الفصل السادس

لقاء الشرق-الغرب في القرن العشرين

«بينما حاول مفكرون من مجالات بحث متعددة وخلفيات ثقافية كثيرة، خلال فترة باكرة من القرن، الاستعانة بالأفكار الشرقية لمواجهة قضايا العصر الكبرى من مثل الصراع الدولي والتحلل الرُّوحي، إذا بخطاب الاستشراق في مرحلة تالية يوضع هو نفسه موضع الفحص والتدقيق.»

المؤلف

أوجز روبرت موسيل، في روايته الرائعة التي لم تكتمل «الإنسان العاطل من الصفات المميزة»، الرُّوح الثائرة التي تجلَّت واضحة مع مطلع القرن، ووصفها بأنها أشبه «بالحمى التي تتقد نارًا»، والتي انفجرت في أوروبا. إنها وباء ثقافي حقيقي «بحيث لا أحد يعرف على وجه الدقة والتحديد ماذا في الطريق. ولم يكن في مقدور أحد أن يقول ما إذا كان هذا فنًّا جديدًا، أو إنسانًا جديدًا، أو أخلاقًا جديدة، أو ربما إعادة ترتيب مشوشة للمجتمع» (١٩٥٣م، ٦٥). وواضح أن التطورات داخل الاستشراق التي سردناها مع نهاية الفصل الأخير تستبق بجلاء هذا المزاج الشكي والتغير والتجديد. ومن ثم فإن هدفنا في هذا الفصل هو تحديد معالم الطريق الذي مضت عبره القضايا والأفكار الرئيسية التي وَضَحَت على مدى القرون الماضية خلال لقاء الشرق والغرب، وكيف وصل هذا إلى درجة جديدة من الشدة خلال القرن العشرين. ونهدف كذلك إلى تحديد مواضع هذه القضايا والأفكار داخل جماع البنية متعددة النغمات للحياة الثقافية خلال هذه الفترة. لهذا فإن الفصول الباقية من هذا القسم من الكتاب سوف تدرس بتفصيل وتدقيق أكثر كيف تجلَّت هذه التحولات في أربعة مجالات من النشاط الفكري.

«الحمى الموقدة» التي أصابت القرن

ثمة عدد من العوامل تساعدنا على تفسير «الحمى الموقدة نارًا» التي حدَّثَنا عنها موسيل. يمكن القول بمعنى عام إن نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين شهدا إحساسًا متزايدًا بالتحرر من أوهام معتقدات خاطئة سادت بين الأوروبيين الذين تثقفوا على المثل العليا العقلانية للتنوير والإيمان الفيكتوري بالتقدم. واقترن هذا بوقوعهم أسرى أفكار عن التحلل والانحطاط، وكذا الرغبة في استكشاف بحار فكر جديدة وغريبة. واصطلحت عوامل كثيرة على خلق مزاج السخط إزاء ما تهيئه الحضارة الغربية من راحة ووعود. ونذكر من هذه العوامل سرعة التقدم ذاتها، والتحول السريع من التكوينات الاجتماعية والاقتصادية إلى التكوينات الحديثة، ونشوء فلسفات مادية تستلهم العلم، والتراخي المطرد لقبضة المعتقدات والطقوس الدينية القديمة. وطبيعي أن شجعت هذه العوامل أيضًا على البحث عن بدائل أكثر إشباعًا ودلالة هادفة.

وكانت هذه الفترة، كما تصوَّرها موسيل، فترة مكابدة فكرية تدور حول طائفة من الأفكار والحوارات من بينها حركات من مثل الوضعية والتحليل النفسي، وقضايا من مثل الداروينية الاجتماعية وتحسين النسل ونظريات فنية وأدبية مقترنة بالرمزية والتعبيرية، ومجموعة متباينة من المعتقدات تتراوح ما بين التُّولِستُوية والفاغْنَرية وحتى الوثنية الجديدة، ومعتقدات الإيمان بالقوى الخارقة التي يسخرها الإنسان. وارتفع مع مطلع القرن صوت قوي مؤثر هو صوت فريدريتش نيتشه الذي أسهم يقينًا في صياغة عملية التحرر من الوهم المتزايد إزاء المُثل العليا الغربية الرسمية. ولم تكن هذه المثل العليا خاصة بالمسيحية فقط، بل وبكل مهام التنوير في شأن التقدم والعقلانية العلمية. واستلزمت عملية التحرر من الوهم هذه أيضًا تشجيع الدافع نحو استكشاف قيم جديدة ونظرات إلى العالم جديدة. ولنا في إطار هذا السياق العام أن ننظر إلى الاستشراق باعتباره إحدى الاستجابات التفاعلية الكثيرة مع القوى الثقافية القلقة التي تمثل مَعلمًا مميزًا لبداية هذا القرن المضطرب. واشتمل هذا العصر على الكثير من الهموم الثقافية والفكرية التي تحتل أعمق الأعماق. ونذكر من بينها: العنصرية، والقومية، والعلم بعد نيوتن، والتحليل النفسي، ونزعة الحفاظ على البيئة، والنسوية. ويمكن تتبع تاريخ هذه القضايا جميعها أو الرجوع بها إلى هذه الفترة المؤسِّسة، وكيف أن جميعها بطريقة أو بأخرى شكَّلت تداعيات مرتبطة بالاستشراق وتمثل تحديًا جديدًا. وسوف يتضح لنا كيف أن هذه العلاقات كانت كثيرًا مثمرة وشجعت على الارتباط الخلاق للفكر الشرقي بمجالات عديدة مثل الفلسفة وعلم الإلهيات وعلم النفس. ونجد من ناحية أخرى أن هذه التداعيات، وبخاصة ما يرتبط منها بنزعة الإيمان بالقوى الخارقة وتعامل الإنسان معها، وكذا التيارات الخفية الغامضة للفاشية، كل هذا أثبت أنه دون مستوى التنوير، بل وكثيرًا ما أسهم فيما بدا أحيانًا قصورًا سلبيًّا للاستشراق خلال هذا القرن.

ويلاحَظ أن هذه القوى الثقافية القلقة اكتسبت قوة الفعل من إعصار حقيقي انطلق خلال هذا القرن. ودفعت في الفصل الثاني من هذا الكتاب بأن العالم الحديث كله عاش تحولات ثقافية واجتماعية وفكرية تولَّد عنها إحساس عميق بفقدان اليقين وإحساس بالقلق. وهذا هو ما عبَّر عنه البعض بمصطلح مثل «الأنوميا» Anomia، أي تشوش القيم والفكر، أو مصطلح الاغتراب و«العقل الشريد» الذي لا وطن له. وأفضى هذا كله إلى نتيجة رئيسية وهي الشك في المعتقدات والقيم التقليدية والقول بنسبية كل الآراء والنظرات عن العالم. واكتسبت هذه العوامل أهمية ودلالة أوسع نطاقًا وأكثر حدة خلال القرن العشرين الذي شهد كثرة من المذاهب العقائدية. وهنا تجلت مخاطر وصراعات مقترنة بعملية الاختيار. وأضحت هذه قضية ذات أهمية أساسية في الحوارات الثقافية والفكرية. واضطررنا خلال هذا القرن إلى التصدي ليس فقط لما تجلَّى من تحوُّل وتعدُّد في الثقافات والمؤسسات — وإن كان في الوقت نفسه وضعًا مثيرًا للفكر وحافزًا للإلهام — ولكن التصدي أيضًا لحالة غير مسبوقة من التمزق والتفكك أصابت طرق التفكير التقليدية في شأن العالم والقيم فضلًا على موضوعات أخرى ذات أهمية قصوى. وأهم ما عاناه القرن هو الانهيار الجمعي للسلطة المرجعية الرُّوحية وأزمة الاعتقاد الديني. وإذ كان هذا قد عبَّر عن نضج العوامل التي نبتت بذرتها الأولى في الغرب منذ التنوير، إلا أنها أفضت إلى نتائج ثقافية غير مسبوقة شهدتها الأيام القريبة. مثال ذلك التأثيرات العلمانية التي جسَّدها نيتشه في وصفه الموجز والمعبر بقوله «موت الرب»، وكان لها أثَرَاها التحريري والانعتاقي من نواحٍ كثيرة. ولكنها أدت أيضًا في الوقت نفسه إلى وهَنٍ مفاجئ أصاب الإطار الداعم للتراث المسيحي الذي خلف إحساسًا عميقًا بالضياع والحيرة.

إن هذه المواجهة القلقة المضطربة، فضلًا على ما سمحت به من تحلل من تقاليد الغرب، هيَّأت الفرصة، بل شجعت على المزيد من الاستكشاف — وقد يقول البعض: المزيد من الاستثمار — في مجال الفلسفات الشرقية. وسادت نظرة تفيد بأن رؤى الغرب الخاصة عن العالم أضحت غير فاعلة ولا مجدية. وأدى هذا الموقف إلى بحث استثنائي في الشرق وفي غيره عن بدائل أكثر مصداقية. ولكن بينما كان تلاقي الشرق والغرب في القرون السابقة محصورًا في نطاق أمور فكرية قليلة نسبيًّا، فإننا مع مستهل القرن العشرين أصبح في وسعنا مشاهدة آثار هذا التلاقي تتزايد وتتضخم باطراد وتتناول نطاقًا أوسع كثيرًا من الجهود الثقافية والفكرية ابتداء من قضايا بحث دينية عامة وحتى البحوث الأكاديمية.

ولكن يتعين أن ننظر إلى هذا التورط المتشعب مع الشرق في ضوء خلفية التوسع الاستعماري للقوى الأوروبية. إن المصالح الفرنسية والبريطانية استقرت تمامًا في آسيا خلال القرن التاسع عشر. ولكن التأثير الثقافي الكامل لهذه التطورات على العقل الأوروبي يتجلى أكثر ما يتجلى وضوحًا في القرن العشرين، سواء في سياق النمو والاندماج السريع لهذه المصالح والاهتمامات خلال النصف الأول من القرن، ثم انهيارها وتفككها خلال النصف الثاني. ويمثل هذا جزئيًّا تجسيدًا لعملية نمو الاتصالات التي جاءت نتيجة مترتبة على جهود التوسع الاستعماري الذي لم يشجع فقط على المزيد من تورُّط الشعوب الأوروبية مع معتقدات وممارسات ثقافات بعيدة عنهم، بل سهَّلت أيضًا استكشافات الباحثين والمفكرين. وإذا تأملنا ما حدث على مستوًى أعمق نجد أنه أسهم في تأصيل الحس بالشرق من حيث هو الآخر المقابل وبالفارق الثقافي المميز له عن الغرب. وأوحى هذا الفارق بمواقف مقابلة تنطوي على شعور بالازدراء والإجلال، مما أكد للبعض مشاعر التفوق الأصيل للحضارة الغربية، وأكد لدى آخرين الحاجة إلى أن نستمد من التقاليد والتراثات القديمة الشرقية خصائص يفتقر إليها الغرب بوضوح. ونجد من ناحية أخرى أن العامل الاستعماري أسهم في توليد شعور بالقلق المصبوغ بالشعور بالذنب تجاه الشرق. وشجع هذا على توليد استجابات فكرية متباينة تتراوح ما بين تأملات نظرية شاملة في شأن فلسفة كونية أو دين عالمي، بل كانت حتى أبسط المقترحات وأكثرها تواضعًا تدعو إلى تشجيع الحوار التأويلي (الهرمنيوطيقي). ولكن نلحظ في أي من الحالتين أن فلسفات الشرق التقليدية انجذبت أكثر فأكثر على طريق التفاعل مع التراثات الفكرية الغربية وأسهمت في إثارة وتضخيم سلسلة من القضايا السجالية في عديد من المجالات المتباينة.

أمواج جديدة تتدافع من الشرق

إذن، تؤلِّف التحولات السياسية والاجتماعية في القرن العشرين سياقًا مهمًّا نفهم في إطاره النمو الوافر الخصيب على نحو فريد للمشروع الاستشراقي خلال تلك الفترة. بَيْد أنه، مع هذا، في وسعنا أن نتبين من نواحٍ كثيرة مظاهر اتصال بالحقبة السابقة والطرق التي تم من خلالها إنجاز الاهتمامات والمواقف التي تميزت بها القرون السابقة على مدى فترات أحدث عهدًا. إن الاهتمام بالبوذية الذي ازدهر أول ما ازدهر في منتصف القرن التاسع عشر اكتمل نضجه وبلغ غايته في أيامنا نحن. وإن بوذية ثيرافادا التي استهوت كثيرًا النوازع العقلانية والإنسانية للقرن التاسع عشر على ضفتي المحيط الأطلسي استمرت لتقدم كلًّا من الدرب الرُّوحي والحافز الفكري للكثيرين الذين رفضوا الجوانب الترانسندنتالية للتعاليم المسيحية. ولعل الشيء المهم في هذا الصدد هو تأسيس الجمعيات البوذية في ألمانيا وإنجلترا في عامي ١٩٠٣ و١٩٠٦م على التوالي. وساعدت هنا وهناك على رواج الأفكار والممارسات البوذية حتى وإن جاء ذلك في هدوء وصمت.١ كذلك فإن الفكر والثقافة الصينيين، اللذين طال إغفالهما، بل احتقارهما، استعادا بعد أفولهما خلال العصر الرومانسي، بعضًا من جاذبيتهما الشعبية عن طريق سلسلة من ترجمات الشعر الصيني التي نهض بها آرثر والي (١٨٨٩–١٩٦٦م). ولقد كان لهذا الشاعر أثره العميق في الشعراء المحدثين من أمثال ييتس وإزرا باوند، وأصبح من جديد موضوع اهتمام من جانب باحثي وفلاسفة الغرب. واكتسبت الهندوسية، خصوصًا صورتها في فيدانتا، طعمًا واهتمامًا جديدين وحققت شعبية واسعة خلال القرن العشرين تجاوزت كثيرًا ما حققته في العصر الرومانسي. واستهلَّ عملية الإحياء هذه النشاط التبشيري الذي قام به سوامي فيفكاناندا (١٨٦٢–١٩٠٢م) الذي تميز بأثره القوي في أيامه، واستمر تأثيره بعد ذلك خلال القرن العشرين من خلال جمعية الفيدانتا التي أسسها عام ١٨٩٤م بعد برلمان الأديان العالمي.
ولكن فضلًا على مظاهر الاتصال هذه، فإن نطاق أفكار وفلسفات الشرق التي سعى الغرب للتفاعل معها اتسع كثيرًا جدًّا خلال هذا القرن. وأوضح مثال هنا بزوغ المدارس الشمالية البوذية الماهايانا داخل الوغي الغربي. ونعرف أن هذه المدارس صادفت رفضًا خلال القرن التاسع عشر باعتبارها صورًا متحللة وفاسدة للبوذية الأصيلة. وهنا نجد الدور الحاسم في هذا الشأن يرجع إلى جهود الباحثين من مثل لويس دو لا فاليه بوسان وإتيين لاموت. والجدير ذكره أن بوذية زِن، من بين مدارس الماهايانا كان لها أكبر الأثر على الغرب. ونعرف أن الزِّن ظهرت في الغرب وقت انعقاد برلمان الأديان العالمي، بل وقبيل ذلك، وقتما زار اليابان الباحثان الأمريكيان إرنست فينولوسا ولافكاديو هيرن. وعقد الباحثان مقارنات بينهما وبين ثقافة الغرب. ولكن خلال فترة ما بين الحربين أسهمت كتابات دي تي سوزوكي في إيقاظ العقل الغربي وتنبيهه على عالم الزِّن الغريب والساخر. وعقب هزيمة اليابان عام ١٩٤٥م وخفض الحواجز الثقافية بين اليابان والغرب، حققت كتابات سوزوكي أوسع انتشار لها ولقيت حفاوة بالغة بين صفوف الشعوب في أوروبا وأمريكا، وخلال فترة ما بعد الحرب، خصوصًا في أثناء فترة التوهج الثقافي المقترنة بحركات البيتس والهيبيز التي انبثقت في الغرب رغبة في التحرر الثقافي والإشباع الرُّوحي. وأحس كثيرون بهذه الرغبة التي عجزت عن الوفاء بها المؤسسات العقيدية والتراثية الرسمية. ومن ثم لا غرابة أن تجد الزِّن في الغرب أرضًا خِصبة تترسخ فيها بكل ما تتصف به من نقاء جمالي ورُوحانية بعيدة عن الجمود العقائدي، فضلًا عن وعدها بالتنوير الفوري.٢ ولعل ما يثير الدهشة أكثر ما حققته بوذية التِّبِت من جاذبية تنامت بسرعة كبيرة حتى اكتسبت شهرة واسعة في الغرب نتيجة ضم التبت إلى الصين ونفي الدلاي لاما وكثيرين من أتباعه الرهبان. والجدير ذكره أن تعاليم وممارسات مدارس بوذية التبت، وهي أكثر تنوعًا وغرابة من نظيرتها اليابانية، وجدت تربة خِصبة في الغرب، كما أن استبصاراتها السيكولوجية أذهلت الباحثين الغربيين لما تتحلى به من مستوى رُوحي وفكري متقدم على نحو مثير. وعلى الرغم من أن بوذية التبت صادفت في الفترة السابقة احتقارًا لاعتبارها انحرافًا فاسدًا عن تعاليم بوذا الأصلية، إلا إن المفكرين الغربيين شرعوا في الاهتمام بها والأخذ بها على نحو جادٍّ. ويقول في هذا الصدد بيتر بيشوب: لقد كانت لها فعالية إيجابية في ميلاد الفيزياء الجديدة والعلاج النفسي التأملي القائم على التفاعل الاجتماعي transpersonal psychotherapy، وكذلك سيكولوجيا أعماق النفس؛ أي اللاشعور Depth psychology.٣
وربما تمثل الطاويَّة الصينية آخر موجة كبرى من موجات فلسفة الشرق التي غمرت العقل الغربي. وعلى الرغم من أن الطاويَّة معروفة منذ أن ذهب الجيزويت لأول مرة إلى الصين، إلا إنها صادفت وبشكل منتظم رفضًا في عصر التنوير باعتبارها خرافة شعبية وتحتوي على النَّزْر اليسير الذي يفيد في بناء عقل العالم الغربي الحديث. ولكن عقب الترجمات الأولى لكل من جيمس ليج وفي إم ألكسيف، واهتمام البعض من أمثال سي جي يونغ وألان واتس، بدأت خلال العقود الأخيرة تبرز من وراء الظلِّ لتؤدي دورًا مهمًّا في تكوين مفاهيم جديدة جذريًّا عن العقل والطبيعة. وحري أن نذكر هنا كلمات مارتن بالمر إذ يقول: «استخدم المفكرون مصطلح الطاو لوصف وتبرير مجموعة واسعة وشديدة التنوع من المواقف والأفكار البديلة بدءًا من الكتب ذائعة الصيت «طاو الفيزياء»، وحتى طاو تكنولوجيا الكومبيوتر (فضلًا على طاو البوه the Tao of Pooh).٤ ويستطرد ليزعم أن الطاويَّة بأسلوبها الذي ينطوي على التحدي وإثارة القلق لديها الكثير جدًّا لتقوله لثقافتنا عن النزعة الفردية وعن السلطة وعن التفكير الإثنيني، وعن المادية (١٩٩م، ١٢٧-١٢٨).٥
ويتعين أن نذكر أيضًا أن الاهتمام باليوغا التانترية٦ استهوى كثيرين في السنوات الأخيرة، إذ رأوا فيه سبيلًا إلى الشفاء النفسي. ويمثل مدرسة لا تبدي اهتمامًا كبيرًا بالتأملات الميتافيزيقية، لكنها تقدم نهجًا للتحول الشخصي على نحو يشمل البعدين البدني والرُّوحي على السواء. وطبيعي أن استخدام العلاقة الجنسية وسيلة للاستنارة الرُّوحية كان أحد أسباب ذيوعها وشعبيتها. ولكن فضلًا على هذا تركز تعاليم التانترا على تكامل الرُّوح والجسد، ولهذا استهوت ثقافةً عفَّت دياناتها المحلية عن أن تهيئ مكانة ملائمة دائمًا للأبعاد البدنية والعاطفية للوجود الإنساني.٧

والشيء الجديد أيضًا أسلوب نقل الأفكار من الشرق إلى الغرب. كان الاستشراق في سنواته الباكرة مسألة نصوص ومتون في الأساس، وبنى الغرب صورة الشرق وأفكاره من خلال، وفي ضوء، النصوص الشرقية المختارة والمرسلة إلى الغرب، وقام بترجمتها وتفسيرها أجيال من الباحثين العلماء والفلاسفة والمفكرين من كل حدَب وصوب. ومن ثم كانوا في الغالب الأعم بعيدين عن السياق الأصلي للنص، وبعيدين عن الخبرة المباشرة للممارسة الحياتية للأديان الشرقية، وعن دعاتها وشارحيها المعاصرين. وطبيعي أن كان هناك غربيون من مثل ريتشي ودوبيرون وجونز وأرنولد الذين قاموا برحلات في اتجاه الشرق، وتهيأت لهم معرفة مباشرة بالثقافات الآسيوية. ولكن عدد أمثال هؤلاء ظل قليلًا جدًّا حتى القرن العشرين، إذ إن القليلين من الباحثين الدينيين والعلماء هم الذين قصدوا الشرق تحديدًا بهدف تحصيل معرفة مباشرة، أو حتى قصد الاستنارة في ذاتها. ويلاحَظ أنهم اتخذوا لأنفسهم عادة أسماء شرقية من مثل سوامي غوفيندا وأجان سوميدهو وسانغاراكشيتا وعادوا إلى بلادهم معلمين يقدمون ممارسات الحكمة الشرقية، وكذا نصوصًا ومعلومات إلى الغرب. ونجد على القدر نفسه من الأهمية عددًا من المفكرين الشرقيين المتميزين، من بينهم فيفكاناند وسوزوكي وطاغور وأوربيندو ورادها كريشنان وترونغبا، الذين أحاطوا إحاطة جيدة بالتراث الفكري الغربي وانخرطوا بنشاط وفعالية ضمن المشروع الاستشراقي وروجوا للأفكار الشرقية سواء على الوسط الأكاديمي أو الشعبي. ونلحظ أنهم كثيرًا ما عمَدوا بذكاء وفطنة إلى تحويل تعاليمهم في أثناء هذه العملية. ويرتبط هذا بالتنامي الأُسِّي السريع لهجرة الآسيويين إلى الغرب. ويعني مثل هذا العامل، ليس فقط كثرة مراكز الحياة الثقافية الشرقية داخل الغرب، بل يعني أيضًا تفاعلًا ثقافيًّا مباشرًا، مما أثار مزيجًا من الاهتمام والسجال والنزاع. وإن أهمية هذه العوامل من وجهة نظرنا تكمن في واقع أن الاستشراق خلال القرن العشرين أصبح أكثر فأكثر مسألة تفاعل معقد بين الثقافات، كما أصبح يتضمن مجموعة متنوعة ومتداخلة من الخطط وجداول الأعمال والاهتمامات الأيديولوجية. وهكذا لم يعد مجرد إسقاط من بُعد من ثقافة على ثقافة أخرى. فضلًا على هذا فإن كلًّا من هذين العاملين، مع ارتباطهما بالتعقد المطرد في مناهج البحث العلمي، أديا إلى الحد من بعض التبسيطات المخلة على لسان المستشرقين الأوائل، كأن يكون الحديث إجمالًا عن الهندوسية و«البوذية» و«الشرق». وشجع هذا التحول على الاهتمام أكثر بطبيعة التعقد في السياق التاريخي، والنظر بجدية إلى تاريخانية فهمنا نحن، وكذا الكشف عن التشوهات الأيديولوجية.

السياقات الثقافية

لنحاول أن ندرس الآن بتفصيل أكثر بعض القوى الثقافية التي أسهمت في تنشيط هذه الموجات الجديدة. ظهر مع مطلع القرن عددٌ من الحركات التي شرعت في الاستجابة إلى العوامل التاريخية التي فرغنا توًّا من تحديد معالمها بوسائل هيَّأت إمكان انتشار الاستشراق خلال العقود التالية. وفرغنا توًّا من الإشارة إلى بعضها: التوسع السريع للجمعية الثيوصوفية؛ رواج جهود أرنولد وكاروس؛ أثر مؤتمر الأديان العالمي؛ الجهود التبشيرية لفيفكاناندا؛ تأسيس جمعيات بوذية في أوروبا خلال العقد الأول من هذا القرن. ولقد أسهمت هذه العوامل جميعها في تشجيع الارتباط بالتعاليم الشرقية على نطاق أوسع. واقترنت هذه العوامل المؤسسية بانفجار الاتصالات عن طريق الكلمة المطبوعة. إذ نلحظ في ختام القرن التاسع عشر الزيادة المطردة في رواج ترجمات المتون الشرقية في الغرب. ومع مرور السنين أصبحت من أكثر الكتب مبيعًا كتبٌ مثل الآي شينغ (التحولات) وكتاب الموتى للتِّبِت. وبلغ الأمر ببعضها أن احتلت مكانة كتب العقائد. وراجت كذلك كتابات عن فلسفات وديانات الشرق سواء في شكلها الشعبي أو الأكاديمي. وتأكد انتعاش السوق بمثل هذه الكتب بفضل وجود أعداد متزايدة من الناشرين المتخصصين في هذا المجال. فضلًا على هذا نجد خلال العقود الأخيرة جماعات ومنظمات كرست نفسها لدراسة وممارسة الممارسات الشرقية ابتداء من اليوغا والتاي تشي شوان، وحتى التأمل الترانسندنتالي وعقيدة هاري كريشنا،٨ وهي ممارسات كثرت وازدهرت على نطاق واسع.
والجدير ذكره أن أحد التجلِّيات الثقافية الأقدم للاستشراق اقترن بالتطورات الأدبية باسم الطليعة gards-avant في مطلع القرن العشرين. ولا ريب في أن الدراسة الوافية لمكانة الاستشراق في الأدب الغربي الحديث عامة، ولعلاقته بالاستعمار الغربي خصوصًا، إنما تحتاج إلى دراسة خاصة مستقلة.٩ ولكن أثر الأفكار الشرقية في تشكيل ما سُمي بالحركات الحديثة في مطلع القرن — سواء في الفنون البصرية أو الأدبية — يلزم تناوله مع قدر من المناقشة، خصوصًا من حيث علاقته بما سُمي «الحمى الموقدة» للتغير وعدم اليقين، التي سادت أوروبا خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى، مع بيان كيف استبقت أفكارًا وموضوعات رئيسية قُدِّر لها أن تتطور على مدى القرن. وبدا طبيعيًّا أن تشيع في الأدب الشعبي الحديث صور وموضوعات شرقية. ولكن حين يقتضي الموقف اتخاذ الشرق مجرد مِشجب نعلق عليه التخييلات الغربية؛ فإننا نجد بعض مؤسسي الحركة الحديثة يتعاملون مع الشرق باعتباره منهلًا ينهلون منه ما هو أكثر من مجرد عبارات مجازية غربية أو حبكات روائية رومانسية. ويقول في هذا جاومنغ قيان: «كان الاستشراق عنصرًا بنائيًّا للحداثة (المودرنزم) في العَقدين الأول والثاني من القرن العشرين» (١٩٩٥م، ٥)، ذلك لأنه هيَّأ الفرصة لكي يجد الإحساس بالأزمة الثقافية العميقة وفقدان الإيمان بفكرة الغرب عن التقدم عن طريق العقلانية العلمية فرصة للتعبير وتحديد الموضوع، وبيان الحاجة إلى أساليب جديدة للتصور. وحري أن نشير إلى أن نزعة المودرنزم في الأدب والفن ومن حيث هي استجابة إزاء الأزمة الثقافية في مطلع القرن إنما تعني في جوهرها الحاجة إلى وعي جديد منقى؛ وعي يمكن أن يحل محل أذواق ومواضعات العصر الفيكتوري التي أضحت ممجوجة ولا ثقة بها، ومن ثم يتعين إبدالها بموقف تقدمي متطهر رُوحيًّا. وهنا نجد أن موضوع الأزمة الرُّوحية والحاجة إلى تجديد ثقافي، وهو الموضوع المستوحى جزئيًّا من الأفكار الشرقية، أصبح واضحًا أولًا وسط جماعة الكتَّاب المرتبطين بالنهضة الأدبية الأيرلندية خلال تلك الفترة، وكذا مع كتَّاب من أمثال دبليو بي ييتس وجورج راسل (المشهور باسمه المستعار إيه إي)، وجورج مور. ويتجلى حماس راسل للشرق واضحًا بما فيه الكفاية في ملاحظة له عن أعمال غوته ووردزورث وإميرسون وثورو، إذ يقول: «إننا نجد كل ما قالوه وأكثر كثيرًا في كتب الشرق المقدسة العظيمة … التي تحتوي على هذا الفيض من الحكمة الإلهية والتي جمعت فأوعت» (الاقتباس من رادها كريشنان، ١٩٣٩م، ٢٥٠). ويقول أيضًا في رواية له بعنوان كتاب كيريت The Book of Kerith: يمثل جورج مور المسيح وكأنه يبسط تعاليمه بكلمات صريحة من الفيدانتا.
ولكننا نجد الموضوع الاستشراقي الأساسي حاضرًا في أكثر صوره اتساقًا في عمل من أعمال ييتس (١٨٦٥–١٩٣٩م) الذي وصفه تي إس إليوت بأنه «أعظم شعراء العصر»، وله بيت شعر مشهور «الأشياء تتناثر والمركز عاجز عن الصمود». ويوجز هذا البيت الحس السائد عن أزمة العصر الثقافية قبيل الحرب العالمية الأولى. وتجلت عند ييتس، شأن إميرسون من قبله، اهتمامات بالفلسفة الشرقية. لكن النقاد تحفظوا إزاءها فضلًا على أنها توارت وراء انغماسه في التراث الأفلاطوني الحديث. ولكن يبدو واضحًا أنه واسع الاطلاع على الديانات الشرقية وأن معرفته هذه كان لها أثرها المهم في كتاباته. ويمكن وصف ييتس بأنه حالم له استبصاراته التي يرفضها عصر العلم، أي ترفضها تجريبية لوك والفلسفات المادية السائدة. ولذا نراه على العكس منجذبًا إلى الصوفية الشعرية عند سويدينبورغ وبليك، وكذا إلى الأفلاطونية المحدثة التي تكمن وراء هذه الشخصيات. وانضم في عام ١٨٨٧م إلى الجمعية الثيوصوفية في لندن عقب تأسسها بوقت قصير. واطلع من خلالها على تعاليم أدفَيتا فيدانتا١٠ عن النفس، التي تفيد أن كل امرئ ما هو إلا تجلٍّ للنفس العليا المتطابقة مع براهمان. وضاق ييتس ذرعًا بالبقاء أسير النظرة الإثنينية المهيمنة على الفكر الغربي، خصوصًا كما تجلت في تصورها للرب باعتباره الآخر المتسلط البعيد. ولكنه وجد في الأوبانيشاد، التي أصر على ترجمتها إلى الإنجليزية، سبيلًا قديمًا للتعبير عن أعمق قناعاته فيما يتعلق بالحقيقة الواقعة بأوسع معانيها التي هي أولًا وأخيرًا ملاذ ومستقر الرُّوح الإنساني. ولم يتبين له فقط أن الفلسفة الشرقية تنطوي على تآلف بين الرُّوح والجسد، وهو ما يرفضه علم الإلهيات في الغرب، بل تبين له أيضًا «وصول العقل المباشر إلى فهم الحقيقة التي تعلو فوق كل مظاهر التناقضات» (ييتس، ١٩٦١م، ٤٣٣، ٤٥١). وأخيرًا، وبعد تحريض من صديقه إزرا باوند، أصبح واحدًا من المعجبين المتحمسين للمسرح الياباني المعروف «لا مسرح» No Plays.١١ واطلع من خلال كتابات سوزوكي على بوذية زِن التي اعتبرها ذروة الحكمة الشرقية من حيث قدرتها على النفاذ إلى جميع المجردات الفكرية.١٢
ويمثل ييتس شخصية محورية في انطلاق الحركة الحديثة في الأدب التي استطاعت، في موازاة مع الفنون البصرية والموسيقى، أن تتحدى الكثير من الفروض الثقافية للعصر الفيكتوري. وجدير بالإشارة أن العديدين من العناصر الأخرى المهمة التي أسهمت في هذه الحركة كانوا هم أيضًا عاكفين باهتمام على التراثات الشرقية. ونلحظ هنا عاملًا مشتركًا ألا وهو تأثير الجمعية الثيوصوفية التي ألهمت الكثيرين من مفكري وكتاب هذا الزمان وأوحت إليهم بالتطلُّع شرقًا حيث الشرق مصدر التجديد الثقافي. وأحد هؤلاء إزرا باوند (١٨٨٥–١٩٧٢م). ولحظنا توًّا اهتمامه بمسرحيات اللامسرح الياباني. بَيْد أن اهتماماته الشرقية تجاوزت هذا النطاق. إن أشهر أعماله الشعرية وعنوانها «كانتوس» Cantos، أو الأناشيد، تكشف عن تأثيرات شرقية واضحة وقوية. وعكف في أوقات متباينة على ترجمة كتابات شعرية وفلسفية صينية إلى الإنجليزية. واتخذ من المستشرق الأمريكي الرائد فينولوسا قدوة له، واقتنع بأن اللغة التصويرية، ومن ثم الطبيعة غير التجريدية للكتابة الصينية، هي اللغة المثالية للشعر. وأدى هذا الجهد إلى أن أعلن إليوت أن «باوند ابتكر شعرًا صينيًّا لعصرنا.»١٣ وتؤكد الشواهد أيضًا تأثر تي إس إليوت بالشرق (١٨٨٨–١٩٦٥م). إذ درس إليوت، بناء على تحريض من إرفينغ بابيت، اللغة السَّنسِكريتية والديانات الشرقية بينما كان لا يزال طالبًا لم يتخرج بعد في جامعة هارفارد. ودرس كذلك المخطوطات الهندوسية، خصوصًا البهاغافاد غيتا التي كانت في ما بعد عاملًا مهمًّا في كتابة الرباعيات الأربع Four Quartets، التي اشتملت على موضوعات أساسية معاصرة مع محاولة التعبير بلغة شعرية عن التجرِبة الصوفية للحظة اللازمانية. واطلع كذلك على التعاليم البوذية التي تردد صداها في كل أسطر «الأرض اليباب» The Waste Land. ويقول ستيفن سبندر إن إليوت وقت تأليفه لها كان يعتبر نفسه جديًّا أنه أصبح بوذيًّا.١٤
وتتضح أيضًا بعض القسمات المميزة لبدايات الحركة الأدبية الحديثة في الثورة التي شهدتها الفنون البصرية في العقود الأولى من القرن العشرين. وطبيعي أن رواج الأفكار الرئيسية الشرقية ودورها في تحول الذائقة الغربية للفنون البصرية لم يكن بالشيء الجديد. وسبق أن لاحظنا تأثير التصورات الصينية للعالم الطبيعي في الحركة الرومانسية الوليدة خلال منتصف القرن الثامن عشر، ولحظنا أيضًا التحدي الذي واجهته التقاليد الفنية نتيجة دخول المطبوعات اليابانية المصورة في القرن التاسع عشر، والتي لم تؤثر فقط في الفنون الزخرفية (من مثل أعمال كريستوفر دريسر)، بل أثرت كذلك على حركات فنية من مثل الانطباعية والآرت نوفو Art Nouveau أو الفن الجديد. ووصف المؤرخ جون ماكينزي هذا التأثير بقوله: إنه بمنزلة «قطيعة مع التراث، وأداة للتحول إلى الراديكالية»، الأمر الذي حفز إلى تجديد «حالة الفتور أو الأذواق الرجعية التي أصابت أوروبا» (١٩٩٥م، ١٣٠ و١٣١). ويُعتبر تأثير الشرق على ميلاد الحركة الحديثة في الرسم موازيًا من حيث النطاق والأهمية على الرغم من تحفظ النقاد والمؤرخين إزاءها. ونجد أن من أهم شخصيات هذه التحولات العميقة في الفنون البصرية كل من كاندينسكي وموندريان. وارتبط الاثنان بالحركة الثيوصوفية خلال سنوات تكوينهم العلمي، ووقعا تحت تأثير كتابات مدام بلافاتسكي في أثناء بحثهما عن نهج أكثر رُوحانية في الرسم. وقد يبدو الفن التجريدي بعيدًا جدًّا عن الاستشراق، غير أن هذين الرسامين اكتشفا في الشرق ما أوحى إليهما بطراز للتعبير منفصل تمامًا عن الأهداف التي ارتبطت عندهما بالفن التمثيلي الغربي التقليدي، وأدركا أن النزعة التجريدية ليست مجرد أسلوب ثوري جديد في الرسم، بل إنها نشأت أصلًا من رؤية لعصر جديد من الرُّوحانية الراسخة. إنها وسيلة للنفاذ وصولًا إلى مستوى من الحقيقة الواقعة التي تتجاوز الظاهر المادي والحسي السطحي للأشياء.١٥
وإن قضايا الأزمة والتجدد الثقافي/الرُّوحي، وكذا التحول تجاه الشرق، نجدها ماثلة لدى عدد من الشخصيات الأدبية المهمة الأخرى في القرن العشرين. وثمة اثنان من هؤلاء جديران بأن نأتي على ذكرهما؛ الأول: هو ألدوس هكسلي. عانى هو الآخر، شأن الشعراء الحداثيين، «أزمة إيمان» تطورت سريعًا بفعل حالة اليأس إزاء ما عايشه من مشاعر الجدب الرُّوحي للحضارة الحديثة في الغرب. والتمس في صوفية الفيدانتا وسيلة لاستعادة معنًى للحياة. وتتجلى القضايا الشرقية واضحة للغاية في أعمال من مثل «الجزيرة» Island، وهي رواية خيالية تقدم، من خلال مؤالفة بين البوذية والمثل العليا الإيكولوجية، بديلًا جذريًّا للعَلماوية والمادية في الغرب. والثاني: هو هيرمان هِسه، الذي نجد في كتاباته إحساسًا بالقلق والتحرر من وهم الحضارة — وعبر عن هذا بأبلغ صورة في «لعبة الكُرَيَّات الزجاجية» — والتمس وسيلة للبحث عن معنًى يفتقده للفرض الرُّوحي الذي قاده إلى الشرق. ونظرًا لأنه ابن لمبعوث تبشيري، فقد قضى شطرًا من شبابه في الهند التي عاود السفر إليها مرات بعد ذلك. وحرص طوال حياته على الكشف عن سبيل لتأليف مركَّب جامع من النزوع الديني المسيحي والصوفي الشرقي. ونلحظ أن عملًا من أشهر أعماله، وهو رواية سيدهارتا siddhartha، موضوعها الحياة الباكرة لغوتاما بوذا. وهذا العمل وصفه هو نفسه بأنه بمنزلة مجاهرة بالإيمان أو اعتراف به، الذي نجد فيه نحن تعبيرًا مثيرًا ومؤثرًا لشخصية وتعاليم بوذا.١٦
والجدير ذكره أن أعمال كل من هكسلي وهيسه، شأن كتاب إدوين أرنولد «نور آسيا» في فترة سابقة، كان لها أثرها القوي في خيال القراء الذين بدءوا منذ خمسينيات القرن وما بعدها يشاركون الرغبة في الوصول إلى آفاق جديدة فنية ورُوحية. وشهدت هذه الفترة نموًّا سريعًا في الاهتمام بالأفكار الشرقية بين كل من المفكرين والجمهور المتعلم بعامة. ويمكن عن حق أن نحدد تاريخ الاستشراق كظاهرة اجتماعية-ثقافية واضحة ومحددة المعالم بدءًا من ميلاد ما سُمي حركة «البيتس» خلال هذه الفترة. ونعرف أن هذه الحركة تمركزت حول الطوائف الفنية البوهيمية في الولايات المتحدة، واستلهمت فكر ورؤى الترانسندنتاليين الأمريكيين في القرن التاسع عشر، والحركة الوجودية في فرنسا. وأدت حركة البيتس دورًا حاسمًا في رواج الاهتمام بالأسلوب الشرقي والدعوة إلى أصالة الذات الشخصية وحالات من الوعي المتسامي. وأثبتت بوذية زِن، خصوصًا أنها الأكثر جاذبية من حيث العفوية وما تهيئه من استنارة فورية. وأسهمت كتابات غاري سندر وجاك كيرواك وألان غينسبرغ وألان واتس، وكذا أعمال ألدوس هكسلي وهيرمان هيسه في انضمام جيل كامل من الشباب إلى الفلسفة والرُّوحانية الشرقية. والتقى غاري سندر بوذية زِن لأول مرة عام ١٩٥١م من خلال كتابات دي تي سوزوكي. وعكف على دراستها لمدة عشرة أعوام على يد أستاذ في الزن في اليابان. وحاول بعد ذلك صياغة أخلاق بديلة تنبني على أساس كل من المثل العليا البوذية والأمريكية المحلية، وكذلك على أساس أيديولوجيا الحقوق الطبيعية في الثقافة الأمريكية. كذلك كانت لكتابات ألان واتس من مثل مقاله الشهير «زِن البِيت، وزِن سكوير، وزِن» Beat Zen, Square Zen, and Zen أثر واسع النطاق من خلال جهود ترجمة أفكار الزمن والأفكار الطاويَّة إلى عبارات غربية،١٧ وحاول ربط الزن بالعلم الطبيعي وبعلم النفس غير أن العلماء الأكاديميين رفضوا ذلك واعتبروه هواية. ولكن ليس من شك في أن أسلوبه، وما تميز به من بلاغة وإثارة، أسهم في جعل زن متاحة للقارئ العام المتوسط. والجدير ذكره أن كتابه «العلاج النفسي في الشرق والغرب» وتأكيده فيه على ما تنطوي عليه الممارسات الشرقية من إمكانات للتحرير والتغيير، أثار اهتمامًا واسع النطاق فور نشره لأول مرة عام ١٩٦١م. ويؤكد لنا المؤرخ ثيودور روزاك أن واتس «بذل أقصى الجهد الممكن لترجمة استبصارات وحكمة الزن والطاويَّة إلى لغة العلم الطبيعي وعلم النفس في الغرب» (١٩٧٠م، ١٣٢). ولم تكن كتابات جاك كيرواك أقل إلهامًا، وتشتمل روايته الدهارما بامس The Dharma Bams على رؤية ساخرة عن:

ثورة عظمى شاملة آلاف بل ملايين الشباب الأمريكيين … جميعهم مجانين بالزن، ينطلقون ليَنْظِموا القصائد التي تطفِر عفوًا في رءوسهم دون أسباب … جماعات شاردة غير مروَّضة الْتأم شملهم معًا يشربون ويتحدثون ويصلون.

(كيرواك، ١٩٥٩م، ٧٨)

وتواترت كثيرًا إشارات توضح أن البيتس أساءوا في الغالب الأعم فهم الزن وشوهوها. مثال ذلك أن شارلس بريبيش يتهمهم بإهمال «أهم أسس الحضارة الرهبانية للزن ونظامها الصارم»، كما يتهمهم بتحويل خاصية «الوجد» الرُّوحي لخبرة الزن إلى مظاهر غير ملائمة شبقية وكحولية. بَيْد أنه كما يسلم بريبيش نفسه، فإن البيتس «بتصرفاتهم الغريبة أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تهيئة بداية أمريكية حقيقية للبوذية، حتى على الرغم من أن زن الأصلية أفلتت منهم» (١٩٧٩م، ٢٤).

وتُعتبر ظاهرة الهيبي في ستينيات القرن من نواحٍ كثيرة استمرارًا وإعلاء من حركة البيتس، وتحقيقًا لرؤية وحلم كيرواك. وتمثل على المستوى الاجتماعي ثورة مضادة ورد فعل ضد الالتزام الصارم بالمعايير وضد مادية الثقافة التقليدية النزاعة إلى التنافس. وتمثل على المستوى الفلسفي نقدًا راديكاليًّا للعقلانية العلمية. وتمثل على المستوى الديني البحث عن طرق جديدة للاستنارة الرُّوحية عن طريق استخدام تقنيات وعقاقير لتوسيع نطاق أفق العقل. وأقبل كثيرون في نهمٍ وشغفٍ على دراسة الفلسفات والممارسات الشرقية سعيًا للوصول إلى هذه الغايات خلال تلك الفترة بُغية توفر أداة قوية لإعادة تقييم القيم وأساليب الحياة الغربية وتقديم بدائل جاهزة، وألا يكون السبيل مجرد الهرب، بل التحرر السياسي. وظهرت في مكتبات الغرب خلال هذه الفترة أيضًا أعمال من مثل كتاب «الآي شنغ» و«الطاو تي شنغ» و«بهاغافاد غيتا» و«كتاب الموتى التبتي». وعمَد المعلمون الرُّوحيون من أمثال مهاريشي وباغوان راجنيش، كما عمَدت على قدم المساواة أيضًا حركات من مثل الجمعية الدولية للوعي الكريشني، إلى تجييش الشباب من حولهم. وكان الشباب متعطشين لاستيعاب حكمة الشرق. وطبيعي أن حركة البيتس وكذا حركة الهيبي كظاهرتين اجتماعيتين أصبحتا الآن في ذمة التاريخ أو تخلفت عنهما بعض الآثار التي بقيت هامشية كبقايا أثرية. ولكن في جميع الأحوال فإن تراثهما لا يزال حيًّا، ويكفي أن نتمثل هذا الامتداد في استمرار شعبية الفلسفات الآسيوية. وعلى الرغم من فتور الخطاب اليُوتُوبي، وزوال الحمى الثورية لتحل محلها براغماتية سياسية، إلا إن البحث عن المرجعية الذاتية الأصيلة وعن شكل جديد للنمو الرُّوحي لا يزال مستمرًّا ليكون الشغل الشاغل لأجيال تالية. وحقيقة الأمر فإن التَّطلُّع نحو الشرق بحثًا عن بدائل عن فلسفات نشأت محليًّا اتصف بالنفاذ إلى أعماق الشعور والجدية. ويعبر عن هذا عالم نفسي فيقول: «موجة الاهتمام المبتدعة بالديانات الشرقية تحطمت مخلفة وراءها موجة طويلة عميقة مطردة وأكثر جدية من حيث الفهم والبحث» (كلاكستون، ١٩٨٦م، ٧).١٨
وتمثل حركة العصر الجديد مظهرًا واحدًا على الأقل هو تجلٍّ لهذه «الموجة العميقة الممتدة الأكثر جدية». وتتصف هذه الحركة بأنها تجَمُّع من معتقدات وممارسات داخل إطار شبكة فضفاضة. وتتصف كذلك بأنها أقل التزامًا سياسيًّا ولكنها أكثر تمحورًا فلسفيًّا عن الحركات السابقة عليها خلال فترة ما بعد الحرب التي ركزت على فكرة ميلاد نظرة جديدة إلى العالم weltanschauung، وبحثت عن بديل يكون بمنزلة إطار فكري عام (بارادايم) أكثر شمولية بدلًا من أساليب التفكير القديمة الميكانيكية والإثنينية. ويمكن القول بعامة إنها معنية باستعادة المقدس في داخل الطبيعة وفي داخل الحياة البشرية. وعمَدت، بُغية الوصول إلى هذه الغاية، إلى الاعتماد على، والتلاؤم مع، مجموعة متباينة من المعتقدات والممارسات القديمة. وهنا أيضًا أثبت مثال الفلسفات الشرقية أنه قوة حافزة إلى أعلى درجة. وعلى الرغم من أن فكرة «العصر الجديد» لها سلف قديم يهودي-مسيحي فإن التراثات الشرقية قدمت لأبناء جيل «العصر الجديد» قائمة كاملة من المفاهيم والتقنيات للبناء عليها في مجالات من مثل النمو الشخصي والصحة الشخصية والعلاج النفسي والإيكولوجيا. وكان مفكرو العصر الجديد، شأن مفكري البيتس والهيبيز، مقتنعين بأن الغرب أفلس رُوحيًّا، ومن ثم على استعداد لعمل توليفة توفيقية على أساس من رموز ومفاهيم شرقية ومسيحية بُغية صوغ إطار فلسفي جديد جامع شامل. هذا على الرغم من أن البعض قد يحاجج بأن الاتجاه الطوباوي داخل تفكير العصر الجديد لا يتلاءم بسهولة مع ديانات شرقية من مثل الهندوسية والبوذية والطاويَّة التي لا تعرف نوازع مهمة تتعلق بقضايا الأخرويات.١٩

البعدان العلمي والفكري

إذا تجاوزنا الحركات الأدبية والثقافية التي درسناها في الفصل السابق أجد من الأهمية بمكان التعرف على الدور الذي أنجزه النمو المهول للدراسات الاستشراقية خلال القرن في مجال نشر وذيوع الأفكار والقيم الشرقية. ونعرف، كما أشرنا سابقًا، أن الاستشراق من حيث هو دراسة أكاديمية، بدأ منذ فترة باكرة جدًّا مع العمل الرائد لمفكرين من أمثال وليام جونز وأنكيتيل دوبيرون وويلهلم شليغل، وبلغ النضج في القرن التاسع عشر في أعمال رجال من مثل بورنوف وماكس موللر وديوسين وريس ديفيدس. وجدير بنا الإشارة أيضًا إلى الجهود الشاقة الدءوبة لترجمة أسفار ضخمة من المتون الدينية الشرقية التي تجلت بوضوح في أعمال جمعية متون بالي، وفي سلسلة أعمال ماكس موللر بعنوان «كتب الشرق المقدسة»، وفي ترجمات جيمس ليغ للمتون الأساسية الكونفوشية والطاويَّة. وشهد القرن التاسع عشر زيادة أُسِّيَّة في المؤسسات الأكاديمية، علاوة على ما اقترن بها من تأكيد على التخصص وعلى تطبيق المناهج وأساليب التناول المستمدَّة من العلوم الطبيعية والاجتماعية. وحققت الدراسات الاستشراقية في ظل هذا التطور ازدهارًا في كل النواحي، وأنجزت وفرة من الثروات العلمية التي لم تف فقط بحاجات الباحثين الأكاديميين، بل أسهمت في تشجيع وإفادة أعداد غفيرة من المهتمين. وأُسِّست مراكز بحث علمي عديدة مثل «مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية» في لندن، و«معهد العلوم الصينية» في ليدن، و«مركز الشرق-الغرب» في هاواي، و«المعهد الشرقي» في ليننغراد (وأغلقه ستالين). وأصبحت هذه المراكز والمؤسسات بؤرة للبحوث الشرقية ولتعليم الدراسات الشرقية على مستوًى عالٍ. وقدم هذا القرن، مثل سابقه، صفًّا طويلًا من الباحثين الأكاديميين المتميزين في الدراسات الشرقية. نذكر من هؤلاء توماس كليري وإدوارد كونز وهيلموت فون غلاسيناب، وإيه سي غراهام، ومارسيل غرانيت، وهيرمان أولدنبرغ، وغيوسيب توتشي وهينريتش زيمر. وتمثل جهود هؤلاء إسهامًا متصلًا مباشرة أو على نحو غير مباشر في اطراد عملية الاختيار الفكري على أوسع نطاق والتي حفزها انتقال الأفكار من الشرق إلى الغرب.

وإذا نظرنا إلى ما وراء مجالات الدراسة الأكاديمية الشرقية من حيث طبيعتها العلمية نجد من الأهمية بمكان أن ندرك أن الثقافة العلمية من نواحٍ كثيرة، بما في ذلك عدد من المباحث الأكاديمية سنعرض لها فيما بعد، أصبحت أكثر فأكثر تداخلًا وتشابكًا مع أفكار شرقية المنشأ. وإن القائمة طويلة التي تضم أسماء المفكرين والكتاب المبدعين الذين أبدوا خلال هذا القرن اهتمامًا وثيقًا بالفلسفات الشرقية، وأكدوا امتيازهم في هذا الصدد. وتضم القائمة أسماء مثل: رونالد بارنز ودافيد بوم وبول كلوديل وإريك فروم وشارلس هارتشورن ومارتن هيدغر وألدوس هكسلي وسي جي يونغ وآر دي لانغ وأورنشتين وألبرت شفايتزر وإروين شرودنغر ورودولف شتاينر وبول تيليتش وأرنولد توينبي وإتش جي ويلز ودبليو بي ييتس. وإن أيًّا من هؤلاء ليس مستشرقًا بأي معنًى من المعاني، ولكنهم جميعًا وجدوا في ربطهم لأفكارهم ومشروعاتهم الخاصة بالتراث القديم للهند والصين مصدر إلهام لهم. وسوف نبالغ إذا ما زعمنا أن شخصيات كهؤلاء حولوا الفكر والثقافة في الغرب وبمساعدة الأفكار الشرقية. بيد أن جهودهم في الوقت نفسه ذات دلالة من حيث إنها تشير إلى الطريقة التي بها يمكن لأفكار مستمدَّة من ثقافةٍ ما أن تتفاعل مع وتخصب أفكار ثقافة أخرى مغايرة تمامًا عن طريق الحوار الإبداعي. ذلك أن بعضهم في الحقيقة رأى أن انتقال الفلسفات الشرقية إلى الغرب يمثل ظاهرة غاية في الأهمية التاريخية والثقافية. مثال ذلك أن يونغ يرى أن الشرق «وضع عالمنا الرُّوحي في حالة من الشَّواش» ودفعنا إلى «عتبة عصر رُوحي جديد» (١٩٦١م، ٢٤٩-٢٥٠). ويحدثنا الفيلسوف إن بي جاكوبسون عن تلاقي الغرب والبوذية باعتبار هذا «حدثًا من أهم أحداث زماننا، وإنه حدث غير مسبوق على مدى التطور التاريخي للإنسان». ويؤمن بأن «التراث البوذي له دور محوري في اطراد اكتشاف الإنسانية لتكاملها العضوي في كيان واحد» (١٩٨٣م، ١٧، ١٨). ويردد عالم الإلهيات توماس بيري هذا الرأي مع دعوى أن هذا التلاقي أصبح «من أقوى القوى المؤثرة في الحياة الفكرية والرُّوحية والجمالية للعالم المعاصر» (١٩٨٤م، ٢٣٩). ويتحدث عالم فقه الإلهيات البروتستانتي هندريك كرايمر عن التأثير والتغلغل المتبادل للتراثات الدينية الشرقية والغربية باعتبار ذلك «أحد أهم أحداث زماننا» (١٩٦٠م، ١٢). ويجد هذا التقييم الأخير تعبيرًا صريحًا وواضحًا بقوة على لسان المؤرخ أرنولد توينبي، إذ يمضي به توينبي إلى أبعد من ذلك زاعمًا أن التلاقي الثقافي والفكري بين الشرق والغرب سوف يفضي إلى حقبة تاريخية جديدة. ويتساءل في كتابه «الحضارة على المحك»: «ترى ما هو الحدث الذي سيفرزه مؤرخو المستقبل باعتباره الحدث الأبرز في زماننا حين يتطلعون بعد قرون من الآن إلى النصف الأول من القرن العشرين؟» ويجيب قائلًا: «لن يشيروا إلى أحداث مثيرة أو مأساوية سياسية أو اقتصادية، بل إلى أثر الغرب على الشرق وأثر الشرق على الغرب وكيف أفضي إلى نهاية كل التمييزات ضيقة الأفق التي عاشت على مدى الزمان بين الشرق والغرب، وكيف أدى هذا كله إلى ميلاد مجتمع عالمي. إنها ثورة سوف تبدو أنها ليست نتاج قوى اقتصادية بل نتاج التقارب بين الأديان» (توينبي، ١٩٤٨م، ٢١٣).

مُثل عُليا وحوافز مشتركة

حان الوقت الآن لكي نكمل هذا النقاش المبدئي عن الاستشراق في القرن العشرين، ذلك بمحاولة تحديد الموضوعات والقضايا الاستشراقية التي تبدَّى بعضها واضحًا جليًّا في السابق بينما سيبدو بعضها الآخر أكثر وضوحًا خلال الفصول التالية. وهذه مهمة صعبة بسبب تنوع الحركات والكتَّاب الذين عرضنا لهم في هذا القسم من الكتاب، وأيضًا بسبب تعقد وتغاير طبيعة تلاقي الشرق-الغرب خلال القرن العشرين. ولكن سوف يبرز على السطح عدد من الأفكار الرئيسية وثيقة الصلة.

أولى هذه الأفكار التي لاحظناها على مدى الفترة الحديثة كلها هي اتخاذ الشرق أداة للنقد الفكري والثقافي. وسوف نرى في الفصول التالية كيف أن الشرق في إطار سلسلة واسعة من المباحث العلمية، وعلى أيدي سلسلة مناظرة من المفكرين، استمر في أداء دور الذبابة السقراطية٢٠ التي تلدغ الجسم الغربي، تلدغه وتراوغه لتستحثه على تأمل ذاته نقديًّا بأن تعرض عليه أفكارًا بديلة راديكالية. ويكتب جوزيف نيدهام انطلاقًا من هذه الرُّوح التأملية النقدية فيقول: «إنه لمن الضروري أن ننظر إلى أوروبا من الخارج، لكي نرى التاريخ الأوروبي، ولكي نرى الإخفاق بقدر ما نرى الإنجاز الأوروبي، بعيون ذلك القسم الأكبر من الإنسانية، أعني شعوب آسيا (وكذا أفريقيا أيضًا في الحقيقة)» (١٩٥٦م، ٢٧٩). وأكد ألان واتس بالمثل على أهمية تناول العلاج النفسي الغربي بالدراسة من خلال عيون الشرق وذلك بأن أوضح أن «السبيل الوحيد لكي تظهر الأنماط الثقافية إلى النور، ولكي تتجلى واضحة الفروض الميتافيزيقية الخفية، هو مدى الدرجة التي يمكن لنا أن نخطو بها إلى خارج المنظومة الثقافية أو الميتافيزيقية التي تكتنفنا ونقارنها بمنظومات أخرى» (واتس، ١٩٧٣م، ٢٣). وأكدت البوذية بخاصة ملاءمتها الجيدة لأداء دور الذبابة للنقد القاسي؛ ذلك لأنها، كما يقول إن بي جاكوبسون، «فلسفة تتميز بقوة تحليلية صارمة لجميع الأطر المفاهيمية والافتراضات المسبقة، ومن ثم فهي واحدة من أهم جهود الإنسانية القادرة على الاحتفاظ بنفسها بعيدًا عن أن تشرنق نفسها داخل تلك المنظومات اللسانية والرمزية التي تختزل الإدراك والفهم إلى حدود القبيلة أو الطبقة الاجتماعية أو العمر أو السلالة أو الخلفية العرقية أو الأمة» (جاكوبسون، ١٩٨٣م، ١٨). «إنها بطبيعتها الذاتية تمتلك منهجية التصحيح الذاتي التي يمكن أن تعتقنا من قبضة العادات الذهنية المنومة أو من أنماط التفكير ضيقة الأفق والتقليد الاجتماعي». وإن هذه العادات والأنماط والتقاليد هي التي تؤلف واحدة من أهم أسباب الصراع الدائر في العالم المعاصر بغية التحرر من قيود ثقافة الماضي التي أصابتنا بحالة من «الأستيغماتيزم»؛ أي نرى الأمور على نحو غير واضح أو صحيح. (المرجع نفسه، ٥٢). وأثبت التخلص من علة الأستيغماتيزم أو الحرج البصري أنها في مجموعها ناجعة وصحية ومثمرة وتمثل إثراء مهمًّا للحياة الثقافية الغربية. هذا على الرغم من أنها، كما سوف يبين لنا فيما بعد، لم تثبت أنها أداة تحرير وتنوير يجري على نسق واحد ووتيرة واحدة، كما أن دورها في حياة الغرب الثقافية يبدو أحيانًا وفي بعض المجالات منطويًا على تناقض ومثيرًا للشك والتساؤل.
والموضوع الأساسي الثاني، الذي تمثله ملاحظة توينبي آنفة الذكر، أكثر بنائية من الأول. ويتضمن البحث عن أرض مشتركة وسط عالم ممزق، والبحث عن نوع من التقارب الفكري والرُّوحي بين أمم ومذاهب متنازعة بل ومتحاربة في غالب الأحيان؛ أي البحث عن «إنسانية موحدة» كما عبر عن ذلك توينبي (١٩٩٠م، ١٥). وهذا موضوع له أهمية خاصة في سياق الصراع فيما بين الثقافات الدائر على مدى القرن العشرين. ونلحظ أن التلاقي بين أفكار الشرق-الغرب في الأزمنة القريبة غالبًا ما ركز في الحقيقة على المثل الأعلى الذي يحدثنا عن توفيق أو مصالحة كوكبية. وثمة مفكرون كثيرون عملوا في شغف من أجل استكشاف الفكرة التي من شأنها أن تجمع الشرق والغرب معًا على الصعيد الأيديولوجي التي يمكن أن تكون المفتاح والأساس لنظام عالمي جديد من السلم والمصالحة. ويوضح مثل هؤلاء المفكرين أن العالم بمعنًى ما آخذٌ في التقارب بشدة تحت ضغط عوامل اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية. ولكنهم يرون أيضًا أن الجنس البشري لا يزال معرضًا للخطر وسوف يظل كذلك ما لم تقترن هذه الضغوط بوحدة أعمق تجمع وتوفق بين قلوب وعقول الشعوب على اختلافها. وحظي هذا الموضوع بتشجيع خاص في الغرب من عدد من المفكرين الهنود. ويشير إلى الطريقة التي يمكن بها للغرب التعالي على أصوله الغربية مثلما يشير إلى الطريقة التي بها تعيق شبكة التفاعلات شديدة التعقيد بين الشرق والغرب أي أحكام بسيطة تتعلق بمصدر واتجاه التأثيرات. وأوضح مثال هنا هو الفيلسوف الهندي رادها كريشنان؛ إذ كان رائدًا في الحديث عن المثل الأعلى للتقارب الفكري والرُّوحي، معربًا عن أمله في أنه من خلال تمازج الشعوب والسلالات والأديان يمكن لرُوح الجوار أن تتحول إلى أخُوَّة. وأعرب عن أمله أيضًا في أنه عن طريق «التخصيب المتبادل بين الأفكار وبصيرة الشعوب وحكمتها التي تحمل وراءها تراكمات القرون من التراث الثقافي والسلالي والجهود الصادقة المضنية أن تتحقق وحدة عظمى تجمع النسيج الأعمق لأفكار البشر. وحث على العمل من أجل بناء مجتمع عالمي له دين عالمي الذي تصبح معه العقائد الإيمانية التاريخية مجرد أفرع له» (رادها كريشنان، ١٩٣٩م، ٥١ و٣٤٧–٣٥٠).٢١
وقد يظن البعض أن في حديثنا مبالغة وتضخيمًا إذ نقول إن مثل هذه التطلعات بالغة السمو والنبالة يمكن أن نجدها عند عدد كبير من المستشرقين. مثال ذلك دبليو واي إيفانز-وينتز، الذي عقد الأمل في أن تكون ترجمته «لكتاب الموتى التبتي» نهجًا أكثر رُوحية ضمن رابطة لا تنفصم من حسن النية والسلم العالمي، وتوثق أواصر العلاقة بين الشرق والغرب في إطار من الاحترام والتفاهم المتبادلين، وكذا بالحب الذي يتجاوز كل حواجز تفرضها عقيدة أو طائفة أو سلالة (١٩٦٠م، المقدمة، ٢١). وها هو رومان رولا يسلك السبيل نفسه ويرى أن التفاهم بين الشرق والغرب هو مفتاح المصالحة العالمية وضمان «وحدة الرُّوح الإنسانية» (١٩٣٠م، ٥٢١). واستهل جوزيف نيدهام مؤلفه الضخم «العلم والحضارة في الصين» بالتطلع نحو «فجر رؤية كونية جديدة … توحد الشعوب العاملة من كل أجناس البشر في مجتمع واحد كاثوليكي وتعاوني» (١٩٥٤م، ٩). ورأى مفكرون كثيرون من مثل هؤلاء أن ليس كافيًا مجرد توفر الفهم المتبادل والتسامح في وجود تخصيب ثقافي متبادل. ويرون أنه لكي يتحقق تفاهم وسلم عالميان حقيقيان فليس أقل من ابتكار دين عالمي كشرط ضروري. مثال ذلك أن الفيلسوف الأمريكي دبليو إي هوكنغ ذهب إلى أن نشوء حضارة عالمية من شأنه حتمًا أن يجمع الغرب والشرق معًا، ومن ثم يصبح ضروريًّا ضرورة ملحة الجمع كذلك بين تراثات الطرفين لكي يساعد هذا على صياغة دين عالمي جديد (انظر هوكنغ، ١٩٥٦م). وأخذ هذا الأمل عند آخرين صورة أكثر علمانية. نذكر من هؤلاء اسم الفيلسوف كونت هيرمان كيزرلنغ (١٨٨٠–١٩٤٦م). ذلك أنه عقب رحلة طاف بها العالم ابتداء من عام ١٩١١م أصدر أشهر كتبه «يوميات فيلسوف سائح» (١٩١٩م). حاول في كتابه هذا الترويج لنظرة دولية الاتجاه والدعوة إلى الالتزام بالتسامح والتفاهم المتبادلين، وأكد بإلحاح على الحاجة إلى نوع ما من الصيغة التأليفية التي تجمع بين فكر الشرق والغرب. وعمد خلال سعيه لإنجاز هذه الغاية إلى تأسيس «مدرسة الحكمة» عام ١٩٢١م في دارمشتاد؛ وهدفها ترسيخ مبدأ التفاهم والاحترام المتبادلين بين الشرق والغرب. وحرصت هذه المدرسة على استضافة حلقة دراسية تنعقد سنويًّا وتضم عددًا من خيرة الباحثين في الشئون الصينية والعلماء من مختلف المجالات. وتميزت المدرسة بتوجهها الدولي وبالتزامها بالحوار المفتوح الصريح والحر. وهذه خصال يتعين التأكيد عليها وإبرازها نظرًا إلى التزايد المطرد للنزعة العنصرية والتعصب اللذين كانا سمة هذه المرحلة في تاريخ ألمانيا.٢٢
يرتبط بهذا موضوع الاعتلال والاضطراب الثقافي. وهذا، كما لاحظنا سابقًا، موضوع عمَد إلى تضخيمه وتجميله عدد من المفكرين الغربيين المحدثين. وحقيقة الأمر أن موضوع الانهيار المعنوي والثقافي هو من الموضوعات الرئيسية التي لها الغلبة في تلاقي الشرق والغرب على مدى الفترة الحديثة كلها. ولحظنا هذا في حالة الرومانسيين ثم في الحوارات الدينية والثقافية في القرن التاسع عشر إلى أن بلغ درجة التصاعد التدريجي في القرن العشرين. وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع على مستوى ثقافي محضٍ، نجد أن التعبير عنه غالبًا ما جاء، فيما عدا أي توجهات دينية إضافية واضحة، على أساس طبيعة الحياة الغربية الحديثة التي من المفترض أنها حياة غير متوازنة، وغير متوافقة، بل وعصابية أدمنت الإشباع الفوري والملاحقة المسعورة للأهداف الاقتصادية؛ أي في كلمة واحدة: عصاب ثقافي. وأخذ هذا النوع من السخط عند أحد المستويات صورة رد فعل عميق ضد العالم الحديث بكل مثله العليا عن العقلانية والتقدم والديمقراطية الليبرالية. ويمكن أن نشهد في ألمانيا علاقة نسب مشوشة بين الاستشراق وبعض الاتجاهات المناهضة للحداثة المقترنة بصعود الفاشية والعنصرية. ونجد عند مستوى آخر، شحنته السياسية أقل، أن صورة الحضارة الغربية حسب ما عبرت عنها كلمات أحد الكتاب، صورة «مفرطة النشاط، مفرطة العقلانية، بعيدة عن الإحساس المباشر بالطبيعة»، ومن ثم فهي «بحاجة إلى استعادة التوازن بين النشاط والسكينة». وليست وحدها أبدًا فيما ذهبت إليه من أن النهج الشرقي نهج عملي لتخفيف وعلاج توترات وضغوط الحياة اليومية، وترويض «عقل الفرد» الذي يدمن القفز هنا وهناك من دون أن يستقر في مكان وبغير هدف (كوبر، ١٩٩٠م، ١٢٩). وحدث في مستهل القرن أن كتب جي لويس ديكنسون، عقب رحلة إلى الشرق، «مقالًا عن حضارة الهند وآسيا واليابان». وعمَد في مقاله هذا إلى القضاء على بعض الانحيازات المترسبة في الأعماق ضد الشرق. وذهب إلى أن الشرق طوَّر خصالًا فقدها الغرب وهو الآن في مسيس الحاجة إلى استعادتها. والتزم وجهة نظر أضحت في أيامه حكمة شائعة بين أوساط بعض المستشرقين. وتفيد هذه النظرة أن الآسيويين يعيشون حياة هي الأقرب إلى الطبيعة، وفي تناغم مع إيقاعاتها، وأنهم طوروا صيغًا أرقى من الدين والأدب والفن ويتمتعون بنظرة رُوحية تتباين تباينًا حادًّا مع التوجهات المادية في الغرب (انظر ديكنسون، ١٩١٤م، ٨٥). وغالبًا ما ارتبط الاعتلال الثقافي برباط وثيق بما تصوره البعض الأزمة الرُّوحية المحفوفة بالأخطار التي تعانيها الحضارة الغربية الحديثة. وخير مثال على هذا نجده في كتابات بول برونتون، وهو إنجليزي يوصف بأنه غريب الأطوار إلى حد ما. طوَّف برونتون في أنحاء الهند، وكتب عقب رحلته الطويلة سلسلة من الكتب حاول جاهدًا أن يقدم فيها حكمة الهند القديمة باعتبارها رسالة أمل إلى عالم تمزقه الحروب، ويعاني فقدان هدف رُوحي. وصدر أول كتاب له عام ١٩٣٤م وعنوانه «البحث في الهند السرية»، وبيع منه ربع مليون نسخة بلغات عدة. وقام بدور مهم تمثل في أنه نقل للغرب الممارسات الرُّوحية الهندية مع بيان الخلفية السياسية لهذه الممارسات. ونراه في كتابات تالية يعرض تأملاته بشأن الإخفاق الرُّوحي الذي تعانيه الحضارة الغربية مؤكدًا أن أمل المستقبل الممكن والوحيد يتمثل في العمل على إنجاز نوع ما من التناغم بين علم الغرب وصوفية الشرق.٢٣
ونجد فكرة الحوار حاضرة في كل هذه الموضوعات، وهي فكرة قاربت مستوى العقيدة في هذا السياق. وسوف يبين لنا فيما بعد أن هذه الفكرة الأساسية أصبحت بالغة الأهمية، بخاصة بين فئة بعينها من كبار رجال علم الإلهيات المسيحي الذين اجتمع رأيهم حول عقيدة معينة وهي «يجب التحول عن عصر المونولوج «الحديث الأحادي مع النفس» إلى عصر الديالوج «الحديث مع الآخر». ودعَوا إلى هذا الرأي باعتباره وسيلة نحو إنجاز قدر أكبر من التفاهم والتسامح المتبادلين. وهناك من وجهة النظر الفلسفية أولئك الذين يتحدثون عن الحاجة إلى رُوح الحوار التي لا تعتمد على مذهب فكري واحد يقتلع الآخر، بل يعتمد على النمو المتكامل الذي يصون ويوسع كلا الاتجاهين» (ألينسون، ١٩٨٩م، ٢٣). ولكن فكرة الحوار، وعلى الرغم من رنينها المستحب للأذن، لم تفلت من الرقابة، واعتبرها البعض مجرد صيغة أكثر رقة للتعبير عن الاستعمار في عبارة أحادية الجانب ومدفوعة بحافز المحورية الأوروبية، ويصعب تفضيلها على الحماسة في التبشير الصريح. ويمكن القول بوجه عام إن موضوع الحوار بين الشرق والغرب المثار عند الجميع تحول على أيدي هؤلاء النقاد ليصبح أسلوبًا مقبولًا أكثر للتعبير عن الممارسة المتأصلة الخاصة بالعمل على ملاءمة التراث الشرقي ليتناسب مع الخطاب الغربي.٢٤

وصدرت شكاوى متوازية فيما يختص بجميع القضايا التي حصرناها توًّا؛ مثال ذلك: ما مدى مشروعية الزعم بأن الشرق والغرب يمثلان نقيضين متكاملين؟ وما المصالح الغربية الكامنة وراء البحث عن دين عالمي أو فلسفة كوكبية؟ ويمكن النظر إلى مظاهر القلق هذه باعتبارها تجليًا لتطور نقدي أوسع نطاقًا وتجليًا لطائفة جديدة من الأفكار الرئيسية الاستشراقية، وسلسلة كاملة من الحوارات التي يمكن اعتبارها وعيًا يصادف دعمًا قويًّا من الفروض المنهجية والانحيازات الأيديولوجية التي ينبني عليها جماع المشروع الاستشراقي. إذ بينما حاول مفكرون من مجالات بحث متعددة وخلفيات ثقافية كثيرة، خلال فترة باكرة من القرن، الاستعانة بالأفكار الشرقية لمواجهة قضايا العصر الكبرى من مثل الصراع الدولي والتحلل الرُّوحي، إذا بخطاب الاستشراق في مرحلة تالية يوضع هو نفسه موضع الفحص والتدقيق. كذلك فإن الكثير من المفاهيم والاستراتيجيات التي عرضنا لها في هذا الفصل — ابتداء من المثل الأعلى لحكمة كونية، وحتى مجرد إمكان الحوار بين الثقافات — خضعت هي الأخرى للتحليل التفصيلي الدقيق. وكشفت الدراسات الاستشراقية في مجال الفلسفة ومجالات أخرى وثيقة الصلة عن نزوعٍ متنامٍ لاتخاذ خطوة إلى الخلف، وفحص وتدقيق مناهج بحثها وفروضها المسبقة وإثارة تساؤلات في شأن المشكلات المعرفية المتضمنة في الدراسات المقارنة بين الثقافات. وأفضى هذا إلى حوارات تتعلق بطبيعة هذه المباحث العلمية ذاتها مثلما أفضى إلى إثارة تساؤلات عن اللغة والترجمة والتفسير. وإذ تعرض النقاش لمجالات مثل الدراسات الثقافية ودراسات المجال فقد أخذ يتركز أكثر فأكثر على الاستشراق باعتباره شكلًا من الممارسة أو التطبيق العملي، خصوصًا ما يتعلق منه بالخبرة الاستعمارية وخبرة ما بعد الاستعمار. هذا بينما تركز الاهتمام على الفروض الأيديولوجية الكامنة وراء التصورات الغربية عن الشعوب المستعمرة. وتتصدر البحث ثانية قضايا عن السلطة والقوة والمحورية الغربية وبناء الخطاب الاستشراقي، وهي القضايا التي أثرناها سابقًا. وأصبح من المعترف به أكثر فأكثر أن الواقع التاريخي للاستعمار لم يخلق فقط سياقًا ازدهرت فيه بحوث الاستشراق، بل إن العلاقة بين الاثنين علاقة تكافل عميق، وأن ثمة مقولات فهمنا الشرق في إطارها، وهو أمر قابل للنقاش، ولا يمكن فصلها عن أدوات شديدة الوضوح للقهر الاستعماري. ويبدو الأمر هنا عند مستوًى ما مسألة تتعلق بموضوعية وأخلاق البحث العلمي. ولكنه عند مستوًى آخر يثير أسئلة صعبة عن دور السلطة/القوة والمصلحة في السعي الدءوب من أجل التفاهم المشترك فيما بين الثقافات. وأود أن أشير هنا إلى أن هذه النوازع والاستراتيجيات الانعكاسية؛ أي التي جاءت استجابة أو رد فعل، وكذا غيرها من موضوعات عرضناها هنا سوف نلقي عليها الضوء لتبدو واضحة فيما يلي. وسوف نعمل على مدى القسم الثاني من الكتاب من أجل النظر عن كثَب مع تدقيق تفصيلي إلى بعض المجالات البحثية الرئيسية التي تطور من خلالها الخطاب الاستشراقي على مدى القرن الماضي.

١  انظر دومولين ١٩٧٦م، همفريز ١٩٥١م، أوليفر ١٩٧٩م، لتفسير تطور البوذية في إنجلترا وألمانيا خلال النصف الأول من القرن العشرين.
٢  للاطلاع على مناقشات موجزة لتاريخ تأثير بوذية زِن على الغرب، انظر دومولين ١٩٧٦م، فور ١٩٩١م، شارف ١٩٩٣م، فيلدز ١٩٨٦م، بريبيش ١٩٧٩م، توركوف ١٩٩٤م، يقدمون رؤية تفصيلية أكثر من منظور أمريكي خالص.
٣  بيشوب ١٩٩٣م، ١٣٢. يقدم هذا الكتاب دراسة شاملة عن لقاء بوذية التبت بالغرب. انظر أيضًا لوبيز ١٩٩٤ و١٩٩٥م.
٤  طاو البوه عنوان كتاب من تأليف Benjamin Haff صادر عام ١٩٨٢م. والكتاب مقدمة عن الطاويَّة مستخدمًا الشخصية الخيالية Winnie the pooh، وكتاب «طاو الفيزياء»، وعنوانه الكامل The Tao of Physics: An Exploration of Parallels between Modern Physics and Eastern Mysticisim، صدر عام ١٩٧٥م من تأليف عالم الفيزياء Fritjof Capra. وصدرت منه ٤٣ طبعة في ٢٣ لغة، والطبعة الرابعة بالإنجليزية صدرت عام ٢٠٠٠م. ويقول المؤلف إنه ناقش أفكاره مع عالِم الفيزياء فيرنر هيزنبرغ عام ١٩٧٢م، الذي اطلع على مسَوَّدة الكتاب كاملة فصلًا فصلًا وقال له إنه يدرك تمامًا هذه التوازيات، وأنه أثناء اعتكافه على نظرية الكوانطا زار الهند لإلقاء محاضرات والتقى طاغور الذي تحدث معه طويلًا عن الفلسفة الهندية. وقال إن محادثاته هذه مع طاغور ساعدته كثيرًا في أعماله في الفيزياء؛ لأنها أوضحت له أن جميع الأفكار الموجودة في فيزياء الكوانطا ليست نزقًا. وأيقن من وجود ثقافة كاملة تشارك في كل الأفكار المماثلة. وقال هيزنبرغ: «إن هذا كان عونًا عظيمًا له …» ويضيف المؤلف: «كذلك الحال بالنسبة إلى عالم الفيزياء نيلز بور Bohr، إذ عاش تجرِبة مماثلة حين ذهب إلى الصين». [المترجم: موسوعة ويكيبيديا]
٥  لا نزال في حاجة إلى تفسير واضح ومحدد عن الطاويَّة والغرب، ولكن رواج كتاب طاو الفيزياء مؤشر عن شيوع الاهتمام. وقامت كتابات نيدهام بدور حاسم لإثبات أهمية الطاويَّة كفلسفة طبيعية، وقدمت مؤشرات عن تزايد أهمية الطاويَّة الآن في كتاب كوبر ١٩٩٠م، وبالمر ١٩٩١م.
٦  اليوغا التانترية Tantric yoga تنبني على تعاليم التانترا، وهي كتب أو تعاليم بوذية أو هندوسية وتستخدم لغة رمزية يغلب عليها الجنس، وتعتمد على الطقوس السرية للوصول إلى السمو والمعرفة. (المترجم)
٧  انظر على سبيل المثال أجايا ١٩٨٣م، الذي يفيد بفلسفة التانترا لتأسيس مذهب للعلاج النفسي.
٨  التاي-تشي شوان T’ai-chi ch’uan: واختصارها تاي، وهي ضرب من الفن العسكري الصيني، والاسم نسبة إلى أسرة حاكمة قديمة اسمها تاي تشي. ويشتمل هذا الفن على ممارسات هدفها دعم وتحسين الحالة الصحية وإطالة العمر وتعتمد الممارسة على القوة الباطنية للنفس. وهاري كريشنا Hari Krishna فرع من عبادات الرب كريشنا القديمة الهندوسية. (المترجم)
٩  لدراسة حلقة الربط بين الإمبريالية والأدب الإنجليزي في القرنين ١٩ و٢٠ انظر سعيد ١٩٩٣م، سوليري ١٩٩٢م، فيسواناثان ١٩٨٩م. وللاطلاع على دراسات عن العلاقة بين الشرق والأدب الإنجليزي انظر غرينبرغر ١٩٦٩م، وغوبتا ١٩٧٣م. وعن استشراق كيبلنغ انظر مور-غيلبرت ١٩٨٦م.
١٠  إحدى المدارس الفلسفية في الفيدانتا، وهي المنظومة الفلسفية الهندوسية. وتؤكد الأدفيتا على الغاية من الفيدا والعلاقة بين النفس الفردية (آتمان) والرُّوح الكلي، أو الكل براهمان. (المترجم)
١١  اللامسرح No Theatre: الشكل المسرحي الأقدم في اليابان، وأخذ شكله العصري في القرن ١٤، لا يحكي قصة أو أحداثًا تاريخية في قالب مسرحي كما هو المعروف عند الغرب — رواية ورقص وجوقة غناء مع مصاحبة إيقاع موسيقي (الطبل والفلوت). ويتم الأداء المسرحي بطريقة الإيماءات بحركات رمزية تنطوي على انفعالات شديدة مع نثر غنائي ورقص. ويرتدي الممثلون أقنعة وملابس زاهية. وتسود العمل أفكار بوذية. (المترجم)
١٢  فيما يتعلق بانخراط ييتس في الفلسفات الشرقية انظر كامبل ١٩٨٠م، نيتو ١٩٨٤م، رافيندران ١٩٩٠م، سوريت ١٩٩٣م، ويلسون ١٩٨٢م.
١٣  عن تأثير الأدب الصيني على إزرا باوند وعلى المودرنزم انظر قيان ١٩٩٥م.
١٤  عن اهتمام إليوت بالبوذية انظر ماكارثي ١٩٥٢م، وتيتموس ١٩٩٥م. وعن انخراطه في الفلسفة الهندوسية انظر بيرل وتوك ١٩٨٥م، وشارب ١٩٨٥م، ٥–١٣٢.
١٥  عن اهتمام كاندينسكي بالأفكار الشرقية، انظر لونغ ١٩٨٠م. ويناقش سوريت العلاقة بين الاستشراق والحركة الحديثة، إذ يدفع بأن هذه العلاقة أثبتت حرجًا للمعلقين الذين غمطوا حقها.
١٦  عن علاقة هيسه بالثقافة الصينية انظر هسيا ١٩٧٤م.
١٧  ظهرت حركة البيتس داخل وحول جامعة كولومبيا في نيويورك خلال أربعينيات القرن العشرين، ويمكن ترجمتها إلى حركة الجيل المعاكس أو النبض المعاكس Beats Generation. أراد الكتاب والشعراء والموسيقيون من أبناء هذا الجيل وصف أسلوبهم الفوضوي المتحرر من الصيغ والقوالب التقليدية والمتميز بالتلقائية. وازدهرت الحركة في كاليفورنيا في منتصف الخمسينيات، وأثرت بقوة في التمرد الثقافي في الستينيات. وتأثر أبناء جيل البيتس بديانات الشرق، خصوصًا بوذية زِن وما تحققه من استنارة وتعبير تلقائي عفوي عن الذات وإحساس بوحدة الوجود والتحرر من الوعي بفردية الذات. والتزموا في الأدب إيقاعات الأسلوب الأمريكي البسيط، وفي الموسيقى البوب والجاز. ويرى البعض أن المرء من أبناء جيل البيتس عليه التوفيق بين أصول عقيدته المحلية والوافد الجديد. إذ من دون ذلك ستكون عقيدة الزن في هذه الحالة إما زن بيت أي النبض المتمرد، أو زن سكوير، أي مجرد حشو ووجاهة مظهرية من دون مضمون. ذلك أن الزن أولًا هي تحرير العقل من الفكر التقليدي، وهذا غير التمرد على التقليد. وتحول جيل البيتس في الستينيات إلى جيل الهيبيز. (المترجم)
١٨  نجد دراسة عن أثر الأفكار الشرقية على أجيال البِيت والهِيبي في فيلدز ١٩٨٦م، وبريبيش ١٩٧٩م، وروزاك ١٩٧٠م.
١٩  انظر بالمر ١٩٩٣م. ومناقشة نقدية لأفكار العصر الجديد من وجهة نظر مسيحية عند بيري ١٩٩٢م.
٢٠  كان أفلاطون يشير إلى سقراط باعتباره الذبابة التي تزعج الدولة بتأكيده على العدالة والتزام الخير. والمقصود بالعبارة Socratic Gadfly النقد اللاذع للغرب. (المترجم)
٢١  انظر فياس ١٩٧٠م لمناقشة دور المثل الأعلى للنزعة الكونية في الفكر الهندي الحديث.
٢٢  عن حياة كيزرلنغ ودوره في نشر الأفكار الشرقية في الغرب، انظر هاردي ١٩٨٧م، وباركيس ١٩٣٤م.
٢٣  انظر غودوين وآخرين، ١٩٩٠م، حيث مدخل إلى كتابات برونتون.
٢٤  عن هذه الفكرة انظر كيتاغاوا ١٩٩٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤