التَّمْثَالُ

قصة الأمل الإنساني في أربعة فصول

الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه وروحه، ولا يزال عاكفًا عليه يُبدع في تصويره وصقله متخيلًا فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طينًا جامدًا وحجرًا أصم، حتى تخمد وقدة الشباب في دم الصانع الطامح، وتُشعره السنون بالعجز والضعف فيفزع إلى معبد أحلامه هاتفًا بتمثاله، ولكن التمثال لا يتحرك، والحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا تجتاح الليالي ذلك المعبد، وتعصف بالتمثال فيهوي حطامًا، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله.

أقبلَ الليلُ، واتَّخذتُ طريقي
لكَ، والنجمُ مؤنِسي، ورفيقِي
وتوارى النهارُ خلف ستارٍ
شفقيٍّ، من الغمام رقيقِ
مدَّ طيرُ المساءِ فيه جناحًا
كشراعٍ في لُجةٍ من عقيقِ
هو مثلي، حيرانُ يضربُ في الليـ
ـلِ ويجتازُ كلَّ وادٍ سحيقِ
عادَ من رحلةِ الحياة كما عُدْ
تُ، وكلٌّ لوَكْرِهِ في طريقِ!!
أيُّهذا التمثالُ هأنذا جئـ
ـتُ لألقاكَ في السكونِ العميقِ
حاملًا من غرائب البرِّ، والبحـ
ـرِ ومن كل مُحدَثٍ، وعريقِ
ذاك صيدي الذي أعودُ به ليـ
ـلًا وأمضي إليه عند الشروقِ
جئت أُلقِي به على قدميكَ الآ
نَ في لهفةِ الغريب المَشُوقِ
عاقدًا منهُ حول رأسِكَ تاجًا
ووشاحًا، لقدِّكَ الممشوقِ!

•••

صورةٌ أنتَ من بدائعَ شتَّى
ومثالٌ من كلِّ فنٍّ رشيقِ
بيدي هذه جَبلتُكَ، من قلـ
ـبي، ومن رونقِ الشبابِ الأنيقِ
كلما شِمتُ بارقًا من جمالٍ
طِرتُ في إثرِهِ أشقُّ طريقِي
شهِدَ النجمُ، كم أخذتُ من الرو
عةِ عنهُ، ومن صفاءِ البريقِ
شهد الطيرُ، كم سكبتُ أغانيـ
ـهِ على مسمعيكَ سكبَ الرحيقِ
شهِدَ الكرمُ، كم عصرتُ جَناهُ
وملأتُ الكئوسَ من إبريقِي
شهد البَرُّ، ما تركتُ من الغا
رِ على مِعْطَفِ الربيع الوريقِ
شهد البحرُ، لم أدَعْ فيه من دُرٍّ
جديرٍ بمفرقيكَ، خليقِ
ولقد حيَّرَ الطبيعةَ إسرا
ئي لها كلَّ ليلة وطُرُوقِي
واقتحامي الضحى عليها كراعٍ
أسيويٍّ، أو صائدٍ إفريقِي
أو إلهٍ مُجنَّحٍ يتراءَى
في أساطيرِ شاعرٍ إغريقِي

•••

قلتُ: لا تعجبي فما أنا إلَّا
شبَحٌ لجَّ في الخفاءِ الوثيقِ
أنا يا أمُّ، صانعُ الأمل الضا
حك في صورة الغد المرموقِ
صُغْتُهُ صوغَ خالقٍ يعشق الفنَّ
ويسمو لكل معنى دقيقِ
وتنظَّرتْهُ حياةً، فأعيا
ني دبيبُ الحياة في مخلوقِي!!
كلَّ يوم أقولُ: في الغدِ، لكنْ
لستُ ألقاهُ في غدٍ بالمفيقِ
ضاع عمري، وما بلغتُ طريقي
وشكا القلبُ من عذابٍ وضيقِ

•••

معبدي! معبدي! دجا الليلُ إلَّا
رعشةَ الضوءِ في السراج الخفوقِ
زأرتْ حولكَ العواصفُ لما
قهقه الرعدُ لالتماعِ البروقِ
لطمتْ في الدُّجى نوافذكَ الصـ
ـمَّ ودقَّتْ بكل سيلٍ دفوقِ
يا لتمثاليَ الجميلِ، احتواهُ
ساربُ الماء كالشهيد الغريقِ
لم أعُدْ ذلك القويَّ، فأحميـ
ـه من الويلِ والبلاءِ المحيقِ
ليلتي! ليلتي جنيتِ من الآثا
مِ حتى حملتِ ما لم تطيقِي
فاطربي واشربي صُبابةَ كأسٍ
خمرها سالَ من صميم عروقِي!

•••

مرَّ نورُ الضحى على آدميٍّ
مُطرقٍ في اختلاجَةِ المصعوقِ
في يديه حُطامةُ الأمل الذا
هب في ميعة الصِّبا الموموقِ
واجمًا أطبقَ الأسى شفتيهِ
غيرَ صوتٍ عبرَ الحياة طليقِ
صاح بالشمس: لا يُرعْكِ عذابي
فاسكبي النارَ في دمي، وأريقِي
نارُكِ المشتهاةُ أندى على القلـ
ـب وأحنى من الفؤاد الشفيقِ
فخذي الجسمَ حفنةً من رمادٍ
وخذي الروحَ شُعلةً من حريقِ
جُنَّ قلبي فما يرى دَمَهُ القا
ني على خِنجرِ القضاءِ الرقيقِ!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤