الوصية

عاشا معًا سنوات، زارا كنيسة المعمداني مرات، ووضعا حبات القمح للحمام، وأشعلا شموعًا طويلة، شاركا في ترميم جدرانها. انتفخ بطن جان أكثر من مرة، لكن كان حملها ضعيفًا؛ مع صوت الرصاص والقصف كانت تُجهِض. كان يحزننا كثيرًا على ما ذهب من رائحة البارود. قررا الفرار من غزة، لكن كانا يثبتان في بشائر حمل جديد. تكرر مشهد الثبات والفرار داخلهما ثلاث سنوات.

كلما زارا الكنيسة زاد حبهما؛ الفضاء معطر بالياسمين، وجسدهما ينز رائحة البلح، لا برد في المكان. في نظرهما كل الأشياء هدايا حتى لو كانت ورقة شجرة. لا يتكلمان إلا همسًا، بطيئان كسلحفاة في النزاع، سريعان كغزال حين يوزعان خبز المغفرة بينهما.

مائتا متر تفصلهما في هذا الوقت عن البيت، كلما مشيا خطوات تحسس انتفاخ بطنها. كان يقول: هذه المرة لا بد أن ننجح ونَثبت حتى يخرج مسيحي جديد؛ يرمم ثقوب القلب والعقل، ويفتح ممرات الثبات في جغرافيا وطننا.

في لحظة سَمِعا صوت انفجار كبير هزَّ المكان؛ سقطت جان على الأرض، ميشيل صرخ خوفًا عليها: جان احذري! الحجارة فوق رأسنا …

أيضًا العصافير فرت من المكان، الكلاب كانت تتسابق لتخرج من الموت، ضجيج المكان ينزع القلب من الصدر، تصاب وقتها بدوار كأنك فَراش مبثوث، الجدران تركض أمامك. «من الذي أحيا الجدران لتركض وتصرخ وتتألم، وقد تموت وتتكسر مثلنا في لحظة القصف؟!»

الغبار خيَّمَ على المكان، كل من حولنا خرج من خيمة الغبار مصبوغًا باللون الرمادي، الناس تحولوا لهنود حمر تطلي وجوهها بالألوان وتدور حول النار. كلما دققت في ملامح من حولك تنسى من تعرف منهم.

كما يأتي الانفجار في لحظة لا يعلمها أحد قبل القدوم كسِرٍّ تحفظه عن معصيةِ محترمٍ في الشارع، يأتي في لحظة ويرحل في لحظة ما تفكر فيه الآن. الذي فكر فيه ميشيل هو البيت، أبوه، الصور، الذكريات، الحديقة، أصيص النعناع، الدفاتر العتيقة، الكتب المدرسية، كتاب الأنشاد، الكئوس المقدسة، ملابس الكنيسة، الشموع، شريط الأدوية، أوراق الثبوت أنك حي، آخر ورقة كتبتْها لك أمك قبل أن ترحل. ثم صرخ: بيتي! بيتي! أبي! …

نظر إلى جان وهي تتوجع، وضع يديه على رأسها، قال لها: سوف أركض للبيت، قلبي يدق، أحس أن هناك شيئًا أصاب البيت.

شق خيمة الغبار الرمادي، رائحة البارود تفوح من المكان، خراطيم المياه تصنع نوافير، الخزان الأسود الكبير كأنه جبل سقط على الأرض، النوافذ خرجت تشرب ماء النوافير من سخونة اللحظة، الجدران عادت لهيئتها الأولى.

وصل بيته بعد أن دمعت عيناه من الغبار، وأنفاسه موسيقى تشبه بلورةً تنزلق فوق درجات طويلة، تأكد وقتها بأن الانفجار كان في بيته.

وقعت عيناه على القطعة الخشبية التي جلبها من باب القدس، مسكها، ومسح الغبار عنها، شعر وقتها أن الأمر أكبر من تدمير البيت.

صار يركض فوق ما تبقَّى من ركام، الأعمدة الأسمنتية تستريح على جانبيها، يخرج منها دخان كأنها تشخر، سقف البيت تحول إلى مظلة طفلٍ مهشمة من عجلات سيارة مسرعة.

بقع الدم لطخت كل قطع القماش، بقايا المطبخ من الملاعق والصحون تأخذ ركنًا في زاوية الركام كأنها بقايا صدف مكومة على شاطئ البحر.

كل من حوله ينظرون له بنظرات رفق، يُلقون التحية عليه، وينبشون الركام؛ يجدون ما تبقَّى من جسد أبيه.

انتهى كل شيء في لحظات. المشهد يهدأ على حاله؛ الناس تنفَّض من حوله، نوافير المياه بدأت تصغر وتتلاشى، سيارة الإسعاف انسحبت وهي تحمل ما تبقَّى من الجسد.

في لحظة أفاق ميشيل من الصدمة، صار يركض خلف سيارة الإسعاف: أبي! أبي! قطعة الخشب ما زالت في يدي! الآن العيش في غزة بعد الموت أصبح بلا قيمة حقًّا! ربما يجب عليَّ أن أخيِّط سنين عديدةً لأحصل على سنة كاملة تستحق شمعةً واحتفالًا.

جلس ميشيل وجان فوق أحد الحجارة بالقرب من الركام، لا كلام سوى دموع تنزُّ على الخدود، يمسحها بكمَّي قميصه.

قال ميشيل: أنا لا أعلم أن أبي مستهدفٌ أو يعمل في المقاومة. ربما كان الانفجار بالخطأ. هناك شيء أكبر من تفكيري. من يقول لي الحقيقة؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤