هذه الأرواح والأشباح

بقلم  علي محمود طه

هذه الأرواح، تهيم أشباحها ويدور حوارها في صفحات هذا الكتاب، يعيش بعضها في عالم الحقيقة، ويضطرب البعض الآخر بين عالمي الأساطير والخرافات، لم أسع إليها عن عمد، ولم ألقها مصادفة، ولكني تبينتها صورًا يتمثلها خيالي، وحديثًا يتردد في خطرات نفسي، فوجدت مطابقة بينها وبين أشخاص قرأت لهم وسمعت عنهم، ورأيت اتفاقًا ومواءمة بين ما نزعوا إليه في عالم الروح وما صنعوه في عالم المادة؛ فعرضت للطبائع والغرائز والأهواء، واستعرضت الوقائع والآثار والأسماء، فأيقنت أن كلًّا يكاد يكون المعنيَّ بهذا الحوار، المتسقة طبائعه وغرائزه على هذا الغرار.

وحبب لي هذا الجو الإغريقي الساحر، وأساطيره الغادية الشادية، أني وأنا أتمثل هذه الأرواح صورًا، وأستلهمها إحساسًا وفكرًا، خيل لي أن روحي قد انسرقت من طيفها فيما يشبه أحلام اليقظة، أو لحظات الشرود الإلهي، مأخوذة بما ترى، مشفقة مما تسمع، وكأني بها وراء سحابة في عالمها الذي سبق لها أن عاشت فيه عند بعثها الأول، ووجدت نفسي في طريق أفلاطون ومثله العليا، فتنفست في هذا الجو طليقًا حرًّا لا تقيدني بيئة أو عقيدة، ولا يحد من حريتي حذر أو اتهام، وأرسلت بصري في هذا الطريق الصاعد البعيد فلم يصل إلى مداه، وبدأت البصيرة عملها من حيث انتهى البصر، فإذا أبواب سحرية موصدة، وراءها خفايا وأسرار، وقضايا وأقدار، وإذا بي عند ختام قصيدتي لا أزال في ذات الطريق لم أصل إلى غاية، ولم أوف على نهاية.

وفي عالم الأسرار والأقدار سمعت حوارًا يجري بين حوريات، من صواحب الفن ورباته، هن: سافو، وبليتيس، وتاييس، ورأيت بينهن إلهًا عجيبًا فذًّا يحكم بينهن، ويقضي فيهن، وجدت «هرميس» الذي لا مشبه له بين آلهة الإغريق، في تعدد صوره، وتنوع مذاهبه، وتنافر طبائعه، وتناقض وظائفه، إله عجيب شاذ، لائق حقًّا بالمهمة الموكل بها في هذه القضية، ومن غيره إله له في الروحيات والماديات؟ له في التجارة والكسب، وله في الخداع والدهاء، له في الجد والعبث، وله في الشعر والغناء، يجمع بين النزعات العليا، والرغبات السفلى، يلهم الشعراء، ويرعى القطعان، ثم هو بعد ذلك وقبله، لص أو إله للصوص؟

من غيره إله متناقضات حقًّا، يحكم بين صاحبات الفن ورباته؟ والحياة لا تلذ لهن إلا بهذا التناقض، ولا يرين لها جمالًا إلا من خلال أمزجتهن الرقيقة المتقلبة.

لم يكن غير «هرميس» ليحكم بين هذه الأرواح العابثة، اللاهية، المرحة الغاوية، المتألمة المعذبة، اللطيفة المتكبرة، ولم يكن لهن غير هذا الإله القوي العجيب، الخبير بالمرأة حقًّا، الذي يعرف جمالها ودلالها، ويدرك سرها الذي رآه ووعاه في «أفروديت» ربة العشق وإلهة الصبابة. ولم يكن لهن غير إله مرح، قادر، ماكر، يتعقب الحوريات ويلعب معهن، وتتحدى قوته العمالقة ويعبث مكره بالآلهة. وما رأيك في إله سرق ليلة مولده خمسين ثورًا من قطيع الأوليمب السماوي، وجد بينها في كهف «بيلوس» متلبسًا بإثمه؟ ثم هو بعد ذلك قاتل العملاق «أرجوس» وقائد «هيراكليس» إلى عالم الظلمات.

وهذه «سافو» ربة الشعر الغنائي والأماديح والأناشيد التي يراها «سوينبرن» أعظم شاعرة عرفها التاريخ، والتي اضطربت حياتها في محيط اللذات والآلام، أحبت الرجال ثم اجتوتهم، ووصمت بهذا اللون المريض من العشق، حتى قيل: إنها كانت تعد في «لسبوس» كاهنة الرذيلة، ثم هي هذه المحبة الوامقة التي انتحرت من أجل معشوقها الملاح الميتيليني «فاون» الذي كان بعطر «فينوس» أجمل الرجال!!

هذه المرأة الواقعية، ما سر شذوذها المزعوم؟ وما سر صاحبتها «بليتيس» الخرافية؟ السر هو ما يعلل به العلماء هذا الانحراف الجنسي، هو الشعور العميق بالازدراء والامتهان من الجنس الآخر، هو الخيبة الشديدة في الحب، والإخفاق الأليم فيه، يصدم العصب الإنساني فيهزه هزًّا عميقًا عنيفًا يختل له نظامه، وهذا ما يتجلى في حوار الشاعرتين، وما يعبران عنه بالذات في مقطع «دنيا النساء».

أما «تاييس» تلك الراقصة الفاتنة اللعوب، التي لا تستقيم حياتها الخاصة بغير الرجال وغير موداتهم، والتي لا ينمو فنها ولا يتفتح ولا يزدهر، إلا في أجواء محبتهم وإعجابهم وتحت أشعات أبصارهم وبين رفيف شفاههم وقلوبهم، هذه المرأة الذكية القلب لم يكن لها غير أن تدافع عن الرجال؛ لأن الحياة كما تعرفها وكما خبرتها لا معنى لها بدونهم، ولا بهجة فيها إلا بهم، وإن عطفت على بنات جنسها في بعض أقوالها، فذلك من البديهيات التي لا خلاف عليها.

فإن كان ثمت فرق محسوس بين نزوع هذه الأرواح في السماء، وبين صنيع أصحابها في الأرض، فهو الذي تقضي به طبائع الأشياء، ويستقيم به المنطق، فكل روح قد سمعت بحديث الخير والشر، وتأثرت به وطبعت على ما هيئت له وهي في صحبة الآلهة قبل حلولها في أطيافها الأرضية، وهيهات أن ندرك في أقوالها مدى عنفها ولينها، وحبها وبغضها، وسخطها ورضاها، وسلامها وخصامها، وهي روح مجرد في العالم المعقول، كما نرى ذلك ونلمسه في أفعالها، وهي مزاج من روح وجسه في العالم المنظور، وهذه الأطياف الأرضية، سجون أرواحنا، مثار الأهواء الآثمة، ومستقر الغرائز الدنيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤