ الإهمال؟ يتناول الكتاب هذه القضايا ثم يمضي إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فيقدِّم نظرة عامة على السمات الأساسية لأهم برامج الفضاء الأخرى في العالم، بما في ذلك برامج الفضاء في الاتحاد السوفييتي وأوروبا ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية.

إنه لَوقتٌ ملائم لإلقاء نظرة عامة كتلك؛ إذ إن نهاية الحرب الباردة وانفتاح روسيا يقدِّمان حاليًّا قدرًا هائلًا من المعلومات الجديدة لمؤرِّخي الطيران والفضاء. وتتيح لنا هذه المعلومات تقديم وكالة الاستخبارات المركزية بوصفها قائدًا تولَّى إدارة برنامج الفضاء الأمريكي. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للمرء الآن مناقشة الأنشطة السوفييتية على الأساس نفسه الذي نُوقِشت به أنشطة ناسا، وبالدرجة نفسها من الشمولية.

يتناول هذا الكتاب ازدهار برنامج الفضاء السوفييتي من خلال تتبُّع تجارب مؤسِّسه وقائده، سيرجي كوروليف، وهو لا يتمتع بشهرة واسعة في الولايات المتحدة؛ ففي وقتٍ ما يرجع إلى عام ١٩٧٩، اكتفى توم ولف في كتابه «مقومات أساسية»، بالإشارة إلى كوروليف بأنه «كبير المصمِّمين» فحسب؛ لكن كوروليف يقف جنبًا إلى جنب مع فيرنر فون براون في مَصاف روَّاد الفضاء الذين لهم باعٌ كبير في هذا المجال. لم يقتصر دور كوروليف على وضع البرنامج الفضائي الوطني لبلاده؛ إذ عندما وافَقَ الرئيس كينيدي على برنامج «أبولُّو»، الذي كان يهدف إلى إنزال روَّاد فضاءٍ على سطح القمر، لم تكن تلك الموافَقة من جانبه إلا ردًّا على تحدِّي كوروليف.

يفتح الكتاب آفاقًا جديدة من خلال التركيز على أهمية الاستطلاع عبر الأقمار الصناعية. ركَّزت باكورة مشروعات الفضاء الفعلية في أمريكا على هذا الهدف منذ عام ١٩٥٥، وحصلت هذه المشروعات على أولوية فائقة. وُضِع مشروع القمر الصناعي المدني المبكر «فانجارد» في مرتبة أدنى لخدمة مصالح القوات الجوية ووكالة الاستخبارات الأمريكية، ونظرًا لانخفاض أولوية مشروع «فانجارد»، أُتيحت الفرصة لموسكو كي تصير الأولى في مجال الفضاء.

لكن الأولوية المرتفعة التي مُنِحت لأقمار الاستطلاع الصناعية آتَتْ ثمارَها في وقتٍ مبكر يرجع إلى عام ١٩٦١؛ حيث قدَّمت فكرة واضحة عن برنامج الصواريخ الروسي. ونظرًا لأن إطلاق هذه المركبات الفضائية كان يتطلب صواريخ فعَّالة، فقد سرَّعَ ذلك من وتيرة تطوير أمريكا لصواريخ إطلاق المركبات الفضائية منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر. وفي الاتحاد السوفييتي، أسفر بَرنامجٌ مبكرٌ لأقمار الاستطلاع الصناعية عن صنع مركبة «فوستوك» الفضائية، التي حملت يوري جاجارين إلى مدار فضائي ليصبح أول إنسان يتمكَّن من السفر إلى الفضاء.

يعرض هذا الكتاب أيضًا الجهد السوفييتي المبذول في برنامج رحلات الفضاء المأهولة إلى سطح القمر، الذي يضاهي الجهد الأمريكي المبذول في برنامج «أبولُّو». ويعرف الكثيرون الآن أن هذا السباق جاء نتاجَ خطةٍ ماكرةٍ أعدَّها رئيس الوزراء نيكيتا خروتشوف، مرَّر من خلالها موارده المحدودة إلى مجال الرحلات الفضائية المحدود، آمِلًا في أن يُوهِم بوجود قدرة فنية عظيمة. ونرى من جانبنا أن هذه الخطة كادت تنجح؛ إذ كان الروس على وشك إنزال الهزيمة بالأمريكيين في سباق السفر إلى القمر، وأرسل السوفييت بعثة ناجحة إلى القمر عام ١٩٦٨، ولم يكن ينقصهم إلا إرسال روَّاد فضاء، واقتضى الأمر أن تكثِّف ناسا جهودها في اللحظات الأخيرة حتى تفوز في هذا السباق.

يتخذ هذا الكتاب منظورًا تاريخيًّا أيضًا؛ ففي الإجابة عن سؤال «لماذا سافرنا إلى القمر؟» لا ينظر الكتاب إلى مشروع «أبولُّو» باعتباره دافعًا نحو مستقبل جديد للإنسانية، لكن باعتباره علامةً بارزة في حقبة تاريخية معينة؛ فقد شهدت هذه الحقبة نشاطًا فيدراليًّا موسَّعًا؛ إذ كنَّا بصدد إعلان الحرب على الفقر، وإجراء تغييراتٍ اجتماعية شاملة. وجديرٌ بالذكر أن ذلك العصر كان ينظر إلى واشنطن باعتبارها مصدرَ أكثر التقنيات الجديدة الواعِدة، وخلال ستينيات القرن العشرين، شملت هذه التقنياتُ الطرقَ السريعة بين الولايات، والطائراتِ النفَّاثةَ، ومحطات الطاقة النووية.

لكن كان ثمة جانب أكثر إظلامًا في التزام كينيدي؛ إذ تحمَّلَ حزبه الديمقراطي عبءَ تولِّي السلطة عندما سقطت الصين في يد الشيوعيين عام ١٩٤٩، وكان يعلم أن تكبُّد المزيد من الخسائر في العالم الثالث أمرٌ غير مقبول، ورأى في الرحلات الفضائية السوفييتية دعايةً قوية ربما تستميل الأنظمة المرتعشة وتَحْمِلها على تغيير موقفها؛ ومن ثَمَّ، استند «أبولُّو» إلى أساس منطقي رئيسي، وهو استخدامه كدعاية مضادة ربما تَثْنِي قادةَ العالم الثالث عن التطلُّع إلى موسكو. وكان ثمة أساسٌ منطقي مشابِه يكمن في حرب فيتنام؛ لذا، فلا عجبَ في أن التزامَيْ أمريكا، تجاه فيتنام و«أبولُّو»، تنامَيَا وتلاشيَا معًا.

ثمة موضوعٌ رئيسي آخَر يُظهِر الأهمية المتزايدة للإلكترونيات؛ يسمح نظام الدوائر الإلكترونية الحديثة ببناء مركبة فضائية فائقة القدرة، حتى إن عددًا محدودًا منها يكفي لتقديم خدماتٍ كاملة على مستوى العالَم في عددٍ من المجالات المهمة، مثل: الاتصالات، وتليفزيونات الكابل، ورصد الأحوال الجوية، والملاحة، ومراقبة الملاحة الجوية. كما حقَّقت الإلكترونيات أيضًا الأمل القديم في استكشاف الكواكب.

في المقابل، واصلَتْ ناسا التركيز على الرحلات المأهولة؛ إذ يرى هذا الكتاب أنه بينما كان قادة ناسا ينظرون إلى الوكالة باعتبارها وكالة فائقة التكنولوجيا، كانت الوكالة تهدف من هذا الأمر إلى خدمة أهدافٍ ترجع إلى وقت مبكر كثيرًا، وينطبق هذا الأمر تحديدًا على موضوع المحطات الفضائية.

نشأ مفهوم المحطة المدارية هذه في عام ١٩٢٣، ثم جرى تطويره بالتفصيل بحلول عام ١٩٢٩، في عصرٍ لم يكن يتوافر فيه من الأجهزة الإلكترونية الحقيقية سوى الراديو. واقترح هذا المفهوم أن يُناط بروَّاد الفضاء تنفيذُ مجموعة من الأنشطة المفيدة في الفضاء، مثل: تشغيل لوحات التحكم الهاتفية، ومراقبة القواعد العسكرية، ورصد أنماط الطقس. وكان من المنطقي بعد ذلك الجزم بضرورة أن يعيش كلُّ هؤلاء الأشخاص في مركبة فضائية واحدة، وهي محطة مدارية توفِّر لهم سُبُلَ الراحة.

بَيْدَ أنه في تاريخ مبكر يعود إلى خمسينيات القرن العشرين، كان من الواضح أن هذه المهام ستتولاها المركبات الفضائية غير المأهولة من خلال الإلكترونيات. لكن مفهوم المحطة الفضائية ربما يكون مضلِّلًا؛ فالمرءُ يذكر العجلة الدوَّارة الهائلة في فيلم ستانلي كوبرك «٢٠٠١: ملحمة الفضاء». ومع ذلك، لم يجد مؤيدو المحطة الفضائية ما يدعمها كثيرًا، وهو ما يثير أسئلة مهمة حول ما إذا كانت ناسا تعيد اختراع الماضي وتسمِّيه المستقبل؛ حيث سعت ناسا منذ عام ١٩٨٤ إلى تطوير محطة فضائية باعتبار أن ذلك هو مشروعها الكبير القادم.

يرى هذا الكتاب أن المحطات المدارية تنطوي على عوار كبير؛ إذ إن تكلفتها تفوق كثيرًا تكلفة الخدمات التي يمكن أن تقدِّمها. وينطبق هذا الانتقاد على المكوك الفضائي أيضًا؛ ومن ثَمَّ، لا يمكن توقُّع أن الرحلات المأهولة ستعقُب المركبات الفضائية غير المأهولة في الدخول إلى المجال التجاري، حيث يلتفت المشترون المُحتمَلون إلى البعثات الفضائية لأنها تحقق عوائد قيِّمة. وبدلًا من ذلك، ستظل المحطة الفضائية والمكوك الفضائي مَسْلَاة للحكومات، يُسعَى إليها لتحقيق ميزة سياسية.

لكنْ، ربما تتداعى هذه الميزة أمام توجُّهٍ حديثٍ مهم، تندمج فيه برامج الفضاء الأمريكية والروسية في مشروع عالمي واحد. وبالفعل، تروِّج شركة «لوكهيد مارتن» لمركبة إطلاق روسية، تُسمَّى «بروتون»، بينما تحتوي نسخة جديدة من صاروخها «أطلس» على محركات روسية. بالإضافة إلى ذلك، تسعى الدولتان إلى إقامة محطة فضائية كمشروع مشترك، وهو مشروعٌ قد يضخِّم من حقيقة أساسية في عصرنا، وهي أن الحرب الباردة أفسحت المجال لعصر جديد من التعاون الدولي؛ ويعمل هذا التوجُّه حاليًّا على إحياء الأمل في إمكانية أن يكون القرن القادم حقًّا قرنًا يسوده السلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤