في عالم الذكرى

محمَّد صبري أبو علم باشا
ألقاكَ في عالم الذكرى وتلقاني
رغمَ الفِراق بهذا العالم الفاني
أرنو إلى وجهكَ الضَّاحي فيشرقُ لي
عن صفحتَيْ مَرِحٍ في الخلد جَذْلانِ
وأَجتلي لَمَحاتِ العبقريَّةِ في
عينينِ حَدَّثَتَا عن رُوحِ فَنَّانِ
لأنتَ حيٌّ برغم الموت، أسْمَعُهُ
كعهدِهِ، وأراهُ مِلء وجداني
عذبُ البيان، سَرِيُّ اللفظ مَازَجَهُ
ما في طباعكَ من حُسْنٍ وإحسانِ
يُذْكِي الشيوخَ بأحلام الشبابِ وكم
أذكي بحكمتهم أحلامَ شُبَّانِ
أُصْغي إليكَ، عميقَ الفكر، ملتمعًا
في منطقٍ جهوريِّ الصَّوتِ رنَّانِ
كالغيث يلمعُ في الآفاق بارقُهُ
وفي الثَّرَى مِنه زاهرٌ، فوق أفنانِ
عفُّ الضمير حَوَى الدنيا بنظرتِهِ
فلم تَرُعْهُ بأشكال وألوانِ
مُقَيَّدٌ بعريقٍ من خلائقهِ
لا خوفَ بطشٍ ولا زُلْفَى لسلطانِ
كالنهر يقتلع الأسدادَ، منطلقًا
حرًّا، ويجري حبيسًا بين شطآنِ
يُعْطِي الحياةَ لأقوامٍ وينشرها
شَتَّى روائعَ في حقلٍ وبستانِ
تَمثَّلَ الحقُّ يرمي كلَّ شائبةٍ
عنه، ويُغْرِقُ فيهِ كلَّ بهتانِ
حامي القضاء وراعي العَدْل، في بلدِ
لا يأمن العدلُ فيهِ سطوةَ الجاني
ورافعُ الصَّرح لاستقلاله، عَجَبًا!
صُنْعُ السماءِ تُرَى؟ أم صُنْعُ إنسانِ؟
صبري! أحقًّا طواكَ الموتُ؟ كيف؟ وما
هذي المواكبُ من قاصٍ ومن داني
كالأمس ضَجَّتْ فهل أَسْمَعْتَ هاتفها
صدى هُتافكَ في جنَّات رضوانِ؟
قُمْ بَشِّر الحقَّ واخطبْ في كتائبهِ
يا صاحبَ الخلد هذا يومُك الثاني!

•••

يا واهبَ الثورة الكبرى يَفَاعَتَهُ
حين الشبابُ رُؤَى غيدٍ وألحانِ
وصاحِبَ العهدِ لم يطرحْ أمانَتهُ
كهلًا يُصاول عن أهلٍ وأوطانِ
وَقْفٌ على مصرَ هذا القلبُ مُتَّقِدًا
بحبها، مَنْ لهذا المدْنَفِ العاني
قد استبدَّتْ به، حتى استبدَّ به
عادِي الرَّدى، وهو لا واهٍ ولا واني
يا للشهيد صريعًا ملءَ حومتهِ
سيفًا خضيبًا وجُرْحًا من دمٍ قاني!

•••

هذي الصحائفُ من مجدٍ ومن شرفٍ
هيهاتَ يُسْلِمها دهرٌ لنسيانِ
ذخائرُ الوطن الغالي يُرَتِّلُها
على مسامع أجْيالٍ وأزمانِ
فيها أغانٍ لعشَّاقٍ قد افتقدوا
أوطانَهم، وأناشيدٌ لفرسانِ
أحرارُ مملكةٍ أرْسَوْا دعائمها
على أساسٍ من الشُّورَى وأركانِ
لم يَرْهَبُوا سَوْطَ جَلَّادٍ ولا حَفِلوا
بسيفِ باغٍ ولا أصفاد سجَّانِ
ولا أقاموا على ذُلٍّ وإنْ ذهبوا
على دموع وآلامٍ وأشْجانِ
همو البُنَاةُ وإنْ لم يذكروا يَدَهُمْ
فيما يَرَى الجيلُ من مرفوعِ بنيانِ
لا تسألنَّ الضحايا عن مآثرهم!
وسائل الأثَرَ الباقي: مَنِ الباني؟

•••

ذكراكَ ما سنحت للفكر، أو عَبَرَتْ
بالقلب، إلَّا وهاجت نارَ أحزانِ
فَزِعْتُ منها إلى الأوهام أسأَلُها
أأربعونَ مَضَتْ؟ أم مَرَّ عامان؟
قد أذهل الخطبُ شعري عن شواردهِ
وأُنْسِيَتْ كلماتي شَدْوَ أوزاني
فجئتُ أُجْريهِ دمعًا في يديْ رَجُلٍ
قد صاغه الله من حقٍّ وإيمانِ
هذا الذي باركتْ مصرٌ زعامتَهُ
وقَبَّلَتْ جُرْحَها في قلبه الحاني!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤