فراغ

وضعتُ قدمي على سُلَّمٍ صغير؛ لأصعد فوق المنضدة الحديدية، المغطاة بملاءة حمراء من المشمَّع، وما إن استويتُ عليها حتى أحسستُ بيدٍ قوية خشنة تُمسك ذراعي بغير رفقٍ، وتربطها برباطٍ من الكاوتشوك، ثم تشد الرباط بقوة، وشعرت بألمٍ حادٍّ في ذراعي، انتقل سريعًا إلى معدتي، وأحسست بطعم شيء غريب في جوفي، وفجأة، رأيت السماء تكتسي بلونٍ أحمرَ قانٍ، ثم أخذ اللون الأحمر يَبهت شيئًا فشيئًا، حتى أصبح غلالة حمراء رقيقة، تهتز مع النسيم الرقيق على نافذة حجرتي، ووجدتُني أجلس وحدي في حجرتي، والباب مغلق عليَّ، أجلس على طرف الكرسي، وأضغط أصابع يدي في عصبيةٍ وانفعال، وأهز رأسي في ضيقٍ وحيرة.

لقد مللتُ … مللتُ كل شيء! لم يَعُد هناك شيء يُثيرني، يُحرِّكني، يهزُّني! عرفت كل شيء، ومارست كل شيء، وماذا كانت النتيجة؟ عدمًا. لا شيء! عرفت الكفاح المرير من أجل دُريهماتٍ قليلة، وعرفتُ الرخاء والكسل والنعيم بلا تعب، عرفت دموع الألم والحزن، وجرَّبت دموع الفرح والنشوة، عرفتُ الحب والكره، وجرَّبتُ الأصدقاء والأعداء، عرفت الرجال والنساء، ولعبتُ مع الأطفال لعبة الثعلب فات فات.

مرَّت بي سنين كنتُ أخرج فيها كل صباح باكر، قبل أن تبزغ الشمس لألحق بأول قطار يُقلُّني إلى بني سويف. ولم يكن القطار يحمل إلا العمال والمزارعين، والموظفين الصغار من الدرجة التاسعة فما تحت، وكانت البراغيث تترك كلَّ هؤلاء وتُقبل نحوي مُتبخترة وتتسلَّق ساقيَّ، ثم تبدأ عملها اليومي كأنها موظَّف حكومي نشط، وأبدأ أنا في القفز من مقعدٍ إلى مقعد، وقد منعني الحياء والخفر من أن أدافع عن نفسي بالطريقة الطبيعية ضد هذه الحشرات اللعينة.

وكان عملي مُرهِقًا، أو لعله كان الذهاب إلى عملي هو المرهق.

وانتهت سنوات القحط هذه كما ينتهي أي شيء، ووجدتُني فجأة أقوم من فراشي الوثير، وأنا أتثاءب في استرخاء وكسل، وأنظر إلى عقارب الساعة بنصف عين، وحينما أجد أن الساعة لم تبلغ إلا التاسعة، أعود فأُغمض عيني وأسبح في أحلامٍ لذيذة؛ فإن عملي ليست له مواعيد، أذهب العاشرة أو الحادية عشرة، أو لا أذهب على الإطلاق، تبعًا لمزاج سيادتي الشخصي؛ فأنا مديرة كبيرة، وليس لأحدٍ سلطان عليَّ!

لكنَّ سنوات الرخاء لا تلبث أن تُدبر، كما يُدبر أي شيء، وأجد نفسي محشورة مع ركاب الدرجة الثانية في الأتوبيس، بعد أن كنتُ أركب عربةً خاصة بي، وأُعطي لسائقها الأوامر بأن يذهب بي حيثما أشاء.

وكانت لي صديقة حميمة، عملها الرئيسي في الحياة هو أن تُسجِّل ما يطرأ على حياتي من تغيير، إلى جانب أعمالها الأخرى كربَّة بيت لها زوج وأولاد، وكانت تقول لي دائمًا: يا شيخة حرام عليكي، ده أنا تعبت مش لاحقة أجري وراكي فين وللا فين، مش ناوية تستقري بقى؟

كانت كلمتها هذه تثير في نفسي كثيرًا من الأفكار والأسئلة والحيرة، أستقر؟ كيف؟ ولماذا؟ ومتى؟

ثم كيف أستقر وأنا أقف على أرضٍ كروية، تدور وتلفُّ بلا توقُّف؟ كيف لا أتحرَّك وقدماي مشدودتان إلى شيءٍ يتحرك؟

لكن صديقتي كانت مخلصة، وكانت تُحبُّني، فلم أشأ أن أُغضبَها، فقلت لها: «حاضر يا عزيزتي، سأستقر … ولنبدأ.»

وكانت البداية أن عرَّفَتني بعريس؛ فإن الاستقرار في رأي صديقتي هو الزواج، ولا شيء غيره، ولم أكن أعرف ذلك إلا بعد أن وجدت نفسي أجلس في حجرة الصالون في بيتها، ومعي رجلٌ لم أقابله من قبل، ولم يُعجبني الرجل، لكني رحتُ، مجاملةً لصديقتي، أُفتِّش في ملامحه أو في جيوبه عن شيء يثير الاهتمام، لكنَّه كان خالي الوفاض من كل شيء، حتى عيناه كانتا خاليتين من التعبير!

لكني رغم كل ذلك تزوَّجتُه مجاملةً لصديقتي، لم أشأ أن أخيِّب ظنَّها في نفسها، وفي مقدرتها على إقناعي بالاستقرار.

تزوَّجته لأنني أشعر نحو صديقتي بعاطفةٍ ما لا أستطيع أن أصفها، ولكنها عاطفة قوية، تجعلني أفكِّر في بعض الأحيان أن أُسعدها، وأحسستُ أن زواجي من هذا الرجل سيكون سببًا في سعادتها.

لكني لم أستطع أن أستمر في إسعاد صديقتي كثيرًا، وهذا عيبي؛ فأنا لا أتجمَّل بشيءٍ من الصبر، وسرعان ما يُصيبُني الملل.

آه الملل! هذا العملاق الفاغر فاه دائمًا، يَبتلِع في جوفه كل شيء، ثم يترك من حولي فراغًا كئيبًا قاتلًا كأنه الموت، فراغًا عنيدًا يَتبعني أينما ذهبت، ويُطاردني بالليل وبالنهار، لا يخشى رهبة الحكومة وموظَّفيها الموقَّرين، فيتسلَّل إليَّ من تحت باب المكتب، وأجده متربِّصًا بي وأنا أُقلِّب الأوراق وأنجز الأعمال.

ولا تخدعه الهوايات التي جمعتُها في نفسي، فيُلاحقني وأنا ألهث أثناء اللعب والمباريات، ويجلس يدندن وأنا أعزف على آلتي، فتعلو دندنته الغليظة النشاز على صوت أنغامي.

أستغيث منه، وأصرخ في أذنه، وألطمه على وجهه، وأكسر القلم في عينه، وأقلب عليه دواة الحبر، لكنه ثقيل عنيد لا يُفارقني، فأُلقي كلَّ ما في يدي، وأترك له المكان، وأخرج إلى الخلاء لأشمَّ الهواء، فإذا به يتسلل مع الهواء إلى أنفي!

وأخبط رأسي في جذع شجرة سميكة خشنة، حتى تسيلَ منه الدماء، لكنه لا يدعني؛ فليس هو ممَّن يرهبون منظر الدماء.

ورأيت الناس يَسيرون اثنين اثنين، رجلًا وامرأة، والتقت عيناي بعيني رجل يَختلِف عن الآخرين، قلت له: «أهو أنت؟» قال: «نعم.»

وسرنا جنبًا إلى جنب، وعرَّجنا على طريق النيل، وهبَّت نسمةً باردة ندية من صفحة الماء فشعرت بالبرد، وأحسست بيده في يدي، فنظرت إليه، كان قريبًا مني ويقع على وجهه ضوء مصباح قريب، وتأملت وجهه، كان غريبًا، لم يكن هو الوجه الذي رأيتُه من قبل، كانت عيناه صغيرتين حمراوين، وأنفه كبير الحجم، وشاربه الطويل يتدلى على حافة فمِه.

ووقفت، وسحبت يدي من يده، وقلت له: «لنرجعْ، لقد أخطأت، إنك لست هو.»

وعُدتُ إلى بيتي، وأغلقت باب حجرتي، وجلست على طرف الكرسي أضغط أصابع يدي في حيرةٍ وقلق، وتلفَّتُّ حولي كأنما أَفتقِد شيئًا، آه! تذكَّرتُ … الفراغ، أين هو؟!

ولم يُمهلني، رأيته يدخل منحنيًا من فرجة الباب، ويقف منتصبًا أمامي، أهلًا … فراغ!

وجلس إلى جواري بوجهه الجديري القبيح، وقال لي مُشفقًا: «إنكِ يا عزيزتي في حاجةٍ إلى شيء جديد.»

فقلت في مرارة: «لم يَعُد هناك شيء جديد.»

قال: «لماذا لا تسافرين؟»

قلت: «لقد سافرت إلى كل شبرٍ من الأرض، يخطر على بالك.»

قال ساخرًا: «الأرض! وهل تسمين هذا سفرًا؟ أنتِ في حاجةٍ إلى تغيير جو الأرض، لماذا لا تُسافرين إلى الزُّهرة؟! هيا … هيا، إن آخر سفينة تَطير إلى هناك في السابعة مساء، أمامك أقل من ساعة لتُعدِّي حقيبتك.»

وقلت: «والله فكرة! عجيبة! لماذا لم أفكِّر في ذلك من قبل؟»

ووجدتُني بعد قليل، أقف في مطار سفن الفضاء، في يدي حقيبتي، وعلى وجهي ابتسامة بلهاء، تنمُّ عن أيِّ شيء ما عدا الذكاء أو الفهم. ورأيتُ حشدًا من النساء والرجال، يجْرون نحو السفينة فجريتُ معهم، وارتقيت بضع درجات صغيرة، ثم وجدتُني في جوف السفينة، ورأيتُ مضيفة حسناء تَبتسِم لي، وتقودُني إلى أريكةٍ صغيرة، ووضعتُ حقيبتي في مكانٍ خاص، وجلستُ على الأريكة، فإذا بي أغطس فيها، كأنَّني وقعت في إناء من العجين، وتلفتُّ حولي لأبحث عن منقذ ينتشلني، فرأيت عددًا كثيرًا من الأرائك، تَغطس فيها أجسام كثيرة لا تُبدي ذعرًا، وإنما تَستلقي في هدوء، فغطستُ بدوري في صمت، وسمعنا صفارة رفيعة، أعقبها صوتٌ نسائي رقيق يقول: «السفينة ارتفعت، سنتوقف في الزُّهرة عشر دقائق لنُموِّن.»

ونظرتُ في العدسة التي إلى يساري، فرأيتُ الأرض تبتعد عنا بسرعةٍ هائلة، فشعرت براحةٍ تسري في أوصالي، وتمدَّدتُ في أريكتي، وأغمضت عيني؛ لأسرح ما أشاء في تلك الرحلة إلى الزهرة، وقلت لنفسي: يا لها من مغامرة! تُرى ما شكل الرجل هناك؟ وهل عندهم حب؟ وتركتُ لخيالي العنان، يرسم ما يشاء من المغامرات البريئة.

وبعد ساعاتٍ لم أعرف عددها، سمعت صوت المضيفة الحسناء تقول: «تذاكر الزهرة …» وأخذت حقيبتي في يدي، ونزلت من السفينة، وعلى وجهي ابتسامة عريضة جدًّا، استعنت عليها بكل مواهبي، وتلفتُّ حولي لأجد رجلًا أو مخلوقًا في المطار فلم أجد، وسِرتُ أَضرب في الأرض الرملية، علَّني أجد عربة أو تاكسيًا يُقلُّني إلى البلدة، وقبل أن أصل إلى موقف العربات رأيتُ رجلًا يقف في وسط المطار وفي يده حقيبة، وانبسطت أسارير وجهي، لا أدري كيف، واتجهت نحوه، ولما اقتربت منه وجدته رجلًا عاديًّا، يُشبه رجال الأرض وله شارب صغير، ولم أجد بدًّا من أن أسأله: «هل أنت من الزهرة؟» فقال الرجل بصوتٍ غليظ: «نعم.» فقلت: «وإلى أين أنت مسافر؟» فقال: «إلى الأرض.» قلت: «الأرض! لماذا؟» فقال وهو شارد: «الفراغ.»

وحملقت في وجهه لحظةً، وقلت: «الفراغ؟ إنه في الأرض، لقد ودَّعتُه منذ ساعات!» فقال غاضبًا: «هراء، إنه في الزهرة، لقد ودعته أنا منذ دقائق!» فقلت له في غضب: «بل إنه في الأرض.» فقال في ثورةٍ: «بل إنه في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» قلت: «في الأرض.» قال: «في الزهرة!» وصفعني على وجهي. فتحت عيني، ورأيت الطبيب واقفًا بجواري، يَخبط بيديه على وجهي في صفعاتٍ لينة، وسمعتُه يناديني باسمي سهير … سهير، مبروك يا ستي، خلاص العملية.

وتقلَّبتُ في الفراش مذهولة، أحس أن رأسي قد أصبح في ثقل الكرة الأرضية، وقلت في غضبٍ: «في الأرض! في الأرض …»

وسألني الدكتور ضاحكًا: «إيه هو اللي في الأرض يا سهير؟» فقلتُ وأنا أتثاءب من أثر المخدِّر: «الفر… الفر… ا… ا… غ.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤