الفصل الثاني

«الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد»

الطاو لدى الهوبيت
مايكل سي برانيجان

كُنْ تجسيدًا تامًّا لكلِّ ما ليس له نهاية، وتجوَّلْ حيث لا يوجد درب. تشبَّثْ بكل ما وهبَتْه لك السماءُ، ولكن لا تظن أنك تملك شيئًا. «كُنْ خاويًا، هذا كل ما في الأمر.»

جوانج زي1

على مدار رحلته، ثمة صوت بداخل بيلبو يَتُوق للوطن، ولسلوى وأمان المألوف. يكتشف بيلبو أيضًا أن المرء يَجِد الوطنَ عندما يغادره. وبالمثل، يذكِّرنا الحكماء الطاويون أيضًا أننا نجد مستقرنا الحقيقي في الرحلة نفسها. أَلَا تتردَّد في رسالة «سيد الخواتم» فكرةُ أن «ليس كل هؤلاء الذين يتنقلون ويجولون يضلون الطريق»؟!

تَجِد نزعاتُ الحنينِ المتضاربةُ للأمان والمغامرة صدًى واضحًا لدى القراء الغربيين ومرتادي دور السينما. والصراع من أجل التوفيق بين مِثْل هذه النزعات الازدواجية بداخلنا ساعَدَ على إطلاق وفرة من الصناعات المرتبطة بعلم النفس العام والمساعدة الذاتية. ولكن قدماء الطاويين الصينيين القدماء سبقونا بألفَيْ عام في هذه النزعة. ووفقًا لهؤلاء الفلاسفة الشرقيين الأوائل، فإن مِثْل هذه النزعات المتباينة لا تحتاج للتوفيق بينها؛ فهي حتى غير متناقضة.

(١) رفقة الطاو

الطاو هو المبدأ الأساسي للواقع، وأصل الكون، وطريقةُ الطبيعةِ والحياةِ والموتِ المستعصيةُ على الوصف التي يخفق نبضها على مدى الوجود. فالتغيير والاستقرار يتعايشان معًا على امتداد الواقع. ولعلَّنا نرى التجسيد العملي للطاو في شخص بيلبو المغامر الذي يرحب بالتغيير ويعتنقه، وفي بيلبو المُحِبِّ لدفء المنزل وراحته الذي يتوق للأمان.

لعلَّ إحدى الطرق للتأمل والتدبُّر في الطاو تتمثَّل في استعراض علم الكونيات الصيني القديم، الذي ينظر إلى الكون بوصفه دراما تتفاعل فيها قوتان أوَّلِيَّتان، هما الين واليانج، إحداهما مع الأخرى. والطاوية هي المبدأ الأسمى الذي ينشئ كلًّا من الين واليانج. و«الين» — التي تعني حرفيًّا «الجزء المظلم من الجبل» — هي قوة الظلام والتقبُّل والأنوثة. أما «اليانج» — التي تعني حرفيًّا «الجزء المضيء من الجبل» — فهي قوة النور والنشاط والذكورة. وتكمل الين واليانج إحداهما الأخرى في توازنٍ أبديٍّ.2

تكشف مغامرةُ بيلبو بشكلٍ خاصٍّ هذه المعانيَ الحرفيَّةَ؛ فبينما ينطلق مسافرونا في رحلتهم في اتجاه الجبل الوحيد، ثم يصعدونه حتى ينطلقوا في النهاية داخل أحشائه، تتضافر قوتا الظلام والنور معًا بشكلٍ مستديمٍ نوعًا ما مثل العمالقة الذين يتألَّفون من ظلام الجبل ويعودون مرة أخرى إلى أصلهم بمجرد مواجهة النور. وبينما يتحوَّل الجانب المظلم، آجلًا أو عاجلًا، ليصبح الجانب المضيء، تتحوَّل الين في النهاية إلى يانج. وتمثِّل الطاويةُ هذه الرقصةَ الكونيةَ للنور والظلام.

وفي وادٍ خالٍ من القَدْر الزائد من ظلام الجبل ونوره، يوجد التناغم بين الين واليانج على نحوٍ لَطِيفٍ. يعيش إلروند في «وادي ريفيندل الجميل»، وحين يكتشف مسافرونا الوادي يسمعون «صوتَ الماء المتسارع في صخر القاعدة في القاع؛ كان عبق الأشجار يملأ الهواء، وكان هناك ضوءٌ على جانب الوادي يمتدُّ عَبْرَ الماء».3 حين ننظر في أعماقنا، فلا بد أن تُثَمَّن قوتا الين واليانج ويُسمَح لهما بالعمل دون تعطيل. وفي كتاب الطاوية الكلاسيكي، «طاو تي شينج»، نُستحَثُّ على تناول الطاوية «لا بالإلزام/بل بالعفوية».4

لكن للأسف، نحن نَمِيل لتجاهل الطاوية الموجودة داخلنا ونعتزُّ بأشياء أخرى بدلًا من ذلك. وفي قيامنا بذلك إنما نبتعد عن طبيعتنا الحقيقية، التي تتمثَّل في التناغُم مع الطاوية. فيميل الهوبيت لتقدير السمعة والعُرف؛ أما الجوبلن فلديهم هَوَس بالآلات والماكينات، لا سيما تقنيات الحرب، بينما ينصبُّ تركيزُ الأقزام على اقتناء الذهب والفضة والمجوهرات، وسموج يكتنز لغرض الاكتناز ذاته، وجولوم (بل وحتى بيلبو بشكلٍ لحظيٍّ) لا يسحره الخاتم وحده وحسب، وإنما تسحره «فكرة» اقتناء الخاتم.

يزعم تولكين في رسائله أنَّ مثل هذه الرغبات تمثِّل خروجنا من البراءة ووقوعنا في الخطيئة، وهو ما يُعَدُّ فكرة أساسية في كتاباته. وبحسب تعبيره، يبدأ هذا السقوط حين تراودنا الرغبات بطرق تجعلها «تصبح استحواذية، من خلال التشبث بالأشياء «في حد ذاتها».»5 ونحن نسمع أصداء كلمة «ثمين» التي يردِّدها جولوم، ونعرف تمام المعرفة تلك الرغبة الطاغية في الذهب التي تكمن في «قلوب الأقزام».
في المقابل، نَجِد أنَّ قوة الطاو بداخلنا ليست قوة الخفاء، بل هي قوة العيش وفقًا لطبيعتنا الأصلية والحقيقية. فشأن رفاقه من الهوبيت، يفترض بيلبو مسبقًا أن طبيعته هي العيش ببساطة في حفرة الهوبيت خاصته، التي «تعني الراحة»، وصوت عقله يقول: «لا تكن أحمق يا بيلبو باجنز … بالتفكير في التنانين وكل هذا الهراء الغريب في سنك هذه!»6 ولكن بعد الزيارة غير المتوقَّعة للأقزام له، يسمع صوتًا آخَر بداخله يقول:
حينئذٍ استيقظَتْ بداخله نزعةٌ مغامرةٌ، وتمنَّى لو ذهب وشاهد الجبال الشاهقة، وسمع حفيف أشجار الصنوبر وخرير شلالات الماء، واستكشف الكهوف، وأمسك سيفًا بدلًا من عصا مشي.7

إن رواية «الهوبيت» هي في النهاية حكاية رمزية حول تيقُّظ بيلبو لطبيعته الحقيقية بوصفه مُنْتَمِيًا لعشيرة توك الذين يتميَّزون بحب المغامرة والإقبال على المخاطر، وكذلك بوصفه أحد أفراد عائلة باجنز الذين يحبون الراحة والألفة.

ينتمي الهوبيت للجنس البشري ويمثِّلون براءة أصيلة بحبهم للحياة البسيطة: التجمعات، والمأكل، والمشرب، والضحك، والتواصُل مع جوهر الحياة ومحتواها الحقيقي المتمثل في الصحبة، والراحة، والرضا8 (كنتُ قد عاودتُ قراءةَ رواية «الهوبيت» حالَ تواجدي في ويلز، وما من شيء مثل كأسٍ من الجعة الويلزية لتبسيط أي تعقيد). يكتب تولكين أن الهوبيت «أكثر تواصُلًا مع «الطبيعة» (التربة والأشياء الحية الأخرى، والنباتات، والحيوانات)، وليس لديهم أي طموح أو طمع في الثروة بشكل يُعَدُّ شاذًّا وغير طبيعي بالنسبة لبشر.»9

ومثل حكماء الطاوية، يعيش «القوم الصغار» حياةً تخلو من التعقيد، وتربطهم بالطبيعة صلةٌ وطيدةٌ. وحياتهم المنظمة جيدًا ذات الطابع الريفي، والتي تجسِّد بساطةً طبيعية؛ تتيح مجالًا للعفوية والتلقائية. والعفوية تمكن اﻟ «تي»، وهي قوة الطاو، من الظهور على السطح بينهم؛ حتى يتمكَّنوا من الإخلاص لطبيعتهم والتوافق معها. ويتناقض ذلك مع «القوم الكبار» الذين تتسم حياتهم بكونها أكثر ثقلًا وإرهاقًا؛ ومن ثَمَّ يُعَدُّون أقلَّ بساطةً وعفويةً بكثير، وضخامتهم تجسِّد التعقيد والإفراط والطموح الزائد. يمثِّل القومُ الكبارُ الوقوعَ في الخطيئة الذي ينتقده تولكين، وانحرافنا عن مسارنا الطبيعي.

ثمة مفهوم طاوي آخَر، هو «وو وي»، يشير إلى التصرف بأسلوبٍ طبيعيٍّ دون إجبار. يعني هذا المفهومُ الاستسلامَ للتدفُّق الطبيعي للأشياء بدلًا من مقاومته، وينعكس في فكرة الحكومة بدون حكم. فالحكيم الطاوي «يحكم بلا حكم»؛ ومن ثَمَّ ليس لدى شاير — موطنِ الهوبيت — حكومةٌ رسمية أيضًا.10 وفي وصف تولكين لابنه كريستوفر نزعتَه نحو الفوضوية، يكتب قائلًا:
التسلُّط على الآخَرين أكثر الوظائف شينًا وخزيًا لأي إنسان، حتى القديسون (الذين كانوا على الأقل غير راغبين في تولي هذه المكانة) لا يتسلطون على شخص آخر. فلا أحد يصلح لهذا بأي حال من الأحوال، وخاصة هؤلاء الذين يسعون وراء الفرصة.11

إذن فالمبدأ الأسمى للطاوية هو طبيعتنا الحقيقية والأصيلة. وتعلِّمنا الطاويةُ أن علينا أن نتَّبِع الطاو خاصتنا، أن نتَّبِع رحلتنا، على نحوٍ يتسق مع هذا المبدأ الأسمى. وتكشف رواية «الهوبيت» عن شخصيات تسلك سبلًا شاقة وضارة بشكلٍ بَحْتٍ؛ فحين يُصِرُّ ثورين في عنادٍ على الاحتفاظ بالذهب والفضة والجواهر بالكامل، ما الذي يجعل طريقه محلَّ شكٍّ؟ إنَّ طمعه ليس طريق الطاو بشكل واضح، وهو ما يمنعه من التوافق مع طبيعته.

لنتأمل سموج؛ إذا كانت نزعة سموج هي امتلاك الكنز والاستمتاع بامتلاكه، فهل بذلك يثري الطاو وينمِّيها؟ بالطبع لا؛ لأن نزعته شيء وطبيعته الحقيقية شيءٌ آخَر، فنزعته من النوع الذي يطمس اﻟ «تي»، أيْ قوة الطاو، بينما الطبيعة الحقيقية لكل الأشياء الحقيقية هي التصرُّف بما يتوافق مع الطاوية.

نحن بحاجةٍ هنا للاستقصاء والتحرِّي بمزيدٍ من العمق. ما المقصود حقًّا بالتصرف على نحوٍ متناغمٍ مع الطاو؟ لماذا تُعتبَر طرقٌ معينة مثل طريقة ثورين، ونزعاتٌ معينة مثل نزعة سموج، مزيفةً ولا تستحق اتباعها؟

(٢) طريقة أخرى للتفكير في الطريق: أساتذة الطاوية السبعة

لنتأمَّل رواية «الهوبيت» في ضوء واحدة من قصصي المفضَّلة عن الطاوية؛ وهي قصة «أساتذة الطاوية السبعة». كُتِبت هذه القصة حوالي عام ١٥٠٠ إبَّان حكم أسرة مينج (١٣٦٨–١٦٤٤)، وتلقي الضوء على رحلات الحكيم الطاوي وانج شوانج يانج ومُرِيديه السبعة في سعيهم لاكتشاف الذات وغرس الطاوية وتنميتها.

في إحدى وقائع القصة، يلتقي وانج باثنين من المتسولين يُدعَيان جولد إز هيفي (بمعنى الذهب ثقيل)، وإمبتي مايند (بمعنى خاوي العقل)، ويصطحبهما معه إلى المنزل ويُطعِمهما. كان المتسولان مجهولين بالنسبة له، وكانا في الحقيقة حكيمين من حكماء الطاوية متنكرين، وقد صارَا مخلَّدَين بعد أن قامَا بغرس الطاوية وتنميتها. ينبهر وانج ببساطتهما وعزوفهما عن الأشياء المادية والأمور الدنيوية، وبعد أن يلبِّي حاجاتهما، يتبع وانج المتسولين عَبْرَ جسرٍ غامضٍ صعودًا إلى ممرات جبلية منحدرة إلى أن وصلوا أخيرًا إلى بحيرة صافية، وهناك يناول إمبتي مايند وانج سبع زهرات لوتس ويوصيه بأن يعتني بها برقَّةٍ ولطفٍ؛ إذ إنها أشباح سبع أرواح قُدِّرَ لها أن تكون مريديه.12

(٣) جولد إز هيفي

يرتبط اسم هذا المخلَّد الطاوي، جولد إز هيفي، بقصتنا بشكلٍ جَلِيٍّ؛ فحين يواجه بيلبو سموج، يحاول التنين أن يخضع بيلبو لسحره بزرع الشكوك حول مهمة استعادة الذهب قائلًا:
لا أعلم إذا كان قد خطَرَ لك أنك حتى لو استطعتَ أن تسرق الذهب شيئًا فشيئًا — وهي مسألة تستغرق مائة عام أو نحو ذلك — فلا يمكنك أن تبتعد به كثيرًا؟ فلا جدوى له على جانب الجبل. ولا جدوى له في الغابة. غير معقول! ألم تفكِّر مطلقًا في هذه المعضلة؟ أعتقد أن الاتفاق كان على نصيبٍ قدره واحد على أربعة عشر، أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟! ولكن ماذا عن النقل؟! ماذا عن العربة؟! ماذا عن الحرس المدججين بالأسلحة؟! وماذا عن الخسائر؟!13

لم يتوقَّع بيلبو مثل هذه المخاوف العملية؛ فلم يفكر هو ورفاقه إلا في الاستيلاء على الكنز، وليس في نقله. وهكذا وعلى مستوًى حِرَفيٍّ بَحْتٍ، يصبح الذهب فور اقتنائه عبئًا ثقيلًا.

ولكن دَعْنا نتعمَّق أكثر مثل الفلاسفة. إن المسألة شاقَّة من جانبٍ آخَرَ. فمثلما يكتشف ثورين ورفاقه الأقزام، يمكن بسهولة أن تتحوَّل الرغبة في الذهب إلى شهوة مستهلكة للقوى وثقيلة. إن ثورين عازم منذ البداية على الاستيلاء مجدَّدًا على ما يعتبره إرثه الشرعيَّ، وكان الاستيلاء على الذهب هو مهمته بشكل واضح، وكما يخبر بيلبو وجاندالف: «لم نَنْسَ قطُّ كنزنا المنهوب.»14 غير أن رغبته في استعادة كنزه تدفعه دفعًا، حتى إنَّ رغبته تستحوذ عليه بدورها. ولكن دَعْنا لا نقسو أكثر مما ينبغي على ثورين؛ فحتى الراوي يعترف بأنه «كريم بما يكفي … إذا كنت لا تتوقع أكثر من اللازم.»15
يظهر وقوعُ ثورين تحت وطأة الرغبة بشكل جَلِيٍّ في حديثه مع بارد، ذابح التنين. فعلى الرغم من توسُّلات بارد لتوزيع الذهب بالعدل، كتعويض عن خسارة حياةٍ كان المتسبِّب الأساسي فيها هو سعي ثورين المحموم للاستيلاء على الكنز، فإن ثورين لا يحجم عن الطمع في الذهب، وينزعج بيلبو من سلوك ثورين قائلًا:
لم يَضَعْ في حسابه القوةَ التي يملكها الذهبُ الذي رقد عليه تنين لزمنٍ طويلٍ، ولا قلوبَ الأقزام. ساعات طويلة في الماضي أمضاها ثورين في خزينة الكنز، ورغبته المحمومة فيه كانت عبئًا ثقيلًا عليه. وعلى الرغم من أنه كان يفتِّش في الأساس عن الأركنستون، إلا أنه كان يَضَع نصب عينيه شيئًا آخَر رائعًا كان يقبع هناك، كان يحمل إزاءه ذكريات قديمة لعذاباتِ جنسه وأحزانِهم.16

ليس ثورين الشخصيةَ الوحيدة في «الهوبيت» التي تسيطر عليها الرغبة في الذهب؛ فعلى الرغم من أن جان الغابة هم في الأساس أناس طيبون، فإن لمليكهم — الذي لطالما تملَّكَه الطمع لامتلاك المزيد من الفضة والجواهر البيضاء — نقطةَ ضعفٍ خاصة تجاه الكنز. وحين يُذبَح حارسُ الكنز في الجبل الوحيد، يزداد البشر والجن والأقزام افتتانًا بالاستيلاء على الكنز؛ ليصل الأمر إلى ذروته في معركة الجيوش الخمسة الرهيبة.

حتى الهوبيت ليسوا أحرارًا من سيطرة الرغبة في امتلاك الذهب؛ فمع انتشار شائعة وفاة بيلبو، يتلهف الهوبيت — خاصة عائلة ساكفيل باجنز — لعرض أملاكه في مزادٍ. فالطمع له طريقته في تلويث حتى الأرواح الطيبة. وفي الفصل الافتتاحي من «رفقة الخاتم»، تستحوذ الشائعات حول كنز بيلبو الخفي على قلوب الهوبيت.

إن الجوبلن، أو الأورك «قساة، وأشرار، وغلاظ القلوب». وعلى الرغم من أنهم ليسوا مهووسين بالذهب، فإن كنزهم يكمن في الآلات؛ فهم يجدون متعةً في صناعة أدوات فعَّالة، لا سيما التقنيات المدمِّرة:
إنهم لا يصنعون أشياء جميلة، ولكنهم يصنعون الكثيرَ من الأشياء البارعة … ليس مستبعدًا أن يكونوا قد اخترعوا بعضًا من الماكينات التي أرهقت العالم منذ ظهورها، خاصة تلك الآلات المخصَّصة لقتل أعداد كبيرة من الناس في الحال؛ إذ كانت العجلات والمحركات والانفجارات دائمًا ما تمنحهم البهجة والسرور.17

إنَّ الجوبلن يصنعون آلاتهم ولدَيْهم عبيد للقيام بالعمل من أجلهم، غير أنهم مُستعبَدون مِنْ قِبَل اختراعاتهم، مثلما تستعبدنا الرغبةُ في الذهب.

في خطابٍ لنجله الأصغر كريستوفر، الذي كان يخدم مع القوات الجوية الملكية البريطانية في جنوب أفريقيا إبان الحرب العالمية الثانية، يُقدِّم لنا تولكين نقدًا مثيرًا للآلات في سياق الحرب:
ها هي مأساة وإحباط جميع الآلات والماكينات تقبع هناك مجردة. فعلى عكس الفن، الذي يكتفي بخَلْق عالمٍ ثانويٍّ جديدٍ في العقل، تحاوِل الآلات أن تخلع على الرغبة طابعًا ماديًّا؛ ومن ثَمَّ تخلق قوةً في هذا العالم، ولا يمكن لذلك حقيقةً أن يتمَّ بأيِّ رضًا حقيقيٍّ. إنَّ الآلات الموفرة للجهد لا تخلق سوى جهدٍ وشقاء لا نهاية لهما. وبالإضافة إلى هذه الإعاقة الأساسية التي تلحق بأي مخلوق، يوجد «السقوط»، الذي لا يجعل آلاتنا تَفْقِد رغبتها فحسب، بل تتحوَّل إلى شرٍّ جديدٍ ومريعٍ. لذا ننتقل حتمًا من أسطورة ديدالوس وإيكاروس إلى قاذفة القنابل العملاقة، وهذا ليس تقدُّمًا على صعيد الحكمة!18

لا تكمن المشكلة الحقيقية بالنسبة للطاويين في الآلات والماكينات في حدِّ ذاتها، ولكن في نفوذها المغري علينا، في ظلِّ استعدادنا للاستسلام للكفاءة حتى لو كانت تعني التضحية بالطبيعة والإنسانية.

لذا يُعتبَر الذهب عبئًا ثقيلًا حقًّا؛ فالرغبة في الثروة والقوة مثبطة، وحين تنحني ظهورنا تحت وطأة ثِقَل رغباتنا، نفقد القدرة على رؤية طبيعتنا الأصيلة، أو الطاو. غير أنه يمكننا من وجهةِ نظرٍ طاويةٍ، تحريرُ أنفسنا من هذا الثِّقَل. إن التعلُّق بالذهب يفضي إلى الهوس به، والهوس يفضي إلى الاستعباد؛ ولذلك يكمن السبيل في التحرُّر من هذا التعلُّق. فالسر يكمن في الانفصال.

(٤) إمبتي مايند

يمثِّل إمبتي مايند، الحكيم رفيق جولد إز هيفي، الانفصالَ والعزوفَ. ومعنى الانفصال، بحسب صهري كارل ويلهيلم، في غاية البساطة حقًّا: «إنه يعني عدم التعلق بشيء.»

لنتأمل الأقزام. إنهم مقيَّدون بطموحاتهم، التي على الرغم من كونها نبيلةً من حيث المبدأ (إذ تتمثَّل في استعادة العدالة)، فإنها تسيطر عليهم تمامًا؛ إذ يصيبهم هوس شديد بالهدف إلى حدِّ أنهم يصبحون بدورهم متعلِّقين به ومن ثَمَّ عبيدًا له. ولعل التعلُّق بفكرةٍ ما هو أسوأ أشكال التعلُّق؛ فالفكرة لا تتنفَّس، ولكن المخلوقات الحيَّة تفعل. غير أن الطاويين (إلى جانب البوذيين، والهندوس، والشعراء، والفنانين، والزهاد، وعدد هائل من الفلاسفة)، يحذِّروننا من أن نضفي على فكرة، أو صورة ذهنية، أو رمزٍ واقعيةً أكبر مما نضفيها على الواقع ذاته. ويُحذِّرنا شاعر الزن من «إدراك الإصبع الذي يشير إلى القمر خطأ على أنه القمر ذاته».

إن اسم إمبتي مايند (خاوي العقل) لا يعني الغفلة أو الحماقة، وإنما يشير بدلًا من ذلك إلى ما يطلق عليه الطاويون (والبوذيون) العقلَ العاكس؛ وهي حالة ذهنية وقلبية تعكس ما يعرض على المرء، لكن دون أن يتعلَّق المرء بما هو معكوس.19 ومن ثم ينبغي أن نغرس حالة ذهنية وقلبية تشبه مرآة صافية وواضحة، وهذا هو معنى الاقتباس الافتتاحي لهذا الفصل لجوانج زي (٣٦٩–٢٨٦ق.م)؛ فمثل مرآة صافية، يعكس العقلُ الخاوي ما يَلِجُ إليه دون تقييمه أو الحكم عليه. وهو دائمًا يَقِظٌ ومنتبه، ولا يميِّز وجهة نظر على أخرى.

يعمد بيورن إلى تقديم واحة من السلوى، وإعداد مأدبة صاخبة، واستراحة للمسافرين قبل أن ينطلقوا لأصعب جزء من رحلتهم. يمثِّل هذا الكائن القادر على تغيير جِلْده إمبتي مايند، وهو يعيش في انسجام ووفاق مع جميع الأشياء الحيَّة، من منطلق طبيعته الازدواجية التي تَجْمع ما بين الإنسان والدب. وهو يقتات على العسل، ولا ينشغل تمامًا بالذهب والجواهر وغير ذلك مما يُسمَّى كنوزًا، فيقدِّم لضيوفه بعضَ النصائح البالغة الأهمية قبل أن ينطلقوا عَبْرَ غابة ميركوود، محذِّرًا إياهم — مثلما فَعَلَ جاندالف — من الانحراف عن الطريق.

لكلمة «طريق» معنًى حرفي ومجازي. فلا ينبغي أن ينحرفوا عن الطريق عَبْرَ الغابة المظلمة، ولكن عليهم أيضًا ألَّا يَشْردوا عن طبيعتهم الأصيلة؛ عن مساراتهم الشخصية؛ فنهر النسيان المسحور بإمكانه أن يغشي ذكرى طريقهم الصحيح في عقولهم. وكل هذه نصائح سديدة من شخص نجح في الالتزام بطريقه بالحفاظ على عقله خاويًا وصافيًا كمرآة.

وتُعَدُّ حقيقةُ قدرة بيورن على تغيير جِلْده مشوقة بشكل خاص؛ فحين نكتسب ميولًا وطبائع (كعبودية ثورين للانتقام، واستسلام بيورن من آنٍ لآخَر لطباعه الحادة، وهوس سموج بامتلاك الأشياء والاستحواذ عليها)، نخمد طبيعتنا الحقيقية المتوافقة مع الطاوية. فنحن نغيِّر جِلْدنا بشكلٍ ما، فنُظهِر وجهنا الزائف للآخَرين ولأنفسنا، ولكننا ندفع ثمنًا لذلك أيضًا، أَلَا وهو إخفاء جلدنا الحقيقي وقمعه، أو كما يطلق عليه البوذيون المؤمنون بفلسفة الزن «وجهنا الأصلي قبل أن نُولَد».

يظل بيلبو طوال القصة مثالًا للهوبيت النقي القلب، وهو تجسيد للعقل الخاوي؛ ليس فقط لبساطته الطبيعية وبراءته التي تشبه براءة الأطفال، ولكن أيضًا لأنه يختار عن عمدٍ أن يظلَّ عازفًا عن الرغبة في الذهب. وعلى الرغم من أن شرارةَ رغبةٍ تُومَض في صدره حين يعثرون على الكنز، وتساوره لحظةُ افتتانٍ تُسَوِّلُ له الاحتفاظَ بالأركنستون، فإنه يتخلَّى عن رغبته في الكنز، انطلاقًا من روح الوو وي، ويتجنَّب الافتتان الذي اختبره الأقزام، بل إنه مستعدٌّ أن يقايض كلَّ ذلك بكأسٍ من الجعة المزبدة في حانة جرين دراجون!

بعد الاختفاء عن أنظار جيرانه في حفل عيد ميلاده رقم ١١١، استعدادًا لتقلُّد دوره باعتباره رحالةً من جديدٍ، نَجِد بيلبو ليس لديه أي استعداد للتخلِّي عن الخاتم؛ ما يتطلَّب قَدْرًا من الإلحاح من جانب جاندالف لإقناعه، فيحذِّره الساحر قائلًا: «لقد أحكم الخاتمُ قبضتَه عليك أكثر مما ينبغي. فَلْتدعه! وحينها يمكنك أن تكونَ نفسَك، وأن تكون حُرًّا.»20 يجاهد بيلبو من أجل ذلك، وفي النهاية يجلي عن عقله الرغبةَ في امتلاك ما ليس ملكًا له ليحتفظ به، على الرغم من أنه في وقتٍ ما كان يظنه ثمينًا.

تنتهي قصتنا الطاوية حيث بدأت؛ على طريق، على امتداد طريق لا ينتهي أبدًا مثلما يُغَنِّي بيلبو لنفسه:

الطريق يمتد ويمتد إلى الأبد
من عند الباب حيث بدأ.
والآن وقد ابتعَدَ الطريق كثيرًا،
ولا بد لي أن أتبعه، إن استطعت،
مواصلًا إياه بقدمين متلهفتين،
حتى يفضي إلى طريق أكبر
حيث تتلاقى عدة طرق ومساعٍ.
وإلى أين تتجه؟ لا أستطيع أن أحدِّد.21

ما من حكيمٍ طاويٍّ استطاع الإتيان بكلمات أفضل من تلك، على الرغم من أن الكلمات — وَلْتنتبه لذلك — لا تكفي مطلقًا.

هوامش

(1) Burton Watson, trans., Chuang Tzu: Basic Writings (New York: Columbia University Press, 1964), 94-95 (emphasis added).
(2) Jennifer L. McMahon and B. Steve Csaki, “Talking Trees and Walking Mountains: Buddhist and Taoist Themes in The Lord of the Rings,” in The Lord of the Rings and Philosophy: One Book to Rule Them All, ed. Gregory Bassham and Eric Bronson (Chicago: Open Court, 2003), 188–91.
(3) J. R. R. Tolkien, The Hobbit: or, There and Back Again (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 47.
(4) Ellen M. Chen, trans., The Tao Te Ching: A New Translation with Commentary (New York: Paragon House, 1989), 175.
(5) Humphrey Carpenter, ed., The Letters of J. R. R. Tolkien (Boston: Houghton Mifflin, 1981), 145.
(6) Tolkien, The Hobbit, 28.
(7) Ibid., 15-16.
(8) The hobbits’ innocence and simplicity are nicely paralleled with Taoist ideas in Greg Harvey, “Tao Te Ching,” in The Origins of Tolkien’s Middle-Earth for Dummies (Hoboken, NJ: John Wiley & Sons, 2003), 112.
(9) Carpenter, Letters, 158.
(10) Tolkien’s dislike of government is discussed in Peter J. Kreeft, The Philosophy of Tolkien: The Worldview Behind The Lord of the Rings (San Francisco: Ignatius Press, 2005), 163.
(11) Carpenter, Letters, 64.
(12) Eva Wong, trans., Seven Taoist Masters: A Folk Tale of China (Boston: Shambhala Press, 1990), 5.
(13) Tolkien, The Hobbit, 225 (emphasis added).
(14) Ibid., 25.
(15) Ibid., 213 (emphasis added).
(16) Ibid., 265.
(17) Ibid., 62.
(18) Carpenter, Letters, 87-88.
(19) In ancient China, the mirror not only reflected what was in front of it, it also “miraculously” produced fire and had the power to reveal the hidden (for example, invisible demons) as well as to protect the reflected one from evil spirits. Thus, a mirror had power over invisibility.
(20) J. R. R. Tolkien, The Lord of the Rings: The Fellowship of the Ring (New York: Del Rey/Ballantine Books, 2001), 36.
(21) Ibid., 38.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤