الفصل الثالث

الهوس بالصين: عصر التنوير

«مثلما نزع الجيزويت إلى أن يروا الكونفوشية في ضوء مشروعهم هم، كذلك كانت الحال بالنسبة إلى «الفلاسفة» الذين صاغوا تأويلاتهم في ضوء أفكار التنوير. وعكست تأويلاتهم بذلك فلسفتهم السياسية والصورة الطوباوية التي تمنوها لأوروبا بعد أن تتحول.»

المؤلف

من العالم القديم إلى العالم الوسيط

قبل محاولة سرد تاريخ اللقاءات الفكرية بين الشرق والغرب في عصر التنوير، أراني في حاجة إلى التطلع بنظرة عجلى إلى التبادلات الثقافية الباكرة بين الشرق والغرب في العالم القديم. نعرف أن الإسلام امتد بحيث غطى منطقة الشرق الأوسط ابتداء من القرن السابع الميلادي وما بعده. وبدا كأنه صنع حاجزًا عقليًّا وماديًّا لا سبيل إلى اختراقه في العصور الوسطى بين ثقافات المتوسط وثقافات جنوب وشرق آسيا. وأدى هذا إلى طمس حقيقة أن التبادل التجاري بين الشرق والغرب في العالم القديم كان قد أُسس على قواعد صُلبة وقتما كان الإغريق يُرسون الدعائم الفلسفية للفكر الغربي. واستمر هذا التبادل في الازدهار باطراد على مدى فترة الهيمنة الرومانية وتأسيس المسيحية. وطورت وقتذاك الإمبراطورية الهَخامِنشية (الأخَمينية)١ لبلاد فارس البنية الأساسية المتقدمة للطرق السريعة والعملة المشتركة، وذلك من القرن السادس وحتى القرن الرابع قبل الميلاد وامتدت هذه الطرق إلى مسافات بعيدة وصلت إلى وادي الإندوس مما ساعد على تيسير التجارة، ليس بين الهند ونهر الفرات فقط، بل أيضًا على طول طرق الحرير الشهيرة التي تصل المتوسط بالشرق الأقصى. وتؤكد الشواهد الكثيرة ازدهار التجارة في العصر الروماني، حيث كانت تجري عمليات تبادل لإبدال التوابل بالصوف والفضة والذهب. ومن الجدير ذكره أنه خلال هذه الفترة أيضًا حلَّت الإسكندرية ومنذ تأسيسها عام ٣٣٢ق.م. محل أثينا كمركز للحياة الفكرية الهيلِّينية. وكانت الإسكندرية بمنزلة منطقة تقاطع طرق للتبادل التجاري والثقافي بين الشرق والغرب.

وليس لنا أن ندهش في مثل هذا السياق إذا عرفنا أن سلعًا أكثر تجريدًا من التوابل أو الذهب حُملت على طول طرق القوافل والطرق البحرية، خاصة مع وجود بعض المؤشرات على حدوث عملية نقل ثقافي بين الشرق والغرب. وثمة اعتقاد أن فيثاغورس الذي أثر تأثيرًا عميقًا في أفلاطون قضى شطرًا من حياته في مصر حيث تعلم بعضًا من الفلسفة الهندية. وغير خافٍ أن الفلاسفة العراة كانوا من الموضوعات التي أثارت فضول المفكرين في العالمين الإغريقي واليوناني قديمًا. كذلك كان الرهبان البوذيون معروفين في العالم الهيلِّيني. ومن المسلم به أن القدر الأكبر من هذه المعلومات هي معلومات تأملية نظرية وغير مؤسسة على شواهد وبراهين موثقة، وإن كنا نعرف عن يقين أن الإمبراطور الهندي أسوكا (٢٢٨ق.م.) عمل على نشر التعاليم البوذية إلى ما وراء حدود بلاده، وأرسل المبشرين الرهبان في بعَثات في اتجاه الغرب يحملون رسالة بوذا، وترجموا بعضًا من مراسيمه المستوحاة من البوذية إلى اللغتين الإغريقية والآرامية. بَيْد أن غزو الإسكندر المقدوني للهند عام ٣٢٧ق.م. يمثل أهم حدث درامي موثق تاريخيًّا عن الحوار بين الشرق والغرب. وحري ألا ننسى أن الإسكندر الذي تعلم على يدي أرسطو لم يكن معنيًّا فقط بالغزو العسكري والتوسع السياسي، بل واضح أن مثله الأعلى أيضًا هو «عقد زواج بين أوروبا وآسيا» (انظر هالبفاس، ١٩٨٨م، ٧). وليس من شك في أن الإسكندر ورفاقه كانت لديهم بعض المعرفة عن الهند، وأنهم اغتذوا على قصص رواها المؤرخ الإغريقي كتسياس الكنيدي (تُوفي ٤٠٠ق.م.) صاحب العديد من المؤلفات عن بلاد فارس والهند. واصطحب الإسكندر معه في حملته كثيرًا من الفلاسفة، نذكر من بينهم فيرو مؤسس مدرسة الشك. وواضح أنه بذل الجهد للتعرف على الأفكار الدينية والفلسفية السائدة في الأراضي التي أخضعها لسيطرته. وكم هو جدير بالاهتمام تأمل إلى أي مدى أفضى هذا الوضع إلى تبادل حقيقي للأفكار. ونلمس يقينًا بعضًا من التوازيات الحقيقية بين نظرة «النساك» الهنود من مثل غوتاما بوذا من ناحية، وبين أفكار الشُّكَّاك من ناحية أخرى. إذ كان كلاهما معنيًّا بآلام ومعاناة البشر والحرص على تحقيق حالة من رباطة الجأش من خلال التهذيب والانضباط الذهني. وثمة فيلسوف آخر اصطحبه الإسكندر، ويُدعى أونيسيكريتوس الذي لم يتأثر فقط بضبط النفس عند الفلاسفة العراة الهنود وقدرتهم على تحمل أشكال من الألم شديد القسوة من دون شكوى، بل رأى في عُرْيهم تعبيرًا عن «الموقف الطبيعي» وانتمائهم إلى مبادئ أخلاق الطبيعة. واتخذ الفلاسفة الإغريق المعرفون باسم الكلبيين هذا العامل في نقدهم لأعراف الإغريق.

وحين يصل بنا الحديث إلى التأثير المحتمل للفكر الهندي في المسيحية نعود أدراجنا ثانية إلى نطاق التأمل والتخمين النظريين وإلى مظاهر التوافق التي تستنفر الفكر. وثمة تخمينات منذ منتصف القرن التاسع عشر بشأن الروابط التاريخية المحتملة بين المسيحية والبوذية. ونجد في الحقيقة بعضًا من أوجه التماثل المثيرة للانتباه بين الاثنين التي تستصرخنا بإلحاح طلبًا لتفسيرها. وسوف نعود إلى دراسة وفحص هذه التخمينات بتفصيل أكثر في الفصل الخامس، ولكن يجب علينا في الآونة الراهنة أن نؤكد أن انتقال الأفكار من الهند إلى الغرب مع بداية التاريخ الميلادي ليس أبدًا بالأمر بعيد الاحتمال، من وجهة نظر تاريخية بحتة. وسبق أن أشرنا إلى انتشار الإرساليات التبشيرية التي بعث بها أسوكا في اتجاه الغرب، وإلى انفتاح الإغريق للتأثير الشرقي. علاوة على هذا فإن عبادات أورفيوس وديونيسوس وميثراس٢ التي ازدهرت في كل أنحاء العالم الإغريقي الروماني، والتي ربما قدمت نموذجًا للكثير من جوانب العقيدة والعبادة المسيحية مع كل مظاهر تطورها في القرون الأولى التي أعقبت المسيح، يجمع بينها يقينًا تراث مشترك مع ديانات الهند. ونعود لنقول إن القسط الأكبر من هذا الرأي تخميني، وإن ثمة تساؤلات بشأن أولوية هذا على ذاك لا يزال من الصعب الإجابة عنها. ولكن الشيء اليقيني في هذا كله أن أي محاولة لفصل التراث الغربي عن التراث الشرقي هي محاولة جد مصطنعة. وعلى الرغم من صعوبة تحديد وتتبع خطوط مباشرة للتأثير، إلا إن في الإمكان فهم تطور المسيحية على نحو أفضل خاصة ما يتعلق باهتمامها بالرُّوح ونزوعها الصوفي إذا ما بحثنا أصول نشأتها داخل سياق أوسع نطاقًا، ونظرنا إليها باعتبارها جزءًا من تراثات أوسع نطاقًا مما تحدثت عنه الروايات المعتمدة.٣
زد على هذا أن ثمة مؤشرات تدل بوضوح على أن الأفكار الغُنوصية٤ التي كان لها دور مهم في التطور الباكر للعقيدة المسيحية، تأثرت بالفكر البوذي والهندي. وجدير بالذكر أن كلًّا من كليمنت (توفي ٢٢٠م) وأوريجين (١٨٦–٢٥٣م) كانا مواطنين من مواطني الإسكندرية، وعلى دراية جيدة بعديد من جوانب الفلسفة الهندية. ونجد عددًا من التوازيات المثيرة للانتباه بين أفكار الغنوصيين، من مثل الاهتمام بالرُّوح وحياتها الباطنية ومصيرها وبين الأفكار المألوفة في الشرق.٥ فضلًا على هذا فإن الفيلسوف الروماني أفلوطين٦ (٢٠٥–٢٧٠م) علَّم في الإسكندرية ثم أصبح رائدًا مهمًّا في صياغة الأفلاطونية الجديدة المسيحية والتراث المسيحي الصوفي، ومعروف اهتمامه الكبير بالفكر الشرقي، وسفره إلى بلاد فارس التماسًا لهذا الفكر. ولعل ما هو أكثر إثارة من حالة الفكر الغنوصي ما نراه من توازيات مثيرة بين فكر أفلوطين وبعض الأفكار الفلسفية في التراث الهندي.٧
واجتُزئ الحوار بين أوروبا والشرق نتيجة التوسع المفاجئ للإسلام في القرن السابع الميلادي، ثم استؤنف ثانية مع الرحلات البطولية إلى الصين خلال القرن الثالث عشر التي قادها الأخوان الفرنسيسكان بلانو كاربيني ووليام روبروك، وكذلك الرحلات الأكثر شهرة التي كان على رأسها نيكولو وماركو بولو. وحري أن نشير إلى أن ما اتسمت به هذه الاتصالات من طبيعة غامضة ضاعفت من النظرة المغلقة إلى العالم المميزة للعصور الوسطى، ومن ثم لم تسمح بأي تلاق فكري حقيقي بين الشرق والغرب. ولكن هؤلاء الرحالة أحدثوا تأثيرًا مهمًّا إذ أثاروا من جديد اهتمام الغرب ببلدان الشرق المحفوفة بالأسرار والخيال والأساطير. لقد كان الشرق بالنسبة إلى الغرب في العصر الوسيط «لا يزال أرضًا يسكنها بشر يسيرون على قدم واحدة ولهم رءوس كلاب، وتعيش فيها حيوانات من نوع وحيد القرن والغريفين٨ والعقارب المجنحة والنمل المنقب عن الذهب، وفردوس سردية التكوين في الكتاب المقدس، وشعب يأجوج ومأجوج» (ألموند، ١٩٨٦م، ٨٥). ولكن هذه الحمَلات البحرية شهدت البدايات الأولية لتكوين سلسلة جديدة تمامًا من الاهتمامات والمعتقدات الخاصة بالشرق التي اضطلعت بدور بالغ الأهمية في بناء الفروض الخيالية والفكرية للعقل الأوروبي.٩

الجيزويت ورؤية جديدة عن الصين (كاثاي)

قصتنا عن تلاقي التنوير بالأفكار الوافدة من الشرق، خاصة من الصين، تبدأ برحلات الاستكشافات الكبرى وما تلاها من توسع للقوى الاقتصادية والسياسية الأوروبية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. ومن ثم فإن أي محاولة لفهم تلاقي عقول أوروبا وآسيا يتعين النظر إليها في إطار هذا السياق. لقد كانت هذه البطولات بمنزلة إعلان عن بداية فترة مكثفة لاستكشاف المناطق البحرية في جنوب وشرق آسيا، ومهدت كذلك الطريق للتوسع السريع في التجارة والتواصل. وطبيعي أن هذا التوسع تولد عن، مثلما أفاد في، تيسير التغيرات الاقتصادية الثورية والتغيرات السياسية الحادثة في أوروبا آنذاك.١٠
ولكن الحوافز التي أججت هذا التوسع الدرامي والمصيري الأوروبي تجاه الشرق حوافز مركبة، وتشتمل على عوامل كثيرة تتراوح ما بين الانفتاح الفكري الجديد، والفضول المعرفي المتولد عن حركة النهضة وصولًا إلى الحاجة إلى توسيع الأسواق وتفادي الإسلام في محاولة البحث عن طرق للتجارة ممتدة إلى الشرق. ولكن ربما كان الحافز الديني على قدم المساواة من حيث الأهمية. والحقيقة أنه ظل عاملًا مهمًّا في الكثير جدًّا من أعمال دراسة وتصنيف وتأويل أفكار الشرق على مدى القرون التالية. وأيًّا كانت الدوافع الأساسية التجارية أو السياسية طويلة المدى إلا إن الرغبة في هداية أرواح «الكفرة» في آسيا إلى الإيمان الصحيح، كانت الأساس الحقيقي الذي بدأت منه مهمة التوجه إلى عقل الشرق واكتشافه. وهكذا كانت مهمة الإرساليات التبشيرية للجيزويت التي تمثل كتائب الصدام للثورة الكاثوليكية المناهضة للإصلاح وتغلغلت في الهند والصين واليابان خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومن هنا وفد إلى الوطن أوروبا أول فهم تفصيلي لفكر وثقافة الشرق. واستهدفت هذه الإرساليات يقينًا تحويل «الوثنيين» عن عقيدتهم إلى العقيدة الكاثوليكية. ولكن مع هذا يجب ألا ننسى أن قساوسة «جماعة يسوع» لم يكونوا من المتعصبين أو إنجيليين محدودي الأفق، بل كانوا على درجة عالية من التعليم والثقافة، استوعبوا المثل العليا التي رسمها العقل المتفتح للحركة الإنسانية في عصر النهضة، وطوروا نظرة إكبار واحترام للحضارة الصينية بخاصة ولفلسفتها الكونفوشية وآدابها ومؤسساتها. وبعثوا إلى أوروبا روايات مفصلة ووُدِّية عن معتقدات وممارسات الشعب الذي سعوا إلى «هدايته». وترجموا أيضًا بعضًا من المتون الكلاسيكية للكونفوشية إلى اللاتينية، والتي صدرت للمرة الأولى عام ١٦٨٧م في باريس تحت عنوان «كونفوشيوس فيلسوف الصين» Confucius Sinarum Philosophus. وقُرئت التقارير والترجمات على نطاق واسع في أوروبا خلال الفترة الأخيرة من القرن السابع عشر. وكان للأفكار التي نقلتها إلى الغرب أثرها العميق في العقل الأوروبي وقتذاك. وأسهمت على نحو عميق في الجدل الأيديولوجي الذي كان دائرًا على مدى فترة التنوير. وقامت بدور في صياغة بعض الأفكار الرئيسية لهذه الفترة الزمنية، الأمر الذي تحقق بوسائل لم تصادف اعترافًا كافيًا في أغلب الأحيان.
وكانت للجيزويت خطتهم الخاصة في حدود المهام المرسومة لهم. وطبيعي أن كانت هذه الخطة هي هداية الصينيين. وأدركوا أن إنجاز هذا الهدف يستلزم بالضرورة فهم نظرة الصين إلى العالم، والدخول معهم في نوع من الحوار. وبذلك كانوا حسب هذه الرؤية أول باحثين استشراقيين، وأول من نقلوا إلى الغرب صورة عن الفلسفة الكونفوشية والنظرة الصينية إلى العالم. ويعبر عن هذا المؤرخ كولين ماكيراس بقوله: «تمثلت المحصلة النهائية في أن أوروبا القرن الثامن عشر عرَفت الكثير عن الصين» (١٩٨٩م، ٣٧). وعلى الرغم من أن الجيزويت أخفقوا في النهاية في تحويل الصينيين إلى المسيحية، إلا إنهم نجحوا نجاحًا باهرًا في تفسير الصين للغرب (المرجع نفسه، ص٣٠). وكشف هذا التفسير حتمًا عن خطة التبشير. إذ اعتقدوا أنهم بعقدهم مقارنات عن كثَب بين الفروض الفلسفية الأساسية لكل من الصين والمسيحية سوف يكون بالإمكان البرهنة على أن الصينيين سيثبتون أنهم أصحاب رؤية تنويرية تؤهلهم لتلقِّي وقبول الرسالة المسيحية.١١ وترتبت على هذا نتائج من بينها أنهم اتجهوا إلى رسم صورة الصينيين باعتبارهم شعبًا متقدمًا أخلاقيًّا وسياسيًّا يحكمه حكام حكماء ذَوُو علم عظيم عمَدوا إلى ترسيخ المبادئ الفلسفية الأساسية الخاصة بالأخلاق والمجتمع على أساس من عقل بشري كلي. ويتضمن هذا الرأي بعض عناصر صادقة. ذلك لأن الصين كشفت آنذاك عن خصائص للحكمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تتمناها أوروبا لنفسها وقتذاك وتحسد الصين عليها. بَيْد أنها في الوقت نفسه اشتملت على جرعة قوية من المبالغة والنظرة المثالية التي خدمت أهداف خطتهم هم. علاوة على هذا، تصور الجيزويت حكام الصين الفلاسفة في صورة من أرسوا دعائم إيمان بالرب على أساس من النور الطبيعي للعقل. وهذا فرض من شأنه أن يجعلهم يتصورون أن من السهولة بمكان هداية الصينيين وتحويلهم عن عقيدتهم، ولكنه فرض لم يحظ بقبول آخرين من المجادلين من أمثال بايل صاحب خطة مختلفة عن خطة الجيزويت، والذي أكد أن المثقفين الصينيين هم ملحدون في الحقيقة.
علاوة على نقل التقارير والمتون، عمَد الجيزويت إلى إنجاز أسلوبهم الفريد في الارتباط التأويلي بالأفكار والممارسات الدينية للصين. ويمثل هذا وسيلة من بين وسائل أخرى كثيرة إيذانًا ببدء الحوار الوشيك بين الشرق والغرب. وسرعان ما أدرك الآباء المبشرون الأوائل، من أمثال ماتيو ريتشي، فور وصولهم إلى الصين أنهم لا يتعاملون مع ثقافة بُدائية، بل مع حضارة عريقة تضارع، بل ربما أقدم، من حضارة أوروبا، وأن لشعبها ميراثًا من لغة وأدب ومنظومة عقيدية معقدة ومتقدمة شأن ميراث ومنظومة المسيحية. لذلك كان من العبث تمامًا السعي للإطاحة في سهولة ويسر بمعتقدات ولغة الكونفوشية وإبدالها بالإيمان المسيحي. ومن ثم بدا لازمًا نوع من المواءمة والتوفيق، ولو في المظاهر أو الشعائر. لذلك فإن ما فكر ريتشي وخلفاؤه في عمله هو «تأويل هذه العقيدة بدلًا من قمعها» (غاي، ١٩٦٣م، ٤٥)، والعمل لا باعتبارهم غرباء يسعون إلى فرض طائفة غريبة تمامًا من المذاهب والممارسات على الصينيين أبناء البلد، بل التسلل للنفاذ إلى أعماق قلب ورُوح الصين. ورأوا أن يعملوا أولًا على تبني تعاليم وعادات الدارسين البيروقراطيين، أي كبار الموظفين في الدولة، ثم العمل بذكاء ودقة على ملاءمة الشعائر الكاثوليكية مع الأعراف والممارسات الكونفوشية. وتراوحت هذه الاستراتيجية ما بين اتباع أمور تبدو سطحية نسبيًّا من مثل استخدام الملابس الكونفوشية أثناء إقامة شعائر القداس والصلاة، وحتى مسائل أكثر إثارة للجدل تتعلق بملاءمة أفكار كونفوشية من مثل عبادة السلف وحتى فقه الإلهيات المسيحي. ومع مرور الزمن ظهر آباء يتحلون برُوح أكثر جسارة، من مثل الأب فوبيلي في الهند. والتمس هؤلاء سبيلًا لعمل ملاءمة لسانية/تأويلية (هرمنيوطيقية) بين المتون المقدسة الشرقية والمسيحية، الأمر الذي تجاوز حتمًا حدود أصول العقيدة، أي الأرثوذكسية. ونلحظ أن المسئولين عن مرجعية أصول العقيدة، أي الحراس القيمين على الأرثوذكسية في روما لم يكونوا راضين دائمًا عن هذه الجهود، ورأوا فيها نهجًا خطيرًا يخفف من نقاء الإيمان الكاثوليكي. وأخيرًا، وفي عام ١٧٤٢م، أصدر البابا أوامره بإيقاف هذه التجرِبة الجسورة للحوار بين الثقافات.١٢

وسرعان ما تواترت عقب تقارير الآباء الجيزويت تقارير من الرحالة. ومع انتصاف القرن الثامن عشر توفر كم كبير من الكتابات عن حضارات آسيا العظيمة التي تستثير الحماس والحوار بين فئات المتعلمين في أوروبا الذين أصبحوا، بنص كلمات أحد المؤرخين: «مخبولين بما لديهم من رؤية عن كاثاي (الصين)» (إدواردز، ١٩٧١م، ١٠٣). والحقيقة أنه في عام ١٥٥٣م، بل قبل أن يتدفق على أوروبا فيض تقارير الآباء الجيزويت، نشر الفرنسي غويوم بوستيل كتابًا عنوانه «عجائب العالم»، عمَد فيه إلى تأكيد تفوق الشرق على الغرب، ومضى إلى أبعد من هذا حيث زعم أن المسيحية ليس لها احتكار حقيقة الوحي الإلهي. وأكد أيضًا أن «الفهم الشرقي هو الأفضل في العالم.» وتصور اليابان نوعًا من يوتوبيا العقل الطبيعي (الاقتباس من بوسما، ١٩٥٧م، ٢٠٨). وجدير بالذكر أن المتحمسين الأوائل للشرق من أمثال بوستيل اضطُروا إلى الاعتماد على شذرات من المعلومات غير الموثقة. ولكن في عصر فولتير والموسوعيين توفر عدد من الدراسات المنهجية عن آسيا، من أشهرها دراسة تاريخية في أربعة مجلدات عن الصين، تأليف جان بابتيست دو هالد وعنوان ترجمته الإنجليزية عام ١٧٣٦م: «تاريخ الصين العام». وصدرت طبعته الفرنسية قبل هذا بعام واحد. واتصف هذا العمل، شأن كتابات كثيرة جدًّا للجيزويت، خلال هذه الفترة، بالإطراء الشديد للصين وامتداح كل جوانب الحياة الاجتماعية والفكرية فيها، علاوة على عقد مقارنات كثيرة مع أوروبا، ليست في مصلحة أوروبا.

وكم هي مثيرة قائمة المفكرين الذين أبدوا، منذ التنوير وما قبل التنوير، اهتمامًا يتجاوز حدود الاهتمام العابر بالفلسفة الشرقية. وتضم هذه القائمة مفكرين من أمثال مونتين ومالبرانش، وبايل وولف وليبنتس وفولتير ومونتسكيو وديدرو وهلفيتيوس وكيزناي وآدم سميث.١٣ إذ افتتنوا جميعًا بفلسفة الصين وسلوك الدولة ونظامها التعليمي. وعمَدوا بكل الوسائل الممكنة إلى أن يصطنعوا منها مرآة يرون فيها أنفسهم ويدرسون أوجه القصور الفلسفية والمؤسسية في أوروبا، ورأوا فيها نموذجًا يحفز إلى إنجاز إصلاح أخلاقي وسياسي. ووجدوا فيها كذلك أداة لتجريد المسيحية من كل ادعاءاتها بالتفرد. وجدير بالذكر أن غويوم بوستيل رأى الشرق في القرن السادس عشر نوعًا من اليوتوبيا (زعم أنها يوتوبيا حقيقية على عكس اليوتوبيا الخيالية التي حدثنا عنها توماس مور). واتخذ من صورة الشرق سببًا لتوجيه اللوم والدعوة لإصلاح العقيدة المسيحية بعد ما لحقها من ضلال وتحلل. وأكثر من هذا أنه في أواخر ١٧٦٩م، وبعد أن انحسر الهوس بالصين، قال بيير بوافر:

تقدم لنا الصين صورة تأسر الألباب عما يمكن أن يكون عليه العالم كله إذا ما أضحت قوانين هذه الإمبراطورية هي القوانين النافذة في كل الأمم. اذهب إلى بكين، واملأ عينيك بالنظر إلى أعظم البشر (كونفوشيوس)؛ إنه الصورة الحقة والكاملة للسماء.

(الاقتباس من داوسون، ١٩٦٧م، ٥٥)
وكم من مرة استخدم المفكرون الشرق أداة يهجون بها المؤسسات الأوروبية والدعوة إلى إمعان النظر فيها بعيني امرئ أجنبي، واتخذوه عدة أدبية ساعدتهم على صرف أنظار الرقيب الرسمي. ولعل أشهر الأعمال في هذا الصدد كتاب مونتسكيو «رسائل فارسية»، الذي صدرت أول طبعة منه عام ١٧٢١م. ويحدثنا مونتسكيو في كتابه هذا عن اثنين من وجهاء الفرس سافرا إلى باريس، وسجَّلا ملاحظاتهما عن مظاهر الخطأ والخطَل في الحياة الاجتماعية والأعراف الفرنسية. وثمة أمثلة أخرى مهمة نذكر من بينها كتاب ماركيز دارجينس «رسائل صينية» الصادر عام ١٧٣٩م. ويستخدم المؤلفان في كتابيهما الصينَ الوثنية وسيلة لانتقاد وهجاء أخلاقيات وسلوكيات أوروبا المسيحية. وإذا كانت الصين الكونفوشية هي موضوع الاهتمام الرئيسي، فإن كونفوشيوس نفسه بلغ درجة العبادة «القدير الراعي للتنوير» كما عبَّر أحد المؤرخين ساخرًا (رايخفين ١٩٢٥م، ٧٧). وكتب لا موث لو فاير في مطلع ١٦٤٢م كراسة عنوانها «فضيلة الزنادقة». نراه هنا يضع كونفوشيوس بقوة ندًّا على قدم المساواة مع حكماء الغرب. وبعد ذلك بمائة عام أعلن ماركيز دارجينس أن كونفوشيوس أعظم من أنجبته البشرية. ولقد كانت هذه الآراء نموذجًا لما يقال في تلك الفترة.١٤
وشهدت الأعوام الأخيرة جدلًا واسعًا وخلافًا بشأن مصداقية تأويلات التنوير للكونفوشية. وتُعتبر هذه التأويلات يقينًا أكثر تعقدًا من حيث المفاهيم وأكثر انتشارًا من حيث الواقع التاريخي مما اعتقده «الفلاسفة ومعلموهم من الجيزويت». وتضمنت رواياتهم عناصر كثيرة من التفكير الإسقاطي والقائم على الأماني، سواء من حيث الفلسفة الكونفوشية، وكذا ظروفها الاجتماعية والسياسية. وهكذا نزعوا إلى النظر إلى ما سُمي «الكونفوشية الجديدة» — وهو المصطلح الذي اصطنعه الجيزويت في القرن السابع عشر — باعتبارها إفسادًا للكونفوشية القديمة التي تغلغلت فيها حتى النخاع معتقدات خرافية. ولم يكن ثمة فهم واضح ووافٍ، بل ولا اهتمام حقيقي لطبيعة الطاويَّة والبوذية ودورهما على مدى كل شبكة الحياة الثقافية والفكرية في الصين.١٥ وسوف نخطئ إذا أنكرنا أن فترة التنوير شهدت افتتانًا مذهلًا كشف عنه الفهم الأوروبي للإطار الفلسفي والسياسي للصين، مما تولَّد عنه تعاطف حقيقي ورغبة أصيلة صادقة للتعلم منه. ولكن من الواضح، كما هي الحال على سبيل المثال في مسألة ما إذا كان الكونفوشيون يؤمنون بآلهة أم لا، أن هذا الفهم نُقِّيَ وشُوِّه على أيدي أوروبا المعاصرة آنذاك، حتى ليمكن القول إنه صياغة أوروبية. وهكذا، فمثلما نزع الجيزويت إلى أن يروا الكونفوشية في ضوء مشروعهم هم، كذلك كانت الحال بالنسبة إلى «الفلاسفة» الذين صاغوا تأويلاتهم في ضوء أفكار التنوير. وعكست تأويلاتهم بذلك فلسفتهم السياسية والصورة الطوباوية التي تمنوها لأوروبا بعد أن تتحول. ولكن أيًّا كانت دقة التصورات الأوروبية عن الصين، فإن الصين أضحت يقينًا مدمجة بقوة في وعي التنوير الأوروبي، وتمس كثيرًا من جوانب الحياة الفكرية والثقافية لهذا الوقت. وسوف ندرس في القسم التالي بعض أبرز مفكري هذه المرحلة ممن ساهموا في هذه العملية.

«الفلاسفة» والصين

نبدأ باثنين من المفكرين سبقا الموجة العظمى للهوس بالصين في فرنسا، ولكنهما استبقا القضايا التي كانت الشغل الشاغل لهذه الموجة بوسائل جديرة بالاهتمام. أول هذين المفكرين كاتب المقالات الفرنسي العظيم ميشيل دو مونتين (١٥٣٣–١٥٩٢م)، وهو داعية مفوه في الدفاع عن الأخلاق الإنسانية وناقد للتعصب الديني في أيامه. والتقط سريعًا بعض شذرات وقصاصات من المعلومات الجديدة التي وصلت من الشرق آنذاك، وسرعان ما استخدمها لأغراضه السجالية. واعتمد في كثير من مقالاته على مثال الصين بغية تشجيع قرائه على تبني نظرة أرحب وأكثر انفتاحًا إزاء الشئون الأوروبية. وحثهم على تأمل «العالم وإلى أي مدى هو أكثر اتساعًا وأكثر تنوعًا من عالم القدماء أو حتى العالم الذي اكتشفناه نحن بأنفسنا» (١٩٥٨م، ٣٥٢). ويوضح المؤرخ دافيد لاش أن مونتين اعتاد أن «يستخدم الشرق لمؤازرة قضاياه عن عدم يقين المعرفة، والتنوع اللانهائي في العالم والشمولية الكونية للمبادئ الأخلاقية» (١٩٧٧م، ٢٩٧). ونلحظ أن اهتمام الفيلسوف الفرنسي مالبرانش (١٦٣٨–١٧١٥م) يمضي إلى ما هو أعمق، معبرًا عن الاهتمام واسع النطاق بالصين منذ أيام مونتين، ويحكي لنا كثيرًا عن الدور الذي بدأت الفلسفة الصينية تؤديه في الحياة الفكرية وقتذاك. وأجدني هنا في حاجة إلى الإشارة إلى كراسة كتبها بعنوان «حوار بين فيلسوف مسيحي وفيلسوف صيني بشأن وجود وطبيعة الرب». ونرى العنوان واضح الدلالة جدًّا في الإشارة إلى ما تضمنته الفلسفة من حافز جديد للتفاعل بين الثقافات. ويعرض في كراسته الكونفوشية باعتبارها إحدى صور فلسفة سبينوزا — وهو ربط كان شائعًا في أيامه. ونلحظ أن الحوار مصمم لبيان الجمود الأصولي «الأرثوذكسي» لموقفه. وليس المهم هنا هو فقط تسليم مالبرانش بأن قراءه على ألفة بالكونفوشية، مفترضًا أنهم سيدركون علاقتها الوثيقة بموضوع الحوار الذي يشارك فيه، بل المهم أيضًا ما نلمسه عنده وعند كثيرين من مفكري التنوير الذين أتوا من بعده، أن الفلسفة الشرقية أضحت منتشرة كسلاح فعال يجري استخدامه لتحقيق أهداف أوروبية خالصة. وهذه استراتيجية سنصادفها في كثير من سياقات الفكر منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.١٦
واستمر اهتمام بيير بايل (١٦٤٦–١٧٠٦م) بالشرق وطوَّر ما كان عليه مونتين. إذ كان مثله معنيًّا باستثماره سلاحًا مؤثرًا في الجدل الدائر، خصوصًا فيما يتعلق بهجومه على مُناخ التعصب الذي أعقب وقف العمل بمرسوم نانتس١٧ عام ١٦٨٥م. والتزم بايل منهجًا هدَّامًا كان له تأثيره القوي على المفكرين «الموسوعيين» في القرن الثامن عشر. وكان بايل عضوًا في جماعة من الفلاسفة الراديكاليين تُسمى المفكرين الأحرار Les Libertins الذين تميزوا بمنهج الشك المناهض للتسلط، واتخذوا من الصين أداة فعالة في صراعهم ضد الكنيسة الرسمية. واستخدموا تاريخ الصين القديم أساسًا لهدم التأريخ الزمني التقليدي الذي تحدث عنه الكتاب المقدس. واستثمروا الموقف التنويري للصين القائم على التسامح، كما يبدو في ظاهره للهجوم على التعصب الديني والاضطهاد داخل البلاد. ويعبر عن هذا أحد المؤرخين بقوله: «كان بايل يمثل أوج الإنجاز لسلسلة ممتدة من المفكرين الذين استثمروا مثال الصين في محاولتهم تحرير أنفسهم من أنماط الفكرة المفروضة مسبقًا» (غاي، ١٩٦٣م، ١٢٧). وإذا كان مالبرانش معنيًّا بالدفاع عن رؤيته الخاصة للديكارتية، فإن بايل — على خلاف ذلك — يرصد جهوده الفلسفية لتقويض دعائم كل الدعاوى الدينية والميتافيزيقية بشأن امتلاكها للحقيقة. ونراه في مؤلفه الشهير «القاموس التاريخي والنقدي» لعام ١٦٩٧م ينبري للشك في الفروض الفلسفية التي تشكل أساسًا لكل عقيدة مذهبية. ولم يقْصُر جهده على علماء الإلهيات فقط، بل وأيضًا الفلاسفة من أمثال سبينوزا وليبنتس. وسعى بهذا من أجل تأسيس دعائم مبدأ التسامح. علاوة على هذا، نراه على عكس الجيزويت يؤكد أن الصينيين ملحدون. وهذه نظرة استهدفت بيان أن الإيمان المسيحي بوجود إله ليس شرطًا مسبقًا ولازمًا من أجل تأسيس نظام أخلاقي صحيح في المجتمع.
ويُعتبر فولتير (١٦٩٤–١٧٧٨م) دون أدنى ريب الرائد الفرنسي لنزعة حب الصين التي راجت آنذاك. قدم أعمالًا درامية من مثل «يتيم الصين» L’Orphelin de la chin (١٧٥٥م)، وقصصًا من مثل «زاديغ» Zadig (١٧٤٨م). واقتدى بالنهج الاستشراقي السائد في أيامه، من حيث استخدام شرقٍ من نسج الخيال كوسيلة للإمساك بمرآة نقدية تكشف الأعراف الأوروبية. ولكنه عرض آراءه في الفلسفة الكونفوشية في صراحة واضحة ودون مواربة في كتابه «مقال في الأخلاق» (١٧٥٦م) Essai sur les moeurs واستثمره ليشن هجومًا مباشرًا على المؤسسات السياسية والدينية في أيامه. وأكد هنا التفوق الأصيل للفلسفة الأخلاقية الصينية، وكذا تفوق نظام الصين السياسي الذي زعم أنه لا يرتكز على أرستقراطية وراثية، بل على مبادئ عقلانية. وزعم في كتاب «المقال»: «إننا نجد في الشرق أقدم حضارة على الإطلاق، وأقدم شكل للأديان، ومهد جميع الفنون، لذلك كله فإن الغرب مدين بكل شيء للشرق.» ونحن لكي نفهم هذا الادعاء الطموح إلى حدٍّ ما نجد لزامًا أن نطرح جانبًا فكرة أن فولتير تناول الشرق برُوح الباحث المنزه عن الغرض. لقد نذر حياته كلها لمهمة محددة، هي قلب نظام المسيحية الرسمي القائم كما تجسده الكنيسة والدولة. وهذا هو عين ما حدث في كتابه «رسائل فلسفية»، استخدم اسمي نيوتن ولوك من إنجلترا لشن هجوم ضد المؤسسات الفرنسية. وهكذا جند «الصين الكونفوشية» لحساب معركته ضد الطغيان والتعصب والتحجر والجمود الذي يتصف به النظام القديم. وسبق له أن تعلم من معلميه القدامى، الجيزويت، أن كونفوشيوس فيلسوف ورجل دولة مثالي، وعقلاني من الطراز الأول الذي لم يقْصُر جهده على الدعوة لفلسفة سياسية متحررة من الجمود العقائدي الديني، بل كانت مثله العليا أساسًا للنظام السياسي الهادئ المتناغم الذي عم الصين وفق الاعتقاد السائد.
واستخدم فولتير الصين أيضًا سلاحًا لشن هجوم ضد الكنيسة الكاثوليكية التي أطلق عليها اسم «العار» L’infame. واقتدى فولتير بالموقف الرائد للجيزويت، وعلى خلاف موقف بايل الذي ذهب إلى أن الصين أمة لا تعرف الرب. لذلك أكد فولتير أن الكونفوشيين مؤمنون بالإله، وأن إيمانهم برب هو الأعلى فائق القدرة لا ينبني على الإيمان النظري العيني المجرد، بل على النور الطبيعي للعقل. وأعتقد أن عبادة هذا الرب تكاد تكون خِلوًا تمامًا من أي ممارسات خرافية من مثل عبادة الأيقونات والاتجار بالمعجزات، وأنها مقتصرة بالكاد على الشعائر والطقوس الموسمية التي يؤديها الإمبراطور مع طقوس تعبر عن احترام الموتى. وذهب فولتير إلى أن الكونفوشية نجحت في تهيئة أساس لبناء نظام أخلاقي واجتماعي، وهو النظام الذي بدا أكثر فعالية وتأثيرًا من نظيره في أوروبا. وأوحى هذا لفولتير أن الصرح اللاهوتي الكبير الذي أقامته المسيحية بكل ما تضمنه من معتقدات خرافية وشعائر تنوء بزخارفها، علاوة على مؤسساتها الفاشلة، هي جميعها أمور لا لزوم لها وإفراط يَزيد على الحاجة. وكان يقينًا يمقت ما سماه «نفاية الإيمان بتعدد الأرباب» المعروف في الشرق خاصة في الهند، علاوة على أنه — اقتداء بالجيزويت مرة ثانية — كان يضمر احتقارًا للبوذية والطاويَّة، إلا إنه «كان يؤمن بأنه وجد في المملكة الوسطى (الصين) الزهرة التي تجسد الدين المتسامح من دون جمود ومن دون كهنة وقساوسة، أي وجد بكلمة واحدة «الربوبية الخالصة»» (١٩٦٣م، ٢٥٥).

أنجز فولتير جانبًا مهمًّا في صياغة خطة تدميرية أخرى ضد المسيحية، من شأنها أن تكشف بوضوح كبير الإمكانية الثورية للخطاب الاستشراقي. إذ إن موضوع أصل نشأة السلالة البشرية والحضارة من بين موضوعات السجالات الكبرى التي حَمِي وطيس الجدل بشأنها طوال فترة التنوير. وترتبط هذه القضية بمسألة عمر كوكب الأرض. ونعرف، وفق الرؤية الأصولية الأرثوذكسية أن سلسلة نسب البشرية تحددها خطوط عامة أساسية وردت في الكتاب المقدس، وتفيد، ليس الأمر فقط أن البشرية من نسل آدم وحواء، بل إن حضارات العالم يمكن تتبع تاريخها وصولًا إلى إبراهيم والإسرائيليين. ومع نمو الدراسات والبحوث وتوسع نطاق الوعي الأوروبي نتيجة رحلات الاستكشاف في كل أنحاء الكوكب أصبحت هذه الرؤية المعيارية موضع شكوك ونقد برزت جميعها من مصادر متباينة. وكان اكتشاف الحضارات الكبرى في الشرق خاصة، والاعتراف بقدم تاريخ الصين والهند إلى آماد زمنية بعيدة يعني أن ما كان يراه البعض أن الأولوية التاريخية لإسرائيل التي يتحدث عنها الكتاب المقدس أصبحت أمرًا موضع شك كبير. وها هو إسحق فوسيوس في كتابه بعنوان «عن القِدم الحقيقي للعالم»، الصادر عام ١٦٦٠م، يتحدى التسلسل التاريخي الوارد في الكتاب المقدس، زاعمًا أن الحضارة الصينية تعود إلى عام ٢٩٠٠ق.م.، ومن ثم فهي أسبق تاريخيًّا من الطوفان بنحو خمسمائة عام. وسرعان ما تلقف فولتير هذا الرأي، ليؤكد تناقضه الواضح مع آراء أصول العقيدة الأرثوذكسية التي تقول بأولوية التراث اليهودي-المسيحي. كذلك بدأ اكتشاف قدم الديانات الهندية يمثل موضوعًا يحظى باهتمام الباحثين آنذاك. وتوصل فولتير إلى نتيجة مفادها أن الهند هي أقدم ثقافة في العالم، وأننا نجد هنا، وليس في إسرائيل، جذور التوحيد.

ولنا أن نعتبر اهتمام فولتير بالقضية التي دار بشأنها جدل طويل، وهي التسلسل الزمني لتاريخ العالم والبشر كما ورد في الكتاب المقدس، إنما يمثل جزءًا من مشروع أكبر كان شغله الشاغل على مدى سنوات كثيرة؛ ونعني بهذا مشروع وضع تاريخٍ عالمي. ويعترف المؤرخ كولين ماكيراس بأهمية هذا المشروع. إذ يلحظ أن فولتير هو «أول من حاول في أي أمة كتابة تاريخ للعالم، والذي لا يتضمن فقط ثقافته هو، بل وأيضًا ثقافات الحضارات في أقصى الأرض» (١٩٨٩م، ٩٥). واشتمل هذا العمل على فصلين عن الصين، علاوة على عدة فصول أخرى عن بلدان أخرى غير أوروبية، وتحدث فيها صراحة لكي يوضح أن ثمة حضارات كبرى أخرى إلى جانب حضارة أوروبا، والتي هي على أقل تقدير مماثلة لها من حيث العراقة ومكافئة لها من حيث الإنجاز. وحري أن ندرك أن هذا موقف لم يكن يسيرًا قبوله حتى في تلك الفترة التي من المفترض أنها عصر تنوير. ولكن هذا الرأي في القرن الثامن عشر كان بمنزلة إهانة عميقة وتجريح للتراث الذي ظل زمنًا طويلًا يؤكد تفرده ومكانته الخاصة المميزة في سياق الترتيب التاريخي للأمور، بل وفي السياق الكوني.١٨
وجدير بالإشارة أن استخدام فولتير صورة الصين التي هذبها ونقاها الجيزويت، لمهاجمة وهدم النظام الرسمي وأصولية أو أرثوذكسية الكنيسة والدولة، كررها وهذبها كثيرون من معاصريه. نذكر من أبرزهم ديدرو محرر «الإنسيكلوبيديا»، وكذا الفيلسوف هلفيتيوس. كان هذان المفكران ممثلين بارزين لما سُمي «التنوير الراديكالي». وأضفيا على الاستشراق، من حيث النظر إلى المسيحية، سمة سلبية وهدامة في جوهرها عند التطبيق، نظرًا إلى إيمانهما بضرورة الإطاحة الكاملة بالنظام القديم قبل إبداله بنظام جديد. وثمة وجه آخر لهذه العملية ربما أقل راديكالية في ثوريته، وكان يمثله الفيلسوف الألماني العظيم ليبنتس (١٦٤٦–١٧١٦م). كانت له علاقات كثيرة متواترة مع إرساليات الجيزويت التبشيرية، وأبدى منذ شبابه الباكر اهتمامًا كبيرًا بالأفكار الوافدة من الصين. وضمت مكتبته الشخصية قرابة خمسين كتابًا عن الصين. وإذا كانت كتابات فولتير عن الصين متناثرة وغير منظمة منهجيًّا، فإن ليبنتس على العكس، قدم عملين لهما أهمية جوهرية من حيث هذا الموضوع، أحدهما في عام ١٦٩٧م، وعنوانه الصين الجديدة Novissimo Sinice، وهو مجموعة تقارير ورسائل من إرساليات الجيزويت. ويمثل إسهامه هنا في التصدير الذي كتبه في سبع عشرة صفحة. وكتابه الثاني رسالة عن الفلسفة الصينية صدرت عام ١٧١٨م، تحت عنوان «مقال عن علم الإلهيات الطبيعي في الصين». وزعم في هذه الدراسة، شأن فولتير من بعده، أن الصين صاغت لنفسها دينًا طبيعيًّا، يرتكز على العقل دون الوحي.١٩ ونظرًا إلى أن ليبنتس شخصية تنتمي إلى الكنيسة الرسمية أكثر من فولتير، لذلك لم تكن مهمة العمر بالنسبة إليه هي تدمير الوضع القائم، بل البحث عن مبادئ للتناغم يمكن على هديها التوفيق بين الأحزاب الدينية والسياسية المتحاربة في أوروبا. واتخذ الصين حليفًا في كفاحه من أجل تحطيم الحواجز الأخلاقية والرُّوحية التي «تمثل عازلًا بين الإنسان والإنسان» (غاي، ١٩٦٣م، ٨٧). ويوضح هنا دافيد مونجيللو أن هذا البحث الذي بدأ كرد فعل إزاء الصراعات المستمرة بين الكاثوليك والبروتستانت اكتسب بُعدًا عالميًّا. واقتدى ليبنتس بالجيزويت الأوائل، والتمس سبيلًا لإرساء أسس لعقد اتفاق يشمل المعمورة كلها ويقوم على أبعاد كوكبية حقيقية، بحيث يكون فيه دين الغرب القائم على الوحي مساوقًا على قدم المساواة مع علم الإلهيات الطبيعي والأخلاق في الصين (١٩٧٧م، ٩). وقاده اهتمامه بالفلسفة الطبيعية الصينية إلى تحليل نظرتها الميتافيزيقية العضوية المميزة، ومفهومها عن التناغم الكوني القائم على تكامل الأضداد. ويلاحَظ أنه على الرغم من وجود بعض الاختلاف بشأن مدى ما يدين به ليبنتس للفلسفة الصينية، إلا إننا نجد بعض نقاط التوازي الواضحة بين نظريته عن الموناد التي يرى فيها أن جميع أوجه الكون — كالمرآة — يعكس بعضها بعضًا، وتعمل معًا في تناغم، وبيَّن المذهب الصيني عن التفكير المترابط العلاقات، حيث جميع أجزاء الطبيعة تتلاحم وتتعاون مع بعضها تلقائيًّا دون توجيه خارجي.٢٠
وتتجلى اهتمامات ليبنتس بالمعمورة كلها واضحة في بحثه عن لغة عالمية. وجدير بالذكر هنا أن البحث عن مثل هذه اللغة، لغة آدم وحواء، لم يكن شيئًا يتفرد به ليبنتس. إذ إن كثيرين من المفكرين المتميزين في عصره بمن فيهم بيكون وبويل وبايل وهارتليب وشافتيسبري انشغلوا بالبحث عما سُمي «لغة بشرية» Lingua Humana، والتي يمكن أن تشجع على تقدم التعليم وتقضي على أسباب الشك وتتعالى على الفوارق الطائفية والقومية. علاوة على هذا فإنه إذا كانت مثل هذه اللغة تتطابق مع اللغة التي أودعها الرب للبشرية، فإنها لذلك تبشير بالنفاذ إلى أسرار الخلق القدسية. وهيأت الصين لليبنتس دِعامتين تدعمان هذه الفكرة الخارقة الاستثنائية. وأولى هاتين الدِّعامتين هي الطبيعة التصويرية للغة الصينية ذاتها التي يمكن اعتبارها لغة أقدم وألصق بالطبيعة من لغات أوروبا المؤلفة من أحرف أبجدية تجريدية. ولهذا بدت اللغة الصينية المرشحة لتُمثل لغة آدم الأصلية.
وطبيعي أن القول بإمكان أن تكون اللغة الصينية، دون العبرية، هي اللغة الأسبق على لغة بابل ليس بالأمر الذي يصادف قبولًا لدى المسيحية الأرثوذكسية. والحقيقة أن مفكرين كثيرًا، حتى قبل ليبنتس، كانت لهم تخميناتهم بشأن أن تمثل اللغة الصينية لغة آدم الأولى. ونذكر من بين هؤلاء فرنسيس بيكون وجون ويب الذي قدم صياغة جيدة لهذه الفكرة في كتاب له بعنوان «مقال تاريخي يمثل اجتهادًا لاحتمال أن تكون لغة إمبراطورية الصين هي اللغة البدائية» (١٦٦٨م). وتمثل الدِّعامة الثانية الرمزية الثنائية في كتاب التحولات أو الآي شينغ I Ching، وهو نص قديم مبني على ملاحظة أولية تفيد أن الخط يمكن إما أن يكون متَّصلًا أو غير متصل، وأن بالإمكان — على هذا الأساس — بناء منظومة رمزية مركبة بغرض أن توفر توجيهًا أخلاقيًّا وعمليًّا. وعرَف ليبنتس كتاب التحولات «الآي شينغ» عن طريق الجيزويت، إذ قدمه له الأب بوفيه الذي كان مثل ليبنتس معنيًّا بدراسة المعاني والدلالات السحرية للأرقام. واكتشف في هذا الكتيب أنه ليس مجرد كتيب في العِرافة، بل مفتاح لفهم جميع المنظومات السحرية، بل الأساس في الحقيقة لعلم عالمي. ومعروف جيدًا أن ليبنتس تصور إمكان عمل منظومة أعداد مزدوجة، وهذه هي المنظومة التي تمثل الآن الأساس لأغلبية عمليات تشغيل الحاسوب (الكمبيوتر). ولكن الشيء الذي لم يكن واضحًا بعامة هو أن هذا الأمر لم يكن بالنسبة إليه مجرد مخطط رياضي، بل جزء من مشروع أكثر طموحًا لبناء علم تفاضل وتكامل عالميين. ورأى كذلك أن مثل هذه اللغة يمكن أن تسهم في تحقيق التوافق، ليس فقط بين الفرق الدينية المتحاربة في أوروبا، بل أيضًا بين أمم آسيا وأوروبا.٢١
ويمكن النظر إلى ليبنتس من نواحٍ كثيرة باعتباره آخر عمالقة مفكري النهضة، وخليفة مارسيللو فيشينو وبيكو ديلا ميراندولا، وذلك في بحثه عن فلسفة كونية أو فلسفة دائمة philosophia perennis. ويبدو أن هذا مصطلح نحته ليبنتس نفسه. وعقد الأمل على أن تستطيع هذه الفلسفة الكونية أن تضم وتؤالف جميع الفلسفات الأخرى وتقودنا على الطريق إلى تحقيق التناغم الكوني بين جميع الأمم. وعلى الرغم من أنه ظل صادقًا وفيًّا لأصوله البروتستانتية، ظن أن بالإمكان، بعد عملية تنقية والحفاظ على كل ما هو صحيح ونفيس في جميع التراثات الفكرية للأمم في العالم، أن نثبت بالبرهان العملي الانسجام الأساسي بين جميع المذاهب الفلسفية في الشرق وفي الغرب، ومن ثَم نضع أسس التوافق الفلسفي. وهكذا نراه في كتابه «مقال عن فلسفة الصين الطبيعية»، يدفع بأن ثمة مفاهيم صينية مثل لي Li (المبدأ الأول)، وشي ch’i (الطاقة الحيوية) يمكن مقارنتها بل ومطابقتها مع مفاهيم فلسفية غربية. ويمكن أن نؤسس على هذه القاعدة اللب المشترك بين المعتقدات الفلسفية. وهنا تتجلى لاهتماماته دلالات عملية مهمة، من بينها تأسيس «جمعية برلين للعلوم» (وأصبح اسمها بعد ذلك أكاديمية بروسيا الملكية للعلوم) في عام ١٧٠٠م. وتصور أن تصبح هذه الجمعية وسيلة لفتح الطريق إلى الصين واكتشافها، والتبادل الحضاري بين الصين وأوروبا (الاقتباس من رايخفين، ١٩٢٥م، ٨١). وأعد خططًا لتأسيس أكاديمية مماثلة في موسكو واكتشاف طريق بري إلى الصين عبر روسيا.
والملاحظ أن الباحثين كثيرًا ما يُغفلون أهمية ليبنتس في الحوار بين الشرق والغرب. ونستطيع أن نطالع باهتمامٍ تعليقات كثيرة حديثة على كتبه دون أن نجد ولو إشارة عابرة إلى أهميته وتأثيره العميق في هذا المجال. والجدير ذكره هنا أن كتاباته في هذا الشأن لم تُترجم إلى الإنجليزية إلا بعد عام ١٩٧٧م. ويقول إن بي جاكوبسون معربًا عن فجيعته لهذا: «ظل ليبنتس المفكر الذي شاءت كتب تاريخ الفلسفة أن تغفله وهو الناقل الرئيسي للأفكار الآسيوية إلى أوروبا في القرن السابع عشر» (١٩٦٩م، ١٥٦). ولكن مع هذا فإن حماسه للصين ترك أثرًا واضحًا في عدد من معاصريه، وأشهر هؤلاء الفيلسوف كريستيان وولف (١٦٧٩–١٧٥٤م) تلميذ ليبنتس، الذي أصبح فيما بعدُ الشارح الرئيسي للتفكير العقلاني في ألمانيا، كما كان له أثره العميق والمهم في كانط. درس وولف الكونفوشية عن كثَب، واستوعب تمامًا تعاليمها الأخلاقية التي حظيت بتقدير بالغ منه. ونراه في محاضرة شهيرة له بجامعة هول عام ١٧٢١م يصرح بأن تعاليم كونفوشيوس الأخلاقية، حتى إن كانت ترتكز على الضوء الطبيعي للعقل دون الوحي، هي ند وكفء للتعاليم الأخلاقية المسيحية. ودفع بأن الكونفوشية بمنزلة دفاع مقنع عن فكرة الأخلاق الطبيعية. وتأسيسًا على هذا نرى أنها تتفق تمامًا مع ما يؤمن به من مقدمات فكرية عقلانية. وأثارت المحاضرة — كما كان متوقعًا — ثائرة زملائه البروتستانت الأصوليين (الأرثوذكس). واستطاع هؤلاء أن يخططوا لفصله من الجامعة وإبعاده من بروسيا. بَيْد أنه عاد أخيرًا إلى منصبه، وحقق له هذا الحادث شهرة واسعة بين علماء أوروبا الذين رأوا في وولف شهيدًا لقضية العقل.٢٢
وتأثير نزعة الاستشراق عند ليبنتس موضع شك. إذ يوضح دافيد مونجيللو أن خططه من أجل المعمورة في شمولها لم تثمر إلا، ربما، مع تأسيس الأمم المتحدة في القرن العشرين (انظر مونجيللو، ١٩٧٧م، ١٣٤). ورأى كذلك أن تعامله الفكري التأويلي «الهرمنيوطيقي» مع كتاب الآي شينغ (التحولات) ارتكز على فهم خاطئ لذلك النص، الذي أبدى اهتمامًا به لم يتجدد ثانية إلا في القرن العشرين. ولكن قضية الفيزيوكراتي فرانسوا كيزناي (١٦٩٤–١٧٧٤م) تقودنا إلى حكم مختلف تمامًا. إذ على الرغم من أنه مفكر أقل أصالة من ليبنتس، تبدو بصمة نظريته الاقتصادية واضحة على العالم الحديث برمته. وجدير بالإشارة أن مصطلح «فيزيوكراتي» يعني حرفيًّا «سيادة قانون الطبيعة». وصدرت نظرية كيزناي عام ١٧٥٨م في كتابه «الجدول الاقتصادي» Tableau Economique، وتنبني على الإيمان بأن ثروة الأمم مصدرها في التحليل النهائي الأرض والزراعة. ومن ثم فإن الاستثمار الكامل لهذه الثروة رهن تحرير المنتجين من قيود السلطة الحاكمة ومن تدخلها بحيث تعمل بحرية القوانين الطبيعية للسوق (كما نقول نحن اليوم). معنى هذا أن السوق شأنها شأن أي شيء آخر في الطبيعة خاضعة للقانون الطبيعي، وأن تحرير أنشطتها من القيود غير الطبيعية والاصطناعية سيؤدي حتمًا ليس فقط إلى تحقيق الثروة بل أيضًا إلى السعادة والتناغم للجميع.
وأدت أفكار كيزناي الثورية إلى التحرر من الأصولية أو الأرثوذكسية الاقتصادية التقليدية السائدة في يومه، والمعروفة باسم الميركانتيلية، التي يمكن وصفها بأنها النظير الاقتصادي للنزعة السياسية المطلقة. ويبدو واضحًا تأثيره العميق على نظريات السوق الحرة عند آدم سميث. بَيْد أن الشيء الذي أسقطته في الغالب الأعم الروايات عن مكانة كيزناي في الفكر الحديث هو دَينه للصين. هذا على خلاف ما كان معروفًا في أيامه، إذ كان الشائع عنه وصفه بأنه «كونفوشيوس الأوروبي». وتحمل الرسالة التي كتبها عن الصين عام ١٧٦٧م العنوان التالي: «نظام الحكم الاستبدادي في الصين». وقد يظن القارئ أنها تتضمن انتقادًا للصين. وحقيقة الأمر أنه لم تكن لتروقه بعض الممارسات السائدة في هذا البلد من مثل العبودية. ولكن يجب ألا يغيب عن الذاكرة أن عبارة نظام الحكم الاستبدادي لم تكن تعني أبدًا رؤية انتقادية في نظر «الفلاسفة». ومن ثم كانوا ينظرون إلى الصين باعتبارها نموذجًا من نوع حكم الفرد المطلق «الأوتوقراطي» الذي كان يؤثره مفكرو التنوير. ويعني هذا الحكم عندهم أنه لا يرتكز على نزوة تعسفية لحاكم فرد بل يخضع لسيادة حكم القانون، وأن محور اهتمام المستبد وشغله الشاغل هو تحقيق السعادة للشعب، وإنجاز التناغم بين جميع مظاهر النشاط الاجتماعي. ورأى كيزناي، شأن الكثيرين جدًّا من معاصريه، أن الصين تمثل مجتمعًا مثاليًّا وهي النموذج الذي يتعين على أوروبا أن تحذو حذوه. وقال في معرض مناقشته للاستبداد في الصين: «خلَصتُ من التقارير المكتوبة عن الصين إلى أن الدستور الصيني مؤسس على قاعدة من القوانين الحكيمة، والتي لا تقبل النقض، ويفرضها الإمبراطور على الشعب ويحرص على الالتزام بها هو نفسه». علاوة على هذا كان كيزناي معجبًا أشد الإعجاب بنظام التعليم الصيني الذي يُعِد الشباب للخدمة العامة عن طريق برامج صارمة للدراسة، ويحقق تقدمه من خلال امتحانات تنافسية، أي مسابقات. ولا غرابة في أن هذا الجانب من الصين استهوى «الفلاسفة» بعامة، ورأوا فيه دليلًا هاديًا إلى نظام حكم على أساس الكفاءة والاستحقاق والتعلم دون الامتيازات والوراثة. وحققت هذه النظرية أثرها فيما بعدُ إذ أدت إلى تطبيق نظام المسابقات والمنافسة عند الالتحاق بوظائف للخدمة المدنية في كل من فرنسا وبريطانيا.٢٣
ولكن استثمار كيزناي لمثال الصين تجاوز كثيرًا حدود مشاعر القبول العامة. إذ إن أهم مصدر استوحى منه رؤيته هو بيير بوافر الذي طاف في الصين طولًا وعرضًا في رحلات واسعة النطاق بين عامي ١٧٤٠ و١٧٥٦م، ورسم صورة وردية عن الصين باعتبارها البلد الأكثر سعادة والأكثر نظامًا وترابطًا في العالم، لأنها مؤسسة على نموذج للنشاط هو الأقرب إلى أسلوب الطبيعة ذاتها في العمل، أي الزراعة. وتدعم الدولة عن وعي هذا المبدأ الأساسي وتعمل على تشجيع الزراعة وتحريرها قدر المستطاع من أعباء اللوائح والقوانين والضرائب. وعبروا عن هذا فلسفيًّا بفكرة تفيد بأن الطبيعة تنزع إلى تحقيق حالة من التناغم والتوازن. وأن هذا لا يتأتى بفرضه قسرًا وكرهًا، بل بالاقتداء بأسلوبها هي — طريقتها أو الطاو الخاص بها its tao.٢٤ لذلك فإن وظيفة الإمبراطور ليست توجيه وإدارة الاقتصاد، بل ضمان احترام طرق الطبيعة. وهذا دور يغلب عليه الطابع الرمزي. وهكذا نرى الإمبراطور مع حلول كل ربيع يستهل موسم الزراعة بأول ضربة فأس وغرس أول بذرة. وهذه ممارسة شرعت فرنسا في محاكاتها في صورة موجزة على يدي لويس الرابع عشر. معنى هذا أن احترام الطبيعة واجب لا لأنها إلهية أو مقدسة أبدًا — فهذه فكرة تستثير نفور «الفلاسفة» — وإنما لأنها منظومة منظمة لذاتها تلقائيًّا، وتنزع من خلال إنفاذ قوانينها إلى إنتاج أفضل غلة للجميع. ويدرك الحاكم الحكيم أن أفضل سياسة، عند مستوى معين من التشغيل والإدارة، هي بمعنًى ما ألا يفعل شيئًا. إنها سياسة يوجزها المفهوم الفلسفي المحوري وو-وي wu-wei،٢٥ وترجمته إلى الفرنسية: دعه يعمل laissez-faire، ويعلق على هذا المؤرخ بازيل غاي بقوله: «يتعين على كل من المشرع والقانون الاعتراف بمبادئ … النظام الطبيعي. وأنهم بهذا يتوافقون مع المثل الأعلى الصيني وو-وي، الذي أوحى إليهم دائمًا بنظرياتهم عن الحكم» (١٩٦٣م، ٣٥٠). وهذا هو أيضًا المبدأ ذاته الذي استوحاه كيزناي، والذي دخل على يدي تلميذه آدم سميث إلى التفكير الاقتصادي الحديث.٢٦

الربوبيون الإنجليز والحدائق

لم يحدث أبدًا أن صادف حماس «الفلاسفة» في فرنسا مشاركة كاملة من جانب نظرائهم البريطانيين. هذا على الرغم من أن بريطانيا، ومنذ مطلع القرن السابع عشر، شهدت ما يؤكد تنامي الاحترام والاهتمام بفلسفة ودستور الصين، ولكن بأسلوب يعبر بهدوء عن كثير من الأفكار كان التعبير عنها في فرنسا صارخًا جهيرًا. وذهب الدبلوماسي وكاتب المقالات سير وليام تمبل إلى أنه «لا نهاية لحصر جميع القرارات الممتازة للصين، التي يبدو أنه تم التخطيط لها بعقل وحكمة، وتجاوزت كل ما نصادفه في أي نظام حكم آخر في العالم». كذلك جون ويب الذي عكف على دراسة اللغة الآدمية التي سبق أن أشرنا إليها يوافق على هذا ويقول: «إذا التزم كل ملك في العالم بمبدأ سياسي ومقتضيات العقل السليم، فإن لنا أن نتجاسر ونقول إنه صيني» (الاقتباس من مارشال وويليامز، ١٩٨٢م، ٢٣). والجدير ذكره أن قناة بحر المانش لم تمثل حاجزًا يحول دون انتقال أفكار بحوث التنوير، ومن ثم تُرجم عدد من المؤلفات الفرنسية إلى اللغة الإنجليزية. نذكر على سبيل المثال كتابًا، اسم صاحبه مجهول، صدر عام ١٦٩١م تحت عنوان «الأخلاق عند كونفوشيوس، الفيلسوف الصيني»، وصدرت في الوقت نفسه تقريبًا الترجمة اللاتينية للكلاسيكيات الصينية «كونفوشيوس الفيلسوف الصيني» Confucius Sinurum Philosophus، وأصبحت متاحة بالإنجليزية. هذا فضلًا على سرديات الرحالة في الشرق من مثل روايات سير وليام شامبرز. وأسهمت هذه الأعمال كلها في تغذية كل من الخيال الشعبي وعقول المفكرين في بريطانيا خلال تلك الفترة.
ولوحظ أن فريق المفكرين البريطانيين الأكثر استجابة لإغراءات الصين هم دون ريب الربوبيون الذين اعتادوا كثيرًا الرجوع إلى الفلسفة الكونفوشية لدعم آرائهم. واستهدفوا بذلك تأكيد أن فئة المثقفين الصينيين يتفقون في الجوهر مع وجهة نظرهم. وحقيقة الأمر، وفق ما قال دافيد هيوم، أن الصينيين كانوا «فريق الربوبيين الوحيد المنظم في العالم» (١٨٩٨م، ١٤٩). ويمكن القول اقتداء بالأفكار التي عبر عنها أولًا الشاعر الفيلسوف لورد هيربرت أوف شيربري (١٥٨٢–١٦٤٨م) أن الربوبيين كانوا يؤمنون بدين طبيعي يرفض سلطة الكنيسة أو الوحي، ولكنه دين قائم على «نور العقل» الفطري لدى كل إنسان. وأكد هيربرت أن بعضًا من المعتقدات الدينية الأساسية القائمة على العقل هي ملكيات كونية للبشرية وتمثل ركنًا أساسيًّا لجميع الأديان المؤسسية، هذا بينما الفوارق الطائفية أو العرقية بشأن المعتقدات ما هي إلا تعديلات أُدخلت على حقائق كونية تأكد صدقها. والجديرة ملاحظته أن مثل هذه الفكرة كانت تُعتبر في أيامها زندقة خالصة. لكن الربوبيين، واتساقًا مع هذه الفكرة، مضوا شوطًا أبعد وأكدوا أن العهد القديم في الكتاب المقدس ليس أبدًا النص الديني الأقدم، ولا هو الكلمة الوحيدة للرب، وإنما هو فقط مصدر من بين مصادر أخرى عديدة للحقيقة الدينية. ومن ثم فإن المسيحية ذاتها ما هي إلا عقيدة دينية من بين عقائد دينية كثيرة تعتمد على السلطة الكلية للعقل البشري. وعمَد بعد ذلك ماثيو تيندال (١٦٥٧–١٧٣٣م)، وهو أكثر الربوبيين البريطانيين علمًا وثقافة، إلى التماس سبيل لدعم هذه الآراء، وذلك بالعمل ثانية على تأكيد حقيقة التعاليم الأخلاقية الكونفوشية التي يرى أنها مكافئة للتعاليم المسيحية. وأكد أنها ترتكز على أسس عقلية دون الوعي. واستحسن فكرة ليبنتس بأن ترسل الصين بعثات تبشيرية إلى أوروبا، بل ومضى إلى ما هو أبعد وأعلن «إنني لا أذهب إلى حد التفكير في أن مأثورات كونفوشيوس ويسوع المسيح مختلفان، إنني أرى أن المأثورات البسيطة والصريحة لكونفوشيوس سوف تساعد على توضيح ما غمُض من أقوال يسوع» (الاقتباس من أبلتون، ١٩٥١م، ٥٠).٢٧
وربما كان أثر الصين في بريطانيا خلال هذه الفترة أوضح في المجالات الثقافية والفنية. وسوف يكون من المفيد أن نلقي نظرة عجلى على الثانية، ليس فقط تقديرًا لذاتها، بل نظرًا إلى روابطها الوثيقة بتاريخ أفكار تلك الفترة. وأصبح ذائعًا داخل الوسط الأوروبي التأثير العميق للتصميمات الفنية الرئيسية الصينية في مجال فن الباروك وفن الروكوكو في هذه الفترة. وذاع كذلك أثرها في أساليب الرسم عند فنانين من أمثال واتو وباوتشر. فضلًا على هذا ساد الحماس «لأساليب الفن الصيني» والقدرة المذهلة على الملاءمة الأوروبية للأساليب الصينية في مجالات الأثاث والأواني والنسجيات. وأصبح هذا رائجًا على جانبي القنال وموثقًا على نحو جيد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ولعل الشيء الذي لم يُكتشف بوضوح هو تأثير الصين في ظهور الوعي الرومانسي في منتصف سنوات القرن الثامن عشر. وحريٌّ أن نشير أولًا إلى تطور فن الرسم بالألوان المائية في أعمال ألكسندر كوزنز وابنه جون، والذي أصبح شكلًا شائعًا للتعبير الفني خلال الفترة الرومانسية وما بعدها. ولقد تأثر هذا الفن بقوة بتقنيات وطرق الرسم الصيني التقليدي، مما شجع على خلق علاقة أكثر مباشرة وتلقائية بين الفنان والعالم الطبيعي. ثانيًا، ولعله الأهم، هو تطور ما اصطُلح على تسميته الحديقة الأنجلو-صينية. وهذا هو التطور الذي ساعد على تحول المواقف بعيدًا عن المثل العليا وعن الشكلية الكلاسيكية وعن الاطراد القياسي الكلاسيكي، وهي أمور سادت وكانت لها الغلبة خلال مرحلة التنوير. واتجهت المواقف نحو حس أكبر بالطبيعة وبالحرية. ويرى ميشيل سوليفان مؤرخ الفن أن صورة الحديقة الصينية التي نقلها إلى أوروبا سير وليام شامبرز، من بين أمور أخرى، أسهمت في استثارة «رد فعل ضد الحدائق الشكلية والهندسية في إيطاليا وفرنسا. وساعدت كذلك على ميلاد الحدائق الطبيعية التي كانت على قدر أكبر من التوافق مع الذوق الإنجليزي. ويعتقد بعض النقاد أن هذا النقل كان له أثره الحاسم في تكوين المواقف الرومانسية تجاه الطبيعة» (انظر لافجوي، ١٩٤٨م). ويرى المؤرخ أدولف رايخفين أن هذا التحوُّل لم يتضمن فقط مجرد ثورة في تصميم الحديقة من حيث هي، بل كان تحوُّلًا عصريًّا من عصر إلى عصر، في المواقف تجاه الطبيعة، والتحول من المواقف المرتبطة بالمثل العليا الأوغسطينية للتماثل الكلاسيكي والنسب الكلاسيكية إلى الرؤية الأكثر تحررًا وخيالية وتلقائية التي ازدهرت خلال الفترة الرومانسية (انظر رايخفين، ١٩٢٥م، ١١٣).٢٨

انحسار الهوس بالصين

على الرغم من ذيوع الحماس للصين على نطاق واسع، لكنه لم يكن عامًّا وشاملًا. وبدأ يواجه حالة من الانحسار الواضح مع نهاية القرن الثامن عشر. إذ «مع هذه الفترة كان الهوس بأساليب الفن الصيني، وبحب الصين، قد أكمل مسيرته وبلغ غايته، ومن ثم فقد تمامًا قوة الدفع نحو المزيد» (دواسون، ١٩٦٧م، ١٣٢). وأسهم إحياء الهيلِّينية عقب حفريات آثار بومبي في منتصف القرن في أفول الهوس بالصين، مثل ما حدث بسبب طرد البعثات التبشيرية المسيحية في الصين عام ١٧٧٠م. ولعل ما هو أهم وأبعد أثرًا، من حيث التباعد وطول الشُّقَّة بين الصين وأوروبا، يتمثل في تنامي الشك في أن الصورة التي روج لها الأوروبيون المحبون للصين عن هذا البلد كانت صورة متضخمة إلى حدٍّ ما، فضلًا على الشك في أن صورة حكمة الصين ومؤسساتها السياسية والاقتصادية، وفلسفتها الأخلاقية، وممارساتها الدينية كانت إلى حدٍّ ما أميل إلى مجاملة الصين على عكس ما تؤكده وتبرر الوقائع (ماكيراس، ١٩٨٩م، ٤١).٢٩
ويمكن أن نسجل وبشكل محدد هذا التحول في العواطف بين «الفلاسفة» خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ونجد هذا واضحًا عند كل من ديدرو وهلفيتيوس، وكلاهما كان يومًا ما من المخلصين في إعجابهم وافتتانهم بالصين، ولكننا نراهما وقد تراجعا عن حماسهما السابق. وها هو ديدرو، الذي وضع الشعب الصيني في الإنسيكلوبيديا عند مرتبة تضارع على الأقل مرتبة الأوروبي في الثقافة والحضارة، إذا به ينظر إلى التقارير التي تتحدث عن الممارسات الأخلاقية والدينية السامية للصينيين على أنها تقارير منحازة وغير علمية. ونراه كذلك يقدم فكرة الهمجي النبيل٣٠Noble Savage، لتكون مثلًا أعلى لكي تحذو أوروبا حذوه. ونلحظ أن هلفيتيوس في كتابه «عن العقل» De L’esprit، يُدين المديح المفرط لنظام الحكم الاستبدادي في الصين ويراه طغيانًا غاشمًا، وقال فريدريتش غريم في عام ١٧٧٦م إن عبادة الصين غلوٌّ وإسراف وذوق رديء، مؤكدًا أيضًا أن الصين نظام استبدادي غير مستنير. وهذا رأي شجعه مونتسكيو، الذي اعتقد أن الدولة الصينية طغيان قائم على الخوف، وأن الحرية السياسية أمر غير معروف في الشرق. بَيْد أن أقوى صوت مناهض لما هو صيني كان من دون شك صوت روسو. ونراه مثل ديدرو يتوق إلى أن يكون المثل الأعلى لأوروبا هو الميل أكثر تجاه الهمجي النبيل. وبدا له أن الصيني ينعم بوجود أكثر اصطناعًا وأبعد عن الطبيعة من حياة مثيله الأوروبي. ويصف الصين في كتابه هيلواز الجديدة Nouvelle Heloise بأنها مجرد مثال آخر لحضارة متحللة، بحيث نقابل بينها وبين الحياة الطبيعية للبدائي. واستطرد ليعلن أنه «ما من خطيئة إلا وهم على وشك الوقوع فيها، وما من جريمة ليست شائعة بينهم» (الاقتباس من رايخفين، ١٩٢٥م، ٩٤). ونذكر أخيرًا كوندرسيه في كتابه الشهير «مخطط عام لصورة تاريخية للعقل البشري» (١٧٩٢م). إذ يرسم معالم صورة تقدم الجنس البشري بدءًا من البربرية وحتى التنوير. ويعرض الصين بكل ما تفتقر إليه من حرية باعتبارها عائقًا للتقدم السياسي والأخلاقي. وهكذا، بينما بدت ثقافة الصين يومًا ثقافة نقية ومثيرة للفكر، إذا بها الآن تأخذ طابع الخمول والبلادة مقابل ما تتحلى به أوروبا، حسبما هو مفترض، من قوة ونزوع إلى التقدم. وتوارى حب الصين ليفسح الطريق لحماسة استشراقية جديدة … إلى الهند.٣١
١  الإمبراطورية الهخامنشية Achaemenid Empire: وتُسمَّى أيضًا الإمبراطورية الفارسية الهخامنشية (٥٥٩–٣٣٠ق.م.). أكبر إمبراطورية عرفها التاريخ القديم، امتدت من آسيا الوسطى وأفغانستان وشمال باكستان والعراق وشمال السعودية وشرق المتوسط ومصر غربًا حتى أجزاء من ليبيا. حققت إنجازات ثقافية واقتصادية مهمة إلى أن هزمها الإسكندر. المؤسس هخامنش (أخَمينيس)، وأشهر الملوك من بعده قُورش وقمبيز الأول. (المترجم)
٢  أورفيوس شاعر وموسيقار أسطوري، والأورفية ديانة أسطورية إغريقية. وديونيسوس إله الخمر والقصف والعربدة وتمجيد الخصوبة في الطبيعة عند الإغريق. وميثراس إله النور عند الفرس. (المترجم)
٣  للاطلاع على بحث عن حلَقات الربط بين الديانات السرية الإغريقية والمعتقدات الهندوسية انظر دانيلو وهوري ١٩٧٩م.
٤  الغنوصية Gnostic: مذهب العرفان، أو العارفية، هي مدرسة عقائدية وفلسفية نشأت حوالَي القرن الأول الميلادي تقول بأن المادة شر، وبأن الخلاص يأتي عن طريق المعرفة الرُّوحية [المحرر].
٥  عن حلَقات الربط المحتملة بين الغنوصية والفكر الديني الهندي، انظر هالبفاس ١٩٨٨م، ١٧، ١٨ – رادها كريشنان ١٩٣٩م، ١٢٦ – تندي ١٩٩٣م – ويلبورن ١٩٩١م.
٦  الفلاسفة كليمنت وأوريجين وأفلوطين فلاسفة مصريون ميلادًا ونشأة وأصولًا، ولكن ينسبهم البعض إلى روما نظرًا إلى حياتهم العلمية في الإسكندرية، أو مدرسة الإسكندر خلال العصر المسمى الهيلِّينستي. (المترجم)
٧  عن العلاقة بين الأفلاطونية الجديدة والفكر الهندي انظر هالبفاس ١٩٨٨م، وهاريس ١٩٨٢م.
٨  الغريفين Griffin: حيوان خرافي نصفه بشر ونصفه أسد. (المترجم)
٩  لمزيد من الدراسات عن اللقاءات الثقافية بين الشرق والغرب في العالمين القديم والوسيط، انظر ألموند ١٩٨٦م، غارب ١٩٥٩م، غروبر وكيرستن ١٩٩٥م، غوينون ١٩٤٥م، هالبفاس ١٩٨٨م، ماكيفيللي ١٩٨٢م، ماكينزي ١٩٢٨م، مارلو ١٩٥٤م، رادها كريشنان ١٩٣٩م، تارن ١٩٢٨م، ليست ١٩٧١م، ويلسون ١٩٦٤.
١٠  لمناقشة القضايا المتعلقة بالتوسع الكوكبي للمصالح الأوروبية والسلطة الأوروبية في هذه الفترة، انظر كيبولا ١٩٦٥م، وليفينسون ١٩٦٧م.
١١  يدفع مونجيللو بأن هدف بعض الجيزويت لم يكن أساسًا التحويل الديني بقدر ما كان تشكيل تركيبة من الكونفوشية والمسيحية (انظر ١٩٧٧م، الفصل السابع).
١٢  للاطلاع على روايات كاملة عن بعثات الجيزويت التبشيرية إلى الصين وعما سُمي سجال الطقوس والشعائر، انظر دون ١٩٦٢م، فور ١٩٩٣م، غيرنيت ١٩٨٧م، ميناميكي ١٩٨٥م، مونجيللو ١٩٨٩م، رونان وأو ١٩٨٨م، ويونغ ١٩٨٣م.
١٣  يرى جاكوبسون ١٩٦٩م أن دافيد هيوم يجب إدراجه ضمن هذه القائمة، نظرًا إلى أن بعضًا من أهم تعاليمه — تلك المتعلقة بالنفس والخبرة والأخلاق — تأثرت على ما يبدو بالفلسفات الشرقية. ونلحظ أن الدليل عنده نوع من القرينة وليس مباشرًا. انظر بيتي ١٩٧١م، كونزي ١٩٦٣م، وهوفمان ١٩٨٠م.
١٤  حري أن نلحظ شيوع هذا التصور خلال فترة عصر التنوير، ونجد ذلك واضحًا على لسان كُتَّاب عديدين مثل غوته وكوندورسيه وفولتير (لويس، ١٩٩٣م، ٩٠). انظر أيضًا رودنسون ١٩٨٨م.
١٥  ظهرت الكونفوشية الجديدة في الصين في عصر أسرة سونغ (٩٦٠–١٢٧٩م)، حيث جمعت بين التعاليم الكونفوشية التقليدية التي تركز أساسًا على التنظيمات السياسية والأخلاقية مع بعض الأفكار عن الكون ونواميسه عند الطاويين والتعاليم الرُّوحية للبوذية.
١٦  عن علاقة مالبرانش بالفكر الصيني انظر مونجيللو ١٩٨٠م.
١٧  مرسوم نانتس Edict of Nantes: قانون أصدره هنري الرابع ملك فرنسا في ١٣ / ٤ / ١٥٩٨م، يمنح الحرية الدينية وكامل الحقوق المدنية للبروتستانت الهوغونوت، وينص على أن تدفع الدولة رواتب للقساوسة، والسماح بالعبادة العامة في فرنسا دون العاصمة باريس، ورفضَه كهنة الكاثوليك. (المترجم)
١٨  عن فولتير والكونفوشية انظر بيلي ١٩٩٢م، وغاي ١٩٦٣م، وسونغ ١٩٨٩م.
١٩  انظر ليبنتس ١٩٩٤م، حيث له مجموعة من الكتابات عن الصين.
٢٠  عن هذه المسألة انظر كوك وروزمونت ١٩٨١م – غير ١٩٩٥م، ٣٢٠ – ليو ١٩٨٢م – مونجيللو ١٩٧٧م، ١٥ – نيدهام ١٩٥٦م، ٢٩١-٢٩٢ و٤٩٦–٥٠٥.
٢١  عن ليبنتس والرياضيات الثنائية والآي شنغ، انظر مونجيللو ١٩٧٧م، ونيدهام ١٩٥٦م، ٣٤٠–٣٤٥، وانظر أيضًا روي ١٩٧٢م.
٢٢  للاطلاع على مزيد من التفاصيل في هذا الشأن، انظر لاش ١٩٥٣م.
٢٣  لمناقشة تأثير نظام الامتحان الصيني على الحوارات السياسية الأوروبية، انظر ليبنتس ١٩٦٨م، وتِنغ ١٩٤٣م.
٢٤  الطاو Tao تعني في اللغة الصينية الطريق أو النهج، ومنها الطاويَّة، وهي مذهب الحكيم الصيني لاوتسو في القرن السادس ق.م. (المترجم)
٢٥  وو-وي wu-wei: عقيدة طاوية تتضمن معرفة متى يعمل المرء ومتى يمسك عن العمل. ويمكن ترجمة «وو» إلى «لا يملك»، و«لا يحق»، «وي» إلى افعل، تصرف، اخدم على نحو كذا، أو احكم. والمعنى الحرفي «بلا عمل مجهد أو مرهق». والهدف تحقيق حالة من التوازن الكامل أو الاتساق مع الطاو، والنتيجة الوصول إلى صورة غير قابلة للمقاومة من السلطة الناعمة غير المنظورة فوق الموجودات (النفس والآخرين والبلد). (المترجم)
٢٦  للاطلاع على رواية عن الفيزيوكرات واهتمامهم بالصين، انظر غاي ١٩٦٣م، ٣٤١–٣٥٩.
٢٧  للاطلاع على مناقشة أكثر خصوبة عن العلاقة بين الربوبية والاستشراق، انظر هالبفاس ١٩٨٨م، الفصل ٤. انظر أيضًا ليتس ١٩٦٨م.
٢٨  انظر أيضًا ألين ١٩٥٨م. وللاطلاع على مناقشة الخلاف بشأن مدى تأثير الصين على تصميم الحدائق الإنجليزي، انظر سيرين، ١٩٩٠م، ٨٠–٨٣.
٢٩  مع هذا فإن كتاب جوزيف نيدهام الأخير وكتابات آخرين تفيد أن تقديرات الثناء للحضارة الصينية كانت من نواحٍ معينة أقرب إلى الحقيقة على خلاف الآراء السلبية التي شاعت خلال القرن ١٩، وأن الصين كانت بالفعل من نواحٍ كثيرة متفوقة على الحضارة الأوروبية أثناء فترة التنوير.
٣٠  الهمجي النبيل Noble Savage: وتعني الإنسان ابن الطبيعة، الذي يعيش وفقًا لقوانينها الطبيعية ويفكر ويعمل وفقًا للعقل الطبيعي، ويعرف الرب والخلق تأسيسًا على دين طبيعي أي الفطرة، ويكون بعيدًا عن كل مظاهر الانحياز العقيدي للحياة والفكر في العصر الحديث. وكان الرأي في عصر التنوير أن هذا هو الإنسان الذي يتعين أن تنشده أوروبا. (المترجم)
٣١  للاطلاع على مزيد من التفاصيل عن الهوس بالصين خلال مرحلة التنوير، انظر أبلتون ١٩٥١م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤