ألحانٌ وأشعار في منزل ريتشارد فاجنر

يا لَلطريقِ الضيِّقِ الصَّاعِدِ بين رَبْوَتَيْنْ
كأنما خُطَّ على قَدْرٍ خُطى لعاشِقَيْن
الشَّجرات حوله كأنها أهدابُ عَينْ
كعهدهِ بصاحب الدَّار ظليلَ الجانبينْ
نَبَّأَهُ الصَّدى المرنُّ عن قدوم زائِرَيْنْ
في فجرِ يومٍ ماطرٍ شَقَّ حجابَ ديمتيْنْ
كأنما يَنْزِلُ منه الوحيُ حَبَّاتِ لجيْنْ
فانتبهتْ خميلةٌ تهزُّ عُشَّ طائرينْ
وشاع في الغابةِ هَمْسٌ من شفاهِ زهرتيْنْ
مَنِ الغريبان هنا؟ وما سُراهما، وأيْنْ؟!

•••

ماذا قُدومُهُما والغيثُ مدرارُ
لا صاحبُ الدَّارِ طلَّاعٌ ولا الدَّارُ
هذي البحيرةُ وَسْنَى، حُلْمُ ليلتها
لمَّا تُفِقْ منه شطآنٌ وأغوارُ
والأرضُ تحت سحابِ الماءِ أخيلَةٌ
مما يُصوِّرُهُ عُشْبٌ ونُوَّارُ
والصبحُ في مهده الشرقيِّ ما رُفِعَتْ
عن وَرْدِهِ من نسيج الغيم أستارُ
حتَّى الجبالُ فما لاحتْ لها قِممٌ
ولا شدا لرُعاة الضأن مزمارُ
فمن هُما القادمانِ؟ الريحُ صاغيةٌ
لوَقْع خطوهما والأرضُ أبصارُ!
أعاد من زَمَنِ الأشباح سامرُهُ
فالليلُ والغاب أشباحٌ وأسمارُ؟
أم البحيرةُ جِنِّيَّاتُها طلعتْ
فهبَّ موجٌ يناديها وتَيَّارُ!
أم راصدا كوكبٍ ضلَّا سبيلهما
لما خَبَتْ من نجوم الليل أنوارُ
أم صاحبا سَفَرٍ مال الضَّنَى بهما
حَوَتْهُمَا جَنَّةٌ للفنِّ معطارُ
أم عاشقان تُرَى؟ أم زائران هما؟
وهل مع الفجر عشَّاقٌ وزوَّارُ؟

•••

وأمسكَ الغيثُ كما لو كان يُصغي مثلنا
واعتنقتْ حتى وُريْقاتُ الغصون حولَنا
كأنما تخشى النسيمَ أو تخاف الغُصُنا
وانبعث اللحنُ الشجيُّ من هنا ومن هنا
يثور في إيقاعِه قيثارةً وأرْغُنا
كأنَّ جِنًّا في السماء يُشْعلونَ الفِتَنَا
كأنَّ أربابًا بها يحاكمون الزَّمنا
يا صاحبَ الإيقاع ما تعرف ما هُجتَ بنا
الفجرُ؟ أم ثارتْ على الشمس بوارقُ السَّنا؟
ما لك قد غَنَّيْتَهُ هذا النشيدَ المحزنا
غَنَّيْتَهُ آلهةً أم أنت غنَّيتَ لنا؟

•••

ما ذلك الصوتُ شاجي اللحن سَحَّارُ
يُجْرِيهِ نبعٌ من الإلهام زَخَّارُ
فيه تَنَفَّسُ فوق السحب آلهةٌ
وآدميُّون فوق الأرض ثوَّارُ
وفيهِ تَهْمِسُ أرواحٌ وَأَفْئدةٌ
منهن عانٍ، ورحمنٌ، وجَبَّارُ
له مذاقٌ، له لونٌ، له أَرَجٌ
خَمْرٌ أباريقُها شتَّى وأثمارُ
أشتفُّهُ وأنادي كل ناحيةٍ
مَنِ المُغَنِّي وراءَ الغاب يا دارُ؟
السمفونيَّةُ هذي! أم صدى حُلُمٍ
كما تَجاوبُ خلف الليل أطيارُ!
أعاد للمِعْزَفِ المجهور صاحبُهُ
فعربدتْ في يديهِ منه أوتارُ!
أظَلُّ أُصْغِي وما من شُرْفَةٍ فُتِحَتْ
ولا أزاح رِتاجَ الباب ديَّارُ
حتى الحديقةُ لَفَّتْ كوخَ حارسها
بصمتها، فهما نَبْتٌ وأحجارُ
تواضعتْ بجلال الفنِّ ما ارتفعتْ
مثلَ البروج لها في الجوِّ أسْوارُ
تُصْغِي إلى هَمسات الريح شيِّقَةً
كأنما همساتُ الريح أخبارُ!

•••

هنيهةً ثم سمعنا هاتفًا مردِّدَا
يقول: قُمْ «يا سِجفْريدُ» فالصَّباحُ قد بدا
عرائسُ الوادي ألَمْ تضربْ لهنَّ موعدا؟
ماذا! قُمِ انفضِ الكرى، ونَمْ كما شئتَ غدا
واخطر على الغابةِ منضورَ الصِّبا مُخلَّدا
خُذْ سيفكَ السحريَّ صِيغَ جوهرًا وعسجدَا
قد لَقِيَ التنِّينُ منه في العشيَّة الردى
صوتٌ مع الريح سَرَى … وللسكون أخلدا
فأمْسَكتْ صاحبتي يدي وحاطتْ بي يدا
تقول: لم أسمعْ كهذا اللحن أو هذا الصدى
قلت: ولا بمثلِهِ شادٍ على الدهر شدا

•••

قد باح بالنَّغَمِ الموعودِ قيثارُ
فالفجرُ أحلامُ عُشَّاقٍ وأسرارُ
صحا يُفَصِّلُ رؤياهُ ويَعْبُرها
موجٌ على الشاطئِ الصخريِّ ثرثارُ
وزحزحتْ وَرَقَ الصفصاف حانيةً
على البحيرة أعشابٌ وأزهارُ
تُسائلُ الماءَ: هل غَنَّتْهُ أو عَبرتْ
شُهْبٌ به مستحمَّاتٌ وأقمارُ؟
يا صاحبَ اللحن إنَّ الغابَ مُصْغِيةٌ
فأين من «سِجْفِريدَ»: السيفُ والغارُ
ما زال فوق نديِّ العشب مضجعُهُ
ومن يديهِ على الأغصانِ آثارُ
هذا النشيدُ، نشيدُ الحبِّ، تَعْزِفُهُ
له عرائسُ، مِثْلُ الورد، أبكارُ
بعثتهنَّ من الأنغام أجنحةً
هزيزهنَّ مع الأفلاكِ دوَّارُ
في صدر قيثارةٍ أودْعتَهُ نَغَمًا
مِزاجُهُ الماءُ والإعصارُ والنارُ
تُفْضِي بما شئْتَ من أسرار عالمها
فيهِ ليالٍ وأيامٌ وأقدارُ
حتى الطبيعةُ من ناسٍ وآلهةٍ
تمازجتْ فهيَ ألحانٌ وأشعارُ!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤