المقهى

في تلك اللحظة التي تكون فيها كبيضة مشقوقة؛ نصفك حزين ونصفك الآخر يحاول أن ينتعش من الأخبار السيئة التي تدور حولك كدخان الأرجيلة (لونه أبيض جذاب، رائحة التفاح المعتق تبتلعك، لكنه خطير على الصحة والحياة الزوجية؛ حين تعود لبيتك ومسام جلدك تفوح بتفاح فاسد، من المؤكد أن زوجتك وأولادك، والكرسي والكئوس سترمقك بنظرة غريبة).

تجلس في مقهى المعهد الأزهري على بعد عشرة أمتار في قاعة تنتظر مفاجأة. النادل الواقف خلف مقلى الزيت الكبير، يحرق أقراص الفلافل بالزيت الساخن، والأقراص تصرخ بصوتها ولا يرحمها (كأنه يوم القيامة)، لا يجلب لك القهوة.

تقف مُجبرًا عن الكرسي الأخير الوحيد الفارغ في المقهى لتجلب قهوتك. بعد التفاوض على مزاجك بالقوة، تكتشف بأن القهوة موجودة ومزاجك تحتفظ به لمرةٍ أخرى.

تعود مسرعًا إلى طاولتك، فليس من الأناقة أن تشرب قهوتك واقفًا. تجد الكاتب (الراوي) يجلس على طاولتك، وكرسي فارغ.

إن الكاتب أصيب الآن بظاهرة الديجاوفو في مسافة جلبي لفنجان القهوة من النادل. لم يصبر ليتأكد أنه «أنا عبارة تخيل».

لكن احتل المكان وجلس، احتل القصة كلها، بل في أدق التفاصيل. وأنا أركض خلف ما يكتب عني وعن رحيلي، وأعالج كل تفاصيل المشاهد. بل علمني كيف أكون عبدًا مطيعًا ببشرة بيضاء.

«هذه اللحظة تذكرني بالتاريخ حين احتل الجرمان الحضارة الرومانية على الرغم من تخلفهم، كان عندهم حضارة ولهم عاداتهم وتقاليدهم.

عندما سيطر الجرمان واطَّلعوا على هذه الحضارة العريقة والقانون الروماني؛ وقعوا في مشكلة، وهي كيف يتخلون عن حضارتهم؟ وكيف يستفيدون من الحضارة الرومانية؟ وقد حاول بعضهم إصدار قوانين مشتركة جرمانية رومانية لكن هذه المحاولة باءت بالفشل؛ ولذلك كان عليهم إما أن يعيشوا حياةً مستقلةً عن الرومان، وإما أن يمتزجوا مع السكان، ولكنهم اتَّخذوا الخيار الثاني؛ حيث تعلموا اللغة الرومانية بدلًا من الجرمانية، وأخذوا يقلدون الرومان في الملبس وفي كل شيء.»

هل الكاتب هو الجرماني وأنا الروماني أم العكس في هذه اللحظة؟ أو الأحداث سوف تحكم من منا منتصر؟ لكن الفاشل هو من يحكم علينا أننا أهبلان بقميص أصفر. واللون الأصفر عند العرب يعبر عن الجنون. والغريب أن حكماء اليابان في وقت قديم كانوا يرتدون هذا اللون!

رفع إصبعه في وجهي وقال: لماذا أنت هنا في المعهد الأزهري؟

قلت له: أنت الكاتب وأنا بطل روايتك، وأنت الذي جئت بي إلى هذا العالم رغم أنك تعلم أني مسيحي يوشك على الرحيل من غزة.

– أنت هنا في احتفال غريب من نوعه فيه نوع من الخسارة لكم، وانتصار لغيركم؛ احتفال بإسلام الفتاة (جان دارك). وكل ما حولها يقرعون الضحكات، كأنه شيء عظيم نزل عليهم من السماء كمائدة موسى، كخاتم سليمان، سعداء جدًّا كمتعة سيدنا نوح حين أبحرت سفينته إلى الجودي.

– أنت تعلم أن هذا يغضبني. هل تريد أن تقول لي بأن المسيحيين في غزة خسروا حربًا من حروب الثبات، أو لتعلِّمني كيف أنتقم من هذا الموقف؟

– ليس هكذا يا نضال. أريد أن تبحث عن النتيجة، وخذ منها تجربةً وحاول أن تقاوم مثل شجرة البرتقال للبقاء. وهذا الاحتفال الذي يقرع قلبك، ويهزك، لا يعزز رحيلك عن غزة. إن جان دارك ما تغيرت إلا بعد أن أحبت شابًّا من غير سربها، وحين أخبرت أسرتها بأنه يريد زواجها؛ كان من الصعب عليهم القَبول. لم يستطع حبيبها التضحية لأجلها، لكن جان دارك أعجبتها فكرة البقاء والثبات في غزة.

– عزيزي، أنت تلعب بالنار. كيف تفكر بهذا المنطق؟ ولا يحق لك أن تلغيَ جهة من جهات الجغرافيا لأجل أن يهدأ الريح عنا. كم هي غريبة فكرة الثبات!

– يا نضال، هما يخدمان بقاءنا في غزة وفي فِلسطين.

– لك أن تعرف أن النساء حين يذهبن إلى دكان العطر يشترين زجاجتَي عطر؛ واحدةً للجسد ولا يهمهن نوعها أو سعرها، والثانية تكون للروح لكن برائحة السرِّ …

تَحرك نضال إلى قاعة الاحتفال تاركًا وراءه الكاتب يتلاشى فوق الكرسي كقطعة ثلج صغيرة في يوم حارٍّ جدًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤