الملهى

قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «مارسيل بانيول»

ليس هذا العنوان ترجمة دقيقة للعنوان الفرنسي، وربما لم يكن ترجمة مقاربة. فالعنوان الفرنسي يشير إلى نوعٍ خاص من اللهو، هو هذا الضجيج الأمريكي الذي شاع في الحانات والملاهي الذي يسمونه الجازباند. وإذا كنت لم أعن بالترجمة الدقيقة لهذا العنوان، فذلك لأن هذا العنوان نفسه لا يدل على القصة ولا يختصرها، ولا يدل على جزء مهم من أجزائها. إنما يدل على شيء إضافي مر في القصة عرضًا، ومن حقنا أن نتساءل: لِمَ اتخذ الكاتب لقصته هذا العنوان؟ وما باله لم يلتمس لها عنوانًا يلائم موضوعها أو أشخاصها ملاءمة صحيحة؟ على أن هذه الخصلة ليست وحدها الخصلة الغريبة في هذه القصة، فالقصة كلها غريبة في حقيقة الأمر: غريبة في تصورها، غريبة في عرضها، غريبة في نتيجتها، ولكنها على ذلك قيمة لذيذة، أو قل إنها لذلك نفسه قيمة لذيذة.

والحق أنك في حاجة إلى أن تقرأ هذه القصة مرتين، وربما احتجت إلى أن تقرأها أكثر من مرتين، لا لتفهمها، ففهمها سهل يسير، ولا لتشعر بقيمتها الفنية، فأنت شاعر بهذه القيمة متى بدأت في القراءة؛ ولكن لتتبين الغرض الذي إليه قصد الكاتب حين وضع قصته. ولست أدري أمن اليسير بعد القراءة مرة أو مرتين أو ثلاثًا أن تقطع بالغرض الذي قصد إليه الكاتب. ومن يدري؟! لعله لم يقصد إلى غرضٍ بعينه، ولم يفكر إلا في أن يعرض عليك قصته كما تصورها، تاركًا لك أن تستنبط منها ما تشاء.

ومهما يكن من شيء، فأنت مضطر إلى أن تلاحظ في هذه القصة أمرين: أحدهما نعي شديد على العلماء الذين يقفون حياتهم على العلم وحده وعلى العلوم التي تمس الآداب بنوعٍ خاص.

فموضوع القصة رجل من هؤلاء العلماء وقف حياته على اللغة اليونانية. والكاتب لا يعرض علينا أمر هذا العالم وحده، ولكنه يعرض علينا من قريب أو بعيد أمر قوم آخرين يعملون في كلية من كليات الآداب، منهم الأستاذ ومنهم الطالب. والثاني صراع عنيف بين الحياة العلمية الجافة والحياة العملية التي لا تخلو من لذة ودعة ولين. فهل قصد الكاتب إلى أن يبغض إلى الناس هذه الحياة العلمية الخشنة التي يسرف فيها بعض العلماء حتى يجعلوها أشبه برهبانية الرهبان ونسك الناسكين، مزدرين في سبيلها عواطف النفس وأهواءها، وحاجات الجسم وما تستتبعه هذه الحاجات من لذة وألم؟ أم هل قصد الكاتب إلى أن يسخر من هذا اللون من ألوان البحث العلمي، ويبين أنه إذا كان هناك نوع من العلم خليق بأن يقف الإنسان عليه حياته، فليس هو هذا النوع الذي يفرغ له الباحثون عن اللغات، وعن اللغات القديمة بنوعٍ خاص؟ أم هل قصد إلى أن يسخر من البحث العلمي بوجهٍ عام؟ أخشى أن يكون قصد إلى هذا كله في وقتٍ واحد، أخشى أن يكون قصد إلى ما يقصد إليه الشبان في هذا العصر الحديث، ولا سيما بعد انتهاء الحرب الكبرى، من تمجيد الحياة العملية والإعراض عن هذه الحياة العلمية الخالصة، بحجة أن هذه الحياة العملية هي وحدها المنتجة، وهي الملائمة لطبيعة الأشياء وحاجات الناس ومذهب المنفعة بعبارة موجزة.

ومهما يكن الغرض الذي قصد إليه الكاتب، فإن قصته لا تخلو من لذة قوية ونفع كثير. ولو لم يكن للكاتب إلا هؤلاء الأشخاص الذين قد صورهم فأحسن تصويرهم، لكانت قصته خليقة بالعناية، فكيف وقد وفق فوق هذا لطائفة أخرى من المعاني تبشر بأن سيكون له في فن التمثيل مستقبل لا بأس به.

على أني لا أحب أن أبدأ في تحليل القصة وعرض أشخاصها عليك قبل أن ألاحظ أن الفصل الثاني من هذه القصة خليق أن يمحى، فليست إليه حاجة فنية، وربما كان من الإتقان الفني أن يترك الكاتب للقارئ أو للنظارة تقدير ما جاء فيه. على أن هذا الفصل نفسه لا يخلو من فكاهة رائقة وتفكير عميق. ولعل هذا هو الذي حمل الكاتب على أن يضحي بالفن التمثيلي في سبيل الفن الأدبي الخالص.

•••

الأشخاص الذين يستحقون أن يعرضوا في هذه القصة أربعة: أولهم؛ «جان بليز» وهو رجل في السابعة والخمسين من عمره، أنفق حياته كلها في درس اللغة اليونانية، ووفق في هذا الدرس إلى حظ من الفوز فتن به الناس جميعًا، فنال أوسمة الشرف كلها من حكومته الفرنسية، وهو يوشك أن ينتخب عضوًا في المجمع العلمي وأن يختار أستاذًا لليونانية في السوربون، وهو في سبيل هذا المجد العلمي قد أخذ نفسه بألوان من الشدة في حياته، فرفض الحب رفضًا قاطعًا وانصرف عن النساء وعن لذات الحياة كلها. ثم لم يكتف بهذا، بل خيل إليه أنه من هذه الطائفة المختارة التي خُلقت لتقود الإنسانية وترقيها. وهو مطمئن إلى هذه المكانة مقتنع بأنه قد أصبح من الخالدين، وهو يزدري الحياة العملية والذين بضطربون فيها، لا يؤمن لهم إلا بأنهم خدم يهيئون للعلماء حاجاتهم فيعينونهم على تأدية ما يؤدونه من نفع هذا النوع الإنساني. وهو بهذا كله مؤمن، مقتنع بإيمانه، لا يقبل فيه جدالًا ولا نزاعًا. ولكن نفسه على شدة اقتناعها بهذا كله لم تستطع أن تقهر حسه ولا أن تفلَّه ولا أن تلطف من حدة شعوره، فهو في جهاد متصل بين العلم والهوى. وأكبر الظن أنه إنما أمعن في العناية بالعلم ووقف حياته عليه حين أحس الإخفاق في الحب وأشفق ألا يعجب النساء. وآية ذلك أن هذا الجهاد قد بلغ من العنف أن آذاه وأضناه وظهرت آثار هذا الأذى في مجموعته العصبية التي نشعر منذ الفصل الأول بأنها قد أخذت تضعف وتضطرب حتى أشفقت عليه خادمه أن يكون قد أصيب بأحد أمراض المعدة. وقد وفق الكاتب توفيقًا غريبًا لأن يعرض علينا شخصية هذا الرجل عرضًا قويًّا، فقد ألف هذا الرجل من شخصين مختلفين: أحدهما؛ هو هذا العالم الذي عرضته عليك، والآخر؛ شاب يمثل هذا الرجل حين كان طالبًا وحين كانت نفسه تنازعه إلى الحب والنساء، وجعل الصراع بين هذين الشخصين ماديًّا خارجيًّا يرى بالعين.

الشخص الثاني؛ عميد كلية الآداب، وهو رجل متقدم السن عالم، ولكن فيه عيوب أمثاله من العلماء الذين يشغلون المناصب ويحرصون على أن يرضى عنهم الجمهور والرؤساء، فهو حسود مسرف في الحسد، وهو منافق غال في النفاق، وهو إلى ذلك جبان عظيم الحظ من الجبن، وهو يتقن العلم ويظهر الإيمان به، ولكنه في حقيقة الأمر يزدريه ويشك فيه.

الشخص الثالث؛ فتاة في ريعان الشباب هي «سسيل بواسييه»، طالبة في الجامعة تدرس اللاتينية واليونانية، جميلة ولكنها فقيرة، تعنى بأن تعيش، ولا تكاد تفكر فيما يفكر فيه الفتيات من حب أو لهو، مستعدة كل الاستعداد للتضحية، ولكنها لا تكاد تحس الحب حتى تظهر فيها الأثرة ويظهر عجزها عن التضحية.

الشخص الرابع؛ فتى صربي هو «ستيبانوفيتش»، كان من جنود الحرب الكبرى، أبلى فيها بلاء الأبطال، فلما انتهت عاد إلى مهنة التعليم التي كان يعيش منها، ثم بدا له فجاء إلى فرنسا يتم درس اليونانية. وهو كبير النفس صبور محتمل للمكروه في سبيل العلم، لا يتردد في أن يتخذ صناعة الجمال في محطة السكة الحديدية ليتمكن من الدرس. وهو رقيق النفس قوي العاطفة، ولكنه يعرف كيف يكتم حبه، فإذا ظهر له أنه يستطيع أن يعلن هذا الحب دون أن يتجاوز الحق والعدل، مضى في ذلك غير مشفق ولا متردد ولا محجم عن أشنع أنواع القسوة.

هؤلاء هم أشخاص القصة، فلننظر كيف يضطربون فيها.

•••

نحن في مدينة جامعية من مدن الأقاليم، في دار «جان بليز» آخر النهار، قد ذهب الأستاذ إلى الجامعة ليلقي درسه. فإذا رفع الستار رأينا خادمه يتحدث إلى صديق أقبل ليزوره ومعهما عميد كلية الآداب قد جاء وكأنه يحمل نذير سوء. ثم ينصرف هذا العميد منذرًا بعودته، فإذا خلت الخادم إلى صديق سيدها أخبرته بأن سيدها متعب مضطرب الأعصاب قد يتحدث إلى نفسه إذا جنه الليل، وعللت ذلك باضطراب في المعدة، وعلل الصديق ذلك بالوحدة.

ثم يأتي الأستاذ، فإذا كانت بينه وبين صديقه التحية المألوفة وجلسا يتحدثان، فهمنا أن هذا الأستاذ قد ذهب مرة إلى مصر فوجد في بعض أديرتها نسخة قديمة كتب عليها الإنجيل باللغة اللاتينية، ثم تبين أنه قد كان مكتوبًا قبل الإنجيل شيء باللغة اليونانية، فمحا الإنجيل وأخضع نسخته لعمل كيميائي مكنه من كشف الأصل لهذا النص اليوناني، فإذا هو كتاب من كتب أفلاطون يقال له «فايتون». ولكن هذا الأصل كان مضطربًا قد عبث به الزمان، فلم تبق منه إلا كلمات وجمل منها التام ومنها المبتور، فجد في ذلك حتى أصلحه وأتمه. وقد أنفق في هذا العمل أعوامًا طوالًا، ثم نشره فاضطرب له العلماء في أقطار الأرض، وكادوا يجمعون على أن هذا الأستاذ قد أخرج للناس أقوم أثر من آثار أفلاطون من الوجهة اللغوية والأدبية والفلسفية. وعرفت الحكومة الفرنسية لهذا الأستاذ حقه فكافأته بالأوسمة، وهي تريد أن تنقله إلى السوربون، وهو يوشك أن يكون عضوًا في المجمع العلمي. ويحدث بهذا كله صديقه الذي لا يكاد يفهم منه شيئًا لأنه يعمل في التجارة، فإذا ظهر منه عجزه عن الفهم كانت بينه وبين صاحبه مناقشة رأينا منها كبرياء الأستاذ بعلمه وازدراءه لغيره من الحياة والأحياء.

وبينما هما كذلك إذ تقبل «سسيل بواسييه» إحدى تلاميذ الأستاذ، تريد أن تستعير من أستاذها كتابًا فيعيرها إياه. ولكنهما لا يكادان يتحدثان حتى نحس من الأستاذ ميلًا خاصًّا إلى هذه الفتاة وعطفًا عليها، ومن الفتاة إعجابًا بالأستاذ. والفتاة لم تأت في حقيقة الأمر لتستعير الكتاب، إنما جاءت لتعرض على أستاذها أن رفيقًا لها من الطلبة هو «ستيبانوفيتش» قد ضاقت به سبل الحياة، فهو مضطر إلى أن يعود إلى وطنه، وقد تعاون رفاقه فيما بينهم فجمعوا له مقدارًا من المال. ولكنهم لا يعرفون كيف يدفعون إليه لأنه شديد الكبرياء، فهم يتوسلون بالأستاذ ليؤدي إليه هذا المقدار، فإذا سمع الأستاذ هذا، رد المقدار إلى الفتاة ووعدها بأن يصلح من أمر الفتى، ثم أخذ يلومها لأنها لم تحسن كتابة الموضوع الذي طلب إليها كتابته باليونانية. وتنصرف الفتاة، ويأتي الفتى الصربي مودعًا الأستاذ، فلا يمكنه الأستاذ من أن يتكلم، بل يفجؤه بأن يعلن إليه أنه سيطبع كتابًا من كتب «كسينوفون»، وقد أعد لهذا الكتاب شرحًا وتعليقًا، ولكن أوراقه في حاجة إلى الترتيب والنسخ، فهو يكلفه هذا العمل ويأجره عليه ويدفع إليه بعض هذا الأجر مقدمًا، والفتى مغتبط بهذا لأنه يمكنه من إتمام الدرس وتأدية الامتحان دون أن يؤذي كبرياءه.

فإذا خرج الفتى وهمَّ الأستاذ أن يستأنف حديثه مع صديقه، أقبل عميد الكلية، فيتلقاه الأستاذ عابسًا منقبضًا، ويسرع العميد فينبئه بأنه جاء يحمل إليه نبأً سيئًا ويأخذ في تعزيته وتشجيعه. فإذا ألح عليه ليعرف هذا النبأ، أعلن إليه أن العالم الإنجليزي «كولسون» قد ذهب إلى مصر واستكشف فيها نسخة من كتابه «فايتون»، وكانت نسخة صحيحة واضحة لا عيب فيها، وظهر من قراءة هذه النسخة أولًا: أن الكتاب ليس لأفلاطون، وإنما هو لنحويٍّ من أهل الإسكندرية كان يقلد أفلاطون في القرن الأول للمسيح؛ أي بعد أفلاطون بأربعة قرون، ثانيًا: أن كل ما اقترحه الأستاذ لإصلاح النص وتكميل جمله وألفاظه وتصحيحها خطأ. وهذا العالم الإنجليزي ينشر نسخته التي استكشفها، ولكنه يرسل منها مسودة ليقرأها الأستاذ قبل أن تظهر للناس. ثم يدفع العميد هذه المسودة إلى الأستاذ، ويأخذ هذا في قراءتها والاضطراب يملكه شيئًا فشيئًا، وقد ظهر ذلك عليه، فنهض صديقه، وخرج العميد ليتركا الرجل منفردًا إلى مسودته.

وفي أثناء ذلك يظهر فتى كأنما انشق عنه الحائط وهو رث شاحب، فيقف خلف الأستاذ وينظر محزونًا كأنه يقرأ المسودة.

•••

فإذا كان الفصل الثاني فقد مضت أيام على هذه القصة وظهر أمرها للناس، وافتضح الأستاذ فضيحة منكرة، وانقسم فيه العلماء الذين كانوا يعجبون به، فمنهم من يتهمه بالجهل المنكر، ومنهم من يتهمه بالتدليس القبيح. وقد كانت هذه الفضيحة صدمة للرجل حالت بينه وبين الذهاب إلى الجامعة أيامًا، وكأنه قد استرد قوته فعزم أن يستأنف دروسه. وأقبل الطلبة مضطربين يريدون أن يروه وأن يسمعوه وهم في أمره مختلفون اختلاف العلماء والجمهور، ولكن العميد يحاول أن يؤخر استئناف هذا الدرس، فيغري أحد الخدم بأن يصد الطلبة عن قاعة الدرس، ويعلن إليهم أن الأستاذ قد أجل درسه، ولكن بعض الطلبة يأبون إلا أن يقتحموا غرفة الدرس. وهم جلوس وقد رأى العميد أن لا بد من استئناف الدرس، فأقبل يخطب الطلبة يعيب أستاذهم وكأنه يرثي له، ويغريهم به وكأنه يعطفهم عليه.

ويأتي الأستاذ فيتخذ ثوبه الرسمي ويجلس إلى مائدته، وإذا الفتى الذي رأيناه في آخر الفصل الأول قد ظهر ووقف في آخر الغرفة تجاه الأستاذ. وبدأ الأستاذ يتكلم فإذا هو يعترف بأنه قد أخطأ في كل شيء؛ فليس الكتاب لأفلاطون، وليس تصحيحه لهذا الكتاب حقًّا ولا مقاربًا، وإنما يشتمل على أكثر من ثمانمائة غلطة. ولكن هذا الكتاب حقًّا ولا مقاربًا، بالخطأ قد خدع الذين يعنون باليونانية جميعًا سواء منهم اللغويون والأدباء والفلاسفة، كلهم قبله، وكلهم أظهر الإعجاب به. وينتقل الأستاذ من هذا إلى أن العلم ليس شيئًا، وإنما هو وهم في وهم وضلال في ضلال، وأن العالم أشبه الناس بالرجل الذي اهتدى إلى كنز في مكان مظلم فاتخذ المصباح ليصل إليه، ولكنه شغل بالمصباح عن الكنز، فأخذ يرفع ذبالته حينًا ويخفضها حينًا آخر. وليس العقل الإنساني إلا هذا المصباح الذي يشغل العلماء عن الحياة وما فيها من لذة ومتاع، وإذا الأستاذ يحث تلاميذه على الإعراض عن العلم والاستمتاع بلذات الحياة، ويمضي في ذم العلم ومدح اللهو إلى حيث يوشك أن يكون متصوفًا، ثم ينهض فيلقي عنه ثوب الأستاذية، ويعلن إلى تلاميذه أنه مستقيل.

•••

فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأستاذ مساء هذا اليوم، وقد تغيرت غرفته من الكتب خلوًّا تامًّا. وهو جالس إلى مكتبه ينظر في أوراق ثم يمزقها، وقد جاء العميد يسأله عن كلمات زعموا أنه قالها في درسه وهي لا تليق بالعالم ولا بالأستاذ، فلا ينكرها بل يزيد عليها ويرفع إلى العميد استقالته من الأستاذية، ويلح العميد عليه مخلصًا في أن يسترد هذه الاستقالة فيأبى. وهنا تنكشف لنا نفس العميد، فهو يتخذ العلم ورياسة كلية الآداب صناعة لا أكثر ولا أقل، وهو لا يؤمن بعلم ولا يؤمن بجامعة، وإنما يؤمن بالحياة: بامرأته وولده. وهو يشبه العلماء حين يظفرون بالحق فيفرحون، أو يردون عنه فيحزنون، بالأطفال الذين يتحاربون لاعبين، فيخيل إليهم أنهم يجدون وإذا هم يطلبون الفوز ويفرحون به حقًّا ويكرهون الهزيمة ويحزنون لها حقًّا. ولكن الأستاذ مصرٌّ على استقالته، فينصرف عنه العميد. ويخلو الرجل إلى نفسه حينًا، وإذا الشاب الذي رأينا في الفصلين الماضيين قد مثل أمامه، فيكون بينه وبين الأستاذ حوار بديع مؤثر حقًّا. فليس هذا الشاب في حقيقة الأمر إلا الأستاذ حين كان طالبًا وحين كان يكره نفسه على العلم ويصرفها عن الحب واللهو. وقد تمثل هذا الشاب القوي الفتى المحروم في شخص هذا الفتى، وأقبل يعرض على الشيخ ذكرى هذا الحرمان، والشيخ يدافعه، ثم لا يلبث أن يمضي معه في الذكرى. فانظر إليه حين كان يستيقظ قبل آخر الليل، فيقبل على اليونانية يقرأ ويكتب ويستظهر. وانظر إليه كيف كان يغدو مع الصبح فيسلك إلى الجامعة أبعد الطرق عن الفتنة منصرفًا عن ضوء الشمس وجمال الربيع وابتهاج المدينة. وانظر إليه كيف كان يلوي وجهه عن هذه الفتاة الحسناء تمر إلى جانبه. وانظر إليه كيف أحب وعبث الحب بقلبه، ولكنه مع ذلك أبى أن يعلن حبه، وأخذ يخادع نفسه عن هذا الحب، وأخذ يتجاهل ميل صاحبته إليه، فلا يحييها ولا يظهر الميل إليها. وانظر إليه مع ذلك كيف أهوى مرة إلى زهرة ألقتها هذه الفتاة، فاحتفظ بها منذ عشرين سنة، فهي الآن جافة ذابلة، ولكنه لا يكاد يلمسها حتى تتفتح وتسترد نضارتها. ثم انظر إليه كيف يعتذر إلى شبابه فيزعم أنه لم يكن جميلًا ولا وسيمًا ولا جذابًا للنساء، ولكن حركة يأتيها الفتى فإذا هو جميل وسيم حسن الطلعة مقتنع بأنه كان يستطيع أن يظفر بحب النساء. يعرض الفتى على الشيخ شبابه وما صنع فيه من لذة وما أهمل فيه من فرصة، والشيخ يضطرب عليه شيئًا فشيئًا حتى يدنو من الجنون، وإذا هو يستغيث، فتقبل الخادم فلا ترى أحدًا ويستخزي الشيخ.

ولكن هذه «سسيل» قد أقبلت تعلن إلى الأستاذ باسمها وباسم رفاقها دهشهم مما سمعوا، فيؤكد الأستاذ أنه لم يكن مازحًا ولا عابثًا، ويعلن إليها أنه مستقيل، فتلح عليه في أن يسترد استقالته فيأبى. ويكون بينهما حوار نفهم منه أنه يحب الفتاة ويود أن يجد لحبه صدى في نفسها، وهو يتلمس هذا الصدى فلا يجده، فهو يضطرب بين اللين والشدة، حتى إذا استيأس ترك الفتاة تنصرف. ولا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يعود إليه الفتى فيلومه لومًا عنيفًا؛ لأنه يحب هذه الفتاة، وقد تركها تنصرف، وقد كان يستطيع أن يعلن إليها حبه، فينكر هذا الحب، ثم يعترف به، ثم يعتذر عن إحجامه بأنه متقدم السن وقد ظهرت عليه آفات الكبر. ولكن الفتى يقنعه بأنه ما زال محتفظًا بقوته قادرًا على أن يستمتع بالحياة، والفتاة عائدة بعد حين لأنها نسيت حقيبتها، وهي إنما نسيتها لأنها تحب الشيخ، فإذا عادت فليعلن إليها حبه، وليكن بها رفيقًا ولها ملاطفًا وفي حديثه إليها لبقًا. وقد عادت الفتاة تلتمس حقيبتها، فيدعوها إلى البقاء حينًا، وما هي إلا أن يتخذ طريقه إلى الحب فيعلنه إلى الفتاة، فتدهش ويطلب إليها الزواج فتضطرب ثم تتردد، ويكاد يستيئس منها، فيعلن إليها هذا اليأس وأنه سيقتل نفسه، فتشفق وتلين وتضعف، فيدنو منها يريد أن يقبلها، فتأبى وتفزع وتتراجع، فإذا رأى الفتى هذا قام مقامه في هذه المداعبة والملاينة فظفر من الفتاة باللثمة التي يرجوها، وإذا الفتاة مستأنسة مطمئنة قد جلست إلى جانب الشيخ وأسندت رأسها إلى كتفه وهي تتنسم تلك الزهرة التي كانت جافة فعادت نضرة.

•••

فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت أيام على هذا، وتم الاتفاق بين الشيخ والفتاة على أن تكون له زوجًا وعلى أن تقيم عنده أيامًا، ثم يسافران إلى حيث يقيم وصيها فيكون الزواج، وسيسافران اليوم مع الظهر. ونحن نرى الشيخ قويًّا وسيمًا حسن الزي مطمئنًّا إلى الحياة مبتسمًا لها يمشي في غرفته مشية المطمئن الراضي. ولكن العميد قد أقبل يعلن إليه أن الناس يتحدثون بمقام الفتاة عنده وينكرون ذلك، وقد كتبت فيه صحف السوء واتهمت كلية الآداب كلها بالعبث والمجون، وذلك شر يرغب الناس عن الكلية وأساتذتها، وقد أصبحت الكلية حديث الناس وشك فيها الجمهور حتى إن امرأته قد أعلنت إليه أنها لن تدعه يذهب وحده إلى الكلية. ولكن الشيخ لا يحفل بكلام العميد ولا بكتابة الصحف ولا بسخط الجمهور، فهو سعيد، وهو يريد أن يتخذ الفتاة له زوجًا، وهو سيبرح هذه المدينة وجامعتها وجمهورها.

فإذا انصرف العميد وأقبلت الخادم رأيناها ليست أقل من العميد سخطًا على الأستاذ، وكيف لا تسخط وهو شيخ يريد أن يقترن من فتاة، وهو يحتجز الفتاة عنده وليست زوجًا ولا خطيبة، والناس يتحدثون: أليست بائعة الفاكهة قد تحدثت إليها في ذلك ساخرة ساخطة؟! ولكن الشيخ لا يحفل بها ولا ببائعة الفاكهة.

وانظر إلى الفتى قد أقبل، ويسأله الشيخ فيم جاء؟ فيأخذ الفتى في لومه: أليس يحب هذه الفتاة؟ أليست هذه الفتاة تحبه؟ فما باله لا يظفر منها بما يطمع فيه المحبون؟ وما باله يدعها تقضي الليل وحيدة في غرفتها وهو في غرفته مسهد يضنيه الحب وتعذبه الشهوة؟! والفتى يغريه والشيخ يدافعه. ولكن انظر إليه كيف أثر فيه الإغراء، فملكت الشهوة عليه أمره ودنا من غرفة الفتاة تدفعه إليها الرغبة، وكاد يدخل لولا بقية من شرف ووفاء ردته عن ذلك، فينهر الفتى ويكبح شهوته ويؤثر انتظار الزواج.

وهذه الفتاة قد أقبلت فيلقاها باسمًا، وترد تحيته في دعة واطمئنان، وتعرض عليه أن يكون الزواج في هذه المدينة، وأن يكون الفتى الصربي من شهود هذا الزواج. ثم تأخذ في الثناء على الصربي وذكر بلائه في الحرب، فيحس أن في نفسها من هذا الفتى شيئًا، وقد خرج الأستاذ لبعض شأنه على أن يعود بعد حين.

وأقبل الفتى الصربي يريد أن يرد إلى الأستاذ كتابه وماله لأنه مسافر، ولا يكاد يتحدث إلى الفتاة حتى نفهم أنه لا يسافر زهدًا في العلم ولا عجزًا عن الإقامة، وإنما يسافر يأسًا وقنوطًا، فهو يحب الفتاة ولكنه لم يعلن إليها حبه، وقد مضى الوقت وجاء هذا الإعلان متأخرًا والفتاة تدافعه وتعتذر عن نفسها بضعف الشيخ ويأسه، وأنها لا تعرف الحب ولم تحسه، وقد أخذت نفسها بأن تعيش مع هذا الرجل كما تعيش الممرضة مع المريض. ويهم الفتى أن ينصرف، فتمسكه، ويمضيان في الحوار، حتى إذا استيقن أن لم يكن بينها وبين الشيخ إثم التمس الحب عندها فوجده في قلبها تستحي له الفتاة وتتراجع.

وهذا الأستاذ قد عاد، فيرد الفتى إليه كتابه وماله، ثم يعلن إليه في لين لا يخلو من القسوة أنه لا يستطيع أن يتزوج من هذه الفتاة. وقد تركتهما الفتاة، فيكون بينهما حوار عنيف فيه غيرة وحقد، فيه غيرة الشباب الطامع في الحياة يريد أن يستقبلها في أملٍ ولذة، وفيه غيرة الشيخ اليائس يريد أن يظفر من الحياة بنصيب. وقد اتفقا على أن يحكما الفتاة نفسها، فتدعى ويرد عليها الشيخ حريتها ويسألها أن تختار بينهما. فتسأله: وإلى أي حال تصير وحدك؟ … ويفهم الشيخ، فانظر إليه يائسًا قد صعقه اليأس وانصرف عنه المحبان.

وانظر إلى الفتى قد ظهر يزجره وينهره، وهو الآن لم يأت ناصحًا ولا رفيقًا، وإنما جاء ثائرًا محنقًا يريد أن ينتقم لشبابه المضيع. وقد تغير المسرح بعض الشيء، وأخذنا نسمع ونرى ضجيج الرقص وحركته وأصحاب اللهو يسرفون في لهوهم، والمومسات يتهالكن على الناس فتنة وإغراءً، والفتى يدفع الشيخ إلى هذا اللهو، والمومسات يدعونه إليهن، وقد كاد الشيخ يقبل لولا بقية من شرف وكرامة فهو يأبى ويتراجع، والفتى يدفعه منتهرًا زاجرًا منذرًا معلنًا إليه أنه قد أفسد عليه شبابه فليفسدن عليه شيخوخته! ولكن الشيخ يأبى. وانظر إليه قد اعتصم آخر الأمر بكتب بقيت له، فهو يلتمس عند العلم العزاء بعد أن يئس من الحب، وكذلك فعل شابًّا، ولكن الفتى ينازعه ويكون بينهما جهاد يصرع له الشيخ. وتسمع الخادم فتسرع إلى سيدها فإذا هو طريح، فإذا أقبلت إليه لتسعفه نهض متثاقلًا وأمرها أن تلتمس الطبيب فتخرج، ويعمد الشيخ إلى مسدسه فيخرجه وهو يعتصم بالمسدس حينًا وبالكتاب حينًا آخر، ولكن الفتى قد أقبل مرة أخرى، وظهرت الحانة والرقص والفتى يدعو الشيخ إليهما فيأبى، ويطلق مسدسه على الفتى فلا يصيب منه شيئًا. وانظر إلى الفتى فهو الذي يتناول المسدس وهو الذي يطلقه على الشيخ. وانظر إلى هذا الشاب المضيع وقد انتقم لنفسه من هذا الشيخ فهو يسقط صريعًا.

يونيو سنة ١٩٢٧

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤