الميلاد

ميشيل: الرجاء الحضور غدًا؛ أنت أخطأت كثيرًا في الروح المقدسة، لذلك لا بد أن تولد من جديد، أو أزيل عنك هذه الأخطاء.

لم أَردَّ عليه ولم أرفض، خوفًا من كلمة مقدسة، هذه الكلمة التي تلاحقنا منذ ولادتنا؛ رضاعة مقدسة، ملابس مقدسة، شوارع مقدسة، أيام مقدسة، نساء مقدسة، عصير مقدس، لحم مقدس. كأن المولود على هذه الأرض يولد نكرةً أو فاسدًا، وأصحاب اللحى الطويلة يريدون تقديسه.

في الليل نمت تسع ساعات كأني في رحم أمي، لا أذكر أي حلم في تلك الساعات، لم أسمع سوى شخير الدم في عروقي، كأنها تتفتح، وكرات دمي الحمراء نشيطة في نقل الأوكسجين. الذي أذكره في الساعة الأخيرة شعرت بوجع خفيف في عظام جمجمتي العلوية، حين فتحت عينيَّ وجدت قدمي معلقةً على السرير ورأسي على الأرض. مشهد من مشاهد الولادة التي رأيتها كثيرًا، لكن الآن أنا المولود. ما هذا السائل الذي يبلل ملابسي؟ كأنه خليط من العرق والمني برائحة العنب.

ركضت دون توقف، لم أنظف ما تركت ورائي من بقايا النوم، والسائل ما زال عالقًا في ثغرات جلدي.

كلما مررتُ على أناس وأنا أركض، يحملقون بي ولا يرمشون، كأن على رأسهم الطير. لم أنتبه لنفسي أنِّي عارٍ جدًّا، فقط على رأسي قبعة حمراء.

وصلت في الميعاد الذي حدده، صفق لي وانحنى ترحيبًا بي، تخيلت أنِّي عظيمٌ. هززت برأسي له، أمسك بيدي وسحبني كخروف العيد.

المكان يشبه ثقوب وخلايا النمل، مرعب كل ما حولك. شعرت أنِّي فريسة للنمل؛ مثلي أبيض طري، سيلتهمني النمل بسرعة دون رحمة.

كلما أسأله سؤالًا كان يعطيني ورقةً مُعتَّقةً قديمةً صفراء اللون، تشعر أنها من بقايا تاريخ مرَّ علينا.

لماذا اخترت مكان الولادة خلية نمل؟ مدَّ ورقةً ناحيتي، مكتوب فيها؛ النمل هذا المخلوق الصغير جدًّا، هو أول مخلوق علَّم البشر المقاومة وعدم الخوف، إن قصة سيدنا سليمان مع النمل تؤكد ذلك. هل تعلم أن النمل مخلوق من زجاج؟ لكلمة «لا يحطمنكم سليمان وجنوده». وفي آخر الورقة، ما زال النمل من زجاج، فلا بد أن تكون مشاهدة النمل للناس تختلف عما نتوقع، وأنا أتوقع أن تكون هناك عدسات في عيون النمل تصغِّر الأشياء؛ وهذا سبب منطقي لعدم خوف النمل من البشر. لو كنت في ريب مما ذكر، حاول أن تقترب من خلية النمل؛ سيهجم عليك ويقرصك.

رائحة النعناع تفوح في المكان. أيضًا مرر عليَّ معلومةً جديدة؛ إن البعوض لا يَحضُر لمكان مزروع به النعناع، والشيطان يأتي للبشر ليمتص أفكارهم ويلوثها ثم يدفعها داخل رءوسهم. الشيطان أيضًا مثل البعوضة يخاف من رائحة النعناع.

قلت في سري: كل المنازل والبيوت والمستشفيات والشوارع مزروع بها النعناع، فكيف يأتي الشيطان في غزة؟

صفعني بقوة، كاد رأسي يرتطم بالأرض. عرفت وقتها أنه لو الغاية من زراعته طرد الشيطان لن يأتيَ. كلمة «غاية» كانت صعبةً جدًّا أن أفهمها وأنا أولد من جديد.

وقفت أمام وعاءٍ كبيرٍ مليء بالماء، كنت عطشانًا، دنوت لأشرب، كان مالحًا؛ إنه ماء بحر. وهنا أيها الكاتب ما تفسيرك أنك تُريدني أن أغتسل بماء البحر؟!

ردَّ: البحر خلَّص سيدنا داود من دود الأرض، البحر من أعاد لزوجته شَعرها، البحر وحده من يعيد لك أولادك الغائبين. والله اختارنا في غزة بالقرب من البحر لأننا من سيربح، سنصبر كصبر داود وسينهش القهر عظامنا، وفي النهاية ستمتلئ جيوبنا بالأسماء، وتتحول أكتافنا سفنًا كبيرة.

قلت له: رغم كل الماء العذب الذي تصبُّه السماء في البحر إلا أنه يبقى مالحًا! فلا ترهق نفسك، البعض لا يتغيرون مهما حاولت.

بعد أن خرجت من ماء البحر، جاء بالكلس الأبيض وصار يكومه عليَّ، كان سريعًا جدًّا، بعد لحظات صرت ككومة بيضاء كبيرة. أنا أُشبه لحد كبير البيضة الكبيرة.

الاعتقاد أن أصل الحياة البيضة وليس الديك. حتى حين اختار الله آدم ليكون على الأرض، «كانت فكرة» والفكرة شيء مدور مثل البيضة. وحده الشر الذي لا يأتي من البيضة على هذه الأرض.

كأني محاصر من الكلس، وكلما مرَّ الوقت عليه يصبح يابسًا؛ أنا أفقد الحركة، أفقد التنفس، أرجوك خلصني من هذا البياض. وقتها جاء بمطرقة كبيرة، وكسر القشرة؛ بدأ النور يدخل عليَّ، أنا الآن أخرج من البيضة. إننا نعتقد أن الدين أبيض، أن السفر أبيض، أن الحب أبيض، لكن هناك وقت نُعذَّب باللون الأبيض.

أنا لا أنطق الكلام جيدًا، أين نصف لساني؟ لماذا أخذته؟ كيف أكمل رحلتي دونه؟ عرفت الآن لماذا أخذت نصف لساني؛ إن أغلب كلام البشر من السماء، والكلام المقدس في حياتنا، هذا الكلام الذي سوف يقتلنا لأننا نقول ونمضي طَوال حياتنا ونحن نردده على كل الأجيال، لكن نردد على مسامعهم ليموتوا. قد يندم الإنسان على الكلام، ولكنه لا يندم أبدًا على السكوت. لو كل رجال الدين يصمتون لعشنا دون حدود، لعشنا في قرية كبيرة اسمها الأرض.

أرجوك أبعد هذه النار عني؛ أنا لا أحب فكرة الحرارة، أنا تعودت أن أستحم بماء بارد أو عادي في وقت الشتاء. المهم أنا أكره الشمس الحارقة.

الحرارة يا ميشيل هي أثيرك الداخلي؛ إذا أردت أن تعرف أنك جيد على هذه الأرض، فلا بد أن تمر من تحت النار أو تكون النار تحت. لم تسمع كلمات القصيدة «تقدموا» (للشاعر سميح القاسم): «تقدموا، السماء من فوقكم جهنم، والأرض من تحتكم جهنم. أنت لا تعلم، لا تفوح رائحة الكعك الزكية إلا حين تمسها حرارة الفرن. كذلك أحلامنا لن تنضج ما لم تمسها قسوة التجارب.»

وقتها مررتُ من تحت النار، بعجلةٍ دون أن ألتف للخلف. أنا أكرهها. فاحت مني رائحة المرِّ، الأقحوان، وشقائق النعمان، والمرمرية الجبلية، أنا أشبه رائحة الخشب العتيق.

هذه الرائحة تذكرني برائحة أبواب القدس القديمة؛ وقتها تذكرت زيارتي للقدس في المرة الوحيدة، ورغم أني مسيحي صليتُ تحت الصخرة المعلقة، لأن الرحلة كانت مع أصدقائي المسلمين في المدرسة. الجميع صلوا تحتها، وأنا قلدتهم.

أصدقائي اشتروا من شوارع القدس التماثيل الخشبية على أشكال الجِمال، أنا وحدي الذي سرقت قطعةً خشبيةً خضراء من أحد أبواب القدس، رائحتها لم تغادر أنفي طَوال حياتي. وحين عدتُ إلى البيت، أعطيتُ قطعة الخشب لأبي؛ أخذها وأخفاها بين دفاتره المقدسة.

«يبدو أن مشهد الولادة لم يكن جديدًا عليَّ أيها الكاتب.»

جاء وقت الاستجمام، أنتظره بفارغ الصبر، بعد كل هذا. اقترح بعد إذنك فندق المتحف على شاطئ بحر غزة؛ به آثار كل شوارع غزة. صاحب الفندق كان يجمع كل قطعة بنية أثرية من وراء الحفر في شوارعنا. المتحف مكتظ باللون البني وأشكال الطين، جميلٌ لو ارتحت هناك.

وأنا أردد تخيلي لوقت الاستجمام جاء الكاتب يرتدي ثوبًا أسود، كأنه حانوتي. هزَّ برأسه لألحق به، أخذني لمقبرة الجنود الإنجليز المسيحيين، وهذه المقبرة موجودة في وسَط قطاع غزة. كدت أعترض على هذا المكان، لكن خفتُ من الصفعة الثانية.

أخذت جولةً بين القبور، والشيء الغريب الذي أراه على شواهد القبور أنه مكتوب عليها مات عن عمر يناهز «ناقص ٦٠»، «ناقص ١٠٠»، «ناقص ١٠»، «ناقص ١٣». ما هذا العمر الجديد؟ وقعت أمامي ورقة مكتوب بها أن أعمار الناس في هذه المقبرة تُحسب باحتياجك للأفكار. الجميع هناك ماتوا وتنقصهم الأفكار ليصلوا لمرتبة الأنبياء، وحدهم الأنبياء من يوضع على قبرهم «لا شيء». عزيزي ميشيل، أن تكبر بالعمر هو شيء إجباري، أما أن تكبر بالعقل فهو شيء اختياري.

البعض رغم صغر سنه يفاجئك بنضجه وأسلوبه، والبعض الآخر رغم كبر سنه، يناقشك فيصدمك بصغر عقله.

الشيء المغري؛ في هذا المكان وجدت رجلًا يحفر قبرًا جديدًا، رغم أن هذه المقبرة مغلقة تمامًا، ومكتوبٌ عليها للسياحة، ليس للدفن.

سألت الرجل: لمن هذا القبر؟

– جاء غريب وطلب مني حفر قبر بالقرب من الشارع. قال لي: إنه سوف يموت شخصٌ يشبه الأنبياء؛ طري، ببشرة بيضاء. سيكتب على قبره «المسيحي الأخير، ناقص صفر».

– مَن هذا الغريب؟ وما هي أوصافه؟

(حين سرد لي أوصاف الغريب، كانت تشبه لحد كبير الكاتب. قلت في نفسي: سأموت في آخر الرواية، لكن لا خوف أنا مجرد بطل على ورق.)

صرخت بصوت عالٍ؛ لعل الكاتب يسمعني. سوف أقول لك معلومة، لا يدري المرء إن نام مَن الذي سيوقظه؛ أهله أم الملكان لسؤاله. فاللهم أحسن خاتمتي في هذه الرواية واصرف عني ميتة بطل الورق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤