السَّلامُ الحي

قصةٌ روائيةٌ بقلمِ «بول رينيه»

تلك قصة كتبت بعد الحرب الكبرى، ونشرت على الناس في هذا العام، ولكل ما كتب بعد الحرب الكبرى طابع يمتاز به؛ ذلك هو اضطراب الذهن وعدم استقراره، ومهما يكن الكاتب أو المِفَنُّ مؤمنًا بالنظرية التي يريد إبرازها للناس فهو عرضةٌ دائمًا لأن تغشَّى على فكرته الحينَ بعد الحين سحابةٌ ولو شفافة، تبدو من خلالها هذه الحرب التي لم تضع بعدُ أوزارها، والتي لا تزال مستعرة الأوار بين الفكرة والعاطفة والشهوة، وإن شئت فقل بين الإيمان والتجريد والعلم، وذلك طبيعي بعد إذ قلبت الحرب النُّظُم الاجتماعية، فأفسدت بمقدار عظيم فوارق الطبقات القديمة، بما أغنت من فقراء وأفقرت من أغنياء، ورفعت من وضيعين ووضعت من ذوي الرفعة، وبما غلَّبت به قوة الساعد على حكمة العقل، وتُرَّهات الساسة على منطق الحكماء.

ولهذا الانقلاب الاجتماعي أثره في الفن والأدب، وله كذلك أثره في العلم والفلسفة، فأنت قَلَّ أن تجد اليوم الحكمة المطمئنة إلى ما أثبت العلم وحده، وقَلَّ أن تجد الفن أو الأدب الصادر عن فكرة عميقة ممتلئة بها نفس الكاتب أو المِفَنِّ، بل يغلب أن تختلط بحكمة العالم مظاهر التجريد أو الإيمان، وأن تضطرب في نفس المِفَنِّ فكرته فتختلط بأكثر من نقيض من نقائضها؛ ولذلك قَلَّ أن تجد اليوم في منشآت العلم والأدب والفن ذلك الصفاء الذي كنت تجده قبل الحرب، وإن كنت قد تجد فيها أكداسًا من الثروة الذهنية التي لم تُعْرَف من قبل ثم لم تستقر بعدُ إلى نظام.

وقصةُ «السَّلام الحي» خاضعة لهذه الظاهرة كل الخضوع، وإن يك كاتبها قد جاهد نفسه، فنزع بمقدار إلى ذلك النوع من القصص البسيكولوجية التي تصف حياة نفس وتحلل مشاعرها وآثار الحياة فيها وآثارها هي في الحياة.

هذا النوع من القصص البسيكولوجية يجب لكماله الفني أن يكون غير ذاتي، بأن يضع الكاتب نفسه من النفس التي يحللها موضع العالم من أي مظهر حيوي أو غير حيوي، فيلاحظ ويسجل مشاهداته عنه، وقد حاول «رينيه» أن يقف هذا الموقف، لكنه — وهو متأثرٌ بفكرة خاصة هي: أن لا سلام إلا في حمى الله والدين — قد جعل من غاياته إثبات هذه الفكرة في قصته، بل هو قد جعل هذه الفكرة غاية قصته. وقد اضطر لذلك أن يكون ذاتيًّا، فاضطرب وأخفى اضطرابه تحت وابل من الألفاظ، ويُخيل إلينا أن هذه الفكرة ليست ثابتة في غور نفسه، بل هي فكرة طارئة عليه أو غير متمكنة منه؛ لأنه — برغم كثير من الملاحظات الدقيقة والمشاهد الأخَّاذة بالنفس والأوصاف الحية التي تتجلى في كثير من مواضع قصته — لم ينجح في بلوغ غايته، ويكفيك مقنعًا بهذا أنه لم يصل ببطلة روايته إلى حمى الله إلا بعد أن كدس فوق رأسها كل صور الأهوال والأرزاء، وبعد أن كرهت كل صور الحياة، ثم لم يفتح عليها بشيءٍ من السعادة، و«من السلام الحي» إلا في اللحظة التي كانت تلفظ فيها آخر أنفاسها، حين اشتملتها الغابة جوف الليل وغطتها الثلوج التي عاقتها عن الحركة ومنعت عليها أن تبلغ حمى الحياة.

•••

وبطلة هذه الرواية هي لورنس داسلييه، وهي فتاة لم تؤت حظًّا من الجمال، وإن كانت ذات ذكاء وعلمٍ، وكانت تقيم في فونتنبلو مع أبيها بول داسلييه ومع ابنة عم لها تُدعى أرسيل، وكان أبوها ضابطًا من ضباط الجيش العظام، ولد في سيدان، فظلت ذكرى حرب السبعين وما أصاب فرنسا بسببها من ذلة حاضرةً في ذهنه آخذةً بنفسه مالكةً عليه كل عواطفه؛ لذلك كان أكبر أمله أن يرى يومًا تنتقم فيه فرنسا لنفسها، وتمحو عن جبينها أثر الذلة وتسترد الألزاس واللورين، وأن يكون في ذلك اليوم في مقدمة العاملين لمجد وطنه ولسعادته.

وكان للورنس أخ هو أندريه داسلييه، وكان أكبر همِّ بول أن يجعل من هذا الابن ضابطًا عظيمًا مثله؛ كي يقف إلى جانبه يوم الصدام، أو يقف موقفه إذا لم ير بعينه هو ذلك اليوم. لكن أندريه لم يكد يتم دراسته حتى عكف على الأدب والشعر، ولم يُبدِ أي ميل لإنفاق حياته بين صفوف الجيش، فغضب الأب لهذا، وانبتَّ ما بين الرَّجليْنِ، وأقام أندريه في باريس ينفق مما تركته له أمه ومما كان يفيده من عمله وصناعته، وتركت هذه القطيعة من سوء الأثر في نفس الأب ما همَّه وأحزنه، وزاد هذا الحزن في حدة طبعه، فكان شديدًا مع ابنته، وكانت لورنس تلقى استبداده بشيء غير قليل من الثورة عليه، ولم تكن تجد من هذا الاستبداد ملجأً إلا في القراءة وفي مشاهد الطبيعة في غابة فونتنبلو، وفي وساطة ابنة عمها وساطة كان مقضيًّا عليها بالإخفاق أغلب الأحيان.

وإنهم يومًا في المنزل إذ جاء خطاب من أندريه يبلغ أباه عزمه على التزوج من باريسية ذات أهلٍ ومالٍ، ويدعوه ويدعو أخته لحضور الزفاف. فبدا على الرجل شيءٌ من الغضاضة، لكنه طلب إلى ابنته أن تذهب فأبت، فأَمَرَ فاختلفا، وخرجت الفتاة كئيبة مغضبة، وأرادت «أرسيل» أن تجد الوسيلة لتزيل ما بينهما من غضبٍ فذهبت مساعيها هباءً، وزاد بلورنس الهمُّ، ولم يكن لها أن تتعزى عن همها بمخالطة الناس ومعاشرتهم؛ فقد ورثت من أبيها الميل عنهم والزهد فيهم، وزادها حبها القراءة حبًّا للوحدة وبعدًا عن الناس واعتدادًا بنفسها. لكن النفس الإنسانية ضعيفة مهما تبلغ من القوة، وهي بحاجة دائمًا إلى عزاء تجده في الناس وفي مخالطتهم؛ لتتعزى عن ألمها بآلامهم وعن همها بمصائبهم. فإن لم تجد في ذلك ما يكفيها كان لها من الاشتغال بتافه شئونهم ما تنسى معه ذاتها حينًا، ونسيان الذات خير طبٍّ لدواء النفس الكليم.

لم يكن للورنس في فونتنبلو أصدقاء غير مدام هلر وابنتها أوديت، وكانت تحب أمها حب عبادة، ولقد كانت ليتسيا هلر ذات جمالٍ بارع، وحديث فتان، وسحر يخضع له كل طيب القلب وكل ذي غفلة وكل رغوب في الجمال. وبلغ من سحرها أن انتحر أحد ضباط الجزائر هيامًا بها، فكان ذلك سببًا في نقل زوجها إلى فونتنبلو. وكانت ابنتها أوديت ذات جمالٍ، لكنها كانت فانية الشخصية في أمها، فلم تكن تلبس إلا كما تلبس، أو تتزين إلا كما تتزين؛ فأضاع ذلك كل ما لجمالها من ثمن. لكنها كانت لا تزال طفلة غضة لمَّا يجئ دورها لتكون فتنة الناظرين.

وعرفت لورنس «أوديت» في المدرسة، ومنها عرفت أمها، وعُلِّقتها وهامت بها هيام كل فتاة بعيدة عن الناس ولم تؤت حظًّا من الجمال ولم يتملقها أحد ببارعة ذات دل وسحر، ولم يخفف من هيامها ما ألفت «ليتسيا» عليه من خفة وطيش لا اتصال بينهما وبين رزانتها وعلمها، وهل الحب إلا تكامل؟! فكفى لورنس ما عندها من رزانة وعلم وما في بيتها من قطوب وقسوة، لتجد في جمال ليتسيا وخفتها وطيشها وحبها الحياة ومسراتها موضعًا لهيام لا يعدله هيام.

وبعد سنوات أربع من تعارف الفتاة والسيدة كانت دعوة أندريه أباه وأخته لحضور حفل زواجه، وكان الحوار الحاد بين الأب وابنته، وكان التجاء لورنس للغابة تحتمي فيها ثم عودها إلى منزل مدام هلر، وهناك بقيت زمنًا تنتظر مقابلة صديقتها؛ لأنها علمت أن صديقًا جديدًا — هو الكونت دسران — قد أَلِف الحضور إلى هذا المنزل واطمأن إلى صاحبته.

ولم يطُل أمد النزاع بين الأب وابنته فقد حضر أندريه ومعه عروسه وابنة عم لها إلى منزل أبيه، واستقبلهم الكولونيل في فتور بادئ الرأي، لكنه لم يلبث طويلًا حتى شعر في نفسه بعطف على عروس ابنه، أما لورنس فقد ألفت جوليان وابنة عمها على غير ما يسيغه ذوقها؛ ألفتها من هذا الطراز الرقيق الحواشي المهذب الألفاظ الدائم الابتسام المعد بتربيته ليعيش مع سواه لسواه، لا مع نفسه ولا لنفسه، ووجدت الفتاة المنجاة من همِّ المقام بين جوليان وابنة عمها في الغابات وفي بيت مدام هلر. لكن البارعة ليتسيا، لكن هذه الجميلة الجذابة الهيئة المملوءة حبًّا وقسوة، كانت قد بدأت تشغل بحب جديد اتصل بينها وبين الكونت دسران، وحرصت على هذا الحب، فجذبت محبوبها إليها بما كانت تقيمه من حفلات أبعدت عنها لورنس، ثم استبدلت بهذه الحفلات خلوات كانت تخرج فيها مع حبيبها، فإذا عادت ذهبت إلى منزل داسلييه فقضت مع صديقتها الشابة زمنًا ثم تركتها قائلة: «إذا رأيت أوديت في الدرس غدًا يا عزيزتي فأدخلي في رُوعها أني أمضيت يومي كله من أوله إلى آخره في بيتكم.»

ولم تقف لورنس على حقيقة أمر هذه المرأة. لكن شكوكًا بدأت تدب إلى نفسها: «ما بال هذه الفاتنة لنفسها وللناس لا تستقر على حال!» وكان من أثر هذه الشكوك أن جاهدت لكي لا ترى أوديت؛ حتى لا تكذب عليها في شأن أمها. لكن هذه الأم أعفتها من هذا العناء إذ انقطعت عن زيارتها، ثم ما لبثت الفتاة أن علمت بعد أيام أن ليتسيا الجميلة قد فرت مع الكونت دسران، بعدما انتشر خبر حبهما في فونتنبلو وتناقلته الألسن وامتلأت به الآذان.

وقع هذا الخبر على لورنس فأثار ألمها، وبلغ منها الهم، وهدَّها الحزن، وبكت على حب حسبته عزاءً عن الحياة فولَّى بين أذرُعِ حبٍّ ألذَّ وأشهى. وجعلت الفتاة تتلمس للفاتنة ليتسيا المعاذير عن فعلتها، والحب أعمى يزيده البعد وتزيده الغيرة عمًى واضطرابًا. لكن للحب دواء، هو الدواء لكل ألم، ولكل حزن ولكل لوعة، هو البلسم المبرئ والطب الشافي لكل جروح العاطفة؛ هو النسيان.

وعوَّض القدر لورنس أوديت عن أمها، وكانت الفتاة قد كَمُلَتْ شبابًا وجمالًا وزادها ما أصابها في أمها رزانة وكمالًا.

لكن لورنس لم تكن قد خلقت في رأي مؤلف الرواية لتعرف صفاء في العيش أو نعمة في الحياة، فلم تكُ محْنةٌ تمرُّ إلا لتعقبها محنة، ولم يك همٌّ ينقضي إلا ليظهر في أثره همٌّ جديد. لم يكد أبوها يطمئن إلى نفسه بعد سفر ابنه حتى كان ذات يوم مع ضباط من أمثاله يتذاكرون ما أصاب فرنسا سنة ١٨٧٠، فرجا بول داسلييه أن تقوم حربٌ تمحو بها فرنسا ذلة الهزيمة وتسترد بها الألزاس واللورين، فسخر الضابط دوران من رجائه وقال هازئًا: «ليس من حقنا نحن رجال الحرب أن نرجو الحرب إلا أن يكون من حق رجال المطافئ أن يرجوا شبوب النيران لإطفائها.»

وبُهِت داسلييه لِما لقيته كلمة دوران من إعجاب الزملاء جميعًا، لكنه لم يسلم لهذا الضابط الشاب، الذي كان يومًا في الصفوف تحت إمرته ثم وصل من طريق الدسائس إلى أن صار مساويًا له. فلما كانت أيام بعد هذا الحوار كان حوار آخر انتهى داسلييه فيه بأن أهان دوران قائلًا: «خيرٌ لك أن تحطم سيفك، فهو لن يحدث ساعة الخطر إلا شرًا ما دام قلبك لا يحتوي غير الجبن والهزيمة.»

وأسِف داسلييه لهذه الحدة من جانبه، لكن لا بد مما ليس منه بد؛ لا بد من المبارزة بين الضابطين، لا بد أن يتقدم داسلييه، الذي كان يرجو في ابنه رجلًا يخدم فرنسا، ليقتل أو ليجرح فرنسيًّا يستطيع أن يخدم فرنسا، وتبارز الضابطان وتمت الغلبة لداسلييه وجرح دوران، لكن داسلييه خرَّ بعد ذلك مغشيًّا عليه وأصابه ذهولٌ فحُمَّى ظل يهذي على أثرها ستة أيام تباعًا، وظلت لورنس إلى جانبه تُعاني الهمَّ والألم وترقب الحين بعد الحين ما يخبئه القدر من مصاب لها جديد.

وعاودت الصحة داسلييه وعاد إلى عمله. لكن دوران لم يغفر لخصمه انتصاره عليه، وللنفوس الدنيئة غرامٌ بالانتقام الدنيء، فروَّج بين الناس أن ما أصاب داسلييه إنما هو مظاهر الجنون التي توشك أن تصيبه الحين بعد الحين، وأنه لم يجرح في مبارزة ولكن في نوبة، ولم يقف بهذه الأوهام عند فونتنبلو، بل أراد أن يستخدمها للقضاء على داسلييه كضابط، فاستخدم دسائسه في وزارة الحربية، وكادت تثمر وتصل به إلى ما يريد، وداسلييه! داسلييه الشهم الشجاع الطيب النفس والقلب، لم يكن له همٌّ إلا الندم على ما فَرَط منه، وإلا التفكير في التوبة والتكفير.

وكان لداسلييه في باريس صديق قديم هو الضابط آريل، وكان كداسلييه شجاعًا طيب النفس والقلب، وكان على الضد من داسلييه ممتلئ النفس من الإيمان بالله، فلما وقف على ما يُرَوَّج حول صديقه في الوزارة من دسائس عمل لمحاربتها، ثم ذهب إلى فونتنبلو وقابل لورنس وتلطف في إخبارها بما يهدد مركز أبيها من خطر، وأنهى إليها أن خير ما يفعلونه إقناع بول بترك العمل ستة أشهر، ولكي لا يحس الرجل شيئًا وكَّلوا الأمر إلى طبيبه المعالج الذي نصح له بعد رجائهم بهذه الراحة، فتردد داسلييه كثيرًا، ثم انتهى بالموافقة وترك عمله حزنان أسفًا.

وعمل الأسى في نفس هذا الضابط الشهم لتركه العمل، فانحدرت صحته وساورته الهموم، وانعكست آية همه على نفس ابنته، فبدأت تضمحل وبدأ يدب إلى شبابها وصحتها الانحلال، وكان آريل يتردد عليهم منذ بدء هذه المحنة مرة كل خمسة عشر يومًا، وكان يجاهد خلال ذلك يريد أن يفسد دسائس دوران وصحبه، وكاد يوفق لولا أن سقطت الوزارة وجاء في الحربية وزيرٌ اصطفى دوران كاتمَ سرٍّ له، فعادت الدسائس. ولم يكن إلا أن يجدد داسلييه راحته سنة من جديد وأن يترك هو وأهله فونتنبلو إلى باريس، آملين أن يكون لجوها ولمجتمعاتها من الأثر في لورنس ما يعيد إليها شيئًا من صحتها المنحدرة.

واتصل ما بينهم وبين أندريه وزوجه، وعالج الجميع تسلية لورنس. لكن الفتاة كانت قوية النفس، والنفسُ القوية إذا لم تتمكن من إخضاع الجماعة لحكمها ازدادت شعورًا بين الجماعة بالوحدة، وكان ذلك حال الفتاة وحال أبيها، سرَّتهم باريس ومناظرها وجماعاتها حينًا، ثم لم يكد يتم بينهم وبين باريس التعارف حتى بدأ عهد التقاطع والتنابذ وكان بول داسلييه أسرع من ابنته إلى هجرة الناس وإلى الاحتماء بالانقطاع وبالوحدة. وشعر بذلك أصحابه، فلم يروا إلا أن تتزوج لورنس حتى إذا عدا القدر على أبيها كان لها من زوجها أنيس يعينها في وعثاء الحياة.

وأخذت جوليان نفسها بتزويج أخت زوجها، فخرجت بلورنس من عزلتها إلى الصالونات والمجتمعات. ولم تجد لورنس بين الطامعين في يدها من الشبان إلا كل فج تافه لا وزن له ولا قيمة، وكل من ليس همه إلا ما لها من بعض الثروة، فأما ذوو الرأي فوجدوا في لورنس شخصًا قويَّ النفس مستعدًّا للنضال، والرجل الطموح في الحياة لا يعنيه بعد أن يناضل الناس إذا اطمأن إلى أهله أن يجد نضالًا جديدًا في زوج ذات شخصية قوية؛ لذلك طال بجوليان الأمل، وطول الأمل مدعاةٌ لليأس، فاستشارت جوليان رجلًا من رجال المال كان يقوم بتدبير ثروتها وثروة زوجها، فيرد لهم من أرباحها ما يُغنيهم عن التفكير للغد.

وكان مسيو هيكن هذا رجلًا جاوز الخمسين، على جانب من قبح الوجه ورجاحة العقل ومرونة الضمير، طويل القامة، بارز العظام، ليس فيه شيء يحب، ولشد ما عجبت جوليان أن أبدى هذا العجوز لها ميلًا للورنس وأن طلب يدها. حقًّا أنَّ لكل ساقطة لاقطة لورنس يحبها هيكن! لكن عجب جوليان لم يطل، وأقنعت الفتاة بقبول التزوج من هذا الصديق، وقبلت لورنس على أن يكون صديقًا، وانتهى بول داسلييه بالاقتناع وتم الزواج.

وذهب هيكن ولورنس يقضيان شهر العسل في الضواحي، وخُيِّل إلى هذا الزوج المنحدر إلى غاية الحياة أن به بقية شباب، فأراد زوجه! فردَّته في قسوة، وظلت طول ليلها لم يغمض لها جفن، وصارحته أول ما طلع النهار أنهما تعاقدا على غير تفاهم، فخير أن ينحل عقدهما في غير ضجة. لكن رجل المال أظهر في مودة أنه نازل عند ما تريد زوجه، وكذلك كان. وعادا إلى باريس فكانا على مقامهما معًا منفصلين تمام الانفصال.

أما بول داسلييه فقد تعزى بزواج ابنته عن همِّ الحياة زمنًا. لكن عزاءه لم يطل، فقد أسلمته الوحدة إلى كل هموم الفراغ، وامتلأ خياله بذلك الماضي حين كان رجلًا نشيطًا قويًّا قديرًا على خدمة فرنسا، وبما صار إليه اليوم من عجز واستسلام للأمراض التي لم يكن لها من سبب إلا امتلاء نفسه شعورًا بأنه رجل فقدَ كل قيمة له في الحياة؛ لأن قيمة الرجال عنده إنما توزن بما يؤدونه في الحياة من عمل. وشغل بخياله هذا فكان له منه ألم في النهار وهمٌّ بالليل، ومضض في اليقظة وفزع في النوم، ثم لم يجد نفسه منه بمنجاة إلا مذ فكر في الانتحار.

وكانت لورنس تزوره كل يوم، وكانت تشهد تغير حاله وتحدثه لتقف على ما يكنه صدره، فلما أحست ما يدور في خَلَدِه جزعت واستحلفته إلا ما عاش من أجلها وحدها، فأقسم الرجل. لكن الفكرة كانت قد ملأت كل وجوده وأخذت عليه مسالك نفسه، فلم يكن يهتز فيه عصب أو تتحرك فيه عاطفة أو يفتُر عن بسمة إلا كانت فكرة الانتحار صاحبة السلطان عليها جميعًا. لذلك لم تمض على قسمه ساعات حتى نحر نفسه بموساه أمام المرآة وهو يتزين لاستقبال يوم باسم من أيام الحياة.

واستيقظت لورنس صباح ذلك اليوم باسمة مغتبطة بوعد أبيها. لكن غبطتها كانت قصيرة الأمد، فقد سمعت وهي في حجرة نومها شهيق البكاء وزفيره ينفذان إليها من غرفة مجاورة، فقامت في حذرٍ تسترقُ السمع، فراعها منظر خادم أبيها منهدة يعلو صدرها ويهبط وقد ابتلت وجنتاها واختنق صوتها، ولم يطل بلورنس الشك، وما لبثت أن استيقنت الأمر فخرَّت مغشيًّا عليها، ولما أفاقت وذهبت إلى بيت أبيها رأت جثته الهامدة مضرجة اختلطت بالدم. وجاء من بعدها أخوها وزوجه وقابلاها وألفياها سيئة الحال مضطربة، لم تستطع الذهاب معهم إلى مقبرة العائلة لتشهد ساعة من تلك الساعات التي تختلط فيها الحياة بما بعد الحياة، حين تُنْزَلُ إلى غيابات الرمس رفاتُ عزيزٍ راحل رحلة رحلة الأبد.

وعادت بعد أداء فرائض الحزن إلى حياتها مع زوجها، فاجتمع عليها في هذه الحياة همٌّ لا همَّ بعده، وما شأنك بحزينٍ ينقطع عن الناس لينغمس في بطون الكتب، تختلط سطورها أمام نظره، ويظل محدِّقًا بالصحف، مأخوذًا بحزنه عن كل ما تحتويه من صورةٍ أو معنى، فإذا كان فيها ما يجذبه فذلك حزن يتجاوبُ مع حزنه، وأسًى يحبب إليه أساه، ودموع عزيزة تجعل دموعه أعز عليه وأثمن عنده، فإذا طوى النسيان حرقة الهم أبقت الذكرى لوعة الشجن، وإذا انقضى عهد الألم واللوعة تجدد على أثره عهد الأمل المفقود والسعادة الذاهبة!

كان لهيكن ذو قرابة اسمه سيريل، وكان شابًّا ممن يحبون السفر ولهم به علم، وكثيرًا ما عرض هذا الزوج المنبوذ أن يُحْدث بين زوجه وبين هذا الشاب التعارف، فكانت لورنس تعاف ما يعرض، وأغلب الظن أنها كانت تعافه لأنه هو الذي كان يعرضه، فلما باغتها المصاب بفقد أبيها كان «سيريل» وكانت أمه «مدام دكليه» ممن سارعوا إلى لورنس يعزُّونها. وأحسن الشاب الشاعر التحدث إلى نفس الشقية بكل ظروف حياتها، حتى لقد شعرت أنه أكثر من أخيها حزنًا على أبيها، وأكثر من زوجها توجُّعًا لمصابها. وتردد «سيريل» بعد ذلك عليها، ووجدت في تردده مخفِّفًا للوعتها، وأخذت نفسها بالقراءة في كتبها وكتبه، فألْفته شابًّا ذكي النفس عظيم الهمة، وألْفته إلى جانب ذلك حلو النادرة رقيقًا، فهو لم يكن من صنف زوجها، ولا من صنف أخيها، ولم يكن من صنف هؤلاء الشبان الذين لا يقدِّرون للمرأة ثروة غير جمالها؛ فاتصل بينهما عطف، وربطت بينهما الصداقة بأوثق رباطٍ.

وظل «سيريل» يزور لورنس، فتجد في زيارته من العزاء ما ينسيها ما بها من همٍّ وألم، وظل يعالج الوصول إلى نفسها كي تتعزى عن مصابها، ولم تكن وسيلته لذلك يسيرة؛ فقد حاول أن يؤثِّر في هذه المرأة الشابة التي أمضت حياتها ثائرة على كل نظام؛ ليدخلها في حمى الله والدين. وكانت لورنس تستمع إليه؛ لأنها كانت تجد فيه صديقًا صادقًا، لكنها لم تكن لتسرع السير في الطريق الذي يريد بها أن تسير فيه؛ لأنه لم يكن طريق عقلها ونفسها.

وتوثقت عُرى هذه الصداقة، ولم يصرف الشابةَ عنها صارفٌ، فقد تركها زوجها حرة من كل قيد، ومدَّ لها من حريتها؛ فلم يكن يضنُّ عليها بمال، وليزيدها حرية، جاء إليها يومًا فعرض عليها أن تمضي له توكيلًا بإدارة أموالها، حتى لا تشغلها هذه الإدارة عن مطالعاتها وكتاباتها، فلم تتردد طويلًا، وأمضت التوكيل فرحة بالخلاص من همٍّ كان زوجها يجد الوسيلة لمضايقتها من سبيله.

ولم تمض على ذلك أسابيع، فإذا هيكن قد اختفى، وإذا دائنوه يبحثون عنه، وإذا الصحف تنشر أنه أفلس، وإذا لورنس وسيريل وأمه شأنهم شأن كثيرين ممن وثقوا بهذا الآفاقي، قد ضاعت أموالهم في مضارباته، وإذا هذا التوكيل حيلة أراد بها أن ينجو من مضايقات دائنيه، فذهب بمال زوجه وتركها صفر اليدين.

عالج سيريل حياة الكد، وعالجت لورنس سبل القصد، وباعد ذلك ما بين زيارات الفتى، فلم يَهُدَّ الشابةَ فقرُها بمقدار ما هدَّها انقطاع سيريل، ومباعدته بين زياراته. لكن ضرورات الحياة قاسية، فاضطرت لورنس آخر الأمر أن تَقنع بالقليل الذي أبقته صروف الأيام لها من صديقها، مكتفية حين غيابه بتذكُّره في مراجعة ما كان يقرأ معها أيام النعمة، من النثر ومقاطيع الشعر.

وأُعلنت الحرب، فالتحق سيريل بها بعد إذ كان بينه وبين لورنس وداع بدا عليها فيه ما يكنُّه قلبها من عطفٍ بلغ الحب، وصداقة هي الهوى. وجمع غياب الفتى بين أمه وصديقته، فكانتا تتزاوران، وكانت كل منهما تجد في صاحبتها صورة هذا الواقف في صف القتال، تحت وابل القنابل ترعاه عنايتهما بعد عناية الله، وتجدَان في كل كلمة يكتبها لهما ريحَ الحياة يمد في أملهما إلى أن تجئ منه كلمة جديدة تبعث الحياة إلى الأمل بعد إذ يضطرب، ويرتجف لما يتتابع على مسامع المرأتين من أخبار الموت.

وإن لورنس لفي بيتها يومًا، إذ جاءتها من مدام دكليه كلمةٌ، فيها «مات سيريل فاحضري.» ارتجفت يد الشابة، ولم تصدق نظرها، ولم تستطع أن تصور لنفسها موت أملها في الحياة.

وأسرعت إلى الأم، فإذا بيتها تعلوه أمارات الموت، فبقيت إلى جانبها زمنًا كانت خلاله تلمح من كلماتها معاني الأمومة التي لم تعرفها صغيرة، وكانت دائمة التفكير في العالم الآخر — الذي طالما وصفه سيريل لها — دائمة الهيام به، والأمل في أن يكون حقًّا حتى تلقى هناك هذا الصديق الذي سمح لها في حياته القصيرة الأليمة أن تعرف شيئًا من معنى السعادة.

لكن مدام دكليه شعرت بصحتها تتداعى تحت أحمال الهم، فرأت أن تهجر باريس وضواحيها إلى وسط فرنسا، حيث الجو صحو والهواء عليلٌ. وهناك في أحد الأديرة وجدت غرفة استأجرتها بقية حياتها، فإذا كان اليوم الذي ودعتها فيه لورنس، ودَّعت لورنس معها الأمل في الحياة.

أكذلك يكون الناس؟ حتى مدام دكليه التي كانت ترى لورنس فيها أُمًّا تحنو عليها لم تحفظ لها عهدًا، ولم تذكر كيف أوصاها ابنها بها! ومن قبل مدام دكليه كان الناس جميعًا مواضع ألم لورنس. حتى مدام هلر، حتى هذه الجذابة التي فتنتها في صباها نسيتها، فلم تذكرها عند مصابها إلا بزيارة تافهة، خالية من كل معاني العطف والإشفاق! ألا ما أشدَّ لؤمَ الناس!

لكن للورنس صديقًا لن تنساه؛ هو الطبيعة؛ لذلك ذهبت يوم سفر مدام دكليه إلى فونتنبلو، وانحدرت من محطتها إلى الغابة، وكان يومًا ماطرًا ممتلئًا بالثلوج، فوقفت إلى جانب هاته الأشجار التي عرفتها صديقة البأساء في شبابها، تستعيدها ذكرى الماضي، وتأمل فيها عزاءً عما أثقل نفسها من هموم.

وغطت الثلوج الغابة، وانحدرت الشمس إلى المغيب، فعالجت لورنس الطريق فإذا السير عسير، وإذا الظلام يحُول دون تعرف المسالك، وإذا الثلج قد كسا كل أثر، وإذا هذه الغابة الصديقة قد تجهمت فأصبحت عدوًّا لدودًا، وإذا الوجود لم يبق فيه من صديق لهذه النفس المعذبة إلا ذكرى «سيريل» هناك في مجاهل الأبدية.

وتحت غطاء من الثلج نامت الشابة، تذكر في احتضارها البطئ هذا اللقاء السعيد في أحضان القدر، فلما أتى عليها الموت، كان قد أتى نفسًا مطمئنةً، كانت قد عرفت في الساعة الأخيرة أن لا سعادة ولا سلام إلا في حمى الله!

•••

هذه قصة السلامِ الحيِّ، وهذه وقائعها التي سردها المؤلف في أربعمائة صفحة، وهي كما ترى وقائع كثيرة، كلها الهم والحزن تكدس فوق رأس المسكينة لورنس، فلم تعرف خلالها سلامًا إلا ساعةَ فارقت هذا العالم، ولعلَّك ترى الكاتب إذ نزع فيها إلى نوع القصص البسيكولوجي، قد تخطى كثيرًا مما كان يجب لكمال هذا النوع، وربما عدنا لبيان ذلك في فصلٍ آخر.

يوليو سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤