مَأْسَاةُ رَجُلٍ

ماذا تركتَ بعالم الأحياءِ
وأخذْتَ من حبٍّ ومن بغضاءِ
لكَ بعد موتكَ ذكرياتٌ حَيَّةٌ
جوَّابةُ الأشباحِ والأصداءِ
هتكتْ حجابَ الصمتِ عنكَ وربما
هتكتْ غشاءَ المقلةِ العمياءِ
فرأتْ مخايلَ وادعٍ متواضعٍ
في صورةٍ من رقَّةٍ وحياءِ
متطامنِ النظراتِ إلا أنَّها
نَفَّاذةٌ لمكامن الأهواءِ
متفرِّساتٍ في سكينةِ قانصٍ
لم يَخْلُ من حذرٍ وفرط دهاءِ
شيخٌ أطلَّ على الشتاءِ وقلبهُ
متوقِّدٌ كالجمرةِ الحمراءِ
مرَّ الرفاقُ به، فشَيَّع ركبهم
وأقام فردًا في المكانِ النائي
وطوى الحياةَ كدوحةٍ شرقيَّةٍ
أمستْ غريبةَ تربةٍ وسماءِ
لبستْ جلال وحادِها وترفَّعتْ
بالصمتِ عن لغوٍ وعن ضوضاءِ
لم تنزل الأطيارُ فيءَ ظلالِهَا،
أو تَبْنِ عشًّا، أو تحُمْ بغناءِ
حتى إذا عرَّى الخريفُ غصونَها
من وشْيِ تلك الحُلَّةِ الخضراءِ
عَبَرتْ بها صدَّاحةٌ في سجعها
لُغَةُ الهوى ورطانةُ الغرباءِ
وا رحمتا للنسرِ يخفقُ قلبُهُ
بصبابةِ القُمريَّةِ البيضاءِ
هي لمعةُ القَبَسِ الأخيرِ وقد خبا
نجمُ المساءِ ورعشةُ الأضواءِ
وتوثُّبُ الروح الحبيسِ وقد شدا
ثَمِلًا بسحرِ الليلةِ القمراءِ
وجنايةُ الحسنِ الغريرِ إذا رمى
فشريقُ دمعٍ، أو غريقُ دماءِ
ومهاجرٍ ضاقتْ به أوطانُهُ
وتأثَّرتْهُ مخاوفُ الطُّرَداءِ
لم تَثْنِهِ شيخوخةٌ مكدودةُ
دون السِّفارِ ولا صقيعُ شتاءِ
متطلبٍ حقَّ الحياةِ لخافقٍ
أمسى مهيضَ كرامةٍ وإباءِ
من كان في أمسٍ يسوسُ أمورَهم
ضَنُّوا عليه بفرحةِ الطُّلقاءِ
يقضونَ باسمِ المالِ فيه كأنَّما
ضَمنُوا لمصرَ مصادرَ الإثراءِ
هلَّا قضوا لمقاصفٍ ومصارفٍ
مفغورةٍ، منهومةِ الأحشاءِ
أكلتْ دمَ الفلَّاح ثم تكَفَّلَتْ
بحصادِ حنطتِهِ، وجلدِ الشاءِ
حبٌّ بلوتَ به العذابَ، ومثلُهُ
مِقَةُ السياسةِ وهي شرُّ بلاءِ
عَصَفَتْ بأحلامِ الرجالِ وسفَّهَتْ
رأيَ اللبيبِ، ومنطقَ الحكماءِ
كم فوق ساحِلها خُطًا مطموسةٌ
كانت سبيلَ هدايةٍ ورجاءِ
وسفينةٌ مهجورةٌ، محطومةٌ
حَمَلتْ لها البشرى طيورُ الماءِ
أين اللواءُ؟ وربُّهُ؟ وجماعةٌ
كانوا طليعةَ موكبِ الشهداءِ؟
وأخو يراعٍ في الصفوفِ مدافعٌ
بيدَيْ حواريٍّ، وصدرِ فدائِي؟
لم يُنْصفُوا حتى ببعض حجارةٍ
خرساءَ ماثلةٍ لعينِ الرائِي!
ومضوا، فما وجدوا كفاءَ صَنيعِهِم
تمثالَ حبٍّ، أو مثالَ وفاءِ
تأبى السياسةُ غيرَ لونِ طباعِها
وتريدُ غيرَ طبائعِ الأشياءِ
قالوا: أحبَّ الإنكليزَ وزادهم
وُدَّ الحميم وموثق القُرَناءِ
ها قد أتى اليومُ الذي صاروا به
أوفى الدعاةِ وأكرمَ الحلفاءِ
بتنا نغاضبُ من يغاضبُهم ولا
نأبى رعايَتَهم على الضرَّاءِ
رأيٌ أخذْتَ به وليس بعائبٍ
ذممَ الرجالِ مآخذُ الآراءِ
لكن سكتَّ، فقيلَ: إنَّك عاجزٌ
عن ردِّ عاديةٍ ودفعِ بلاءِ
صَمْتٌ تحيَّرَ فيه كلُّ مُحَدِّث
والصمتُ بعضُ خلائق الكُرماءِ
في عالمٍ يُنْسِي الحليمَ وقارَهُ
ويُرِي البنينَ عداوةَ الآباءِ
وتَرى التوائمَ فيه بين عَشِيَّةٍ
متنافراتِ طبيعةٍ ورواءِ
جهدُ الكرامِ به افترارُ مباسمٍ
وتَكَلُّفٌ في القولِ والإصغاءِ
صُوَرٌ عرفتَ لُبَابها ولحاءَها
فكأنَّما خُلِقَت بغير لحاءِ

•••

قد كنتَ تُخلِصُ لي الودادَ فهاكَهُ
شعرًا يصونُ مَودَّةَ الخلصاءِ
يجدُ الرجالُ به على حسناتِهم
مدَحِي، وعن هنواتِهم إغضائي
فاصعدْ لربِّكَ فهو أعدلُ حاكمٍ
وهو الكفيلُ برحمةٍ وجزاءِ
وتَلَقَّ من حكمِ الزمانِ وعدلِهِ
ما شاءَ من نقدٍ ومن إطراءِ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤