تَحْتَ الشِّرَاعِ

بَيْنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ
مسراكَ نورٌ وأنسامٌ وأنداءُ
فاخفقْ شراعي، وطِرْ، يصدحْ لكَ الماءُ
يا أيُّها القلق الحيرانُ كم أمل
تشدو به موجةٌ في البحر عذراءُ
يحدوكَ بالنغم السكران أرغنُها
في مَسْبحٍ ماؤه زهرٌ وصهباءُ
أما تَرى البحرَ يبدو في مفاتنهِ
لكل حُبٍّ جديدٍ فيه أجواءُ؟
وفجرهُ صائدٌ طارتْ بمهجته
حوريَّةٌ في فجاج اليمِّ شقراءُ؟
وليلهُ مرقصٌ تغشاهُ غانيةٌ
في مُطْرَفِ أسودٍ وشَّاهُ لألاءُ؟
شتَّى مواكبَ من حورٍ وآلهةٍ
لها التفاتٌ إلى الماضي وإصغاءُ
تهزُّها بقديم الشوقِ أشرعةٌ
مرنَّحاتٌ تُغنِّيهن أنواءُ

•••

يقودهنَّ على الأمواج في مَرحٍ
ملَّاحُ وادٍ له بالتِّيه إغراءُ
ما بين عينَيه سال البرقُ مبتسمًا
واستضحكتْ قَلْبَهُ مُزْنٌ وهوجاءُ
زَوَتْهُ عنها السنون السبعُ واختلفتْ
عليه من بعدها نُعْمَى وبأساءُ
مُغَرِّبًا في ديارٍ من عشيرته
بها الأحبَّةُ حُسَّادٌ وأعداءُ
وقِيلَ: كفَّتْهُ عن دنيا شواردهِ
بيضاءُ من شَعَراتِ الرأس غرَّاءُ

•••

لا يا غرامي، وهذا الفنُّ مِلْءُ دمي
بالنَّار والصَّبواتِ الحمر مشَّاءُ
ما أفْلَتَتْ من يدي غيداءُ عاصيةٌ
إلا وعادتْ إليها وهي سمحاءُ
وذاك شاطئنا المسحور تَزْحُمُهُ
من ذكرياتكَ أطيافٌ وأصداءُ
على الصخور الحواني من مَشارفهِ
ربَّاتُ وَحْيٍ، وأشواقٌ، وأهواءُ
أقمن منتظراتٍ، ما شكونَ ضنًى
وقد تَعاقبَ إصباحٌ وإمساءُ
حتى رأتني على بُعْدٍ مطوَّقةٌ
مجروحةُ الصوتِ، وَلْهى اللحن، سجواءُ
هَمَّتْ تُغَنِّي فكانت نبأةً وصدًى
صَحَتْ لوقعهما دوحٌ وأفياءُ:
عرائسَ الشعر قد عاد الحبيبُ، وفي
عينيه سهدٌ وتعذيبٌ وإضناءُ
آب المغامرُ من دنيا متاعبه
أما لهُ راحةٌ منها وإغفاءُ؟
دَعِيهِ يَحلُمْ بأن البحر في دَعةٍ
والريحُ ناعمةٌ، والأرضُ قمراءُ
وأنها في ظلال السِّلم نائمةٌ
وأنها جنَّةٌ للحبِّ غنَّاءُ
وقرِّبِي كأسَهُ واصْغي لمزهرهِ
يُسْمِعْكِ أَشْجَى نشيدٍ زَفَّهُ الماءُ

•••

وقيل: «لبنانُ» سحرُ الشوق، فاندفعتْ
سفينةٌ وهفتْ بالشوق دأماءُ
أَوْحَى له الشرقُ أنَّا من أحبَّتِهِ
وأننا في الهوى أهلٌ أوِدَّاءُ
فقرَّبتنا وشفَّتْ عن بشاشتهِ
به قُرًى كربوع الخلد شجراءُ
في كل مُنْحَدرٍ منها ومرتفعِ
مسحورةُ النَّبع، ريَّا النَّبت، جلواءُ
فُعَلِّقَتْ بمغانيهِ نواظرُنا
وقبَّلتْ نسماتُ «الأَرز» حوباءُ
واستقبلتنا طيورٌ في مناقرها
شدوٌ، وزيتونةٌ للشرقِ خضراءُ
تُرقِّصُ الموجَ إنْ مَسَّتْهُ أجنحُها
كقلبِ آدمَ إذ مَسَّتْهُ حواءُ
في ساحلٍ من خرافاتٍ وأخْيلةٍ
بهنَّ «لبنانُ» روَّاحٌ وغدَّاءُ
لاحتْ على سفحهِ بيروتُ فاتنةً
صبيَّةً، وهي مثلُ الدهر شمطاءُ
توسَّدتْ صخرةَ الآباد والتفتتْ
تَرْعَى سفائنُ من راحوا ومن جاءُوا
أتلك بيروتُ؟ أم من بابلٍ صُوَرٌ
معلقاتٌ، لها بالسحر إيحاءُ!
شُغْلُ العباقرة الشادين من قِدَمٍ
مجددين لهمْ في المجد أسماءُ
وأومأَتْ بالهوى «عاليُّ» فاعتنقتْ
من حولنا ثَمَّ أظلالٌ وأضواءُ
قامتْ تُنَسِّقُ من ماءٍ ومن شجرٍ
فكلُّ ناحيةٍ زهرٌ وأجناءُ
كأنما نُبِّئَتْ من «عشتروت» لِقًا
فازَّيَّنَتْ فهي سيقانٌ وأثداءُ
تقول: يا ربَّةَ الحسن انظري وَصِفي:
أفوقَ واديكِ مثلي اليوم حسناءُ؟
عَاليُّ، رفْقًا بأبصارٍ مُدلَّهةٍ
لها إلى الحسن بالألباب إفْضاءُ
عَاليُّ، إنَّا نشاوي من هوًى وأسًى
إنَّا محبُّونَ، يا عاليُّ، أنضاءُ
وحان بَعْدُ وداعٌ من فرادسها
وقد جَرَتْ بِخُطَى الشمس المُلَيْسَاءُ
فاغرورَقتْ بدموعِ الوجد أعينُنا
وأشفَقَتْ من وجيبِ القلب أحناءُ
وسار عنها شراعٌ حائرٌ قلِقٌ
له إلى الغَرْبِ بالأسْفارِ إيماءُ

•••

يا بحرُ ما بكَ؟ هل مَسَّتْكَ عاصفةٌ؟
أم استخفَّكَ إِزْبادٌ وإرْغاءُ؟
أشاقك الغربُ، أم شفَّتْكَ موجدةٌ
لما خَبَتْ من ربوع الشرق أسناءُ؟
هذي السماءُ صفاءٌ، والدُّجى قَمَرٌ
للحسن فيه وللعشَّاق ما شاءوا
يا بحرُ ما بكَ ما بي! مصرُ ما بَعُدَتْ
وَلي إليها بهذا الشعر إسرَاءُ
عَجِبْتُ والعصرُ حرٌّ كيف في يدها
هذا الحديدُ له حَزٌّ وإدماءُ!
أقسمتُ لا رجعتْ بي فِيكَ جاريةٌ
إنْ لم تَجِئْ عن جلاءِ القوم أنباءُ
وأنَّ مصر بحريَّاتها ظَفِرت
فأهلها اليوم أحرارٌ أعزَّاءُ
أقسمتُ، إلَّا إذا نادتْ بِفتيتها
فهبَّ مستقتلٌّ عنها وفَدَّاءُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤