الفصل الثالث عشر

الفلسفة في الظلام

الهوبيت والهرمنيوطيقا
توم جريموود

تخيَّل أنك استيقظت ذات يوم لتجد رسالة صغيرة كَتَبَها أحد ملوك الأقزام المنفيين، يطلب منك فيها بشكل واضح مقابلته في حانة قريبة خلال عشر دقائق. إنها ليست رسالة واضحة بشكل خاص، بل إنها تترك العديد من النقاط الأساسية غامضة نوعًا ما. قد تتساءل عما تعنيه الرسالة إجمالًا. وقد تجازف، مثل بيلبو، وتتبع التعليمات بغضِّ النظر عن ذلك. ولكنك أيضًا قد تتوقَّف وتسأل نفسك الآتي: كيف لي أن أعرف ما تعنيه هذه الرسالة؟ ما الذي يحدد معنى الرسالة؟ وكيف لي أن أعرف أنني قد وجدت المعنى الصحيح؟

لو كنت ستسأل نفسك هذه الأسئلة، فسوف يتبادر إلى ذهنك نظرية التأويل، أو ما يطلق عليه الفلاسفة «الهرمنيوطيقا». تطرح الهرمنيوطيقا، التي عادة ما ترتبط بتفسير النصوص، أسئلةً جوهريةً عن كيفية تفسيرنا للمعنى من خلال أي شيء أو وسيط (الكتابة، الحديث، الغناء، الرسم، التمثيل، وما إلى ذلك).

تُستكشَف هذه الأنواع من الأسئلة، في الهوبيت، من خلال بيلبو وجولوم في الفصل المُعَنْوَن «ألغاز في الظلام». في سياق الفصل، تحاول كلُّ شخصية التفوُّق على الأخرى في لعبة ألغاز. وفي أثناء سير اللعبة، يتعرض بيلبو وجولوم للتحدِّي على عدة مستويات للفهم. فلا بدَّ أن يفهما أين هما، ومن هو الآخر، والأهم من كلِّ ذلك أن يقوم كلٌّ منهما بحلِّ ألغاز الآخر. يعرض كلُّ لغز مجموعةً متنوعةً من التأويلات المحتملة، ولكن وفقًا لقواعد اللعبة، لا يوجد سوى إجابة واحدة صحيحة. ومثل فلاسفة التأويل الارتجاليين، يصارع بيلبو وجولوم مع المشكلة القديمة الخاصة بكيفية تعيين معنًى محدَّد للغة غامضة أو مُبهَمة.

(١) قواعد الألغاز

قد تكون رسالة ثورين سهلة كفاية لفهمها دون تدخُّلات من الفلسفة. ولكن لو كنت واجهت رسالة مختلفة، بدت أنها تلعب على وتر خفة اللغة، فقد يستحق منك الأمر التوقف للتفكير بشأن الإجابة. تأمَّل هذا السؤال الذي يطرحه جولوم على بيلبو:
ما الشيء الذي له جذور لا يراها أحد،
وأطول من الأشجار،
ويمتد لأعلى وأعلى،
ولكنه لا ينمو أبدًا؟1

هذا اللغز عبارة عن سؤال، ولكن على عكس معظم الأسئلة، لا يزوِّدنا بإطار مرجعي واضح من شأنه أن يتيح لنا إجابةً مباشرةً وفوريةً. بوسعنا أن نرى هذا السؤال يسأل عن شيء له مواصفات شجرة ولكنه ليس بشجرة. والكيفية التي نفسر بها مثل هذا السؤال، والكيفية التي نعرف بها حين نتوصل إلى الإجابة الصحيحة، سوف تتضمنان إنشاء إطار مرجعي لأنفسنا.

ولكي نجعل من هذا مهمة أقل ضخامة «وضبابية»، توجد، لحسن الحظ، قواعد معيَّنة في لعبة ألغاز بيلبو وجولوم قد تساعدنا في هذا المقام. فاللعبة، في النهاية، «مقدَّسة وعتيقة».2 يشترك في اللعبة شخصان (فلن يكون للعبة معنًى إذا لعبها شخص واحد بمفرده)، يعطي أحد المشاركين لغزًا للآخر. ويكون للغز حلٌّ يعرفه من يطرحه.
بالطبع، في بداية اللعبة، على الأقل، لا يطلب بيلبو أو جولوم من الآخر ببساطة أن يخمِّن ما يفكر فيه دون أي دلائل أو مفاتيح (في موضع لاحق من المناقشة، حين يطلب بيلبو من جولوم أن يخمِّن ما في جيوبه، تُلوَى هذه القواعد، إن لم تُحطَّم، ولكننا سوف نتعامل مع تلك المشكلة لاحقًا). ومفتاح نجاح اللغز يكمن في إخبار الجمهور بهذه الإجابة بينما تتمنَّى ألَّا يخمِّن الجمهور هذه الإجابة. تأمَّل محاولة بيلبو الأولى:
ثلاثون حصانًا بيضًا على تلٍّ أحمر،
في البداية يقضمون،
ثم يضربون الأرض بأقدامهم،
ثم يقفون بلا حراك.3

نظرًا لأنه لغز، نعرف أن بيلبو لا يتحدث في الواقع عن ثلاثين حصانًا — وإلَّا كانت الإجابة ببساطة هي «الخيول»، وهو ما من شأنه ألا يجعل منها لعبة — وإنما عن شيء مشابه للثلاثين حصانًا. بعبارة أخرى، يبدو أنَّ الهدف من الرسالة هو «توصيل» إجابة ما — وهي في هذه الحالة «الأسنان» — وعدم «توصيل» أية إجابة في ذات الوقت. فقط حين يتعذَّر اللغز على الفهم يكون قد نجح باعتباره وسيلة توصيل. باختصار: يوجد معنًى، ولكن المعنى مُتخفٍّ (أو «غير معلوم»). بهذه الطريقة، يمارس اللغز نوعًا محددًا من الحيرة الساخرة في مهمة الفهم.

(٢) هدف بيلبو: القصدية

توجد قضيتان متصلتان على المحكِّ في لعبة الألغاز. الأولى هي حاجتنا لمعرفة الإجابة على اللغز، وهذه القضية تُحسَم بشكل واضح وبسيط للغاية عن طريق مَنْ يطرح اللغز؛ فأية إجابة تُقدَّم ينبغي، من الناحية الفنية، الحكم عليها إما بالخطأ أو الصواب بواسطة طارح اللغز. القضية الثانية تتمثَّل في الجانب التأويليِّ الأكثر تعقيدًا قليلًا. فقَبْلَ أن يمكننا حل اللغز، نحتاج لفهم معنى الكلمات وكيفية عملها في اللغز. وهذه الخطوة تفترض مُقَدَّمًا أنَّ لدينا فكرةً ما عن ماهية «المعنى» فعليًّا.

ولعلَّ الإجابة الأكثر بديهية ستتمثَّل في «رسالة تعني ما انتوى مؤلفها أن تعنيه.» ومن ثم يكون الهدف من التأويل هو اكتشاف ماهية تلك النية من الأساس. ويُطلَق على النظرية القائلة بأن معنى أية رسالة يطابق نية مؤلفها اسم «القصدية». ومن أشهر المدافعين عن القصدية هو المعلم وأستاذ اللغة الإنجليزية السابق بجامعة فيرجينيا إي دي هيرش الابن.

إنَّ جوهر شخصية بيلبو، كما نعلم، يدور حول البديهة والمنطق السليم، وتركيزه على نوايا رفيقه في لعبة الألغاز يكمن وراءه سبب وجيه. فقد كان لديه شك في أن جولوم يريد أن يلتهمه. والواقع أنه يوافق فيما يبدو على ممارسة لعبة الألغاز فقط لشراء بعض الوقت بينما يحاول التعرُّف على هوية جولوم ومدى خطورته. ومن ثمَّ كثيرًا ما لا تكون الأسئلة التي يطرحها عن ألغاز جولوم من نوعية «ما الذي تعنيه هذه الكلمات؟» بل «ما الذي «يقصد» هذا المخلوق أن تعنيه الكلمات؟» في هذه الحالات يكون فهم نص اللغز مثله مثل فهم مرجعية الكلمات المقصودة، وهو الأمر الذي يكون أكثر سهولة تمامًا لسببين: (١) أنَّ الإجابات على ألغاز جولوم القليلة الأولى تعكس إلى حدٍّ ما بيئته المباشرة — «جبل»، «ظلام»، «أسماك» — و(٢) أنَّ بيلبو كان قد سمع الكثير من الألغاز مِنْ قَبْل، ربما في بيئة أقلَّ عداء؛ حيث كان قادرًا على التحقُّق من مقاصد صاحب اللغز.

غير أنَّ هناك مشكلة واضحة فيما يتعلَّق بالتعامل مع مقصد المؤلف بوصفه المحدِّد للمعنى، مثلما يكتشف بيلبو. فإذا كانت الوسيلة الوحيدة للتثبُّت من معنى لغزٍ ما هي من خلال مقصد المؤلف، فكيف لنا أن نعرف يقينًا مقصد المؤلف؟ هناك بعض الإجابات الممكنة لهذا السؤال.

ربما يمكننا ببساطة أن نسأل المؤلف عمَّا يقصده. ولكن هذا ليس خيارًا متاحًا لبيلبو، للأسف، وكان من شأنه أن يدمِّر الفكرة من وراء اللعبة برمَّتها، بل قد لا يكون هذا خيارًا يُعتمَد عليه تمامًا لأي شخص؛ إذ إنه لكي تُستوعَب رسالة المؤلف، نطلب من المؤلف أن يقدِّم لنا رسالة أخرى. وهذا أمر رائع إذا كنا ببساطة قد أخطأنا السمع أو طلبنا توضيحًا من المؤلف. ولكن إذا كانت الرسالة الثانية تفتقر للوضوح مثل الأولى، فقد يجد المرء نفسه في شيء أشبه بدائرة مفرغة.

عوضًا عن ذلك، في حالة غياب المؤلف أو عدم استعداده للإفصاح عن مقصده، فقد نحاول تحديد المقصد بأنفسنا من الدلائل المتروكة في كلٍّ من الرسالة وسلوك المؤلف أو تاريخه. ويبدو أن هذه هي الاستراتيجية التي وقع عليها اختيار بيلبو حين يسأل جولوم: «حسنًا، ما هذا؟ … الإجابة ليست قِدْرًا يغلي، مثلما يبدو أنك تعتقد من الجلبة التي تُحْدِثها.»4
إنَّ اللغة من منظور هيرش دائمًا ما تكون أداةً للمستخدم، ولا يمكن أن تصنع أو تحدِّد المعنى بمفردها. ففي النهاية، لو كانت اللغة تحدِّد نفسها بنفسها، لما ظهرت بيننا كلُّ هذه الخلافات المتعددة بشأن التأويل. وفي ذلك يقول: «إن أي سلسلة متتابعة من الكلمات لا تعني شيئًا محددًا إلى أن يقصد أحدهم شيئًا بها، أو يفهم منها شيئًا.»5

(٣) فسِّرْ لي هذا، بروفيسور هيرش

إنَّ المقصد من وراء نظرية هيرش، من مناحٍ عدَّة، توفير بعض اليقين والثقة في تفسير النصوص. ولكن من قبيل «الخداع» أن نتحدث بدراية مطلقة في هذا السياق، حتى لو كانت القصدية هي الطريقة الأكثر شيوعًا للتفكير بشأن المعنى إلى حدٍّ بعيد. ويبدو أن بيلبو نفسه يكتشف عن طريق المصادفة والمعلومات العامة أكثر من تخمين مقاصد جولوم الخفية. إن لغز جولوم الخامس صعب على بيلبو، ومجرد التفكير في دافع جولوم — من رغبته في التهام الهوبيت — لا يبدو مُجْدِيًا:
هذا الشيء يلتهم كلَّ الأشياء:
الطيور، الوحوش، الأشجار، الأزهار؛
يقرض الحديد، ويقضم الفولاذ،
ويطحن الأحجار بأسنانه كطعام له،
ويذبح الملك، ويدمر المدينة،
ويدك جبالًا شاهقة.6

في هذه الحالة، يبدو أن اختيار جولوم لصيغة اللغز يزيد من خوف بيلبو. فحين يواجه المرء كلمات تشير إلى التهام كلِّ الأشياء، من الطيور إلى الجبال، يتلفظ بها آكله المستقبليُّ المحتمل، قد تتجاوز مضامين الكلمات حدود اللعبة. ثمة تتابع محظوظ للأحداث هو وحده ما يمكِّن بيلبو من تخمين الإجابة الصحيحة: «الوقت.»

في الواقع، يعترف هيرش بأنَّ الكلمات أحيانًا ما يكون لها معنًى من نوعٍ ما منفصلٍ عن مقصد المؤلف؛ فثمة كلمات بعينها سوف تثير ردود أفعال متعددة من مختلف القراء أو المستمعين. ومثلما نعلم من ردود أفعال جيملي وليجولاس البالغة الاختلاف تجاه كهف أجلاروند البرَّاق، سوف تعني كلمة «كهوف» شيئًا لقزم وشيئًا آخر مختلفًا تمامًا لجنِّيٍّ.7 وبحسب هيرش، هناك فارق بين «المعنى» الذي يتحدَّد بشكل خالص مِنْ قِبَل المؤلف (ويُقصَد به في هذه الحالة إجابة اللغز، مثلما يحدِّدها جولوم) و«الدلالة»، التي تعني «معنى» رسالةٍ ما لقارئ أو مستمع معيَّن (فحواها أو مدلولها). في ضوء هذا، يبقى معنى أيِّ نصٍّ ثابتًا لا يتغيَّر، ولكن دلالته تختلف من شخص لآخر.
غير أن الفيلسوف مونرو بيردسلي (١٩١٥–١٩٨٥) ذهب إلى أنَّ القضية ليست ما إذا كان معنى الرسالة ومقصد المؤلف متصلين، أو ما إذا كان معنى الرسالة يُعَدُّ دليلًا كافيًا على مقصد المؤلف؛ نظرًا لأن جميع نظريات التأويل تُقِر بأن الموقف كثيرًا ما يكون كذلك. القضية هي ما إذا كان معنى الرسالة ومقصد المؤلف «واحدًا ويمثِّلان نفس الشيء.»8 من منظور، كان سيبدو أنَّ قَدْرًا كبيرًا من فهم بيلبو قد يكون قائمًا على دلالة ألغاز جولوم أكثر من معناها المقصود.
علاوة على ذلك، يعترف هيرش بأنَّ اللغة، وإن لم تكن مصدر «المعنى»، فإنها مصدر «الوضوح». فلا يمكن لمؤلف أن يدَّعي ببساطة أن الكلمات التي يستخدمها تعني أيَّ شيء يرغب في أن تعنيه. فلا يمكنني أن أجعل عبارة «مشجع فريق بالتيمور رافينز» تعني «شخص أبله عديم العقل»، بصرف النظر عن ولاءاتي. علاوة على ذلك، قد تكون النصوص التي لها عدة مؤلفين، مثل تقارير اللجان، والأحكام الدستورية، بل والكثير من الألغاز والدعابات، مفهومة واضحة تمامًا ولكن ليس لها أيُّ «مقصد أساسي» مشترك.9 ولكن إذا كانت اللغة مشتركة في هذا المقام، ألا يؤثِّر ذلك على فكرة أن المؤلف هو المقرِّر «الأوحد» لمعنى النصِّ؟

(٤) جولوم وجادامير

لا تنكر هذه الانتقادات الموجهة لمفهوم القصدية أنَّ الألغاز لها مؤلف، أو مقصد، أو إجابة، بل إن الانتقادات تشير إلى أنَّ تأويل المرء للغزٍ ما لا يمكن أن يُختزَل إلى مجرد استخلاص مقصد المؤلف. فبينما قد يحدِّد صاحب اللغز حلَّ اللغز، تنطوي طريقتنا في تفسير الرسالة بحيث يمكننا التوصُّل إلى ذلك الحل على تقدير أوسع نطاقًا لطريقة صياغة المعنى وتوصيله.

مع وضع ذلك في الاعتبار، يمكننا أن نرى في إجابات جولوم على لُغْزَيْ بيلبو الثاني والثالث انعكاسًا لأسلوب مختلف قليلًا في التأويل:
عين في وجه أزرق
رأت عينًا في وجه أخضر.
قالت العين الأولى:
«تلك العين تشبه هذه العين،
ولكن في مكان منخفض
وليس في مكان مرتفع.»10

يُعَد هذا اللغز أكثر تعقيدًا من الأمثلة السابقة. ﻓ «العيون» و«الوجوه» مصطلحات إشكالية تمامًا. أولًا: إنَّ نزْعتنا لقراءة السمات البشرية في العالم من خلال الأدب، والأساطير، وما إلى ذلك، تعني أنَّ هاتين الصورتين المجازيتين تسريان بشكل أوسع على أيِّ عدد من الأشياء في العالم من صورة الحصان أو الشجرة الأكثر تحديدًا.

ثانيًا: كما يتبيَّن، يشير اللغز فعليًّا إلى نوعين مختلفين من الأشياء (الشمس وزهرة أقحوان) بنفس الصورة الوصفية. وبدلًا من محاولة فهم دافع بيلبو لاستخدام مثل هذه الكلمات، الذي قد يؤدي إلى سيناريوهات لا حصر لها تتضمَّن خبرة المؤلف مع العيون والوجوه، يربط جولوم نصَّ اللغز بخبرته الخاصة مع العالم:
كان قابعًا تحت الأرض لزمنٍ طويلٍ للغاية، وكاد ينسى هذا النوع من الأشياء … استعاد جولوم ذكريات عصور وعصور وعصور مضت، حين كان يعيش مع جدَّته في نفق في ضفة بجوار أحد الأنهار. وقال: «يا خاتمي الثمين، إنه يعني الشمس وهي تشرق على زهور الأقحوان، إنه يعني ذلك.»11

في هذا المقام، يتبع جولوم نمطًا للتأويل طَرَحه على الأرجح أكثر فلاسفة الهرمنيوطيقا تأثيرًا في القرن العشرين، هانز جورج جادامير (١٩٠٠–٢٠٠٢). يرى جادامير أن تفسيراتنا دائمًا ما تُوضَع في سياقٍ تاريخيٍّ معيَّنٍ. فنحن نفكر في إطار خبراتنا ومعرفتنا المكتسبة؛ مما يُزوِّدنا بمجموعة من التحيزات تمكِّننا من فهم الشيء محل التأويل.

والمعنى المقصود لمفهوم التحيُّز هذا ليس المعنى السلبيَّ المتمثِّل في التعصب اللاعقلاني ضدَّ شخصٍ أو شيءٍ ما، بل يعني «التحيُّز» هنا مجموعةَ الميول التي تُدرِك من خلالها شيئًا ما باعتباره ذا معنًى. فتعليمنا، على سبيل المثال، يعلمنا القراءة بلغةٍ مُعَيَّنة؛ ومن ثم يهيِّئنا لرؤية أشكال وعلامات مُعَيَّنة كحروف وكلمات. لو لم نكن تعلَّمْنا بهذه اللغة لما استطعنا أن نفهمها.

يرى جادامير أن تحيزاتنا هي ما تجعل الفهم ممكنًا. فنحن في عملية تأويلٍ دائمةٍ للعالم؛ ومن ثم نستطيع تعديل وتطوير تحيزاتنا وتوسيع آفاق فهمنا. وهكذا فإن فهمنا ليس مجرد عملية إعادة بناء للفكرة الأصلية الكامنة خلف الرسالة، التي توجد ضمن سياقها أو أفقها التاريخي. إنما «الفهم» هو عبارة عن حوار بين المفسِّر والشيء موضع التفسير واندماج أفقين معًا. بعبارة أخرى، أن «تفهم» يعني أن تفهم نفسك في إطار الموضوع.12

في الواقع إنَّ جولوم ليس مخلوقًا له واقعٌ تاريخيٌّ، بل مجرد شخصية خيالية. ومع ذلك، يقوم فهمه لألغاز بيلبو على التاريخ «الخيالي» لوجوده والأفق الذي يمنحه هذا إياه. بينما يبدأ بيلبو اللعبة بتحديد معنى اللغز في إطار مقصد جولوم — علمًا بأن المعنى مُحدَّد بالإجابة التي قرَّرها جولوم مسبقًا — يحاول جولوم نفسه فهم كلِّ لغز بإعمال الفكر في خبرته.

ترى قصدية هيرش أن كلًّا من المؤلف والقارئ يُنظَر إليهما باعتبارهما كيانين مستقرَّيْن نسبيًّا، ولكن نظرية جادامير عن الهرمنيوطيقا تدرك أننا نتكوَّن بشكلٍ جزئيٍّ عن طريق اندماجنا وانصهارنا مع آفاق الفهم الأخرى. فنحن لا نخضع ببساطة لفكرةٍ ما، بل نفهم تلك الفكرة داخل إطار خبرتنا. ومن ثمَّ يستطيع جولوم تخمين الإجابة على لغز جولوم:
صندوق بلا مفصلات، أو مفتاح، أو غطاء. ولكنَّ كنزًا ذهبيًّا يقبع مخفيًّا بداخله.13
وهو يفعل ذلك بالتفكير مليًّا في خبرته مع:
السرقة من أعشاش الطيور قبل زمن طويل مضى، والجلوس أسفل ضفة النهر يعلِّم جدته مص … «البيض!» قالها بصوت كالهسيس: «إنه البيض!»14
حين نواجه رسالة تثير أفقًا ليس لنا دراية به — ككتابٍ فلسفيٍّ كُتِب في القرن السابع عشر أو لغة الجن التي كانت دارجةً «حين كان العالم كله رائعًا» — لا نغادر مواقعنا الفردية، ونقبع كما نحن في آفاقنا في الحاضر.15 ولكن سيكون من الخطأ، وفقًا لجادامير، أن نحاول توفيق الرسالة بشكل تام داخل آفاقنا الفردية؛ لأننا حينئذ نكون بصدد رؤية كلِّ شيء كما نريد أن نراه.

من الممكن بالتأكيد أن يكون ذلك ممتعًا لبعض الوقت. ولكن لا بد أن نتذكَّر أن آفاقنا الفردية، المكوَّنة من جميع خبراتنا وتجاربنا، هي في الأساس أُطُرٌ مرجعيةٌ متغيِّرةٌ ومتقلبةٌ. لو سبق لك الدخول في حديث مع شخص ما لا يرى الأمور إلَّا بطريقته، ستعرف مدى أهمية أن نرى آفاق فهمنا باعتبارها شيئًا نتشاور بشأنه وليس شيئًا نفرضه فرضًا.

في المقابل، تُعتبَر محاولة إعادة بناء الأفق الأصلي بِرُمَّته عبثًا أيضًا؛ لأن ذلك من شأنه أن يفرِّغ الرسالة من مدلولها بالنسبة إلينا. وبحسب جادامير، كان ذلك هو خطأ هيرش الجوهريَّ؛ فمن خلال حصر المعنى داخل مقصد الكاتب وحده، لا نضع اعتبارًا لتغيُّر دلالة المعنى من شخصٍ لآخَرَ. ولكننا لا نَصِل ببساطة إلى أية رسالة بمعزل عن العالم. ومن ثمَّ يُعتبَر دور الاندماج الشخصي مع رسالة ما أساسيًّا، كما نرى مع جولوم:
كانت هذه النوعية من ألغاز الأرض العادية الدارجة مُرْهِقة له. وكانت تُذكِّره أيضًا بتلك الأيام حين كان أقلَّ وحدةً وحقارةً وقبحًا، وكان هذا يثير غضبه.16

ليست بالمفارقة البسيطة أن يتعيَّن على جولوم، الذي يُصوَّر على مدى قصص تولكين باعتباره فردًا وحيدًا بغيضًا، أن يبحث عن الفهم من خلال حوار مع شخص آخر. غير أن جولوم يتحدَّث باستمرار خلال الحوار؛ ليس لشخص آخر، ولكن إما ﻟ «أناه» الثانية، سميجول، أو لخاتمه «الثمين» العزيز.

إن نموذج جادامير للحوار، في الواقع، ليس مقتصرًا على محادثة فعلية بين شخصين. فنموذج الحوار ليس سوى نموذج لتفسير كيفية حدوث الفهم، وهو يَصِف، باعتباره نموذجًا، البنيةَ التي تتكوَّن فيها أية مواجهة مع الشيء موضع الفهم، سواء أكان هذا عملًا فنيًّا، أم كتابًا، أم شخصًا آخر، أم شخصًا صغير الحجم يطلق ألغازًا.

(٥) ماذا في جيب بيلبو؟

غير أنَّ هذا النموذج للحوار يتضمَّن التزاماتٍ مُعَيَّنة، مثلما تنطوي لعبة الألغاز على قواعد مُعَيَّنة، كنا قد أوجزناها فيما سبق. إن الحوار، بحسب جادامير، يكتسب معنًى بفضل نوايا المشاركين الحسنة؛ التفهم المشترك لفكرة أنَّ شخصًا ما لديه شيء ليقوله وآخر يرغب في فهمه. ولكننا رأينا بالفعل كيف يخلق هذا مشكلات للنظرية القصدية للمعنى.

منذ اللحظة التي يطلب فيها بيلبو من جولوم أن يخمِّن «ماذا في جيبي؟» يبدو التواصل فيما بين الاثنين في انهيار. فالنية الحسنة للحوار شبه غائبة مع انزلاق الطرفين إلى الصياح بأسئلة متكررة. وهذه النهاية التي تصل إليها اللعبة تثير تساؤلين: (١) هل لغز بيلبو الأخير نزيه تمامًا؟ (٢) كيف لأسلوب جولوم التأويلي أن يساعده أو يعوقه في تحديد الإجابة؟

من ناحية، من وجهة النظر القصدية، يُوجَد مقصد داخل السؤال وإجابة للغز؛ ومن ثم يكون للسؤال معنًى على الأقل. فهناك شيء في جيب بيلبو «بالفعل»، وهذا الشيء ذو دلالة ضخمة للقصة، ليس فقط فيما يتعلَّق ببيلبو وجولوم، بل بالأرض الوسطى ذاتها. بالإضافة إلى ذلك، فهو ليس شيئًا لا يعرفه جولوم؛ فهو خاتمه، الذي سيكتشف فقدانه بعد قليل. ومن ثم يعلن بيلبو أنه قد فاز بالمنافسة بنزاهة (على الرغم من اعترافه بأنَّ القوانين القديمة قد لا تعتبر لغزه الأخير لغزًا حقيقيًّا).

من ناحية أخرى، ترى نظرية جادامير الحوارية للتأويل أن لغز بيلبو الأخير يُخِلُّ بحسِّ الحوار الذي يُكسِب أيَّ تأويل معنًى. بعبارة أخرى، ليست حقيقة أن هناك إجابة هي التي تفسد اللعبة فيما يبدو، ولكن حقيقة أن بيلبو قد أفسد روح النية الحسنة المبدئية السارية في اللعبة ذاتها. فسؤاله مجرد استفسار، وليس عبارة خبرية تُقدِّم دلائل أو إشارات أو تنقل رسالة ما دون تأكيدها بشكل بالغ الوضوح. ولذلك تداعيات لفكرة اللعبة الأساسية؛ إذ يُترَك جولوم دون أفُقٍ لدمجه مع آخر. إذن ليس من المستغرب أن يوائم جولوم هذا السؤال ويفسر الرسالة في إطار خبرته بشكلٍ بَحْتٍ.

ونتيجةً لذلك، حين يصل جولوم في النهاية إلى الحقيقة كما نعرفها — أن بيلبو قد «سرق» منه «خاتمه الثمين» — فإن ذلك يُعَدُّ «صحيحًا»، بشكلٍ ما، فقط إلى حدِّ أن جولوم قد صنع تلك الحقيقة من حواره الداخليِّ. إنه لا يستطيع أن يثبت بشكلٍ موضوعيٍّ أن الخاتم بحوزة بيلبو، ولكن هذا لا يهم بالنظر إلى أسلوبه التأويليِّ. فجولوم، كما رأينا، ليس مقيدًا بالنظر إلى معنى لغز بيلبو باعتباره متطابقًا مع مقصده؛ لذا فهو له مبرره في التوصُّل إلى هذا الاستنتاج بمفرده.

(٦) الخروج من المقلاة

قد يدخل الفلاسفة في جدالٍ عنيفٍ بشأن ما إذا كان بيلبو قد فاز حقًّا بلعبة الألغاز أم لا. ولكن هدف هذا الفصل ببساطة كان يكمن في توضيح كيف أنَّ لعبة الألغاز قد أطلقت مجموعةً من المشكلات فيما يتعلَّق بمسألة التأويل، حتى في إطار قواعدها الراسخة نسبيًّا. فمشكلة التأويل لا تتوقَّف بمجرد انتهاء الألغاز الرسمية. فمن الفصل الافتتاحي ﻟ «الهوبيت»، حين يواجه بيلبو وصول مجموعة من الأقزام المتطفلين وإن كانت زيارتهم متوقَّعة، يواجه بيلبو على مدار الكتاب تحديات بسيناريوهات مختلفة، التي لا بد أن يقوم بتأويلها وفهمها من أجل البقاء.

وسواء أكانت محيرة أم لا، كثيرًا ما تكون الكلمات كالشخص المراوغ المخادع، يمكن أن تعني شيئًا لشخص، فيما تعني شيئًا مختلفًا تمامًا بالنسبة إلى شخصٍ آخر. حتى عبارة بسيطة مثل «صباح الخير!» يمكن أن تثير لساحر في حكمة جولوم مشكلات في الفهم: «هل تتمنَّى لي صباحًا سعيدًا، أم أنك تقصد أنه صباح سعيد شئت أم لم أشأ، أم تشعر بشعور طيِّب هذا الصباح، أم أنه صباح تسعد بالتواجد فيه؟»17

كما مع العديد من فروع الفلسفة، كثيرًا ما يكون أسلوبنا الدارج تجاه فلسفة التأويل مفترضًا وليس مُفَنَّدًا (في الواقع، إن بيلبو لا ينبهر بتلاعب جولوم بالألفاظ). ولكن بينما قد يبدو من قبيل الغطرسة والادِّعاء أن نتحدث عن تأويل كتاب أطفال مثل «الهوبيت»، من المهم أن تدرك أنَّ التأويل بالمعنى التفسيري شيء مستمر وقائم طوال الوقت، والكيفية التي نفسِّر بها المعنى ترتبط بشكلٍ وثيقٍ بتقاليد وافتراضات فلسفية مُعَيَّنة.

لا يمكننا مطلقًا أن نُوجَد في موضع نرى منه العالم «كما هو في واقعه» خارج إطار تأويلنا (حتى لو استطعنا ذلك، سيُعِيدنا التعبير عن ذلك لأيِّ شخص آخر إلى حيث بدأنا؛ إذ سيُضطَر بدوره لتأويل ما نقول). بينما تقرأ هذا الفصل، ربما ستكون بالفعل قد وضعت العديد من الافتراضات التأويلية الأساسية بشأن معنى النص، وكيف يمكن إثباته (هل معنى النص هو ذلك الذي قصدت، أنا المؤلف «المخادع»، أن يعنيه؟ أم هل هو ما تراه أنت، القارئ، أنه يعنيه؟ أم أنه شيء آخر؟)

في المقابل، نظرًا لأنني أكتب هذا من أجل أن تفهم ما أحاول أن أقوله، فإنني أيضًا أقيم افتراضات مُعَيَّنة بشأن طبيعة التواصل. على سبيل المثال، أنا أكتب باللغة الإنجليزية، حتى تزداد احتمالات أن يفهمني جمهور يتحدث تلك اللغة، تمامًا مثل روك الغراب، الذي يتحدَّث بالخطاب الدارج إلى الأقزام على الجبل الوحيد.

ولما كان الموقف كذلك، فإن من الصحيح أيضًا أنَّ مواقف مُعيَّنة سوف تلفت انتباهنا إلى مفاهيمنا المفترضة عن المعنى والفهم بشكل أكثر حدَّة من غيرها. فحين نواجه رسالة غير واضحة أو غامضة، فنحن إذن داخل لعبة ألغاز، وكثيرًا ما يبرز منهجنا التأويلي بشكل جلِيٍّ.

هوامش

(1) J. R. R. Tolkien, The Hobbit: or, There and Back Again (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 73.
(2) Ibid., 80.
(3) Ibid., 74.
(4) Ibid., 76.
(5) E. D. Hirsch Jr., Validity in Interpretation (London: Yale University Press, 1967), 4.
(6) Tolkien, The Hobbit, 77.
(7) J. R. R. Tolkien, The Lord of the Rings: The Two Towers (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 165–67.
(8) Monroe Beardsley, Aesthetics (New York: Harcourt, Brace, 1958), 25.
(9) Tolkien claimed that all but two of the riddles—“Thirty White Horses” and “No-Legs”—were his own creation. John D. Rateliff, The History of The Hobbit (Boston: Houghton Mifflin, 2007), 1:169.
(10) Tolkien, The Hobbit, 74-75.
(11) Ibid., 75.
(12) Hans-Georg Gadamer, Truth and Method (London: Continuum, 2004), 294.
(13) Tolkien, The Hobbit, 75.
(14) Ibid., 76.
(15) Ibid., 215.
(16) Ibid., 75.
(17) Ibid., 4.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤